خرج مُحمَّدُ بنُ ناصر الدولة بن حمدان في سَريَّةٍ نحوَ بلاد الروم، وكانت الرومُ قد وصلوا إلى الرَّها وحرَّان فأسروا أبا الهيثمِ ابنَ القاضي أبي الحُصَين وسَبَوا وقتلوا، وفي هذه السنة مات مَلِكُ الروم وطاغيتُهم الأكبر بالقُسطنطينية، وأقعَدَ ابنَه مكانَه، ثم قُتِلَ ونُصِبَ في الملك غيرُه، وفي هذه السَّنَة وصلت الرومُ إلى طرسوس فقتلوا جماعةً وفَتَحوا حِصنَ الهارونية وخَرَّبوا الحِصنَ المذكورَ وقَتَلوا أهلَه، ثم كَرَّت الرومُ إلى ديار بكر ووصَلوا ميافارقين، فعَمِلَ في ذلك الخَطيبُ عبد الرحيم بن نباتة الخُطَبَ الجهاديَّة؛ لتحميس الناسِ على الجهادِ ضِدَّ الرُّومِ.
وثبَ مُحمَّدُ بنُ هِشامِ بنِ عبد الجبَّار بنِ عبدِ الرَّحمنِ النَّاصر على الأميرِ هِشامِ المُؤَيَّد، ثمَّ خَلَعه وتسمَّى بالمهديِّ، وكان سبَبُ الخَلعِ هو ما قام به المؤَيَّد مِن تولِّيه العهدَ لعبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي عامر، فأمر المهديُّ بهَدمِ مدينةِ الزَّهراء مَعقِلِ بني عامر وسَلَّطَ العامَّةَ عليه فنهبوا ما فيه مِن الأموالِ والأمتعةِ، كما نَهَبوا دُورَ زُعَماء البربر بالرصافة، كما قام المهديُّ بحَجزِ المُؤَيَّد في دارِ أحدِ وُزَرائِه، وأعلن للنَّاسِ أنَّه مات وأخرَجَ لهم جُثَّةَ شابٍّ شَبيهٍ به، وصلَّى عليه ودفَنَه، وقيل: إنَّ هذا الشابَّ كان نصرانيًّا.
انتَظَمَت جَميعُ بلادِ المُسلِمين في الأندلسِ تحت مُلْكِ يوسفَ بنِ تاشفين، وانقَرضَ عَهدُ مُلوكِ الطَّوائفِ منها أَجمَع كأنْ لم يكُن، واستَولَى على العَدوَتَينِ، وتَسَمَّى بأَميرِ المسلمين، وخاطَبَ المُستَنصِر العبَّاسيَّ الخَليفةَ لِعَهْدِه ببغداد، وبَعثَ إليه عبدَ الله بنَ محمدِ بنِ العَربِ على يَدِ المعافري الإشبيلي ووَلَدَه القاضي أبا بكرٍ، فتَلَطَّفا في القَولِ وأَحسَنا في الإبلاغِ، وطَلَبا من الخَليفةِ أن يَعقِدَ له على المَغربِ والأندَلسِ، فعَقَدَ له وتَضَمَّن ذلك مَكتوبُ الخَليفةِ بذلك مَنقولًا في أَيدِي الناس، وانقَلَبا إليه بتَقليدِ الخَليفةِ وعَهْدِه على ما إلى نَظَرِه مِن الأَقطارِ والأَقاليم.
كان أحمدُ السديري وبنوه من أحسَنِ الناس سيرةً وأصفاهم سريرةً وألينِهم طبيعةً، ولهم في الولاياتِ فنونٌ رفيعة وسيعة؛ فلذلك استعمل الإمامُ أحمدَ أميرًا في عمان، وابنَه تركيًا أميرًا في الأحساء ونواحيه، وابنَه محمدًا أميرًا في سدير وبلدانه، وعبدَ المحسن ابنه أيضًا أميرًا في بلدهم الغاط، فلو نظرتَ إلى أصغرِهم لقلتَ هذا بالأدبِ قد أحاط، وإن نظرتَ إلى الأكبر لرأيتَ فوق ما يُذكَر، لم يكُنْ في عصرِهم مثلُهم للمُطيع الصاحِبِ، ولا أشدُّ منهم على العدو المحاربِ، فهم عيبة نصحٍ للإمام وفظًّا غليظًا على محاربيه، يبادرون لطاعته ويقدمونها على ما لهم من الذِّمام.
دخل سكانُ ثماني قرًى في بلاد الكاميرون في الدينِ الإسلاميِّ بتوفيقِ الله وكرمِه، وقد كانت تلك القرى تدينُ بالوثنيةِ ثمَّ تنصَّر أهلُها بسبب أنشطةِ الكنيسةِ في البلادِ، ثم وفَّق الله تعالى بعضَ الدعاة في إقناع أهلِها بالإسلامِ حتى أسلموا، ثم بدَأَت جهودُ تثبيتِهم على الدين. وهذه القُرى هي: كوادي، وتولوم، وبيزيل، أسلَمَت واحدةً تِلْوَ الأخرى، واعتنق الإسلامَ ثلاثةُ آلافِ شخصٍ فيها، كما قام مجموعةٌ من الدُّعاة بنشرِ الإسلامِ بين الناس في قرًى مجاوِرَةٍ، حتى أسلَمَت (5) قرًى أخرى على أيديهِم، وصار عددُ المُهتَدين للإسلامِ (7) آلافِ شخصٍ.
أرسَل سعدُ بن أبي وَقَّاص العَساكِرَ إلى الجَزيرةِ، فخرَج عِياضُ بن غَنْمٍ إليها وفي صُحبَتِه أبو موسى الأشعريُّ, وعُمَرُ بن سعدِ بن أبي وَقَّاص -وهو غُلامٌ صغيرُ السِّنِّ ليس إليه مِن الأمر شيءٌ- وعُثمانُ بن أبي العاصِ، فنزَل الرُّها, فصالَحهُ أهلُها على الجِزيَة, وصالَحَت حَرَّانُ على ذلك, ثمَّ بعَث أبا موسى الأشعريَّ إلى نَصِيبِين, وعُمَرَ بن سعدٍ إلى رَأْسِ العَيْنِ, وسار بنفسه إلى دارا, فافْتُتِحَت هذه البُلدان، وبعَث عُثمانَ بن أبي العاصِ إلى أرْمِينِيَة, فكان عندها شيءٌ مِن قِتالٍ قُتِلَ فيه صَفوانُ بن المُعَطَّلِ السُّلَميُّ, ثمَّ صالَحهُم عُثمانُ بن أبي العاصِ على الجِزيَةِ، على كلِّ أهلِ بيتٍ دينارٌ.
بعدَ أن فُتِحَت نَهاوَنْد اطْمَأنَّ عُمَرُ بن الخطَّاب رضِي الله عنه للانْسِياحِ داخِلَ فارِسَ كُلِّها، فأَمَرَ بذلك، وكان ممَّن أُمِرَ بذلك نُعيمُ بن مُقرِّن أخو النُّعمانَ، فسار إلى هَمَذان ففتَحها واسْتخلَف عليها يَزيدَ بن قيسٍ، ثمَّ سار هو باتِّجاهِ الرَّيِّ -موقع طِهْران اليوم- ففتَحها كذلك، ثمَّ بعَث بأخيه سُويدِ بن مُقرِّن إلى قُومِس فأخذها سِلْمًا، وصالَح أهلَها، وجاء إليه أهلُ جُرْجان وطَبَرِستان وصالَحوهُ، وكان نُعيمٌ قد بعَث وهو بِهَمَذان بُكيرَ بن عبدِ الله إلى أَذْرَبِيجان، ثمَّ أَمَدَّهُ بعبدِ الله بن سِماكِ بن خَرَشَةَ ففتَح بعضَ بِلادِ أَذْرَبِيجان، في حين كان عُتبةُ بن فَرْقَد يَفتحُ البِلادَ مِن الجِهَةِ الثَّانيةِ.
هو سعدُ بن أبي وقَّاص مالكِ بن أُهَيْب، الزُّهريُّ القُرشيُّ، صَحابيٌّ مِن أوائلِ مَن دَخلوا في الإسلامِ، وكان في السَّابعة عشر مِن عُمُرهِ، ولم يَسبِقْهُ في الإسلامِ إلَّا أبو بكرٍ، وعَلِيٌّ، وزَيدٌ، وهو أحدُ العَشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّة، فكان مِن المُتَقَدِّمين في الإسلامِ، شَهِد المَشاهِدَ كُلَّها، أوَّلُ مَن رَمى بِسَهمٍ في سَبيلِ الله، وله قال النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (ارْمِ سعدُ فِداكَ أبي وأُمِّي). كان مُجابَ الدَّعوَة، وَلِيَ إِمْرَةَ الكوفَة لِعُمَر، لم يَحْضَرْ الجَملَ ولا صِفِّينَ ولا التَّحْكيمَ، قاتَل في سَبيلِ الله، وفتَح الله على يَديهِ الكَثيرَ مِن بِلادِ فارِسَ أيَّام عُمَر، تُوفِّي في العَقيقِ قُرْب المدينةِ، وحُمِلَ إلى البَقيعِ ودُفِنَ فيه، وكان آخرَ المُهاجرين مَوتًا.
بعد أن عادت الأمور في بغداد للأمين، كان جيشُ المأمون بقيادة طاهر بن الحسين وهَرثمةَ بنِ أعيَنَ قادمًا إلى بغداد، فلمَّا اقتَرَبوا منه عادت الفوضى وخَلَعَت بعضُ الأقاليم الأمين وبايَعَت للمأمون، حتى إنَّ موسم الحج دُعِيَ فيه للمأمون، ثم حاصر الجيشُ بغداد فضَعُفَ أمر الأمين وخاصَّةً أنَّ طاهِرَ بنَ الحسين قد استولى على الضِّياعِ والإنتاجِ، وأجابه كثير من قوَّاد الأمين إلى بيعةِ المأمون، ثم دخل جيشُ المأمون إلى بغداد وحصل القتالُ فيها حتى لم يبقَ مع الأمين إلَّا القليلُ؛ ممَّا اضطَّره إلى طلب الأمانِ من هرثمة بن أعين الذي أمَّنَه وأخذه في سفينةٍ، وقد كان حصل تخريبٌ وتحريقٌ كثيرٌ في بغداد، بدُخولِ الجيشِ وحُصولِ القتالِ، وهذه عادةُ كلِّ فتنةٍ، نسألُ اللهَ السلامةَ.
هو أبو زرعة عُبَيد الله بن عبد الكريم الرازي، أحدُ الحُفَّاظ المشهورين. كان مولِدُه في الريِّ بإيران سنة مائتين، وقيل سنة تسعين ومائة, من كبار الحُفَّاظ وسادات أهلِ التقوى. قيل: إنَّه كان يحفَظُ سِتَّمائة ألفِ حديثٍ، وكان فقيهًا وَرِعًا زاهِدًا عابدًا متواضِعًا خاشعًا، أثنى عليه أهلُ زمانه بالحفظِ والدِّيانة، وشَهِدوا له بالتقَدُّم على أقرانه، قال أحمد بن حنبل: "ما عبَرَ جِسرَ بغداد أحفَظُ من أبي زُرعة", قال أبو حاتم: "لم يُخلِّفْ بعده مِثلَه، فِقهًا وعِلمًا وصِيانةً وصِدقًا. وهذا ممَّا لا يُرتابُ فيه, ولا أعلَمُ في المشرِقِ والمغربِ من كان يفهَمُ هذا الشَّأنَ مِثلَه", وقال إسحاقُ بنُ راهَوَيه: "كلُّ حديثٍ لا يحفَظُه أبو زُرعةَ، فليس له أصلٌ".
كان الأَميرُ تَميمُ بن المُعِزِّ بن باديس صاحِب المَهدِيَّةِ قد أَكثرَ غَزْوَ بِلادِ الرُّومِ في البَحرِ، فخَرَّبَها، وشَتَّتَ أَهلَها، فاجتَمَعوا من كلِّ جِهَةٍ، واتَّفَقوا على إنشاءِ الشواني -سُفُن حَربيَّة ضَخمَة - لِغَزوِ المَهدِيَّة، ودَخلَ معهم البيشانيون، والجنوبيون، وهما من الفِرنج، فأَقاموا يُعمِّرون الأُسطولَ أَربعَ سِنين، واجتَمَعوا بجَزيرَةِ قوصرة في أَربعِ مائةِ قطعةٍ، فأَرادَ تَميمٌ أن يُسَيِّر عُثمانَ بنَ سَعيدٍ المَعروف بالمُهْرِ، مُقَدَّم الأُسطولِ الذي له، لِيَمنَعَهم من النُّزولِ، فمَنعَه من ذلك بعضُ قُوَّادِه، فجاءَت الرُّومُ، وأَرسَلوا، وطَلَعوا إلى البَرِّ، ونَهَبوا، وخَرَّبوا، وأَحرَقوا، ودَخَلوا زويلةَ ونَهَبوها، وكانت عَساكرُ تَميمٍ غائبةً في قِتالِ الخارجِين عن طاعَتِه، ثم صالَحَ تَميمٌ الرُّومَ على ثلاثين ألف دِينارٍ، وَرَدِّ جَميعِ ما حَووهُ مِن السَّبْيِ.
كان أهلُ العبث والفساد بنيسابور قد طمعوا في نهب الأموال وتخريب البيوت، وفِعلِ ما أرادوا، فإذا نُهوا لم ينتهوا، فلما كان الآن تقدمَ المؤيد أي أبه بقبض أعيان نيسابور، منهم نقيب العلويين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني وغيره، وحبسهم في ربيع الآخر، وقال: أنتم الذين أطمعتم المفسدين حتى فعلوا هذه الفِعال، ولو أردتم منعهم لامتنعوا، وقتل من أهل الفساد جماعةً، فخربت نيسابور بالكلية، ومن جملة ما خُرِّبَ مسجدُ عقيل، كان مَجمَعًا لأهل العلم، وفيه خزائن الكتب الموقوفة، وكان من أعظم منافعِ نيسابور، وخُرِّب أيضًا من المدارس ثماني مدارس للحنفية، وسبع عشرة مدرسة للشافعية، وأُحرق خمسُ خزائن للكتب، ونُهِب سبع خزائن كتب وبيعت بأبخس الأثمان.
عَمِلَ السُّلطانُ النَّاصِرُ محمد بن قلاوون بابًا من خَشَبِ السنط الأحمر، وصَفَّحه بفِضَّة زِنتُها خمسة وثلاثون ألفَ درهم وثلاثمائة درهم، ومضى به الأميرُ سيف الدين برسبغا الساقي إلى مكَّة، فقُلِعَ باب الكعبة العتيق، ورُكِّبَ هذا الباب وأخذ بنو شيبةَ الباب العتيق، وكان من خَشَبِ الساسم المصَفَّح بالفِضَّة، فوجدوا عليه ستين رطلًا من فِضَّة تقاسَموها فباعوها كلُّ دِرهمٍ بدرهمين، لأجلِ التبَرُّك، (وهذا خطأٌ من وجهَينِ: الأول: أنَّه رِبًا. والثاني: أنَّه لا يُتبَرَّكُ بمثل هذه الأشياءِ، وإن كانت بابًا للكعبة!) وتُرِكَ خَشَبُ ذلك الباب داخِلَ الكعبة، وعليه اسمُ صاحِبِ اليمن في الفردتين، واحدةٌ عليها: اللهُمَّ يا وليُّ يا عليُّ، اغفِرْ ليوسُفَ بنِ عُمَرَ بنِ عليٍّ.
لما طلب البيزنطيون المساعدةَ من العثمانيين ضِدَّ الصرب، أدرك بذلك العثمانيون ضَعفَ البيزنطيين، فرأى أورخان سلطانُ العثمانيين أن ينتَقِلَ إلى الضفة الغربية من مضيقِ الدردنيل ليتقَدَّمَ بعدها إلى أوروبا فيتمَكَّنَ من الإحاطة بالقسطنطينية والهجومِ عليها من الغرب؛ حيث عجز المسلمون عن فتحها من الشرقِ، فأرسل ابنه الكبير سليمان لدراسة هذه الخطة، وفي هذا العام اجتاز سليمانُ مضيق الدردنيل ليلًا مع أربعين رجلًا من أبطالِه، ولما وصلوا إلى الضفة الغربية استولوا على الزوارق الروميَّة الراسية هناك وعادوا بها إلى الضفة الشرقيَّة؛ إذ لم يكن للعثمانيين أسطول، ثم انتقلوا إلى الشاطئِ الأوربيِّ فاحتلوا قلعة تزنب وغاليبولي التي فيها قلعة جنا- القلعة المشهورة- وأبسالا ورودستو، وهذه كلها تقع على مضيق الدردنيل من الجنوب إلى الشمال حتى تصبح رودستو على بحر مرمرة.
نظَّمَ القائِدُ الوزير تيمور طاش باشا فِرَق الخيَّالة العثمانيين المسمَّاة سياهيه أو سياه- على نظام جديد، واختار أن تكون أعلامهم باللون الأحمر الذي لا يزال شعارَ الدَّولة التركية حتى الآن، وأقطع كلَّ نَفَرٍ منهم جزءًا من الأرض يزرعه أصحابه الأصليون مسيحيين كانوا أو مسلمين في مقابلة دَفعِ جُعْلْ مُعَيَّن لصاحب الإقطاع، وذلك بشرط أن يسكنَ الجنديُّ في أرضه وقت السلمِ ويستَعِدَّ للحرب عند الاقتضاءِ على نفقَتِه، وأن يُقَدِّمَ أيضًا جنديًّا آخر معه، وكان كل إقطاع لم يتجاوزْ إيراده السنوي عشرين ألف غرش، يسمى تيمار، وما زاد إيراده على ذلك يسمى زعامت، وكانت هذه الإقطاعات لا يرثها إلَّا الذكور من الأعقابِ، وإذا انقرضت الذرية من الذكور ترجِعُ إلى الحكومة، وهي تُقطِعُها إلى جندي آخر بنفس هذه الشروط