كان عبدُ الله بن سلامٍ رَضي اللهُ عنه حَبْرًا من أحبارِ يَهودَ، عالِمًا، قال: لمَّا سَمِعتُ برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَرَفتُ صِفَتَه واسمَه وزَمانَه الذي كنا نتوقَّعُ له، فكنتُ مُسِرًّا لذلك، صامِتًا عليه، حتى قَدِمَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ، فلمَّا نزل بقُباءٍ، في بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، أقبل رجلٌ حتى أخبَرَ بقُدومِه، وأنا في رأسِ نَخلةٍ لي أعمَلُ فيها، وعمَّتي خالِدةُ بنتُ الحارِثِ تحتي جالِسةٌ، فلما سمعتُ الخبرَ بقُدومِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَبَّرتُ، فقالت لي عَمَّتي حين سَمِعَت تكبيري: خيَّبَك اللهُ! واللهِ لو كُنتَ سَمِعتَ بموسى بنِ عِمرانَ قادِمًا ما زِدتَ! قال: فقلتُ لها: أيْ عمَّةُ، هو واللهِ أخو موسى بنِ عِمرانَ، وعلى دينِه، بُعِث بما بُعِث به. قال: فقالت: أيِ ابنَ أخي، أهوَ النبيُّ الذي كُنَّا نُخبَرُ أنه يُبعَثُ مع نَفَسِ السَّاعةِ؟ قال: فقلتُ لها: نعم. قال: فقالت: فذاك إذن. قال: ثم خرجتُ إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأسلَمتُ، ثم رَجَعتُ إلى أهلِ بيتي، فأمرتُهم فأسلموا.
قال: وكَتمتُ إسلامي من يهودَ، ثم جِئتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقلتُ له: يا رسولَ الله، إنَّ يهودَ قومٌ بُهتٌ، وإنِّي أُحِبُّ أن تُدخِلَني في بعضِ بُيوتِك، وتُغيِّبَني عنهم، ثم تَسألَهم عني، حتى يُخبِروك كيف أنا فيهم، قَبْلَ أن يعلَموا بإسلامي؛ فإنَّهم إنْ عَلِموا به بَهَتوني وعابوني. قال: فأدخَلَني رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بعضِ بُيوتِه، ودَخَلوا عليه، فكلَّموه وساءَلوه، ثم قال لهم: "أيُّ رجلٍ عبدُ الله بنُ سَلامٍ فيكم؟" قالوا: سيِّدُنا وابنُ سيِّدِنا، وحَبرُنا وعالِمُنا. قال: فلمَّا فَرَغوا من قولِهم خرجتُ عليهم، فقلتُ لهم: يا مَعشرَ يهودَ، اتَّقوا اللهَ واقبَلوا ما جاءكم به، فواللهِ إنَّكم لَتعلمون إنَّه لَرسولُ الله، تَجِدونَه مَكتوبًا عِندكُم في التَّوراةِ باسمِهِ وصِفَتِه، فإنِّي أشهَدُ أنَّه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأُومِن به وأُصدِّقُه وأعرِفُه. فقالوا: كَذَبْتَ. ثم وَقَعوا بي، قال: فقلتُ لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألَمْ أُخبِرْك يا رسولَ الله أنهم قومٌ بُهتٌ، أهلُ غدرٍ وكذبٍ وفُجورٍ! قال: فأظهَرتُ إسلامي وإسلامَ أهلِ بيتي، وأسلَمَت عمَّتِي خالِدةُ بنتُ الحارِثِ، فحَسُن إسلامُها.
في هذا العام كانت سَريَّةُ كُرْزِ بنِ جابِرٍ الفِهريِّ إلى العُرَنيِّين، الذين قَتَلوا راعيَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واستاقوا النَّعَمَ؛ فبَعَث رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في آثارِهِم كُرْزَ بنَ جابِرٍ رَضي اللهُ عنه في عِشرين فارِسًا.
عن أنس رَضي اللهُ عنه: أنَّ رهطًا من عُكلٍ وعُرَينةَ أتَوا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: إنَّا أُناسٌ من أهل ضَرعٍ، ولم نَكُن أهلَ ريفٍ، فاستَوخَمنا المَدينةَ -لم يُوافِقهم جَوُّها- فأمَر لهم رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذَودٍ -إبلٍ- وراعٍ، وأمَرَهم أن يَخرُجوا فيها فيَشرَبوا من أبوالِها وألبانِها؛ فانطَلَقوا حتى إذا كانوا في ناحيةِ الحَرَّةِ قَتَلوا راعيَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واستاقوا الذَّودَ، وكَفَروا بعد إسلامِهِم؛ فبَعَث النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في طَلَبِهم، فأمر فقَطَع أيديَهم وأرجُلَهم وسَمَرَ أعيُنَهم -كَحَلَها بمَساميرَ مَحميَّةٍ-، وتَرَكَهم في ناحيةِ الحَرَّةِ حتى ماتوا وهم كذلك. وإنَّما سَمَرَ أعينهم لأنهم سمروا أعين الرعاء.
هو الإمامُ العلَّامةُ المفَسِّر، شيخُ الإسلام، مَفخَر العراق، الحافِظُ الواعِظُ جمالُ الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي الجوزي- نسبة إلى فرضة نهر البصرة- المشهور بابن الجوزي، القُرَشي التيمي البكري البغدادي الفقيهُ الحنبلي. ينتهي نسبُه إلى أبي بكر الصديقِ رَضِيَ الله عنه. كان علَّامة عصره وإمامَ وَقتِه في الحديث وصناعة الوعظ. ولد سنة تسع- أو عشر- وخمسمائة، كان والده واعظًا ويعمَلُ في الصفر بنهر القلايين. برز أبو الفرج في علوم كثيرة. وقد جمع من المصنَّفات الكبار والصغار نحوًا من ثلاثمائة مصنف، وكتب بيده نحوًا من مائتي مجلَّدة وتفَرَّد بفن الوعظ الذي لَمْ يُسْبَقْ إليه ولا يُلحَق شأوُه فيه، وفي طريقتِه وشَكلِه، وفي فصاحته وبلاغتِه وعذوبتِه وحلاوةِ ترصيعِه ونفوذِ وعظِه، وغَوصِه على المعاني البديعة، وتقريبِه الأشياءَ الغريبة، هذا وله في العلومِ كُلِّها اليدُ الطولى، والمشاركاتُ في سائِرِ أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب، والنظر في النجوم، والطب والفقه، وغير ذلك من اللغة والنحو. قال الذهبي: "كان رأسًا في التذكير بلا مُدافعة، يقول النَّظمَ الرائق، والنثرَ الفائق بديهةً، ويُسهِب ويعجب ويطرب ويطنب، لم يأت قبله ولا بعده مثلُه، فهو حامِلُ لواء الوعظ، والقَيِّم بفنونه، مع الشكل الحسن، والصوت الطيب، والوقع في النفوس، وحُسن السيرة، وكان بحرًا في التفسير، علَّامةً في السير والتاريخ، موصوفًا بحسن الحديث، ومعرفة فنونه، فقيهًا عليمًا بالإجماع والاختلاف، جيِّدَ المشاركة في الطب، ذا تفنُّن وفَهمٍ وذكاء وحِفظٍ واستحضار، وإكبابٍ على الجمع والتصنيف، مع التصوُّن والتجمُّل، وحسن الشارة، ورشاقة العبارة، ولطف الشمائل، والأوصاف الحميدة، والحُرمة الوافرة عند الخاص والعام، ما عرفتُ أحدًا صَنَّفَ ما صنف". ومن مصنفاته كتابُه في التفسير المشهور بزاد المسير، وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور، وله جامع المسانيد استوعب فيه غالب مسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وجامع الترمذي، وله كتاب المنتظم في تواريخِ الأُمَم من العرب والعَجَم، وله الأحاديث الموضوعة، وله العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، وغير ذلك، وبالجملة فكُتُبه أكثر من أن تُعَدُّ, وكَتَب بخطه شيئًا كثيرًا. كانت وفاته ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان، وله من العمر سبع وثمانون سنة، وحملت جنازته على رؤوس الناس، وكان الجمعُ كثيرًا جِدًّا، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد، وكان يومًا مشهودًا. كان له من الأولاد الذكور ثلاثة: عبد العزيز- وهو أكبرهم- مات شابًّا في حياته سنة 554، ثم أبو القاسم علي، وقد كان عاقًّا له إلبًا عليه في زمن المحنةِ وغيرها، وقد تسَلَّط على كتُبِه في غيبته بواسط فباعها بأبخَسِ الأثمان، ثمَّ محيي الدين يوسف، وكان أنجَبَ أولادِه وأصغَرَهم، جلس للوعظ بعد أبيه، واشتغل وحَرَّر وأتقن وساد أقرانه، ثم باشر محيي الدين الحِسبةَ ببغداد، وتولى التدريسَ بالمدرسة المستنصريَّة لطائفة الحنابلة، ثم صار رسولَ الخلفاء إلى الملوك بأطرافِ البلاد، ولا سيما بني أيوب بالشام، وصار أستاذ دار الخلافة، وتوفي في وقعة التتر قتيلًا سنة 653. وكان لابنِ الجوزي عدة بنات منهن رابعة أم سبطِه شمس الدين أبي المظفر بن قزغلي الواعظ المشهور والمعروف بسبط ابن الجوزي، وهو حنفي المذهب، وله صيت وسمعة في مجالس وعظه، وقبول عند الملوك وغيرهم، وصنف تاريخًا كبيرًا في أربعين مجلدًا سماه مرآة الزمان.
كان سببُها أنَّه لمَّا قُتِلَ أصحابُ بِئرِ مَعونةَ مِن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين، وأَفْلَتَ منهم عَمرُو بنُ أُميَّةَ الضَّمريُّ، فلمَّا كان في أَثناءِ الطَّريقِ راجعًا إلى المدينةِ قَتَلَ رجُلينِ مِن بني عامرٍ، وكان معهما عهدٌ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأَمانٌ لم يَعلَمْ به عَمرٌو، فلمَّا رجَع أَخبرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم... فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النَّضيرِ يَستَعينُهم في دِيَةِ ذَيْنِكَ الرَّجلينِ، وكانت مَنازِلُ بني النَّضيرِ ظاهِرَ المدينةِ على أَميالٍ منها شَرقِيَّها. قال محمَّدُ بنُ إسحاقَ بنِ يَسارٍ في كتابِه السِّيرة: ثمَّ خرج رسولُ الله إلى بني النَّضيرِ، يَستَعينُهم في دِيَةِ ذَيْنِكَ القَتيلَينِ مِن بني عامرٍ، اللَّذينِ قَتَلَ عَمرُو بنُ أُميَّةَ الضَّمريُّ؛ للجِوارِ الذي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عقَد لهما.... فلمَّا أتاهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَستَعينُهم في دِيَةِ ذَيْنِكَ القَتيلينِ قالوا: نعم، يا أبا القاسمِ، نُعينُك على ما أَحببتَ، ممَّا اسْتعَنتَ بِنا عليه. ثمَّ خلا بعضُهم ببعضٍ فقالوا: إنَّكم لن تَجِدوا الرَّجلَ على مِثلِ حالِه هذه -ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى جَنبِ جِدارٍ مِن بُيوتِهم- فَمَن رجلٌ يَعلو على هذا البيتِ، فيُلقي عليه صَخرةً، فيُريحُنا منه؟ فانْتدَب لذلك عَمرُو بنُ جَحَّاشِ بنِ كعبٍ أحدُهم، فقال: أنا لذلك. فصعَدَ ليُلقِيَ عليه صَخرةً كما قال، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في نَفَرٍ مِن أصحابِه، فيهم أبو بكرٍ وعُمَرُ وعليٌّ رضي الله عنهم. فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ مِن السَّماءِ بما أراد القومُ، فقام وخرج راجعًا إلى المدينةِ، فلمَّا اسْتَلْبَثَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أصحابُه قاموا في طَلبِه فلَقوا رجلًا مُقبِلًا مِنَ المدينةِ، فسألوهُ عنه، فقال: رأيتُه داخلًا المدينةَ. فأقبل أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتَّى انتهوا إليه، فأخبرَهُم الخبرَ بما كانت يَهودُ أرادت مِنَ الغَدْرِ به، وأمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتَّهَيُّؤِ لِحربِهم والمَسيرِ إليهم. ثمَّ سار حتَّى نزل بهم فتَحصَّنوا منه في الحُصون، فأمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقطعِ النَّخلِ والتَّحريقِ فيها. فنادوهُ: أن يا محمَّدُ، قد كنتَ تَنهى عن الفسادِ وتَعيبُه على مَن صنَعه، فما بالُ قطعِ النَّخلِ وتَحريقِها؟! وقد كان رَهْطٌ مِن بني عَوفِ بنِ الخَزرجِ، منهم عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ بن ابنُ سَلولَ، ووَديعَةُ، ومالكُ بنُ أبي قَوْقَلٍ، وسُوَيدٌ، وداعِسٌ، قد بعثوا إلى بني النَّضيرِ: أنِ اثْبُتوا وتَمَنَّعوا فإنَّا لن نُسْلِمَكُم، إن قوتِلْتُم قاتلنا معكم، وإن أُخرِجتُم خَرَجنا معكم فتَرَبَّصوا ذلك مِن نَصرِهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرُّعبَ، فسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُجْلِيَهم ويَكُفَّ عن دِمائهِم، على أنَّ لهم ما حمَلتِ الإبلُ مِن أموالهِم، إلَّا الحَلَقَةَ، ففعَل، فاحتملوا مِن أموالهم ما اسْتقلَّتْ به الإبلُ، فكان الرَّجلُ منهم يَهدِم بيتَه عن نِجافِ بابِه، فيضَعُه على ظهرِ بَعيرهِ فينطلِقُ به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم مَن سار إلى الشَّامِ، وخَلَّوْا الأموالَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فكانت لِرسولِ الله خاصَّةً)، وقد ثبَت في البُخاريِّ أنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قد أَجلى بني النَّضيرِ. وفيهم نزلت سورةُ الحَشْرِ.
أرسلَ صلاحُ الدين إلى وَلَدِه الأفضل يأمُرُه أن يرسل قطعةً صالحةً مِن الجيش إلى بلدِ عكا ينهبونَه ويخَرِّبونهَ، فسيَّرَ مُظفَّر الدين كوكبري بن زين، وهو صاحِبُ خوارزم شاه ران والرها، وأضاف إليه قايماز النجمي ودلدرم اليارقي، وهما من أكابِرِ الأمراء، وغيرهما، فساروا ليلًا، وصَبَّحوا صفوريَّة أواخِرَ صَفَر، فخرج إليهم الفِرنجُ في جمعٍ مِن الدواية والإسبتارية وغيرهما، فالتَقَوا هناك، وجَرَت بينهم حربٌ شديدة، ثم أنزل الله تعالى نَصْرَه على المسلمين، فانهزم الفرنجُ، وقُتِلَ منهم جماعة، وأُسِرَ الباقون، وفيمن قُتِل مُقَدَّم الإسبتارية، وكان عَودُهم على طبرية، وبها القُمُّص، فلم ينكِرْ ذلك، فكان فتحًا كثيرًا، فإنَّ الداوية والإسبتارية هم جمرةُ الفرنج، وسُيِّرَت البشائر إلى البلاد بذلك.
أرسل حمود بن ربيعان ومَن تَبِعَه من عتيبة وعُربان الحجاز إلى الإمام عبد العزيز وطلبوا منه البيعةَ على دينِ الله ورسولِه والسَّمعِ والطاعة، وأداءِ الزكاة وألَّا يعترِضوا سُبُلَ المسلمين، وبَذَلوا دراهِمَ معلومةً نكالًا، فأجابَهم عبد العزيز إلى ذلك، وأخذ على كل بيتٍ عِدَّةَ دراهِمَ معلومة، فلمَّا بلغ الشريف غالب ذلك الخبَرُ، أفزعه وأهمَّه، فجهَّز العساكِرَ مِن مكَّةَ وما حولها، فخرج بنفسِه وقصد هادي بن قرملة أتباعه من قحطان وغيرهم، فنازلهم وحصل بينهم بعضُ القتال، فأخذ هادي جملةً مِن أثقاله، ثم نزل الشريفُ على الماء المعروف بالقنصلية قرب بلد تربة، ونزل هادي بن قرملة بلدَ رنية، فسار الشَّريفُ إليه فيها، فنازلهم ووقع بينهم قتالٌ شديد قُتِلَ بين الجميعِ عِدَّةُ رِجالٍ.
لمَّا بَلَغَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِتَّ سنينَ، خرجَتْ به أُمُّه السيِّدةُ آمنةُ بنتُ وهبٍ إلى أخوالِه بني عَديِّ بن النَّجَّار تَزورُهم به، ومعه حاضِنَتُه أمُّ أيمنَ رَضي اللهُ عنها، وهم على بَعيرَين، فنَزَلَت به أُمُّه في دارِ النابغةِ عند قبرِ أبيه عبدِ الله بن عبدِ المُطَّلِب، فأقامَت به عند أخوالِه شهرًا، ثم رَجَعَت به أُمُّه إلى مكةَ، فلمَّا كانوا بالأبواءِ توُفِّيَت أُمُّه آمِنةُ بنتُ وهبٍ، ورَجَعَت به أُمُّ أيمنَ رَضي اللهُ عنها -واسمُها: بَرَكةُ بِنتُ ثَعلَبةَ بنِ حِصنٍ-، وكانت أمُّ أيمنَ رَضي اللهُ عنها تحبُّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُبًّا شديدًا وتَعتني به غايةَ الاعتِناءِ، وتَحوطُه برِعايَتِها وشَفقَتِها، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَبَرُّها ويُحسِنُ إليها، ولمَّا كَبِرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعتَقَها، ثم أنكَحَها زيدَ بنَ حارِثةَ رَضي اللهُ عنه الذي أنجَبَت منه أُسامةَ بنَ زيدٍ رَضي اللهُ عنهما، وقد توُفِّيَت أمُّ أيمنَ رَضي اللهُ عنها بعدما توفِّي رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخَمسةِ أشهُرٍ.
لمَّا تَمَّتْ بَيعةُ العَقبةِ أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن كان معه بالهِجرةِ إلى المدينةِ، فخرجوا أَرسالًا، كان مِنَ السَّابقين للهِجرةِ بعدَ العَقبةِ الثَّانيةِ مُصعبُ بنُ عُميرٍ, ثمَّ عامرُ بنُ رَبيعةَ حَليفُ بن بني عَدِيِّ بنِ كعبٍ، معه امرأتُه ليلى بنتُ أبي حَثْمَةَ بنِ غانمٍ، ثمَّ عبدُ الله بنُ جَحْشٍ بأهلِهِ وأخيهِ عبدِ بنِ جَحْشٍ أبي أحمدَ، وكان ضَريرًا، وكان منزلُهما ومنزلُ أبي سَلمةَ بقُباءٍ في بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، فلمَّا هاجر جميعُ بني جَحْشٍ بنِسائهِم فعَدا أبو سُفيانَ على دارِهم فتَمَلَّكَها، فذكر ذلك عبدُ الله بنُ جَحْشٍ لمَّا بَلَغَهُ لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تَرضى يا عبدَ الله أن يُعطِيَك الله بها دارًا في الجنَّةِ خيرًا منها؟ قال: بلى. قال: فذلك لك". فلمَّا افتتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكَّةَ كَلَّمَهُ أبو أَحمدَ في دارِهم، فأبطأَ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال النَّاسُ لأبي أَحمدَ: يا أبا أَحمدَ، إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَكرهُ أن تَرجِعوا في شيءٍ أُصيبَ منكم في الله، فأَمْسَكَ عن كلامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وكان بنو غَنْمِ بنِ دُودانِ أهلَ إسلامٍ قد خرجوا كُلُّهم إلى المدينةِ، ثمَّ خرج عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، وعيَّاشُ بنُ أبي رَبيعةَ في عِشرين راكبًا فقَدِموا المدينةَ، وكان هشامُ بنُ العاصِ بنِ وائلٍ قد أَسلمَ، وواعد عُمَرَ بنَ الخطَّابِ أن يُهاجِرَ معه، وقال: تَجِدُني أو أَجِدُك عند أَضاءةِ بني غِفارٍ، ففَطِنَ لهشامٍ قومُه فحبسوه عن الهِجرةِ. ثمَّ إنَّ أبا جهلٍ والحرثَ بنَ هشامٍ خرجا حتَّى قَدِما المدينةَ ورسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمكَّةَ، فكَلَّما عيَّاشَ بنَ أبي رَبيعةَ وكان أخاهُما لِأُمِّهِما وابنَ عَمِّهِما، وأَخبراهُ أنَّ أمَّهُ قد نَذرتْ أن لا تَغسِلَ رأسَها ولا تَسْتَظِلَّ حتَّى تَراهُ، فَرَقَّتْ نَفْسُهُ وصدَّقهُما وخرج راجعًا معهُما، فكَتَّفاهُ في الطَّريقِ وبلغا به مكَّةَ، نهارًا مُوثَقًا، ثمَّ قالا: يا أهلَ مكَّةَ هكذا فافعلوا بسُفهائِكُم كما فعلنا بسَفيهِنا هذا. فحَبَساهُ بها إلى أن خَلَّصَهُ الله تعالى بعد ذلك بدُعاءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم له في قُنوتِ الصَّلاةِ: "اللَّهمَّ أَنْجِ الوليدَ بنَ الوليدِ، وسَلمةَ بنَ هشامٍ، وعيَّاشَ بنَ أبي رَبيعةَ". ولمَّا أراد صُهيبُ بنُ سِنانٍ الهِجرةَ قال له كُفَّارُ قُريشٍ: أَتَيْتَنا صُعلوكًا حَقيرًا فكَثُرَ مالُك عندنا، وبلغتَ الذي بلغتَ، ثمَّ تُريدُ أن تَخرُجَ بمالِك ونَفسِك، لا والله لا يكونُ ذلك. فقال لهم صُهيبٌ: أَرأيتُم إن جَعلتُ لكم مالي أَتُخَلُّون سَبيلي؟ قالوا: نعم، فقال: فإنِّي قد جَعلتُ لكم، فبلغ ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "رَبِحَ صُهيبٌ، رَبِحَ صُهيبٌ". ثمَّ تتابع المهاجرون بالهِجرةِ إلى المدينةِ إلى أن هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
دخل أبو طاهر القرمطيُّ الكوفةَ، وكان سببُ ذلك أنَّ أبا طاهر أطلقَ مَن كان عنده من الأسرى الذين كان أسَرَهم من الحُجَّاج، وفيهم ابنُ حمدان وغيره، وأرسل إلى المقتَدِر يطلُبُ البصرة والأهواز، فلم يجِبْه إلى ذلك، فسار من هَجَر يريد الحاجَّ، وكان جعفرُ بن ورقاء الشيبانيُّ متقلِّدًا أعمالَ الكوفة وطريق مكَّة، فلمَّا سار الحُجَّاج من بغداد سار جعفر بين أيديهم خوفًا من أبي طاهر، ومعه ألف رجلٍ من بني شيبان، وسار مع الحُجَّاج من أصحاب السلطانِ القائِدُ ثَمل الخادِمُ صاحب البحر، وجنِّي الصفوانيُّ، وطريف السبكريُّ وغيرهم، في ستَّة آلاف رجل، فلقيَ أبو طاهر القرمطيُّ جعفرًا الشيبانيَّ، فقاتله جعفر، فبينما هو يقاتلُه إذ طلع جمعٌ من القرامطة عن يمينه، فانهزم من بين أيديهم، فلقِيَ القافلةَ الأولى وقد انحدرت من العَقَبة، فردَّهم إلى الكوفة ومعهم عسكرُ الخليفة، وتبعهم أبو طاهرٍ إلى باب الكوفة، فقاتلهم فانهزم عسكرُ الخليفة، وقَتَلَ منهم، وأسَرَ جنِّيًّا الصفوانيَّ، وهرب الباقون والحُجَّاج من الكوفة، ودخلها أبو طاهر، وأقام ستَّة أيَّام بظاهر الكوفة يدخُلُ البلد نهارًا فيقيمُ في الجامع إلى الليل، ثمَّ يخرج يبيتُ في عسكره، وحمل منها ما قدَرَ على حَملِه من الأموال والثِّياب وغير ذلك، وعاد إلى هَجَر، ودخل المنهزمون بغداد، فتقدَّم المقتَدِر إلى مؤنسٍ المظفَّر بالخروج إلى الكوفة، فسار إليها، فبلغها وقد عاد القرامطةُ عنها، فاستخلف عليها ياقوتًا، وسار مؤنِسٌ إلى واسط خوفًا عليها من أبي طاهرٍ، وخاف أهلُ بغداد، وانتقل الناسُ إلى الجانب الشرقيِّ، ولم يحجَّ في هذه السنة من الناسِ أحدٌ.
خَرجَ المُستَنصِرُ الفاطمي على عادَتهِ في كلِّ سَنَةٍ يَركبُ على النُّجُبِ ومعه النِّساءُ والحَشَمُ إلى جب عميرة، وهو موضع نُزهَةٍ، ويُغيِّر هَيئتَه، كأنَّه خارجٌ يُريدُ الحَجَّ على سَبيلِ الهَزْرِ والمَجانَةِ، ومعه الخَمْرُ مَحمولٌ في الرَّوايا عِوَضًا عن الماءِ، ويَدورُ به سُقاتِه عليه وعلى مَن معه كأنَّه بِطريقِ الحِجاز أو كأنه ماءُ زمزم؛ واتَّفقَ أن بعضَ الأَتراكِ جَرَّدَ سَيْفًا في سَكْرَةٍ منه على بَعضِ عَبيدِ الشِّراءِ، فاجتَمعَ عليه عِدَّةٌ من العَبيدِ وقَتلوهُ. فغَضِبَ لذلك جَماعةُ الأَتراكِ واجتَمَعوا بأَسرِهم ودَخَلوا على المُستَنصِر، وقالوا: إن كان هذا الذي قُتِلَ مِنَّا على رِضاكَ فالسَّمعُ والطَّاعة، وإن كان قَتْلُه عن غيرِ رِضا أَميرِ المؤمنين فلا صَبرَ لنا على ذلك. وأَنكرَ المُستَنصِر أن قَتْلَه بِرضاهُ أو أَمرِه؛ فخَرجَ الأتراكُ واشتَدُّوا على العَبيدِ يُريدون مُحاربَتَهم، فبَرَزَت العَبيدُ إليهم؛ وكانت بين الفَريقينِ حُروبٌ بِناحِيَةِ كَومِ شَريكٍ قُتِلَ فيها عِدَّةٌ، وانهَزمَ العَبيدُ وقَوِيَت الأتراكُ؛ هذا وأُمُّ المُستَنصِر تَمُدُّ العَبيدَ بالأَموالِ والسِّلاحِ، فاتَّفقَ في بعضِ الأيامِ أن بعضَ الأَتراكِ وقفَ على شيءٍ ممَّا تَبْعَثُ به أُمُّ المُستَنصِر إلى العَبيدِ لِتُعينَهم به على مُحاربةِ الأَتراكِ، فاجتَمَعوا وصاروا إلى المُستَنصِر وتَجَرَّءُوا عليه بالقَولِ وأَغلَظوا في المُخاطبةِ؛ فأَنكرَ أن يكون عندَه مِن ذلك خَبَرٌ، وصار السَّيفُ قائمًا. فدَخلَ على أُمِّه وأَنكرَ عليها ما تَعتمِدهُ مِن تَقويَةِ العَبيدِ وإعانتِهم على مُحاربةِ الأَتراكِ، ثم انتَدبَ وَزيرَهُ أبا الفَرجِ ابن المغربي، فخَرجَ ولم يَزل يَسعى بين الأتراكِ والعَبيدِ حتى أَوقعَ الصُّلحَ بين الفَريقين. فاجتَمعَ العَبيدُ وساروا إلى ناحيةِ شبرا دمنهور. فكانت هذه الكائنةُ أوَّلَ الاختلافِ بين طَوائفِ العَسكر.
لما تخلص الخادم كردبازو من السلطان سليمان شاه بسَجنه ثم قتله، أرسل إلى إيلدكز، صاحب آران وأكثر بلاد أذربيجان، يستدعيه إليه ليخطُبَ للملك أرسلان شاه الذي معه، وبلغ الخبر إلى إينانج صاحب بلاد الري، فسار ينهب البلادَ إلى أن وصل إلى همذان، فتحصن كردبازو، فطلب منه إينانج أن يعطيه مصافًا، فقال: أنا لا أحاربك حتى يصل الأتابك الأعظم إيلدكز. وسار إيلدكز في عساكره جميعًا يزيد على عشرين ألف فارس، ومعه أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه، فوصل إلى همذان، فلقِيَهم كردبازو، وأنزله دار المملكة، وخطب لأرسلان شاه بالسَّلطنة بتلك البلاد، وكان إيلدكز قد تزوَّجَ بأم أرسلان شاه، وهي أم البهلوان بن إيلدكز، وكان إيلدكز أتابكَه، والبهلوان حاجبَه، وهو أخوه لأمه، وكان إيلدكز هذا أحدَ مماليك السلطان مسعود، واشتراه في أول أمره، فلما ملك أقطعَه أران وبعض أذربيجان، واتفق الحروب والاختلاف، فلم يحضر عنده أحد من السلاطين السلجوقية، وعظُمَ شأنُه وقَوِيَ أمرُه، وتزوج بأم الملك أرسلان شاه، فولدت له أولادًا منهم البهلوان محمد، وقزل أرسلان عثمان، فلما خطَبَ له بهمذان أرسل إيلدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه أيضًا، وأن تعاد القواعِدُ إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود، فأُهين رسوله وأعيد إليه على أقبح حالة، وأما إينانج صاحب الري فإن إيلدكز راسله ولاطفه فاصطلحا وتحالفا على الاتفاق، وتزوج البهلوان بن إيلدكز بابنة إينانج ونُقِلَت إليه بهمذان.
في ثالث عشر ربيع الآخر قُتِلَ المركيس الفرنجي، صاحِبُ صور، وهو أكبَرُ شياطينِ الفرنج، وقيل في سبب قتله: إن صلاح الدين راسل مُقَدِّمَ الإسماعيلية، وهو سنان، وبذَلَ له أن يُرسِلَ مَن يقتُلُ مَلِك الإنكليز، وإن قَتَل المركيسَ فله عشرةُ آلاف دينار، فلم يمكِنْهم قتلُ ملك الإنكليز، ولم يَرَه سنان مصلحةً لهم؛ لئلَّا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنجِ ويتفَرَّغ لهم، وطَمِعَ في أخذ المال، فعَدَل إلى قتل المركيس، فأرسل رجلينِ في زي الرُّهبان، واتَّصَلا بصاحب صيدا وابن بارزان، صاحِبِ الرملة، وكانا مع المركيس بصور، فأقاما معهما ستة أشهُرٍ يُظهِرانِ العبادة، فأنِسَ بهما المركيس، ووَثِقَ بهما، ثمَّ عَمِلَ الأسقف بصور دعوةً للمركيس فحَضَرَها، وأكل طعامَه، وشَرِبَ مُدامَه، وخرج من عنده، فوَثَب عليه الباطنيَّان, فجَرَحاه جراحًا وثيقةً، وهرب أحدُهما، ودخل كنيسةً يختفي فيها، فاتَّفَق أن المركيس حمل إليها ليشدَّ جراحه، فوثب عليه ذلك الباطنيُّ فقتله، وقُتِلَ الباطنيَّان بعده، وقيل: بل قتله ملك الإنكليز وضع له هذان الرجلانِ فقتلاه لينفرد بمُلْك الساحل الشامي، فلما قُتِلَ المركيس وَلِيَ بعده مدينة صور كند- قائد- من الفرنج، من داخل البحر، يقال له الكند هري، وتزوج بالملكة في ليلته، ودخل بها وهي حامل، وليس الحَملُ عندهم ممَّا يمنع النكاح، وهذا الكند هري هو ابنُ أخت ملك الإنكليز من أمِّه، ومَلَكَ الكند هري هذا بلاد الفرنج بالساحل بعد عودة ريتشارد ملك الإنكليز.
بعد استيلاء الصالح إسماعيل والمجاهد أسد الدين شيركوه على دمشقَ ولَمَّا وصل الخبر إلى الصالح نجم الدين وهو مقيمٌ في نابلس يتجهَّزُ للمسير إلى مصر، افتَرَق عنه عسكرُه وبقي وحيدًا، فاستغل الفرصةَ الملك الناصر داودُ بن الملك المعظَّم صاحب الكرك والأردن فأرسل إليه من أخَذَه من نابلس مهانًا على بغلةٍ بلا مهماز ولا مُقَدمة، فاعتقله عنده سبعةَ أشهر، فأرسل العادِلُ من مصر إلى الناصر ِيطلب منه أخاه الصالحَ أيوبَ، ويعطيه مائة ألف دينار، فما أجابه إلى ذلك، بل عكس ما طلب منه بإخراجِ الصالحِ مِن سجنه والإفراج عنه وإطلاقه من الحبسِ، فعند ذلك حاربت الملوك من دمشق ومصر وغيرهما الناصرَ داود، وبرز العادِلُ من الديار المصرية إلى بلبيس قاصدًا قتال الناصر داود، فاضطرب الجيشُ عليه واختلفت الأمراءُ، وقَيَّدوا العادل واعتقلوه في خركاه- بيت من الخشب- وخُلِعَ العادل في يوم الجمعة تاسع شوال، فكانت مُدَّة ملكه سنتين وشهرين وثمانية عشر يومًا، وأرسلوا إلى الصالحِ أيوب يستدعونه إليهم، فامتنع الناصرُ داود من إرساله حتى اشتَرَط عليه أن يأخذ له دمشق وحمص وحلب وبلاد الجزيرة وبلاد ديار بكر ونصف مملكة مصر، ونصف ما في الخزائن من الحواصل والأموال والجواهر، فأجاب الصالحُ أيوب إلى ذلك مُكرهًا، وهو خائِفٌ أن تكونَ هذه الكائنة من المصريين مكيدةٌ، فلمَّا وصل الصالح أيوب إلى المصريين مَلَّكوه عليهم ودخل الديار المصرية سالِمًا مُؤيَّدًا منصورًا، مظفرا محبورًا مسرورًا، فأرسل إلى الناصر داود عشرين ألف دينار فرَدَّها عليه ولم يقبَلْها منه، واستقَرَّ مُلكه بمصر.
سار الأميرُ حسام الدين بنُ أبي علي الهذباني من دمشق، واستولى على بعلبكَّ بغير حربٍ في رجب، وحَمَل منها الملك المنصورُ نورَ الدين محمود بن الملك الصالح إسماعيل، وأخَذَه الملك السعيدُ عبد الملك إلى الديار المصريةِ تحت الاحتياط، ثمَّ صَلَحت الحالُ بين السلطانِ الصالح نجمِ الدين أيوب وبين المنصور صاحِبِ حمصَ والناصِر صاحب حلب، واتفَقَت الكلمة وبَعَث الصالح نجم الدين أيوب إلى حلب يطلب تسليمَ الصالح إسماعيل، فلم يجِبْ إلى تسليمه وأخرج السلطانُ عسكرًا كبيرًا، قدَّمَ عليه الأمير فخرَ الدين يوسف بن شيخ الشيوخ وسَيَّرَه لمحاربة الكرك، فسارَ إلى غزة، وأوقع بالخوارزميَّة، ومعهم الناصرُ داود صاحِبُ الكرك في ناحيةِ الصَّلت، وكَسَرَهم وبدَّدَ شَملَهم، وفَرَّ الناصِرُ إلى الكرك في عِدَّة، وكانت الكسرةُ على الصلت في ربيع الآخر، وسار فخر الدين عنها بعد ما حَرَقها واحتاط على سائِرِ بلاد الناصِرِ، وولى عليها النوَّابَ ونازل فخرُ الدين الكركَ، وخرَّبَ ما حولها، واستولى على البلقاء، وأضعف الناصرَ حتى سأله الأمان، فبعث فخرُ الدين يطلُبُ منه مَن عنده مِن الخوارزميَّة، فسَيَّرَهم الناصِرُ إليه، فسار عن الكركِ وهم في خدمتِه ثمَّ نازل فخرُ الدين بُصرى، حتى أشرفَ على أخْذِها، فنزل به مرض أشفى منه على الموتِ وحُمِل في محفَّة إلى القاهرة، وبقِيَ العسكَرُ حتى استولوا عليها، وقَدِمَ المنصورُ إبراهيم صاحِبُ حمص إلى دمشق منتميًا إلى السلطانِ الملك الصالحِ نجم الدين أيوب فنزل به مرض مات به في صَفَر.
ما إن هُزمَ إسماعيل شاه الصفوي في موقعة جالديران العام الماضي أمام السلطان العثماني سليم الأول حتى كان أكثرَ استعدادًا وتقبلًا من قبلُ للتحالف مع البرتغاليين، وبدأ في الاستعداد للارتباط بالبرتغال عقِبَ استيلاء البوكرك على هرمز، عندها وصل سفيرٌ من لدى إسماعيل شاه وتمَّ الدخول في اتفاقية محدودة بين البرتغاليين والصفويين نصَّت على ما يلي: أن يقدِّم البرتغال أسطولَه ليساعدَ الفُرسَ في غزو البحرين والقطيف، كما يقدِّم البرتغال المساعدة لإسماعيل شاه لقمع الثورة في مكران وبلوجستان، وأن يكوِّن الشعبان البرتغالي والفارسي اتحادًا ضد العثمانيين، إلَّا أن وفاة البوكرك التي أتت بعد ذلك قد أعاقت ذلك التحالف، ولقد أظهر البرتغاليون تودُّدًا لإسماعيل شاه قبل معركة جالديران، وكانوا يهدفون من وراء تودُّدهم للصفويين أن تتاح لهم فرصة تحقيق أهدافهم في إيجاد مراكزَ لهم في الخليج العربي، وكانوا يُدركون أنهم إذا لم يكسبوا وُدَّ الصفويين فإن تعاوُنَ قوَّتِهم مع القوى المحلية في الخليج قد يؤدي إلى فشلِهم في تحقيق أهدافهم ولا سيما أن مشروعاتِهم في إيجاد مراكز نفوذ في البحر الأحمر مُنِيت بالفشل إلى حدٍّ كبير، لقد أدَّت هزيمة إسماعيل شاه أمام العثمانيين إلى حرصه الشديد للتحالف مع النصارى وأعداء الدولة العثمانيَّة؛ ولذلك تحالف مع البرتغاليين وأقرَّ استيلاءهم على هرمز في مقابل مساعدتِه على غزو البحرين والقطيف، إلى جانب تعهدِهم بمساندتهم ضد القوات العثمانية، وقد تضمَّن مشروع التحالف البرتغالي الصفوي تقسيمَ المشرق العربي إلى مناطقِ نفوذٍ بينهما، حيث اقترح أن يحتلَّ الصفويون مصرَ، والبرتغاليون فلسطينَ.