"أيلول الأسودُ" هو الاسمُ الذي يُشار به إلى شَهر أيلولَ من هذا العامِ؛ ففي هذا الشَّهر تحرَّك حُسين بن طلال ملِكُ الأردنِّ لإجهاضِ مُحاولةٍ لمنظَّمات فِلَسطينية لإسقاطِ نِظامِ حُكمِه الملكيِّ؛ حيث استمرَّ القتالُ المسلَّح حتى يُوليو عام 1971م؛ حيث كان الفِلَسطينيون يُشكِّلون نِسبةً عالية من تَعدادِ سُكان الأردنِّ في تلك الفترة، وكانوا مَدْعومين من قِبَل أنظمةٍ عربية مُختلِفة، خاصَّةً من الرئيس المصريِّ جَمال عبد الناصر. بدَأَت قُوات الأمنِ الأُردنية وقُوات الجيش تَفقِد سُلْطتها؛ حيث بدَأت قُواتُ منظَّمة التحرير الفِلَسطينية النِّظامية بحمْلِ السلاحِ بشَكلٍ عَلَني، وإقامة نِقاطِ تَفتيشٍ، وجمْع ما أطلقوا عليه مُصطلح "ضَرائب القضيةِ الفِلَسطينية". هذا الانتشارُ الفِدائي على الساحة الأُردنية بدَأ يُقلِق الملِكَ حُسينًا، الذي بات يَشعُر أنَّ هناك دولةً بدأَت تنْمو داخلَ دَولتِه. وخلالَ مُفاوضاتِ نوفمبر عام 1968 تمَّ التوصُّل إلى اتِّفاقية من سبْعة بُنود بين الملِك حُسين والمنظَّمات الفِلَسطينية، لكن لم تَصمُد الاتفاقيةُ، وأضْحَت منظَّمة التحرير الفِلَسطينية دولةً داخلَ الدولةِ في الأردنِ، وأصبَح رِجالُ الأمنِ والجيش الحُكومي يُهاجَمون ويُستهزَأ بهم، وما بين مُنتصَف عام 1968 ونهاية عام 1969م كان هنالك أكثرُ مِن 500 اشتباكٍ عنيف وقَع بين الفصائل الفِلَسطينية وقُوات الأمْن الأُردنية. وأصبَحَت أعمالُ العُنْف والخطْف تَتكرَّر بصُورةٍ مُستمِرَّة، كما أن المنظَّمات الراديكاليةُ في مُنظَّمة التحرير الفِلَسطينية -الجبْهة الشَّعبية لتحريرِ فِلَسطين لجورج حبش، والجبْهة الديمقراطيةُ لتَحرير فِلَسطين لنايف حواتمة، والجَبْهة الشعبيةُ لتَحرير فِلَسطين القيادة العامة لأحمد جبريل قرَّرت تقويضَ نِظام الملِك حُسين بن طلال. وفي 9 يونيو نجا الملِكُ حُسين من مُحاولة فاشلةٍ لاغتياله أثناءَ مُرور مَوكبه في منطقة صويلح، ومحاولةٍ فاشلة أُخرى بوسط عَمان؛ حيث قام قنَّاص فِلَسطيني كان مختبئًا على مِئذنة المسجدِ الحُسيني بإطلاق النارِ على سيَّارة الملِك، واستقرَّت إحدى الرصاصاتِ في ظَهر زَيد الرفاعي الذي كان يُحاوِل حِمايةَ الملِك، كانت تلك الفترةُ الأكثرَ حسْمًا ودَمويةً؛ حيث بدَأ الجيشُ الأردني في التوجُّهِ إلى المدن والمخيَّمات الفِلَسطينية والهجومِ على القواعدِ الفدائيةِ فيها بعدَ 16 أيلول، وفي أيَّام الحرب طرَح النِّظام الأُردني سيناريو التدخُّلِ الأمريكي والإسرائيليِّ البريِّ والجويِّ لدَعْم جيش الأُردنِّ، خصوصًا بعدَ أن أعلَنَت سُوريا والعراقُ دَعمَهما للمقاومةِ الفِلَسطينية في الأردنِّ، فتحرَّكت 300 دبابةٍ من القوات السُّورية لتُحِيط بمدينةِ إربد الأُردنية في 20 مِن أيلول، وما بين فِبراير ويونيو من عامِ 1970 قامت مُصادماتٌ بين قُوات الأمْن وقوَّات المنظَّمات الفِلَسطينية. انتهَت المعاركُ بين الطرفينِ في 28 أيلول بعدَ توقيعِ اتفاقيةٍ بين ياسر عَرفات والملِك حُسين في القاهرةِ بحُضور جمال عبد الناصرِ في أعقابِ القِمة العربيَّة الطارئةِ في القاهرةِ في أيلول / سبتمبر، وقُدِّر عددُ القتْلى والإصاباتِ بين الأُردنيين والفِلَسطينيين بعشَراتِ الآلافِ، وتُمثِّل أحداثُ "أيلول الأسود" نُقطةَ تحوُّل في الهُوية الأردنية؛ حيث باشَرَت المملكةُ ببرنامجِ "أرْدَنة المجتمَع"، وطرْد القُوات الفِلَسطينية إلى لُبنان؛ حيث أسَّست فتح "منظَّمة أيلول الأسود"، وفي 28 نوفمبر 1971 في القاهرة اغتِيلَ رَئيس الوزراء الأردني وَصفي التل على يَدِ أربعةٍ من أعضاء مُنظَّمة فتْح، وكان (التل) قد اتَّسم بالعنْف في عملية إجلاءِ الفِدائيين من الأردنِّ.
هو الإمامُ العلَّامةُ الأميرُ السيد الشريف المحقِّقُ محيي السنة وقامِعُ البدعة: أبو الطيب محمد صديق بن حسن بن علي بن لطف الله القنوجي البخاري، نزيل بهوبال، ويرجع نَسَبُه إلى زين العابدين بن علي بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب. ولِدَ في بلدة "بريلي" موطِنِ جَدِّه من جهةِ الأمِّ، عام 1248هـ ولما بلغ السادسةَ مِن عمره توفِّيَ والدُه، فرحل مع أمِّه إلى قِنَّوج موطِنِ آبائهِ بالهندِ، فنشأ فيها في حجرِ أمِّه يتيمًا فقيرًا على العَفافِ والطهارة، وتلقَّى الدروس في علومٍ شتى على صفوةٍ مِن علماءِ قِنَّوج ونواحيها وغيرهم. درسَ صِدِّيق على شيوخٍ كثيرين من مشايخِ الهند واليمن، واستفاد منهم في علومِ القرآن والحديثِ وغيرهما، ولقد أجازه شيوخٌ كثيرون ذكَرَهم في ثَبتِه "سلسة العَسْجَد في مشايخ السند". وله تلاميذ كثيرون درَسوا عليه واستجازوه، وبعد عودتِه مِن الحجازِ إلى الهند انتقل العلامةُ صِدِّيق حسن خان من (قنوج) إلى مدينة (بهوبال) في ولاية (مادهيا براديش) في وسط الهند، وقد ذاع صيتُه في تلك الأيام، كإمام في العلومِ الإسلامية، ومؤلِّفٍ بارع في العلوم العقليَّةِ والنَّقلية، وكاتبٍ قديرٍ في اللغات العربية والفارسية والأوردية، ومجتهدٍ متواصلٍ في الدرس والتأليف والتدوين، ولم يلبَثْ أن تزوَّجَ بأميرة بهوبال (شاهجان بيجوم) التي كانت تحكُمُها حينذاك، تزوَّجَت به لَمَّا عَلِمَت من شَرَفِ نَسَبِه وغزارة عِلمِه واستقامة سيرتِه، سنة 1287هـ، وجعلَتْه مُعتَمِدَ المهامِّ، ومنحته أقطاعًا من الأرضِ الخراجيَّة تغلُّ له خمسين ألف ربيَّة في كلِّ سنة، وخلعت عليه ولقَّبَتْه الدولةُ البريطانيةُ الحاكِمةُ بالهند نواب أمير الملك سيد محمد صديق حسن خان بهادر، ومنحته حَقَّ التعظيم في أرض الهند بطولِها وعرضِها بإطلاقِ المدافِعِ سَبعَ عشرة طلقةً، وخلَعَت عليه بالخِلَعِ الفاخرةِ، ومنَحَه السلطانُ عبد الحميد خان الوسامِ المجيدي من الدرجةِ الثانية. عَمِلَ صديق خان وزيرًا لزوجته الأميرة (شاهجان بيجوم) ونائبًا عنها. كان زواجُ العلَّامة صديق حسن خان بالأميرة شاهجان وتلقُّبه بأمير بهوبال نقطةَ تحوُّلٍ لا في حياتِه العلميَّةِ فقط، بل في النشاطِ العلميِّ والعهد التأليفي في الهند كلِّها، فكان له موهبةٌ فائقةٌ في الكتابة وفي التأليف، حتى قيل إنَّه كان يكتُبُ عَشَرات الصفحاتِ في يوم واحد، ويكمِلُ كتابًا ضخمًا في أيام قليلة، ومنها كتب نادرةٌ على منهج جديد، وعندما ساعدته الظروفُ المَنصبيَّةُ والاقتصادية على بذل المالِ الكثيرِ في طَبعِها وتوزيعِها، تكَلَّلت مساعيه العلمية بنجاحٍ منقطعِ النظير. من مؤلَّفاتِه: فتح البيان في مقاصد القرآن، ونيل المرام من تفسير آيات الأحكام، والدين الخالص (جمع فيه آيات التوحيد الواردة في القرآن، ولم يغادر آيةً منها إلا أتى عليها بالبيان الوافي)، وعون الباري بحَلِّ أدلة البخاري (شرح كتاب التجريد)، والسراج الوهاج في كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجَّاج، والحِرز المكنون من لفظ المعصوم المأمون (في الحديث)، والرحمة المهداة إلى من يريد زيادةَ العلمِ على أحاديثِ المِشكاة، والجنة في الأسوة الحسنة بالسنَّة،(في اتباع السنة)، الحِطَّة في ذكر الصحاح الستة، والروضة الندية شرح الدرر البهية للقاضي محمد اليمني الشوكاني، وفتح العلام شرح بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني، وحصول المأمول من علم الأصول (تلخيص إرشاد الفحول للشوكاني) (في أصول الفقه)، وقطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، وغيرها كثير، قال عبد الحي الطالبي: "له مصنَّفاتٌ كثيرةٌ ومؤلَّفاتٌ شهيرة في التفسير والحديث، والفقه والأصول، والتاريخ والأدب، قلَّما يتَّفِقُ مثلُها لأحدٍ من العلماء، وكان سريعَ الكتابةِ حُلوَ الخَطِّ، يكتب كراستين في مجلسٍ واحدٍ بخَطٍّ خفيٍّ في ورقٍ عالٍ، ولكنه لا تخلو تأليفاتُه عن أشياءَ، إما تلخيص أو تجريد، أو نقل من لسانٍ إلى لسان آخر، وكان كثيرَ النقل عن القاضي الشوكاني، وابن القيم، وشيخه ابن تيمية الحراني، وأمثالهم، شديدَ التمَسُّك بمختاراتهم، وقد اعتراه مرَضُ الاستسقاء، واشتدَّ به المرضُ وأعياه العلاجُ واعتراه الذهولُ والإغماء، وكانت أناملُه تتحَرَّك كأنَّه مشغول بالكتابة، فلما كان نصفُ الليل فاضت على لسانِه كلمةُ أحِبُّ لقاءَ اللهِ، قالها مرة أو مرتين، وطلب الماءَ واحتُضِرَ، وفاضت نفسه، وكان ذلك في ليلة التاسع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1307هـ، وله من العُمرِ تِسعٌ وخمسون سنة وثلاثة أشهر وستة أيام، وشُيِّعَت جنازته في جمعٍ حاشدٍ، وصلِّيَ عليه ثلاث مرات، و كان قد أوصى بأن يُدفَنَ على طريقةِ السُّنَّة، فنُفِّذَت وصيَّتُه.
وكان المُعتَمِدُ على الله أبو عبدِ الله محمدُ بن عَبَّاد أَعظمَ مُلوكِ الأندلسِ من المسلمين، وكان يَملِك أكثرَ البلادِ مثل قُرطُبة وإشبيلية، وكان يُؤدِّي إلى الفونسو السادس -الأذفونش- ضَريبةً كلَّ سَنَةٍ. فلمَّا مَلَكَ الفونسو طليطلة أَرسلَ إليه المُعتَمِدُ الضَّريبةَ على عادَتِه، فرَدَّها عليه ولم يَقبَلها منه، فأَرسلَ إليه يَتهدَّدهُ ويَتوعَّدهُ أنَّه يَسيرُ إلى مَدينةِ قُرطُبة ويَتملَّكها إلَّا أن يُسلِّم إليه جَميعَ الحُصونِ التي في الجَبلِ، ويُبقِي السهلَ للمُسلمين، وكان الرسولُ في جَمعٍ كَثيرٍ كانوا خمسمائة فارس، فأَنزَله محمدُ بن عبَّاد، وفَرَّقَ أَصحابَه على قُوَّادِ عَسكرِه، ثم أَمَرَ كلَّ مَن عنده منهم رَجُل أن يَقتُلَه، وأَحضرَ الرَّسولَ وصَفَعَهُ، وسَلِمَ من الجَماعةِ ثلاثةُ نَفَرٍ، فعادوا إلى ألفونسو فأَخبَروه الخَبرَ وكان مُتوجِّهًا إلى قُرطُبة لِيُحاصِرَها، فلمَّا بَلَغَهُ الخَبَرُ عادَ إلى طُليطلة ليَجمعَ آلاتَ الحِصارِ، ورَحلَ المُعتمدُ إلى إشبيلية فلمَّا عاد إليها، وسَمِعَ مَشايخَ قُرطبة بما جَرَى، ورأوا قُوَّةَ الفِرنج، وضَعفَ المُسلمين، واستِعانَةَ بَعضِ مُلوكِهم بالفِرنج على بعضٍ، اجتَمَعوا وقالوا: هذه بلادُ الأندلسِ قد غَلَبَ عليها الفِرنجُ، ولم يَبقَ منها إلَّا القليلُ، وإن استَمرَّت الأَحوالُ على ما نَرَى عادت نَصرانيةً كما كانت. وساروا إلى القاضي عبدِ الله بن محمدِ بن أدهم، فقالوا له: ألا تَنظُر إلى ما فيه المسلمون من الصَّغارِ والذِّلَّةِ، وعَطائِهم الجِزيةَ بعدَ أن كانوا يَأخُذونَها، وقد رأينا رَأيًا نَعرِضُه عليك. قال: ما هو؟ قالوا: نَكتُب إلى غَربِ إفريقية ونَبذُل لهم، فإذا وَصَلوا إلينا قاسَمناهُم أَموالَنا، وخَرَجنا معهم مُجاهِدين في سبيلِ الله. قال: نخافُ، إذا وَصَلوا إلينا، يُخَرِّبون بِلادَنا، كما فَعَلوا بإفريقية، ويَتركون الفِرنجَ ويَبدؤون بكم، والمُرابِطون أَصلَحُ منهم وأَقربُ إلينا. قالوا له: فكاتب أَميرَ المُسلمين، وارغَب إليه لِيَعبُرَ إلينا، ويُرسِل بعضَ قُوَّادِه. وقَدِمَ عليهم المُعتمِدُ بن عبَّاد، وهُم في ذلك، فعَرَضَ عليه القاضي ابنُ أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابنُ عبَّاد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتَنَع، وإنَّما أرادَ أن يُبرِّئ نَفسَه من تُهمةٍ، فأَلَحَّ عليه المُعتمِدُ ابنُ عبَّاد وقال: "إنْ دُهِينَا من مُداخَلَةِ الأضدادِ، فأَهْوَنُ الأَمرينِ أَمرُ المُلَثَّمين، ورِعايةُ أولادِنا جِمالَهم أَهوَنُ من أن يَرعوا خَنازيرَ الفِرنج". فسارَ إلى أَميرِ المسلمين يوسفَ بنِ تاشفين، فأَبلغَه الرِّسالةَ، وأَعلَمهُ ما فيه المسلمون من الخَوفِ من ألفونسو. وما زالت وُفودُ الأندلسِ تَفِدُ على يوسفَ بنِ تاشفين مُستَعطِفين مُجهَشِينَ بالبُكاءِ ناشِدينَ بالله, ومُستَنجِدينَ بفُقهاءِ حَضرتِه ووُزراءِ دَولتِه فيَسمَع إليهم ويُصغِي لِقَولِهم وتَرِقُّ نَفسُه لهم, ولمَّا انتَهَت الرُّسُلُ إلى ابنِ تاشفين أَقبلَ عليهم وأَكرمَ مَثواهُم وجَرَت بينه وبينهم مُراوضاتٌ ثم انصَرَفوا إلى مُرسِلِهم ثم عَبَرَ يوسفُ البحرَ عُبورًا سَهلًا حتى أتى الجَزيرةَ الخَضراءَ فخَرجَ إليه أَهلُها بما عندهم من الأقواتِ والضِّيافاتِ وأَقاموا له سُوقًا جَلَبوا إليه ما عندهم من سائرِ المَرافِقِ وأَذِنوا للغُزاةِ في دُخولِ البلدِ والتَّصَرُّفِ فيها, ثم أَرسلَ ابنُ تاشفين لألفونسو يَدعوهُ للإسلامِ أو الجِزيَةِ أو الحَربِ فاختارَ الحربَ، فقام يوسفُ بن تاشفين في الحالِ وكان بمَدينةِ سَبتَة، فأَمرَ بعُبورِ العَساكرِ إلى الأندَلُسِ، وأَرسلَ إلى مراكش في طَلبِ مَن بَقِيَ مِن عَساكرِه، فأَقبلَت إليه يَتلُو بَعضُها بَعضًا، فلمَّا تَكامَلَت عنده عَبَرَ البحرَ وسارَ، فاجتَمعَ بالمُعتَمِدِ بن عبَّاد بإشبيلية، وكان قد جَمعَ عَساكرَه أيضًا، وخَرجَ من أَهلِ قُرطُبة عَسكرٌ كَثيرٌ. وقَصدَهُ المُتَطَوِّعَةُ من سائرِ بلادِ الأندلسِ، ووَصَلت الأَخبارُ إلى ألفونسو فجَمعَ فِرسانَه وسارَ من طُليطلة، وكَتبَ إلى أَميرِ المسلمين كِتابًا كَتَبَهُ له بعضُ أُدباءِ المُسلِمين، يُغلِظ له القَولَ، ويَصِفُ ما عنده من القُوَّةِ والعَددِ، وبالَغَ الكاتِبُ في الكِتابِ. فأَمَرَ أَميرُ المُسلمين أبا بكرِ بن القَصيرَةِ أن يُجيبَهُ، وكان كاتِبًا مُفْلِقًا، فكَتبَ فأَجادَ، فلمَّا قَرأهُ على أَميرِ المُسلِمين قال: هذا كِتابٌ طَويلٌ، أَحضِر كِتابَ ألفونسو واكتُب في ظَهرِه: الذي يكون سترا له الذي سَيكونُ سَتَراهُ. فلمَّا عادَ الكِتابُ إلى ألفونسو ارتاعَ لذلك، وعَلِمَ أنَّه بُلِيَ بِرَجُلٍ له عَزْمٌ وحَزْمٌ، فازداد استِعدادًا, فجَمعَ ألفونسو فِرسانَه ثم سارَ من طُليطِلة، وسارَ أَميرُ المُسلِمين ابنُ تاشفين، والمُعتَمِدُ بن عبَّاد، حتى أَتوا أَرضًا يُقال لها: الزَّلَّاقَة، من بَلدِ بطليوس، فأَرسلَ ابنُ تاشفين للمُعتَمِد يَأمُرُه أن يكونَ في المُقدِّمَةِ، ففَعلَ، وقد ضَربَ الفونسو خِيامَه في لَحْفِ جَبَلٍ، والمُعتَمِدُ في سَفْحِ جَبَلٍ آخرَ، يَتَراءونَ، ويَنزِلُ أَميرُ المُسلِمين ابنُ تاشفين وَراءَ الجَبَلِ الذي عنده المُعتَمِد، وظَنَّ ألفونسو أنَّ عَساكِرَ المُسلِمين ليس إلَّا الذي يَراهُ. وكان الفِرنجُ في خمسين ألفًا، فتَيَقَّنوا الغَلَبَ، ثم أَقبَلَت الجُيوشُ، ونَزلَت تِجاهَ الفِرنجِ، فاختارَ ابنُ عبَّادٍ أن يكونَ هو المُصادِمُ للفِرنجِ أوَّلًا، وأن يكون ابنُ تاشفين رِدْفًا له. ففَعَلوا ذلك، وأَرسلَ ألفونسو إلى المُعتَمِد في مِيقاتِ القِتالِ، فقال: غَدًا الجُمعةُ، وبَعدَه الأحدُ، فيكونُ اللِّقاءُ يومَ الاثنينِ، فقد وَصلنا على حالِ تَعَبٍ، واستَقرَّ الأَمرُ على هذا، وركب ليلة الجمعة سَحَرًا، وصَبَّحَ بجَيشِه جَيشَ المُعتَمِد بُكرَةَ الجُمعَةِ، غَدْرًا، وظَنًّا منه أن ذلك المُخَيَّم هو جَميعُ عَسكرِ المُسلِمين، فوَقعَ القِتالُ بينهم فصَبرَ المسلمون، فأَشرَفوا على الهَزيمَةِ، وكان المُعتَمِد قد أَرسلَ إلى أَميرِ المُسلِمين ابنِ تاشفين يُعلِمه بمَجيءِ الفِرنجِ للحربِ، فقال: احمِلوني إلى خِيامِ الفِرنجِ، فسار إليها، فبينما هُم في القِتالِ وَصَلَ أَميرُ المُسلِمين إلى خِيامِ الفِرنجِ، فنَهَبَها، وقَتَلَ مَن فيها، فلمَّا رأى الفِرنجُ ذلك لم يَتَمالَكوا أن انهَزَموا، وأَخَذَهم السَّيفُ، وتَبِعَهم المُعتَمِدُ مِن خَلفِهم، ولَقِيَهم أَميرُ المُسلِمين من بين أَيدِيهم، ووَضَعَ فيهم السَّيفَ، فلم يُفلِت منهم أَحَدٌ، ونَجَا ألفونسو في نَفَرٍ يَسيرٍ قِيلَ: 30 رَجُلًا, وجَعلَ المُسلِمون من رُؤوسِ القَتلَى كُوَمًا كَثيرةً، فكانوا يُؤذِّنون عليها إلى أن جِيفَت فأَحرَقوها، وكانت الوَقعَةُ يومَ الجُمعةِ في العَشْرِ الأُوَلِ من شَهرِ رَمضان، وغَنِمَ المسلمون غَنيمةً عَظيمةً, وعَفَّ يوسفُ عن الغَنائمِ، وآثَرَ بها مُلوكَ الأندلسِ لِيَتِمَّ له الأَجرُ، فأَحَبُّوه وشَكَروا له, ورَجعَ أَميرُ المُسلِمين إلى الجَزيرةِ الخَضراء، وعَبرَ إلى سَبتَة، وسار إلى مراكش، فأقامَ بها إلى العامِ المُقبِل.
في شهر جمادى الأولى كانت الفتنة الكبيرة بمدينة تعز من بلاد اليمن؛ وذلك أن الملك المنصور عبد الله بن أحمد لما توفي في جمادى الأولى السنة الفائتة، أقيم بعده أخوه الملك الأشرف إسماعيل بن أحمد الناصر بن الملك الأشرف إسماعيل بن عباس، فتغيَّرت عليه نيات الجند كافةً؛ من أجل وزيره شرف الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر العلوي، نسبةً إلى علي بن بولان العكي؛ فإنه أخَّر صرف جوامكهم -مخصَّصاتهم- ومرتَّباتهم، واشتد عليهم، وعنف بهم، فنفرت منه القلوب، وكثُرت حُسَّاده؛ لاستبداده على السلطان، وانفراده بالتصرف دونه، وكان يليه في الرتبة الأمير شمس الدين علي بن الحسام، ثم القاضي نور الدين علي المحالبي مشد -ضابط- الاستيفاء، فلما اشتد الأمر على العسكر وكثرت إهانة الوزير لهم، واطِّراحه جانبهم، ضاقت عليهم الأحوال حتى كادوا أن يموتوا جوعًا، فاتفق تجهيز خزانة من عدن، وبرز الأمر بتوجه طائفة من العبيد والأتراك لنقلِها، فسألوا أن يُنفَق فيهم أربعة دراهم لكلٍّ منهم يرتفق بها، فامتنع الوزير ابن العلوي من ذلك، وقال: ليمضوا غصبًا إن كان لهم غرضٌ في الخدمة، وحين وصول الخزانة يكون خير، وإلا ففَسَح الله لهم، فما للدهر بهم حاجة، والسلطان غني عنهم، فهيج هذا القول حفائِظَهم، وتحالف العبيد والترك على الفتك بالوزير، وإثارة فتنة، فبلغ الخبر السلطان، فأعلم الوزير، فقال: ما يسووا شيئًا، بل نشنق كل عشرة في موضع، وهم أعجَزُ من ذلك، فلما كان يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة هذا قبيل المغرب، هجم جماعةٌ من العبيد والترك دار العدل بتعز، وافترقوا أربع فرق؛ فرقة دخلت من باب الدار، وفرقة دخلت من باب السر، وفرقة وقفت تحت الدار، وفرقة أخذت بجانب آخر، فخرج إليهم الأمير سنقر أمير جندار، فهبروه بالسيوف حتى هلك، وقتلوا معه علي المحالبي مشد المشدين، وعدة رجال، ثم طلعوا إلى الأشرف -وقد اختفى بين نسائه وتزيَّا بزيهن- فأخذوه ومضوا إلى الوزير ابن العلوي، فقال لهم: ما لكم في قتلي فائدة؟ أنا أنفق على العسكر نفقة شهرين، فمضوا إلى الأمير شمس الدين علي بن الحسام بن لاجين، فقبضوا عليه، وقد اختفى، وسجنوا الأشرف وأمَّه وحظيَّته في طبقة المماليك، ووكلوا به، وسجنوا ابن العلوي الوزير وابن الحسام قريبًا من الأشرف، ووكلوا بهما، وقد قيدوا الجميع، وصار كبير هذه الفتنة برقوق من جماعة الترك، فصعد هو في جماعة ليُخرِجَ الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل بن عباس من مدينة ثعبات بتعز، فامتنع أمير البلد من الفتح ليلًا، وبعث الظاهر إلى برقوق بأن يتمهَّل إلى الصبح، فنزل برقوق ونادى في البلد بالأمان والاطمئنان والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وأن السلطان هو الملك الظاهر يحيى بن الأشرف، هذا وقد نهب العسكر عند دخولهم دار العدل جميعَ ما في دار السلطان، وأفحَشوا في نهبهم، فسلبوا الحريم ما عليهن، وانتهكوا ما حرَّم الله، ولم يَدَعوا في الدار ما قيمتُه الدرهم الواحد، وأخذوا حتى الحُصُر، وامتلأت الدار وقت الهجمة بالعبيد والترك والعامة، فلما أصبح يوم الجمعة عاشره اجتمع بدار العدل الترك والعبيد، وطلبوا بني زياد وبني السنبلي والخدم، وسائر أمراء الدولة والأعيان، فلما تكامل جمعهم ووقع بينهم الكلام فيمن يقيموه، قال بنو زياد: ما تمَّ غير يحيى، فاطلَعوا له هذه الساعة، فقام الأمير زين الدين جياش الكاملي والأمير برقوق، وطلعا إلى مدينة ثعبات في جماعة من الخدام والأجناد، فإذا الأبوابُ مغلقة، وصاحوا بصاحب البلد حتى فتح لهم، ودخلوا إلى القصر، فسلموا على الظاهر يحيى بالسلطنة وسألوه أن ينزل معهم إلى دار العدل، فقال: حتى يصل العسكر أجمع، ففكُّوا القيد مِن رِجلَيه، وطلبوا العسكرَ بأسرِهم، فطلعوا بأجمعهم، وأطلعوا معهم بعشرة جنائب من الإسطبل السلطاني في عدة بغال، فتقدَّم الترك والعبيد وقالوا للظاهر: لا نبايعك حتى تحلفَ لنا أنَّه لا يحدث علينا منك سوءٌ بسبب هذه الفعلة، ولا ما سبقَ قبلها،، فحلف لهم ولجميع العسكر، وهم يعيدون عليه الأيمانَ، ويتوثَّقون منه، وذلك بحضرة قاضي القضاة موفق الدين علي بن الناشري، ثم حلفوا له على ما يحبُّ ويختار، فلما انقضى الحلف، وتكامل العسكر، ركب ونزل إلى دار العدل في أهبة السلطنة، فدخلها بعد صلاة الجمعة، فكان يومًا مشهودًا، وعندما استقر بالدار أمر بإرسال ابن أخيه الأشرف إسماعيل إلى ثعبات، فطلعوا به، وقيدوه بالقيد الذي كان الظاهر يحيى مُقيَّدًا به، وسجنوه بالدار التي كان مَسجونًا بها، ثم حُمل بعد أيام إلى الدملوه، ومعه أمه وجاريته، وأنعم السلطان الملك الظاهر يحيى على أخيه الملك الأفضل عباس بما كان له، وخلع عليه وجعله نائب السلطة كما كان في أول دولة الناصر، وخمدت الفتنة، وكان الذي حرَّك هذا الأمر بني زياد، فقام أحمد بن محمد بن زياد الكاملي بأعباء هذه الفتنة، لحنقه على الوزير ابن العلوي؛ فإنه كان قد مالأ على قتل أخيه جياش، وخذل عن الأخذ بثأره وصار يمتَهِنُ بني زياد، ثم ألزم الوزير ابن العلوي وابن الحسام بحمل المال، وعُصِرا على كِعابهما وأصداغهما، ورُبطا من تحت إبطهما، وعُلِّقا منكسَينِ، وضُرِبا بالشيب والعصا، وهما يوردان المال، فأُخِذَ من ابن العلوي -ما بين نقد وعروضٍ- ثمانون ألف دينار، ومن ابن الحسام ثلاثون ألف دينار، وظهر من السلطان نبل وكرم وشهامة ومهابة، بحيث خافه العسكر بأجمعهم؛ فإن له قوة وشجاعة، حتى إن قوسه يعجز من عندهم من الترك عن جَرِّه، وبهذه الحادثة اختَلَّ مُلكُ بني رسول.
لم يكتَفِ بيبرسُ الجاشنكيري بمُلكِ مِصرَ، بل ذهب يطلُبُ مِن الملك الناصِرِ المخلوعِ ما بيَدِه في الكرك، وذلك بتحريضِ وتخويفِ الأمراء له من الناصِرِ، فأصبح يريدُ أن يجرِّدَ النَّاصِرَ مِن كُلِّ شَيءٍ، فكان هذا من أسبابِ عَودةِ النَّاصِرِ لطَلَبِ المُلك، حيث حَبَس الناصِرُ مغلطاي رسولَ المظَفَّر بيبرس الذي جاء لأخذِ باقي أموالِ ومماليك الناصِرِ من الكرك، فخاف المظَفَّر بيبرس من ذلك، واشتهر بالدِّيارِ المِصريَّة حركةُ الملك الناصر محمَّد وخروجه من الكرك، فماجت النَّاسُ، وتحرك الأميرُ نوغاي القبجاقي، وكان شجاعًا مِقدامًا حادَّ المزاجِ قَوِيَّ النفس، وكان من ألزامِ الأمير سلار النائب، وتواعَدَ مع جماعةٍ مِن المماليك السلطانية أن يَهجُمَ بهم على السُّلطانِ الملك المظَفَّر إذا رَكِبَ ويَقتُلَه، فلما ركبَ المظَفَّر ونزل إلى بركةِ الجُبِّ استجمع نوغاي بمن وافقه يريدون الفَتكَ بالمظَفَّر في عودِه من البركة، وتقرب نوغاي من السلطانِ المظَفَّر بيبرس قليلًا قليلًا، وقد تغيَّرَ وجهُه وظهر فيه أماراتُ الشَّرِّ، ففطن به خواصُّ المظفر وتحَلَّقوا حول المظفر، فلم يجِدْ نوغاي سبيلًا إلى ما عزم عليه، وعاد المَلِكُ المظفر إلى القلعة فعَرَّفه ألزامه ما فَهِموه من نوغاي، وحَسَّنوا له القبضَ عليه وتقريرَه على من معه، فاستدعى المَلِكُ المظفَّر الأميرَ سلار وعرَّفه الخبَرَ، وكان نوغاي قد باطَنَ سلار بذلك، فحَذَّر سلار المَلِكَ المظَفَّر وخَوَّفَه عاقبةَ القَبضِ على نوغاي، وأن فيه فسادَ قلوب جميع الأمراء، وليس الرأيُ إلَّا الإغضاء فقط، وقام سلار عنه، فأخذ البرجيَّة بالإغراء بسلار وأنه باطَنَ نوغاي، ومتى لم يقبِضْ عليه فسد الحالُ، وبلغ نوغاي الحديثُ، فواعد أصحابَه على اللَّحاقِ بالملك الناصر، وخرج هو والأميرُ مغلطاي القازاني الساقي ونحو ستين مملوكًا وقت المغرب عند غَلقِ باب القلعة في ليلةِ الخميس خامس عشر جمادى الآخرة من هذه السنة، وقيلَ في أمر نوغاي وهروبِه وجهٌ آخَرُ، ثم أرسل خَلفَهم المَلِكُ المظَفَّر بيبرس مَن يعيدُهم، ولكن لم يَقدِروا عليهم وعادوا إلى مصر، أمَّا هؤلاء لَمَّا وصلوا إلى الناصر محمد وأعلموه بالأمرِ قَوِيَ في نفسه الرجوعُ للمُلكِ، فكاتب النوابَ فأجابوه بالسَّمعِ والطَّاعةِ، وأخذ المَلِكُ النَّاصِرُ في تدبيرِ أمرِه، وبينما المظَفَّر في ذلك ورد عليه الخبَرُ من الأفرم بخروجِ المَلِك الناصِرِ مِن الكرك، فقَلِقَ المظَفَّر من ذلك وزاد توَهُّمه؛ ونفَرَت قلوبُ جماعةٍ مِن الأمراء والمماليك منه، وخَشُوا على أنفُسِهم، واجتمع كثيرٌ من المنصوريَّة والأشرفيَّة والأويراتية وتواعدوا على الحَربِ، وأمَّا الملك المظَفَّر بيبرس هذا فإنَّه أخذ في تجهيزِ العساكِرِ إلى قتال المَلِك الناصِرِ محمد بن قلاوون حتى تمَّ أمرُهم وخرجوا مِن الدِّيارِ المِصريَّة في يوم السَّبتِ تاسِعَ شهر رجب وعليهم خمسةُ أمراء من مُقَدَّمي الألوفِ، فلم يكُنْ إلَّا أيامٌ وورد الخبر ثانيًا بمسير الملك الناصِرِ محمد من الكرك إلى نحو دمشق، فتجهَّزَت عسكر المظَفَّر بيبرس في أربعة آلاف فارس وخرجوا من القاهرة في العشرين من شعبان إلى العبَّاسة، ثمَّ إنَّ المظَفَّر أخذَ عَهدًا من الخليفة العباسي بمصر أنَّه هو السلطانُ، ولكن قَدِمَ عليه الخبَرُ في خامس عشرين شعبان باستيلاء الملك الناصر على دِمشقَ بغيرِ قِتالٍ، فعَظُمَ ذلك على المَلِك المظفَّر وأظهر الذِّلَّة، وخرجت عساكِرُ مِصرَ شيئًا بعد شيءٍ تريد المَلِكَ الناصِرَ حتى لم يبقَ عنده بالدِّيارِ المصريَّة سوى خواصِّه من الأمراء والأجناد، فلما كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان استدعى الملِكُ المظَفَّر الأمراءَ كُلَّهم واستشارهم فيما يفعل، فأشار الأمير بيبرس الدوادار المؤرخ والأمير بهادر آص بنزوله عن المُلكِ والإشهادِ عليه بذلك كما فعله المَلِكُ الناصر، وتسير إلى الملك الناصر بذلك وتَستَعطِفُه، وتخرُجُ إلى إطفيح بمن تثِقُ به، وتقيمُ هناك حتى يَرِدَ جوابُ الملك الناصِرِ عليك فأعجبه ذلك، وقام ليجَهِّزَ أمْرَه، وبعث بالأميرِ بيبرس الدوادار إلى المَلِك الناصر محمد يُعَرِّفه بما وقع، وقيل إنه كتب إلى الملك الناصر يقولُ: " والذي أعَرِّفُك به أني قد رجعت أقلِّدُك بغيك؛ فإن حبستَني عددتُ ذلك خلوةً، وإن نفيتَني عددتُ ذلك سياحةً، وإن قتلتَني كان ذلك لي شهادةً" فلما سمع الملك الناصر ذلك، عَيَّنَ له صهيون ثمَّ اضطربت أحوالُ المظَفَّر بيبرس وتحَيَّرَ، وقام ودخل الخزائِنَ، وأخذ من المال والخيل ما أحَبَّ، وخرج من يومِه مِن باب الإسطبل في مماليكِه وعِدَّتُهم سبعُمائة مملوك، ومعه من الأمراءِ عِدَّةٌ، وعَلِمَت العوام بذلك فأخذوا باللَّحاقِ بهم وضَرْبِهم، وفي يوم الجمعة تاسع عَشَرِه خُطِبَ على منابر القاهرة ومِصرَ باسمِ الملك الناصر، وأُسقِطَ اسمُ الملك المظفر بيبرس هذا وزال مُلكُه، ولما فارق القلعةَ أقام بإطفيح يومين؛ ثم اتَّفَق رأيه ورأي أيدمر الخطيري وبكتوت الفتاح إلى المسير إلى بُرقة، وقيل بل إلى أسوان، ثم أمر الناصِرُ بإحضاره.
كثُرَ تنافرُ الأمراء واختلافهم، وانقطع نوروز، وجكم الجركسي الظاهري، وقنباي، عن الخدمة، ودخل شهر رمضان وانقضى، فلم يحضروا للهناء بالعيد، ولا صلَّوا صلاة العيد مع السلطان، فلما كان يوم الجمعة ثاني شوال ركبوا للحرب، فنزل السلطان من القصر إلى الإسطبل عند سودن طاز، وركب نوروز وجكم وقنباي، وقرقماس الرماح، ووقعت الحربُ من بكرة النهار إلى العصر، ورأس الأمراءَ نوروز وجكم، وخصمهم سودن طاز، فلما كان آخر النهار بعث السلطان بالخليفةِ المتوكل على الله وقضاة القضاة الأربع إلى الأمير الكبير نوروز في طلب الصلح، فلم يجد بدًّا من ذلك، وترك القتال، وخلع عنه آلة الحرب، فكفَّ الأمير جكم الدوادار أيضًا عن الحرب، وعد ذلك مكيدةً من سودن طاز، فإنه خاف أن يغلِبَ ويُسَلِّمَه السلطان إلى الأمراء، فأشار عليه بذلك حتى فعله، فتمَّت مكيدته بعدما كاد أن يؤخذ؛ لقوة نوروز وجكم عليه، وبات الناس في هدوء، فلما كان يوم السبت الغد ركب الخليفة وشيخ الإسلام البلقيني، وحلَّفوا الأمراء بالسمع والطاعة للسلطان، وإخماد الفتنة، فطلع الأمير نوروز إلى الخدمة في يوم الاثنين خامسه، وخُلِعَ عليه، وأُركِبَ فرسًا خاصًّا بسرج، وكنفوش ذهب، وطلع الأمير جكم في ثامنه وهو خائف، ولم يطلع قنباي، ولا قرقماس، وطُلِبا فلم يُوجَدا، وجُهِّز إليهما خلعتان، على أن يكون قنباي نائبًا بحماة، وقرقماس حاجبًا بدمشق، ونزل جكم بغير خِلعة حنقًا وغضبًا، فما هو إلا أن استقر في داره، ونزل إليه سرماش رأس نوبة، وبشباي الحاجب بطلب قنباي، ظنًّا أنه اختفى ليلبس الخلعة بنيابة حماة، فأنكر أن يكون عنده وصرفهما، وركب من ليلته بمن معه من الأمراء والمماليك وأعيانهم قمش الخاصكي الخازندار، ويشبك الساقي، ويشبك العثماني، وألطبغا جاموس، وجانباي الطيبي، وبرسبغا الدوادار، وطرباي الدوادار، وصاروا كلهم على بركة الحبش خارج مصر، ولحق به الأمير قنباي، وقرقماس الرماح، وأرغز، وغنجق، ونحو الخمسمائة من مماليك السلطان، وأقاموا إلى ليلة السبت عاشره، فأتاهم الأمير نوروز، والأمير سودن من زاده رأس نوبة، والأمير تمربغا المشطوب، في نحو الألفين، فسُرَّ بهم، وأقاموا جميعًا إلى ليلة الأربعاء، وأمرُهم يزيد ويقوى بمن يأتيهم من الأمراء والمماليك، فنزل السلطان من القصر في ليلة الأربعاء الرابع عشر إلى الإسطبل عند سودن طاز، وركب بكرةَ يوم الأربعاء فيمن معه، وسار من باب القرافة بعد ما نادى بالعرض، واجتمع إليه العسكر كله، وواقع جكم ونوروز، وكسرهما، وأسَرَ تمربغا المشطوب، وسودن من زاده، وعلى بن أينال، وأرغر، وفرَّ نوروز وجكم في عدة كبيرة يريدون بلاد الصعيد، وعاد السلطان ومعه الأمير سودن طاز إلى القلعة مُظفَّرًا منصورًا، وبعث بالأمراء المأسورين إلى الإسكندرية في ليلة السبت السابع عشر، وانتهى نوروز وجكم إلى منية القائد وعادوا إلى طموه، ونزلوا على ناحية منبابه من بر الجيزة تجاه القاهرة، فمنع السلطان المراكبَ أن تعديَ بأحدٍ منهم في النيل، وطلب الأمير يشبك الشعباني من الإسكندرية، فقدم يوم الاثنين التاسع عشر إلى قلعة الجبل، ومعه عالم كبير ممن خرج إلى لقائه، فباس الأرض ونزل إلى داره، وفي ليلة الثلاثاء عِشرينه: ركب الأمير نوروز نصف الليل، وعدى النيل، وحضر إلى بيت الأمير الكبير بيبرس الأتابك، وكان قد تحدَّث هو والأمير إينال باي بن قجماس له مع السلطان، حتى أمنه ووعده بنيابة دمشق، وكان ذلك من مكر سودن طاز، فمشى ذلك عليه، حتى حضر فاختلَّ عند ذلك أمر جكم وتفرَّق عنه من معه، وفرَّ عنه قنباي وصار فريدًا، فكتب إلى الأمير بيبرس الأتابك يستأذنه في الحضور، فبعث إليه الأمير أزبك الأشقر رأس نوبة، والأمير بشباي الحاجب، وقدما به ليلة الأربعاء في الحادي والعشرين إلى باب السلسلة من الإسطبل السلطاني، فتسلَّمه عدوه الأمير سودن طاز وأصبح وقد حضر يشبك وسائر الأمراء للسلام عليه، فلما كانت ليلة الخميس الثاني والعشرين قُيِّدَ وحمل في الحراقة -سفينة- إلى الإسكندرية، فسُجِن بها حيث كان الأمير يشبك مسجونًا، وفي يوم الخميس هذا خرج المحمَلُ وأمير الحاج نكباي الأزدمري، أحد أمراء الطبلخاناه، وكان قد ألبس الأمير نوروز تشريف نيابة دمشق في بيت الأمير بيبرس يوم الأربعاء، فقُبِض عليه من الغد يوم الخميس، وحُمل إلى باب السلسلة، وقُيِّد وأخرج في ليلة الجمعة الثالث والعشرين إلى الإسكندرية، فسُجِن بها أيضًا، وغضب الأميران بيبرس وإينال باي، وتركا الخدمة السلطانية أيامًا، ثم أُرضيا، واختفى الأميران قانباي وقرقماس، فلم يُعرَف خبرهما.
عرَضَ السلطان محمد بن مراد الثاني على إمبراطور القسطنطينية أن يسلِّمَها كي لا تصابَ بأذًى ولا يحِلَّ بالأهالي النكبات، وتعهَّد السلطان بحمايةِ العقائد وإقامةِ الشعائر، فرفض الإمبراطورُ ذلك، فقام السلطانُ بمحاصرة المدينة من الجانب الغربي من البَرِّ بجنود يزيد عددهم على مائتين وخمسين ألف مقاتل، ومن جهة البحر بمائة وثمانين سفينة بحرية، وأقام المدافِعَ حول الموقع، وكان من أهمِّها وأشهرها المدفعُ العظيم الذي صمَّمه له المجري أوربان خِصِّيصَى للسلطان، وهذا المدفَعُ كان يحتاج إلى سبعمائة شخص لجَرِّه، ويرمي كرة حجرية وزنها اثنا عشر رطلًا لمسافة ألف وستمائة متر، كما قام السلطان بنقل سبعين سفينة حربية إلى القرن الذهبي على ألواحٍ خشبية مسافة تقرُبُ من عشرة كيلومترات، وبهذا أحكم الحصارَ على القسطنطينية التي كان موقعُها يعطيها القوةَ؛ فهي محاطة بالمياه البحرية في ثلاث جبهات: مضيق البسفور، وبحر مرمرة، والقرن الذهبي الذي كان محميًّا بسلسلة ضخمة جدًّا تتحكم في دخول السفن إليه، بالإضافةِ إلى ذلك فإن خطينِ من الأسوار كانت تحيطُ بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة إلى القرن الذهبي، يتخلَّلها نهر ليكوس، وكان بين السورين فضاءٌ يبلغ عرضه 60 قدمًا ويرتفِعُ السور الداخلي منها 40 قدمًا وعليه أبراجٌ يصل ارتفاعها إلى 60 قدمًا، وأمَّا السور الخارجيُّ فيبلغ ارتفاعُه قرابة خمس وعشرين قدمًا، وعليه أبراج موزَّعة مليئة بالجند، وبدأ الحصارُ يوم الجمعة السادس والعشرين ربيع الأول، ولكن كل المحاولات البحرية كانت تبوء بالفشل بسبب تلك السلاسل، أمَّا في البَرِّ فتمكنت المدافِعُ العثمانية من فتحِ ثغرة في الأسوار البيزنطية عند وادي ليكوس في الجزء الغربي من الأسوار، فاندفع إليها الجنودُ العثمانيون بكلِّ بسالة محاولينَ اقتحام المدينة من الثغرة، كما حاولوا اقتحامَ الأسوار الأخرى بالسلالم التي ألقَوها عليها، ولكِنَّ المدافعين عن المدينة بقيادة جستنيان استماتوا في الدفاعِ عن الثغرة والأسوار، واشتَدَّ القتال بين الطرفين، وكانت الثغرةُ ضيقة وكثرةُ السهام والنبال والمقذوفات على الجنود المسلمين، ومع ضيقِ المكان وشدة مقاومة الأعداء وحلول الظلام أصدر الفاتِحُ أوامره للمهاجمين بالانسحاب بعد أن أثاروا الرعب في قلوب أعدائهم متحيِّنين فرصة أخرى للهجوم، ثم لما رأى السلطان الفاتح أن المحاولات البحرية لا تجدي، أمر بنقل السفن الحربية برًّا إلى القرن الذهبي على الألواح الخشبية المدهونة بالزيت والدهون، وهذا العمل كان من معجزات ذلك الزمان في سرعته وكيفيته؛ حيث تم نقل سبعين سفينة في ليلة واحدة مسافة ثلاثة أميال برًّا خلف هِضاب غلطة وصولًا إلى القرن الذهبي، وبهذا تمكَّنوا من الالتفاف على السلسلة, واستمر العثمانيون في دكِّ نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع، وحاولوا تسلُّق أسوارها، وفي الوقت نفسِه انشغل المدافِعونَ عن المدينة في بناء وترميم ما يتهدَّمُ من أسوار مدينتهم وردِّ المحاولات المكثفة لتسلُّق الأسوار مع استمرار الحصار عليهم، كما وضع العثمانيون مدافِعَ خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي، مهمتها تدمير السفن البيزنطية والمتعاوِنة معها في القرن الذهبي والبسفور والمياه المجاورة؛ مِمَّا عرقل حركةَ سُفُن الأعداء وأصابها بالشَّللِ تمامًا وحاول العثمانيون بكلِّ طريقة الدخول فحاولوا حفرَ الأنفاق تحت الأسوار لكنَّها كانت تبوء بالفشلِ، وحاولوا صنع أبراج خشبية أعلى من أسوار المدينة دون كلل ولا تعب، وكانت المدفعية العثمانية لا تنفكُّ عن عملها في دكِّ الأسوار والتحصينات، وتهدمت أجزاءٌ كثيرة من السور والأبراج وامتلأت الخنادق بالأنقاض، وبقي الهجومُ مكثفًا وخصوصًا القصف المدفعي على المدينة، حتى إن المدفع السلطاني الضخم انفجر من كثرة الاستخدامِ, وعند الساعة الواحدة صباحًا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857 (29 مايو 1435م) بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن شجَّع السلطانُ المجاهدين ووعدهم بالأعطيات، وانطلق المهاجمون وتسلَّقوا الأسوار وقاتلوا من عارضَهم، وقد واصل العثمانيون هجومهم في ناحية أخرى من المدينة حتى تمكنوا من اقتحام الأسوار والاستيلاء على بعض الأبراج والقضاء على المدافعينَ في باب أدرنة، ورفعت الأعلامُ العثمانية عليها، وتدفَّق الجنود العثمانيون نحوَ المدينة من تلك المنطقة، ولما رأى قسطنطين الأعلامَ العثمانية ترفرف على الأبراج الشمالية للمدينة، أيقن بعدم جدوى الدفاعِ وخلع ملابِسَه حتى لا يُعرَفَ، ونزل عن حصانِه وقاتل حتى قُتِلَ في ساحة المعركةِ، ثم دخل السلطانُ كنيسة آيا صوفيا، ومنع أعمالَ السلب والنهب التي كانت قائمةً، ووصل إلى الكنيسة فأمر المؤذِّنَ أن يؤذِّنَ للصلاةِ وحوَّلها إلى مسجدٍ، وهو المسجِدُ المشهور في إسطنبول، وسمح السلطان للنصارى بتأدية شعائرهم وأعطاهم نصف كنائِسِهم محولًا النصف الآخر لمساجد، وأطلق على القسطنطينية اسمَ إسلامبول، وهي تعني: تخت الإسلام، أو مدينة الإسلام.
هو أبو مُحرِزٍ الجَهْمُ بنُ صَفوانَ التِّرمِذيُّ، من أهلِ بَلخٍ، مولًى لبني راسِبٍ، ظهر في المائةِ الثَّانيةِ من الهِجرةِ، وهو حامِلُ لواءِ الجَهْميَّةِ ورأسُها، وإليه تنتَسِبُ، وقد ظهَرت بِدعتُه بتِرمِذَ .وكان قد خرج مع الحارِثِ بنِ سُرَيجٍ الذي تمرَّد على الدَّولةِ الأُمويَّة، وقتَله سَلْمُ بنُ الأحوَزِ المازنيُّ بمَرْوٍ نحوَ سنةِ 128 هـ .وقد كان أوَّلَ من أشهَر بدعةَ القَولِ بخَلقِ القرآنِ وتعطيلِ اللهِ عن صفاتِه. وكان يُنكِرُ الصِّفاتِ، ويُنزِّهُ الباريَ عنها بزَعمِه، ويقولُ: الإيمانُ عَقدٌ بالقلبِ، وإن تلفَّظ بالكُفرِ، ويزعم أنَّ اللهَ ليس على العَرشِ بل في كُلِّ مكانٍ، وقد قيل: إنَّه كان يُبطِنُ الزَّندقةَ، واللهُ أعلَمُ بذلك .وأخَذ مقالاتِ شيخِه الجَعْدِ بنِ دِرهَمٍ فأظهَرها، واحتجَّ لها بالشُّبُهاتِ العقليَّةِ ، فقد كان كثيرَ الِجدالِ والخُصوماتِ والمُناظَراتِ، ولم يكُنْ له بصرٌ بعلمِ الحديثِ، ولم يكنْ من المهتمِّينَ به، ولم يُعَدَّ من أهلِ العِلمِ قطُّ؛ إذ شغله علمُ الكلامِ عن ذلك، وقد نبَذ عُلَماءُ السَّلَفِ أفكارَه، وشنَّعوا عليه، ومَقَتوه أشَدَّ المَقْتِ .قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (الجَهْمُ وشيعتُه دَعَوا النَّاسَ إلى المُتشابهِ من القُرآنِ والحديثِ، فضلُّوا وأضلُّوا بكلامِهم بَشَرًا كثيرًا، فكان ممَّا بلغَنا من أمرِ الجَهْمِ عَدُوِّ اللهِ أنَّه كان من أهلِ خُراسانَ؛ من أهلِ تِرمِذَ، وكان صاحِبَ خُصوماتٍ وكلامٍ، وكان أكثَرُ كلامِه في اللهِ تعالى، فلقِيَ أُناسًا من المُشرِكين يقالُ لهم: السُّمَنِيَّةُ، فعرفوا الجَهْمَ، فقالوا له: نُكلِّمُك، فإن ظهَرَت حُجَّتُنا عليك دخَلْتَ في دينِنا، وإن ظهَرت حُجَّتُك علينا دخَلْنا في دينِك، فكان ممَّا كلَّموا به الجَهْمَ أن قالوا له: ألسْتَ تزعُمُ أنَّ لك إلَهًا؟ قال الجَهْمُ: نعم. فقالوا له: فهل رأيتَ إلهَك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمِعتَ كلامَه؟ قال: لا. قالوا: فشَمِمْتَ له رائحةً؟ قال: لا. قالوا: فوجَدْتَ له حِسًّا؟ قال: لا. قالوا: فوجَدْت له مجَسًّا؟ قال: لا. قالوا: فما يُدريك أنَّه إلهٌ؟ قال: فتحيَّرَ الجَهْمُ، فلم يَدرِ مَن يعبُدُ أربعينَ يومًا!) .فبَقِيَ أربعين يومًا لا يَعبُدُ شيئًا! ثُمَّ لَمَّا خلا قلبُه من معبودٍ يألهُه، نقَش الشَّيطانُ اعتقادًا نَحَتَه فِكرُه، فقال: إنَّه الوجودُ المُطلَقُ! ونفى جميعَ الصِّفاتِ، واتَّصل بالجَعْدِ بنِ دِرهَمٍ .ذُكِر الجَهْمُ عِندَ عبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ، فقال: (عَجِبتُ لشيطانٍ أتى إلى النَّاسِ داعيًا إلى النَّارِ، واشتَقَّ اسمَه عن جَهنَّمَ!) .وقال أبو مُعاذٍ البَلْخيُّ: (كان جَهْمٌ على مَعبَرِ تِرمِذَ، وكان رجُلًا كوفَّي الأصلِ، فصيحَ اللِّسانِ، لم يكُنْ له علمٌ، ولا مجالَسةٌ لأهلِ العلمِ، كان تكلَّم كلامَ المُتكلِّمينَ، وكلَّمه السُّمَنيَّةُ فقالوا له: صِفْ لنا ربَّك الذي تعبُدُه، فدخل البيتَ لا يخرُجُ كذا وكذا، قال: ثُمَّ خرج عليهم بَعدَ أيَّامٍ، فقال: هو هذا الهواءُ مع كُلِّ شيءٍ، وفي كُلِّ شيءٍ، ولا يخلو منه شيءٌ، قال أبو مُعاذٍ: كَذَب عَدُوُّ اللهِ، إنَّ اللهَ في السَّماءِ على عَرشِه، وكما وصَفَ نَفْسَه) .وقال يزيدُ بنُ هارونَ: (لعَنَ اللهُ الجَهْمَ ومَن قال بقَولِه، كان كافرًا جاحدًا، ترك الصَّلاةَ أربعينَ يومًا، يزعُمُ أنَّه يرتادُ دينًا، وذلك أنَّه شَكَّ في الإسلامِ).وقال ابنُ تيميَّةَ: (أوَّلُ من عُرِف في الإسلامِ أنَّه أنكَر أنَّ اللهَ يحِبُّ أو يُحَبُّ: الجَهْمُ بنُ صَفوانَ، وشيخُه الجَعْدُ بنُ دِرهَمٍ، وكذلك هو أوَّلُ من عُرِف أنَّه أنكر حقيقةَ تكليمِ اللهِ لموسى وغيرِه، وكان جَهْمٌ ينفي الصِّفاتِ والأسماءَ، ثُمَّ انتقَل بعضُ ذلك إلى المُعتَزِلةِ وغيرِهم، فنفَوا الصِّفاتِ دونَ الأسماءِ، وليس هذا قَولَ أحدٍ مِن سلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها).
بعد رحيلِ صلاح الدين عن عكَّا إلى الخروبة لِمَرَضِه، سمع الفرنج أنَّ صلاح الدين قد سار للصيد، ورأوا أنَّ عسكر اليزك- اليزك كلمة فارسية تعني مقدِّمة الجيش- عندهم قليلًا، وأنَّ الوحل الذي في مرج عكا كثيرٌ يمنع من سلوكه من أراد أن ينجدَ اليزك، فاغتنموا ذلك، وخرجوا من خندَقِهم على اليزك وقت العصر، فقاتلهم المسلمونَ، وقُتِلَ من الفريقين جماعة كثيرة، وعاد الفرنجُ إلى خندقهم، ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سَمِعَ خبر الوقعة، فندب الناسَ إلى نصر إخوانهم، فأتاه الخبَرُ أن الفرنج عادوا إلى خندقهم، فأقام، ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب، وجاءته العساكِرُ من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماة وغيرها، فتقدم من الخروبة نحو عكَّا، فنزل بتل كيسان، وقاتل الفرنجَ كُلَّ يومٍ لِيَشغَلَهم عن قتال من بعكَّا من المسلمين، فكانوا يقاتِلون الطائفتَينِ ولا يسأمون، وكان الفرنجُ، في مدة مقامهم على عكا، قد عملوا ثلاثة أبراج من الخَشَب عالية جدًّا، وعملوا كل برج منها خمسَ طبقات، كل طبقة مملوءة من المقاتلة، وغَشُوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنَعُ النار من إحراقها، وأصلحوا الطرُقَ لها، وقدَّموها نحو مدينة عكا من ثلاثِ جِهات، وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول، فأشرَفَت على السور، وقاتَلَ من بالأبراج العالية مِن على السور، فانكشف المُسلمون، وشرع الفرنجُ في طم خندق المدينة، فأشرف البلدُ على أن يملِكَه الفرنج عَنوةً وقهرًا، فأرسل أهلُ عكا إلى صلاح الدين إنسانًا سبَحَ في البحر، فأعلمه ما هم فيه من الضيقِ، وما قد أشرفوا عليه من أخْذِهم وقَتْلِهم، فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنجِ وقاتلوهم من جميعِ جهاتهم قتالًا عظيمًا دائمًا يشغَلُهم عن مكاثرة البلد، فافترق الفرنجُ فرقتين: فرقةٌ تقاتل صلاح الدين، وفِرقةٌ تقاتل أهل عكا، إلَّا أنَّ الأمر قد خَفَّ عمن بالبلد، ودام القتالُ ثمانية أيام متتابعة، آخِرُها الثامن والعشرون من الشهر، وسَئِمَ الفريقان القتال، وملُّوا منه لملازمته ليلًا ونهارًا، والمسلمون قد تيقَّنوا استيلاء الفرنج على البلد؛ لِما رأوا من عَجزِ مَن فيه عن دفع الأبراج، فإنَّهم لم يتركوا حيلةً إلَّا وعملوها، فلم يُفِدْ ذلك ولم يُغنِ عنهم شيئًا، وتابَعوا رميَ النفطِ الطيار عليها، فلم يؤثِّرْ فيها، فأيقنوا بالبوارِ والهلاك، فأتاهم الله بنصرٍ مِن عنده وإذنٍ في إحراقِ الأبراج، فلما احترق البرجُ الأوَّلُ انتقل إلى الثاني، وقد هَرَب مَن فيه لخوفِهم، فأحرقوه، وكذلك الثالث، وأرسل صلاحُ الدين يطلب العساكِرَ الشرقيَّة، فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، وهو صاحِبُ سنجار وديار الجزيرة، ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، سيَّرَه أبوه مقدَّمًا على عسكره وهو صاحِبُ الموصل، ثم وصل زين الدين يوسف صاحِبُ إربل، وكان كل منهم إذا وصل يتقَدَّم إلى الفرنج بعسكره، وينضَمُّ إليه غيرهم ويقاتلونهم، ثم ينزلون، ووصل الأسطول من مصر، فلما سَمِعَ الفرنج بقُربِه منهم جَهَّزوا إلى طريقه أسطولًا ليلقاه ويقاتِلُه، فركب صلاح الدين في العساكر جميعِها، وقاتلهم من جهاتهم ليشتَغِلوا بقتاله عن قتالِ الأسطول ليتمَكَّنَ مِن دخول عكا، فلم يشتغلوا عن قَصدِه بشيء، فكان القتالُ بين الفريقين برًّا وبحرًا، وكان يومًا مشهودًا لم يؤرَّخْ مِثلُه، وأخذ المسلمونَ من الفرنج مركبًا بما فيه من الرِّجالِ والسلاح، وأخذ الفرنجُ من المسلمين مثلَ ذلك، إلا أن القتلَ في الفرنج كان أكثَرَ منه في المسلمين، ووصل الأسطولُ الإسلاميُّ- بحمد الله- سالِمًا.
هو العلَّامة أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن القاسم بن الحسن بن محمد المهذب، المشهورُ بالعز بن عبد السلام السلمي الدمشقي الشافعي شيخ المذهب ومُفيدُ أهله، وله مصنَّفاتٌ حِسانٌ، منها التفسير الكبير، واختصار النهاية، والقواعد الكبرى والصغرى قواعد الأحكام في مصالح الأنام، وكتاب الصلاة، والفتاوى الموصلية، وغير ذلك، ولد سنة 578 وقيل سنة سبع، وسَمِعَ كثيرًا، واشتغل على فخر الدين بن عساكر وغيره، وبرع في المذهَبِ وجَمَعَ عُلومًا كثيرة، وأفاد الطلبةَ ودَرَّسَ بعدة مدارس بدمشق، وولي خطابتَها ثم نفاه صاحِبُها إلى مصر بسَبَبِ أنَّه شنع عليه لتسليمه صفد والشقيف للصليبيين لقاءَ مساعدته على صاحبِ مصر، فدَرَّس بمصرَ وخَطَب وحكم. قال الذهبي: " دخل الشيخ عز الدين بن عبد السلام الشافعي إلى ديار مصر، وأقبل عليه السلطانُ الملك الصالح نجم الدين أيوب إقبالًا عظيمًا، وولَّاه الخطابة والقضاء، فعزل نفسَه من القضاءِ مرتين وانقطع" انتهت إليه رئاسة الشافعيَّةُ، وقُصِدَ بالفتاوى من الآفاق، وكان رحمه الله آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر لا يخافُ في الله لومة لائم، ذكر جلال الدين السيوطي: "ولي الشيخُ عز الدين بن عبد السلام قضاءَ مِصرَ والوجه القبلي، وكان قَدِمَ في هذه السنة من دمشق بسبب أن سلطانَها الملك الصالح إسماعيل استعان بالفرنج وأعطاهم مدينةَ صيدا وقلعة الشقيف. فأنكر عليه الشيخُ عز الدين، وتَرَك الدعاء له في الخطبة، فغضب السلطانُ منه، فخرج إلى الديارِ المصريَّة، فأرسل السلطان الملك الصالح إسماعيل إلى الشيخ عز الدين؛ وهو في الطريق من يتلطَّفُ به في العَودِ إلى دمشق، فاجتمع به ولاينه، وقال له: ما نريد منك شيئًا إلا أن تنكَسِرَ للسلطان، وتقَبِّلَ يَدَه لا غير, فقال الشيخ له: يا مسكين، ما أرضاه يُقَبِّلُ يدي فضلًا عن أن أقبِّلَ يده! يا قوم، أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ! والحمد لله الذي عافانا ممَّا ابتلاكم. فلما وصل إلى مصر، تلقَّاه سلطانها الصالحُ نجم الدين أيوب وأكرمه، وولَّاه قضاء مصر، فاتفق أن أستاذ داره فخر الدين عثمان بن شيخ الشيوخ- وهو الذي كان إليه أمر المملكة- عمد إلى مسجدٍ بمصر، فعَمِلَ على ظهره بناء طبلخاناه– مكان تدق فيه الطبول والأبواق- وبَقِيَت تُضرَبُ هناك، فلما ثبت هذا عند الشيخِ عز الدين حكَمَ بهَدمِ ذلك البناء، وأسقطَ عدالةَ فخر الدين، وعزَلَ نفسه من القضاء، ولم تَسقُطْ بذلك منزلة الشيخ عند السلطان، ولَمَّا تولى الشيخ عز الدين القضاء تصَدَّى لبيع أمراء الدَّولةِ من المماليك الأتراك، وذكر أنه لم يَثبُت عنده أنهم أحرار، وأنَّ حُكمَ الرِّقِّ مُستصحَبٌ عليهم لبيت مالِ المسلمين، فبَلَغَهم ذلك، فعَظُمَ الخطبُ عندهم، والشيخُ مُصَمِّمٌ لا يُصَحِّحُ لهم بيعًا ولا شراءً ولا نكاحًا، وتعطَّلَت مصالحُهم لذلك؛ وكان من جملتِهم نائبُ السلطنة، فاستثار غضبًا، فاجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: نعقِدُ لكم مجلسًا، وننادي عليكم لبيتِ مال المسلمينَ، فرفعوا الأمرَ إلى السلطان، فبعث إليه فلم يرجِعْ، فأرسل إليه نائِبَ السلطنة بالملاطفةِ فلم يُفِدْ فيه، فانزعج النائبُ، وقال: كيف ينادِي علينا هذا الشَّيخُ، ويبيعُنا ونحن ملوكُ الأرضِ؟! واللهِ لأضربَنَّه بسيفي هذا، فرَكِبَ بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيتِ الشيخ والسَّيفُ مسلول في يده، فطرق البابَ، فخرج ولدُ الشيخ، فرأى مِن نائبِ السلطان ما رأى، وشرحَ لأبيه الحال، فقال له: يا ولدي، أبوك أقلُّ من أن يُقتَلَ في سبيل الله، ثم خرج, فحين وقَعَ بصَرُه على النائِبِ يَبِسَت يدُ النائب، وسَقَط السيف منها، وأُرعِدَت مفاصِلُه، فبكى وسأل الشيخَ أن يدعو له، وقال: يا سيدي أيش تعمل؟ فقال: أنادي عليكم وأبيعُكم، قال: ففيم تَصرِفُ ثمَنَنا؟ قال: في مصالحِ المسلمينَ، قال: من يَقبِضُه؟ قال: أنا. فتَمَّ ما أراد، ونادى على الأمراءِ واحدًا واحدًا، وغالى في ثمَنِهم ولم يَبِعْهم إلَّا بالثَّمَن الوافي، وقَبَضَه وصَرَفه في وجوهِ الخير". توفي في عاشر جمادى الأولى وقد نيف على الثمانين، ودُفِنَ مِن الغد بسفحِ المقَطَّم، وحضر جنازتَه السلطان الظاهِرُ وخَلقٌ كثير، وقد كان يُعرَفُ بسلطانِ العلماء؛ لأنه كان مهابًا من قِبَل السلاطينِ، وكان يقول الحقَّ أمامَهم ولا يخافُهم، ويُفتي بلا مداهنةٍ بما يراه، وأشهَرُ ذلك فتواه لَمَّا جاء ابنُ العديم إلى مصر يحمِلُ رسالة استنجاد من قِبَلِ الناصر صلاح الدين صاحِبِ دمشق ضِدَّ التتار فجمَعَ الفقهاء والقضاة ليستفتوهم بأخذ المالِ من العامة لتجهيزِ الجيوشِ، فكان كلامُ العِزِّ بن عبد السلام هو الذي عوَّلوا عليه، وهو أنَّه قال: لا يأخُذُ السلطانُ مِن العامة أيَّ مالٍ إلا بعد أن ينتهيَ المالُ الذي في بيت المال، ثمَّ تُنفَقُ الجواهر والذَّهَب وما إلى ذلك التي عند الملوكِ والأمراءِ حتى يُصبِحوا في القَدرِ كالعامَّة، فحينها يجوزُ لهم أخذُ المال من العامة؛ لأن واجِبَ الجهادِ بالمالِ والنَّفسِ أصبَحَ على الجميعِ، فرحمه الله وجزاه خيرًا.
كان قد حدث من الملك السعيد أشياء أوغرت صدورَ الأمراء عليه، وأصبَحَ خاصية الملك يحظَونَ بما يريدون ويُبعِدونَ من أرادوا حتى كان في السنة الماضيةِ أن أرسل بعض الأمراء إلى سيس للقتال فخرجوا وهم مكرهون، فأما الأمراء فإنهم غَزَوا سيس وقتلوا وسَبَوا، ثم عادوا إلى دمشق ونزلوا بالمرجِ، فخرج الأميرُ كوندك إلى لقائهم على العادة، وأخبرهم مما وقع من الخاصكية في حَقِّهم وحَقِّه من تخوُّفِ الملك منهم، فحَرَّك قَولُه ما عندهم من كوامِنِ الغضب، وتحالفوا على الاتفاق والتعاون، وبعثوا من المرج إلى السلطانِ يُعلِمونَه أنهم مقيمون بالمرج، وأن الأمير كوندك شكى إليهم من لاجين الزيني وهو من أقرَبِ مقربي الملك السعيد شكاوى كثيرة، ولا بد لنا من الكشفِ عنها، وسألوا السلطانَ أن يحضر إليهم حتى يسمعوا كلامَه وكلام كوندك، فلما بلغ السلطانَ ذلك لم يعبأ بقولهم، وكتب إلى من معهم من الأمراءِ الظاهريَّة يأمُرُهم بمفارقة الصالحيَّة ودخول دمشق، فرحلوا مِن فَورِهم ونزلوا على الجورةِ مِن جهة داريا، وأظهروا الخلافَ، ورموا الملكَ السعيد بأنه قد أسرف وأفرطَ في سوء الرأي وأفسد التدبير، فخاف السلطان عند ذلك سوء العاقبة، وبعث إليهم الأميرَ سنقر الأشقر، والأمير سنقر التكريتي الأستادار- المشرف على شؤون بيوت السلطان- ليلطفا بهم ويعملا الحيلة في إحضارِهم، فلم يوافقوا على ذلك، وعادا إلى السلطان فزاد قلقُه، وتردَّدَت الرسل بينه وبين الأمراء، فاقترحوا عليه إبعادَ الخاصكية، فلم يوافق، فرحل الأمراءُ بمن معهم من العساكِرِ إلى مصر وتَبِعَهم الملك السعيد ليلحَقَهم ويتلافى أمرَهم فلم يُدرِكْهم فعاد إلى دمشق وبات بها، ثم سار من دمشق بالعساكر يريد مصرَ فنزل بلبيس في نصف ربيع الأول وكان قد سبقه الأميرُ قلاوون بمن معه إلى القاهرة، ونزلوا تحت الجبل الأحمر، فبلغ ذلك الأمراء الذين بقلعة الجبل، وهم الأمير عز الدين أيبك أمير جانذار والأمير أفطوان الساقي، والأمير بلبان الزربقي، فامتنعوا بها وحَصَّنوها وتقدموا إلى متولي القاهرة فسَدَّ أبوابها فراسَلَهم قلاوون والأمراء في فتحِ أبواب القاهرة ليدخُلَ العسكر إلى بيوتهم ويُبصِروا أولادَهم؛ فإن عهدهم بَعُدَ بهم ونزل الأمير لاجين البركخاي وأيبك الأفرم وأقطون إلى الأمراء لمعرفة الخبر فقَبَضوا عليهم وبعثوا إلى القاهرة ففُتِحَت أبوابها ودخل كلُّ أحد إلى داره وسُجِنَ الثلاثة الأمراء في دار الأمير قلاوون بالقاهرة وزحفوا إلى القلعةِ وحاصروها وأمَّا السلطان فإنه لما نزل بلبيس وبلغه خبَرُ الأمراء خامر عليه من كان معه من عسكَرِ الشام وتركوه في بلبيس وعادوا إلى دمشق وبها الأمير عز الدين أيدمر نائب الشام، فصاروا إليه ولم يبقَ مع السلطان إلا مماليكُه ولم يبق معه من الأمراء الكبار إلا الأميرُ سنقر الأشقر فقط، فسار السلطان من بلبيس ففارقه الأشقر من المطرية وأقام بموضعه، وبلغ الأمراءَ أن السلطان جاء من خَلفِ الجبل الأحمر فركبوا ليحولوا بينه وبين القلعة وكان الضباب كثيرًا فنجا منهم واستتر عن رؤيتِهم وطلع إلى المقَدِّمة، فلما انكشف الضباب بلغ الأمراء أن السلطانَ بالقلعة فعادوا إلى حصارِها وصار السلطان يُشرِفُ من برج الرفرف المطلِّ على الإسطبل ويصيح بهم: يا أمراءُ، أرجِعُ إلى رأيكم ولا أعمَلُ إلا ما تقولونَه، فلم يجبه أحدٌ منهم وأظهروا كتبًا عنه يطلب فيها جماعةً من الفداوية لقَتلِهم وأحاطوا بالقلعة وحصروه، وكان الأميرُ سنجر الحلبي معتَقلًا بالقلعة، فأخرجه السلطانُ وصار معه، فاستمر الحصارُ مدة أسبوع، وكان الذي قام في خلع السلطان جماعةٌ كثيرة من الأمراء وأعيان المفاردة والبحرية، ولما طال الحصار بعث الخليفةُ العباسي الحاكم بأمر الله أحمد، يقول: يا أمراءُ، أيش غرضكم؟ فقالوا: يخلع المَلِكُ السعيد نفسه من الملك ونعطيه الكرك، فأذعن السعيدُ لذلك، وحلف له الأمراء، وحضر الخليفةُ والقضاة والأعيان، وأنزل بالملك السعيد، وأشهد عليه أنَّه لا يَصلُحُ للمُلك، وخلعَ السعيدُ نفسَه، وحلف أنه لا يتطَرَّقُ إلى غير الكرك، ولا يكاتِبُ أحدًا من النواب، ولا يستميلُ أحد من الجند، وسافر من وقته إلى الكرك مع الأمير بيدغان الركني، وذلك في سابع شهر ربيع الآخر، فكانت مدة ملكه من حين وفاة أبيه إلى يوم خلعه سنتين وشهرين وثمانية أيام، فوصل إلى الكرك وتسَلَّمَها في الخامس عشر من جمادى الآخرة، واحتوى على ما فيها من الأموال وكانت شيئًا كثيرًا، ولما تم خلعُ الملك السعيد وسافر إلى الكرك، عرض الأمراءُ السلطنة على الأمير سيف الدين قلاوون الألفي فامتنع، وقال: أنا ما خلعت الملك السعيد طمعًا في السلطنة، والأولى ألا يخرجَ الأمر عن ذرية الملك الظاهر، فاستُحسِنَ ذلك منه؛ لأن الفتنة سكنت فإنَّ الظاهرية كانوا معظم العسكرِ، وكانت القلاعُ بيَدِ نواب الملك السعيد، وقصَدَ قلاوون بهذا القَولِ أن يتحَكَّم حتى يغَيِّرَ النواب ويتمكن مما يريد، فمال الجميعُ إلى قوله وصوبوا رأيه، واستدعوا سلامش بن السلطان الظاهر، واتفقوا أن يكون الأمير قلاوون أتابِكَه، وأن يكون إليه أمرُ العساكر وتدبير الممالك، فحضر سلامش وله من العمر سبع سنين وأشهر، وحلف العسكرُ جميعه على إقامته سلطانًا، وإقامة الأمير قلاوون أتابك العساكر، ولقَّبوه الملك العادل بدر الدين، فاستقَرَّ الأمرُ على ذلك، وأقيم الأمير عز الدين أيبك الأفرم في نيابة السلطنة.
هو الطبيبُ الرئيسُ الحكيمُ جمال الدين أبو إسحاق إبراهيمُ بن شهاب الدين أحمد، المعروف بابن المغربي: رئيس الأطباء بالديار المصرية والممالك الشامية، ذو الرُّتبة المنيعة والمكانة العالية والوَجاهة في الدولة والحُرمة عند الناس، خصوصًا في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون؛ لِقُربه من السلطان وخِدمة أكابر الأمراء والوزراء في مواطِنَ كثيرة سرًّا وجهرًا، وكان ممن خرج صحبة الركاب الناصري سنة 708 وأقام معه بالكرك، وتردد في الدخولِ إليه مع من كان يدخُلُ إليه من ذوي الخِدَم، ثمَّ تفَرَّد بذلك مع الخاصكية، فصارت له بهذا خصوصيَّة ليست لأحَدٍ، وكان السلطانُ يَعرِفُ له حَقَّ ذلك ويرعاه ويطمَئِنُّ إليه ويعَوِّلُ دون كلِّ أحد عليه، وكان أبوه شهاب الدين أوحَدَ أهل زمانه في الطبِّ وأنواع الفضائل، وقرأ جمال الدين على مشايخ الأطباءِ وأخذ عن أبيه الطبَّ والنجامة إلى غير ذلك، وكان أبوه كثير السرورِ به والرضا عنه، وكان قد فَرَّق أبوه مالًا على بنيه ثم تركهم مُدَّةً وطلب منهم المالَ، فأحضر إليه جمالُ الدين المالَ وقد نَمَّاه وثَمَّرَه ولم يُحضِرْ غَيرُه المال لتفريطٍ حصل فيه، فازداد جمال الدين مكانة من خاطره، ورَدَّ عليه المالَ ومِثلَه معه، وكان إذا رآه قال: هذا إبراهيم سعيد، وكان الأمرُ على ما ذكَرَه وصَدَقَت فِراسَتُه, فخدم السلطانَ في حياة أبيه، وتقَدَّم لديه وباشَرَ المارستان وفُوِّضَت إليه الرياسةُ مُطلقًا، ثم أخذ في الترقي إلى أن عُدَّ من أعيان الدولة وأكابر أرباب المراتِبِ، والتحق بدرجةِ الوُزَراء وذوي التصَرُّف، بل زاد عليهم لإقبالِ السلطان عليه وقُربِه منه، وكان أول داخل إليه يدخُلُ كُلَّ يوم قبل كل ذي وظيفةٍ برانية من أرباب السيوفِ والأقلامِ، فيسأل جمال الدين السلطان عن أحوالِه وأحوالِ مَبيتِه وأعراضِه في ليلتِه، فيُحَدِّثُه في ذلك، ثمَّ أمور بقيَّة المرضى من أهل السُّلطان والأمراء ومماليك السلطان وأرباب وظائِفِ وسائر الناس، ويسأله السلطان عن أحوال البلد ومَن فيه من القضاة والمحتَسِب ووالي البلد، وعَمَّا يقوله العوامُّ ويستفيضُ فيه الرعيَّة، ومن لعَلَّه وقع في تلك الليلة بخِدمةٍ أو أمسك بجزيرة، أو أخذ بحَقٍّ أو ظلم؛ ولهذا كان يُخشى ويُرجى وتُقبَلُ شفاعاتُه وتُقضى حاجاتُه، وكان يجِدُ سبيله إذا أراد لغيبةِ أرباب الوظائفِ السلطانيَّة، ولا يجدون سبيلًا لهم عليه؛ إذ تناط بهم أمورٌ مِن تصَرُّفٍ في مالٍ أو عَزلٍ وولايةٍ يقال في ذلك بسَبَبِهم ولا يناطُ به شَيءٌ مِن ذلك يقالُ فيه بسَبَبِه؛ فلهذا طال مكثُه ودامت سعادتُه ولم يغَيِّرْ عليه مُغَيِّرٌ ولا استحال عليه السلطانُ، وحصَّل النِّعَم العظيمةَ والأموال الوافرة والسعادة المتكاثرة؛ قال القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: " لقد حرص النشو على رميِه مِن عَينِ السلطان بكلِّ طريقٍ فلم يقدِرْ، حتى إنه عمل أوراقًا بما على الخاصِّ مِن المتأخِّراتِ مِن زمانِ مَن تقَدَّمَه وذكر فيها جملةً كثيرة ثمَن صِنفٍ أظنُّه رصاصًا بِيعَ مِن جمال الدين، ثم قرأ الأوراقَ على السلطان ليُعلِمَه أنَّ له أموالًا واسعةً يتكَسَّبُ فيها ويتاجِرُ على السلطان، وهو يعيد ذِكرَ جمال الدين مراتٍ ويَرفَع صَوتَه ثمَّ يَسكُت ليفتَحَ السلطانُ معه بابًا فيه، فيقول: فماذا يريد؟ فما زاد السلطانُ على أن قال: هذا لا تؤخِّرْه، روح الساعةَ أعطِه مالَه، ولا تؤخِّرْ له شيئًا" فقد كان السلطانُ عارفًا بما لجمال الدين من المنافِعِ مِمَّا يحصل له من الخِلَع الكوامل والبِغال المُسرَجة المُلجَمة والتعابي والقماش والإنعامات من الآدر السلطانية والأمراء, وكان الطبيبُ الرئيس يلازم الخدمةَ سفرًا وحَضَرًا ويتجَمَّلُ في ملبوسِه ومركوبِه وحَشَمِه وداره وجواريه وخَدَمِه مِن غير إسرافٍ ولا تكثُّر، وكان السلطان لا يقول له إلَّا يا إبراهيمُ، وربما قال: يا حكيم إبراهيم، ولقد قال مرة: إبراهيم صاحبنا- يعني جمال الدين- وكان غايةً منه في قُربِ المحَلِّ والأمنِ إليه! وله مع هذا خصوصية ببكتمر الساقي أنَّه إلى جانب السلطان أميَلُ، وعلى رضاه أحَلُّ، وجمال الدين على إفراطِ هذا العلو وقُرْبِ هذا الدنو لا يتكبَّرُ ولا يرى نفسَه إلا مثل بعضِ الأطباء توقرًا لجماعة رُفقَتِه كُلِّهم ويجلُّ أقدار ذوي السنِّ منهم وأهل الفضل ويخاطِبُهم بالأدب، ويحَدِّثُهم بالحسنى ويأخذُ بقلب الكبير منهم والصغير والمُسلِم والذمِّي، وكان يكره صلاح الدين بن البرهان ويُكرِمُه، ويبغض ابن الأكفاني ويعَظِّمُه ويحفظُ بكُلِّ طَريقٍ لِسانَه، ويتقصد ذِكرَ المحاسِنِ والتعامي من المعائب، وله الفضيلة الوافرة في الطب علمًا وعملًا، والخَوض في الحُكميات والمشاركة في الهيئة والنجامة، كل هذا إلى حُسنِ العقل المعيشي ومصاحبة الناس على الجميل، وكان لا يعود مريضًا إلَّا من ذوي السلطانِ، ولا يأتيه في الغالب إلَّا مَرَّةً واحدة، ثمَّ يقَرِّرُ عنده طبيبًا يكون يعوده ويأتيه بأخباره، ثم إذا برأ ذلك المريض استوجب عليه جمال الدين ما يستوجِبُه مِثلُه، فإذا خلع عليه أو أنعم عليه بشيءٍ دخل إلى السلطانِ وقَبَّل الأرض لديه فيُحيطُ عِلمًا بما وصل إليه, ولما أُثقِلَ السلطان في المرض نوبةَ موته، كان جمال الدين مريضًا ولم يَحضُرْه, وقيل: إنما تمارض بعد أمْنِ التُّهَم, وتوفِّيَ الرئيس جمال الدين هذا العامَ.
في هذه السَّنة قَتَل السلطان بركيارق خلقًا من الباطنية ممن تحقَّق مذهبَه، ومن اتُّهِم به، فبلغت عدتُهم ثمانمائة ونيِّفًا، ووقع التتبُّعُ لأموال من قُتِل منهم، فوُجِد لأحدهم سبعون بيتًا من الزوالي المحفور، وكُتب بذلك كتابٌ إلى الخليفة، فتقدَّم بالقبض على قومٍ يُظَنُّ فيهم ذلك المذهَبُ، ولم يتجاسر أحدٌ أن يشفع في أحدٍ لئلَّا يُظَنَّ مَيلُه إلى ذلك المذهب، وزاد تتبُّعُ العوام لكل من أرادوا، وصار كلُّ من في نفسه شيءٌ من إنسانٍ يرميه بهذا المذهب، فيُقصَد ويُنهَب حتى حُسِم هذا الأمر فانحسم في أيام السلطان ملكشاه، فإنه اجتمع منهم ثمانية عشر رجلًا، فصلَّوا صلاة العيد في ساوة، ففَطِنَ بهم الشحنة فأخذهم وحبَسَهم، ثم سُئِلَ فيهم فأطلقهم، فهذا أول اجتماع كان لهم، ثمَّ إنهم دَعَوا مؤذِّنًا من أهل ساوة كان مقيمًا بأصبهان، فلم يُجِبْهم إلى دعوتهم، فخافوه أن ينمَّ عليهم، فقتلوه، فهو أوَّلُ قتيل لهم، وأوَّلُ دم أراقوه، فبلغ خبَرُه إلى نظام الملك، فأمر بأخذِ من يُتَّهَمَ بقتله، فوقعت التهمةُ على نجارٍ اسمه طاهر، فقُتِل ومُثِّل به، وجَرُّوا برِجْلِه في الأسواق، فهو أولُ قتيل منهم، وأولُ موضع غُلِبوا عليه وتحصَّنوا به بلدٌ عند قاين، كان متقدَّمُه على مذهبهم، فاجتمعوا عنده، وقَوُوا به، فتجرد للانتقام منهم أبو القاسم مسعود بن محمد الخجندي، الفقيه الشافعي، وجمع الجمَّ الغفير بالأسلحة، وأمر بحفرِ أخاديد، وأوقد فيها النيرانَ، وجعل العامةُ يأتون بالباطنية أفواجًا ومنفَرِدين، فيُلقَون في النار، وجعلوا إنسانًا على أخاديد النيران وسمَّوه مالكًا، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وكان السببُ في قتل بركيارق الباطنيةَ أنَّه لما اشتد أمرُ الباطنية، وقَوِيت شوكتهم، وكثُرَ عددهم، صار بينهم وبين أعدائهم إحَنٌ، فلما قتلوا جماعةً من الأمراء الأكابر، وكان أكثَرُ من قتلوا من هو في طاعة محمد، مخالِفٌ للسلطان بركيارق، مثل شحنة أصبهان سرمز، وأرغش، وكمش النظاميين، وصهره، وغيرهم، نَسَب أعداءُ بركيارق ذلك إليه، واتهموه بالميلِ إليهم. فلما ظفر السلطان بركيارق، وهزم أخاه السلطان محمدًا، وقتل مؤيد الملك وزيره، انبسط جماعةٌ منهم في العسكر، واستغووا كثيرًا منهم، وأدخلوهم في مذهبهم، وكادوا يظهرون بالكثرة والقوَّة، وحصل بالعسكر منهم طائفة من وجوههم، وزاد أمرهم، فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل، فصار يخافهم من يخالِفُهم، حتى إنهم لم يتجاسَرْ أحد منهم، لا أمير ولا متقدِّم، على الخروج من منزله حاسِرًا، بل يلبس تحت ثيابه درعًا، وأشاروا على السلطان أن يفتك بهم قبل أن يعجِزَ عن تلافي أمرهم، وأعلموه ما يتَّهِمُه الناس به من الميل إلى مذهبهم، حتى إن عسكر أخيه السلطان محمد يشنِّعون بذلك، وكانوا في القتال يكبرون عليهم، ويقولون: يا باطنية. فاجتمعت هذه البواعِثُ كلها فأذن السلطانُ في قتلهم، والفتكِ بهم، وركب هو والعسكرُ معه، وطلبوهم وأخذوا جماعةً من خيامهم ولم يُفلِتْ منهم إلا من لم يُعرَف، وكان ممن اتُّهِم بأنه مقدَّمُهم الأمير محمد بن دشمنزيار بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه، صاحب يزد، فهرب وسار يومه وليلته، فلما كان اليوم الثاني وجَدَّ في العسكر قد ضَلَّ الطريق ولا يَشعُر، فقُتِل، ونُهِبَت خيامه، فوُجِد عنده السلاح المعَدِّ، وأخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقُتِلوا، وقُتِل منهم جماعة برآء لم يكونوا منهم سعى بهم أعداؤهم، وكتب إلى بغداد بالقبض على أبي إبراهيم الأسداباذي الذي كان قد وصل إليها رسولًا من بركيارق ليأخذ مال مؤيد الملك، وكان من أعيانهم ورؤوسهم، فأُخذ وحُبِس، فلما أرادوا قتله قال: هَبُوا أنكم قتلتموني، أتقدرون على قَتْلِ من بالقلاع والمدُن؟ فقُتِل، ولم يُصَلِّ عليه أحد، وألقِيَ خارج السور، واتُّهِم أيضًا الكيا الهرَّاسي، المدَرِّس بالنظامية بأنَّه باطنيٌّ، ونُقِل ذلك عنه إلى السلطان محمد، فأمر بالقبض عليه، فأرسل المستظهر بالله من استخلصه، وشَهِدَ له بصحة الاعتقاد، وعلوِّ الدرجةِ في العلم، فأُطلِقَ.
لما سار الجيش الذي قَدِمَ من القاهرة في ثاني عشر شعبان، وقَدِموا دمشق تلقَّاهم الأمير تنكز، ولم يعبأْ تنكز بالأمير أرقطاي مُقَدَّم العسكر لِما في نفسه منه، ومَضَوا إلى حلب، فقدموها في رابع عشر رمضان، وأقاموا بها يومين فقدم الأمير قطلوبغا الفخري بعساكرِ الشام، وقد وصل إلى جعبر ثمَّ ساروا جميعًا يومَ عيد الفطر، ومعهم الأميرُ علاء الدين ألطبغا نائب حلب، وهو مُقَدَّم على العسكر جميعًا، حتى نزلوا على الإسكندرونة أوَّلَ بلاد سيس، وقد تقَدَّمَهم الأمير مغلطاي الغزي إليها بشهرينِ حتى جهَّزَ المجانيق والزحَّافات والجسور الحديد والمراكِبَ وغير ذلك لعبور نهر جهان، فقَدِمَ عليهم البريد من دمشق بأن تكفور وعَدَ بتسليم القلاع للسلطان، فلْتُرَدَّ المجانيق وجميع آلات الحصار إلى بغراس، ولْيَقُمِ العسكر على مدينة إياس حتى يَرِدَ مرسوم السلطان بما يُعتَمَدُ في أمرهم وكانت التراكمين قد أغاروا على بلاد سيس، ومعهم عسكَرُ ابن فرمان فتركوها أوحشَ مِن بطن حمار، فبعث تكفور رسُلَه في البحر إلى دمياط، فلم يأذَن السلطان لهم في القدومِ عليه، من أجل أنهم لم يعلموا نائِبَ الشام بحضورِهم، فعادوا إلى تكفور، فبعث تكفور بهديَّة إلى تنكز نائب الشام، وسأله مَنْعَ العسكر من بلاده، وأنه يسَلِّمُ القلاع التي من وراء نهر جهان جميعًا للسلطان، فكاتب تنكز السلطانَ بذلك، وبعث أوحَدَ المهمندار إلى الأمير علاء الدين ألطبغا نائِبِ حلب وهو المقَدَّم على العسكر جميعًا بمَنعِ الغارة ورَدِّ الآلات إلى بغراس، فردَّها ألطبغا وركب بالعسكَرِ إلى إياس، فقَدِمَها يوم الاثنين ثاني عشر شوال، وكانت إياس قد تحصَّنت، فبادر العسكَرُ وزحف عليها بغير أمرِه، فكان يومًا مهولًا، جُرح فيه جماعة كثيرة، واستمَرَّ الحِصارُ إلى يوم الخميس خامس عشره، وأحضر نائب حلب خمسين نجارًا وعَمِلَ زحافتين وستارتين ونادى في الناس بالركوبِ للزحف، فاشتد القتالُ حتى وصلت الزحَّافات والرجال إلى قريب السورِ، بعدما استُشهِدَ جماعة كثيرة، فترجَّلَ الأمراء عن الخيول لأخذِ السور، وإذا بأوحد المهمندار ورسل تكفور قد وافَوا برسالة نائِبِ الشام، فعادُوا إلى مخَيَّمِهم فبلَّغَهم أوحَدُ المهنمدار أن يكفوا عن الغارة، فلم يوافقوه على ذلك، واستقر الحالُ على أن يسلموا البلادَ والقلاع التي شرقي نهر جهان، فتسَلَّموا منهم ذلك، وهو مُلكٌ كبير، وبلادٌ كثيرة، كالمصيصة، وكويرا، والهارونية، وسرفندكار، وإياس، وباناس، وبخيمة، والنقبر، وغير ذلك. وعلى أن تُسَلَّم إياس بعد ثمانية أيام، فلما كان اليومُ الثامن أرسل تكفور مفاتيحَ القلاع، على أن يُرَدَّ ما سُبِيَ ونُهِبَ من بلاده، فنُودِيَ بِرَدِّ السَّبيِ، فأُحضِرَ كثير منه، وأخرب الجسر الذي نُصِبَ على نهر جهان، وتوجَّه الأمير مغلطاي الغزي فتسَلَّمَ قلعة كوارة وكانت من أحصن قلاع الأرمن، ولها سورٌ مساحته فدان وثلث وربع فدان، وارتفاعه اثنان وأربعون ذراعًا بالعَمَل، وأنفق تكفور على عمارته أربعَمائة ألف وستين ألف دينار، وتسَلَّم العسكر إياس، وهدم البرج الأطلس في ثمانية أيام، بعدما عَمِلَ فيه أربعون حَجَّارًا يومين وليلتين حتى خرج منه حجَرٌ واحد، ثمَّ نُقِبَ البرج وعُلِّقَ على الأخشاب، وأُضرِمَت فيه النار، فسَقَط جميعه، وكان برجًا عظيمًا، بلغ ضمانُه في كل شهر لتكفور مبلغ ثلاثين ألف دينار حسابًا عن كلِّ يومٍ ألف دينار سوى خَراجِ الأراضي، وكان ببلدة إياس أربعمائة خمَّارة وستمائة بَغِيٍّ، وكان بها في ظاهرها ملَّاحة تضمن كل سنة بسبعمائة ألف درهم، ولها مائتان وستة عشر بستانًا تغرس فيها أنواع الفواكه، ودور سورها فدانان وثلثا فدان، ثم رحل العسكَرُ عن إياس بعدما قاموا عليها اثنين وسبعين يومًا، فمر نائِبُ حلب على قلعة نجيمة وقلعة سرفندكار وقد أخربهما مغلطاي الغزي حتى عبَرَ بالعسكر إلى حلب في الرابع عشر من ذي الحجة.
حضر القضاةُ والعُلَماءُ وفيهم الشيخُ تقيُّ الدين ابن تيمية في يوم الاثنين ثامِنَ رجب عند نائب السلطنةِ بالقَصرِ، وقُرئت عقيدةُ الشيخ تقي الدين ابن تيمية الواسطيَّة، وحصل بحثٌ في أماكِنَ منها، وأُخِّرَت مواضِعُ إلى المجلس الثاني، فاجتمعوا يومَ الجمعة بعد الصلاة في الثاني عشر من هذا الشهر, وحضر الشيخُ صفي الدين الهندي، وتكلَّمَ مع الشيخِ تقيِّ الدين كلامًا كثيرًا، ولكِنَّ ساقِيَتَه لاطمت بحرًا، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخُ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاقِقُه من غيرِ مُسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر النَّاسُ من فضائل الشيخِ كمال الدين بن الزملكاني وجَودةِ ذِهنِه وحُسنِ بحثِه حيث قاومَ ابن تيميَّة في البحث، وتكَلَّم معه، ثم انفصل الحالُ على قبول العقيدة، وعاد الشيخُ إلى منزله مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، وكان الحامِلُ على هذه الاجتماعات كتابًا ورد من السلطان في ذلك، كان الباعِثُ على إرسالِه قاضي المالكيَّة ابن مخلوف، والشَّيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه، وذلك أنَّ الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان يتكَلَّم في المنبجي وينسِبُه إلى اعتقادِ ابن عربي، وكان للشيخِ تقي الدين من الفُقَهاءِ جماعة يحسُدونَه لتقَدُّمِه عند الدولة، وانفرادِه بالأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وطاعةِ الناس له ومحبَّتِهم له، وكثرةِ أتباعِه، وقيامه في الحق، وعِلمِه وعَمَلِه، ثم وقع بدمشقَ خَبطٌ كثير وتشويشٌ بسبب غيبةِ نائب السلطنة، وطَلَب القاضي جماعةً من أصحاب الشيخ وعَزَّرَ بَعضَهم ثمَّ اتفق أن الشيخ جمال الدين المِزِّي الحافظ قرأ فصلًا بالردِّ على الجهميَّة من كتابِ أفعال العباد للبخاريِّ تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء، فغضب بعضُ الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشافعي ابن صصرى، وكان عدوًّا للشيخ تقي الدين ابن تيمية, فسَجَن المزِّي، فبلغ الشيخَ تقي الدين فتألَّم لذلك وذهب إلى السجنِ فأخرجه منه بنَفسِه، وراح إلى القصرِ فوجد القاضيَ ابن صصرى هنالك، فتقاولا بسبب الشيخِ جمالِ الدين المزِّي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيدَه إلى السجن وإلَّا عزل نفسَه فأمر النائِبُ بإعادتِه تطييبًا لقلب القاضي فحَبَسه عنده في القوصيَّة أيامًا ثم أطلقه، ولما قدم نائبُ السلطنة ذكر له الشيخُ تقي الدين ابن تيمية ما جرى في حقِّه وحَقِّ أصحابه في غيبته، فتألم النائِبُ لذلك ونادى في البلدِ ألَّا يتكلم أحدٌ في العقائِدِ، ومن عاد إلى تلك حَلَّ مالُه ودَمُه ورُتِّبَت داره وحانوته، فسكنت الأمور، ثم عُقِدَ المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصرِ واجتمع جماعةٌ على الرضا بالعقيدة الواسطية, وفي هذا اليوم عزلَ ابنُ صصرى نفسَه عن الحكم بسبب كلامٍ سمعه من بعض الحاضرينَ في المجلس، وهو من الشيخِ كمال الدين بن الزملكاني، ثم جاء كتابُ السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادةُ ابن صصرى إلى القضاء، وذلك بإشارةِ المنبجي، وفي الكتابِ: إنا كنا سمعنا بعقدِ مَجلِسٍ للشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقد بلَغَنا ما عُقِدَ له من المجالس، وأنه على مذهب السَّلَفِ، وإنما أردنا بذلك براءةَ ساحتِه مِمَّا نسب إليه، ثم جاء كتابٌ آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشفُ عن ما كان وقع للشيخِ تقي الدين ابن تيمية في أيَّام جاغان، والقاضي إمام الدين القزويني، وأن يُحمَلَ هو والقاضي ابن صصرى إلى مصر، فتوجَّها على البريد نحو مصر، وخرج مع الشيخِ خَلقٌ من أصحابه وبَكَوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائبُ السلطنة ابن الأفرم بترك الذَّهابِ إلى مصر، وقال له: أنا أكاتِبُ السلطان في ذلك وأصلِحُ القضايا، فامتنع الشيخُ من ذلك، وذكَرَ له أن في توجُّهِه لمصر مصلحةً كبيرة، ومصالحَ كثيرة، فلما كان يومُ السبت دخل الشيخُ تقيُّ الدين غزَّةَ فعَمِلَ في جامعها مجلسًا عظيمًا، ثم دخلا معا إلى القاهرة والقلوبُ معه وبه متعلِّقة، فدخلا مصر يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان، وقيل إنَّهما دخلاها يوم الخميس، فلما كان يومُ الجمعة بعد الصلاة عقد للشيخ مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاةُ وأكابر الدولة وأراد أن يتكَلَّم على عادته فلم يتمكَّن من البحث والكلامِ، وانتدب له الشَّمسُ ابن عدنان خصمًا احتسابًا، وادَّعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنَّه يقول: إنَّ الله فوق العَرشِ حَقيقةٌ، وأنَّ الله يتكَلَّمُ بحَرفٍ وصَوتٍ، فسأله القاضي جوابَه فأخذ الشيخُ في حمد اللهِ والثناء عليه، فقيل له: أجِبْ، ما جئنا بك لتخطب! فقال: ومن الحاكِمُ فيَّ؟! فقيل له: القاضي المالكي، فقال له الشَّيخُ: كيف تحكمُ فيَّ وأنت خصمي، فغضب غضبًا شديدًا وانزعج وأقيمَ مَرسمٌ عليه وحُبِسَ في برج أيامًا، ثم نقِلَ منه ليلة العيد إلى الحبس المعروفِ بالجُبِّ، هو وأخوه شرف الدين عبد الله، وزين الدين عبد الرحمن، وأما ابن صصرى فإنه جُدِّدَ له توقيعٌ بالقضاء بإشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر، وعاد إلى دمشقَ يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوبُ له ماقتة، والنفوسُ منه نافرة، وقرئ تقليدُه بالجامع، وبعده قرئ كتابٌ فيه الحطُّ على الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة ومخالفته في العقيدة، وأن ينادى بذلك في البلاد الشاميَّة، وألزِمَ أهلُ مذهبه بمخالفتِه، وكذلك وقع بمصر، قام عليه جاشنكير وشيخُه نصر المنبجي، وساعدهم جماعةٌ كثيرةٌ من الفقهاء والصوفيَّة وجرت فِتَنٌ كثيرة منتشرة، نعوذُ بالله من الفتن، وحصل للحنابلةِ بالديار المصرية إهانةٌ عظيمة كثيرة، وذلك أنَّ قاضِيَهم كان قليلَ العِلمِ مُزجَى البضاعةِ، وهو شرف الدين الحراني، فلذلك نال أصحابُهم ما نالهم، وصارت حالُهم حالًا مؤلمة.