الموسوعة التاريخية

عدد النتائج ( 1276 ). زمن البحث بالثانية ( 0.019 )

العام الهجري : 465 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1072
تفاصيل الحدث:

هو سُلطانُ العالَم عَضُدُ الدَّولةِ أبو شُجاعٍ، المُلَقَّبُ بالعادِل محمد، ألب أرسلان بن جغريبك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق بن سلجوق التُّركيُّ, واسمُه بالعربي محمدُ بنُ داودَ وألب أرسلان اسمٌ تُركيٌّ مَعناهُ شُجاع أَسَد، فألب: شُجاع، وأرسلان: أَسَد. وهو ابنُ أخي السُّلطانِ طغرلبك، أَصلُه من قَريةٍ يُقال لها: النور. وُلِدَ سَنةَ 424هـ, وَجَدُّهُ دقاق، هو أَوَّلُ مَن دَخلَ في الإسلامِ, وألب أرسلان أَوَّلُ مَن ذُكِرَ بالسُّلطانِ على مَنابِرِ بغداد, وكان مَلِكًا عادِلًا، مَهِيبًا، مُطاعًا، مُعَظَّمًا. وَلِيَ السَّلْطَنَةَ بعدَ وَفاةِ عَمِّهِ طغرلبك بن سلجوق في سَنةِ 457هـ. لمَّا ماتَ السُّلطانُ طُغرلبك نَصَّ على تَوْلِيَةِ الأَمرِ لسُليمانَ بنِ داودَ أخي ألب أرسلان، ولم يَنُصَّ على ألب أرسلان؛ لأنَّ أُمَّ سُليمانَ كانت عنده فتَبِعَ هَواها في وَلَدِها، فقام سُليمانُ بالأَمرِ وثارَ عليه أَخوهُ ألب أرسلان، وجَرَت بينهم خُطوبٌ فلم يَتِمَّ لِسُليمانَ الأَمرُ، وكانت النُّصرةُ لألب أرسلان. فاستَولَى على المَمالِكِ، وعَظُمَت مَملكَتُه ورُهِبَت سَطوتُه، وفَتحَ من البِلادِ ما لم يكُن لِعَمِّهِ طُغرلبك مع سِعَةِ مُلْكِ عَمِّهِ، وقَصدَ بِلادَ الشامِ فانتَهَى إلى مَدينةِ حَلَب، وهو أَوَّلُ مَن عَبَرَ الفُراتَ من مُلوكِ التُّركِ. وكاد أن يَتَمَلَّكَ مصر. أَعزَّ الله بهِ الإسلامَ وأَذَلَّ الشِّرْكَ. كان ألب أرسلان مِن أَعدَلِ الناسِ، وأَحسَنِهم سِيرَةً، وأَرغَبِهِم في الجِهادِ وفي نَصرِ الدِّينِ. وعَظُمَ أَمرُ السُّلطانِ ألب آرسلان، وخُطِبَ له على مَنابرِ العِراقِ والعَجَمِ وخُراسان، ودانَت له الأُمَمُ، وأَحَبَّتْهُ الرَّعايا، ولا سيما لمَّا هَزَمَ العَدُوَّ، طاغِيةَ الرُّومِ أرمانوس في مَعركةِ ملازكرد سَنةَ 463هـ, وقَنعَ من الرَّعِيَّةِ بالخَراجِ في قِسطَينِ، رِفْقًا بهم, وكان كَثيرَ الصَّدَقاتِ، يَتَفقَّد الفُقراءَ في كلِّ رَمضانَ بأَربعةِ آلافِ دِينارٍ ببَلخ، ومَرو، وهراة، ونيسابور، ويَتَصدَّق بحَضرَتِه بعشرةِ آلافِ دِينارٍ. كَتبَ إليه بَعضُ السُّعاةِ في نِظامِ المُلْكِ وَزيرِهِ، وذَكَرَ مالَه في مَمالِكِه فاستَدعاهُ فقال له: خُذْ إن كان هذا صَحيحًا فهَذِّبْ أَخلاقَك وأَصلِح أَحوالَك، وإن كَذَبَ فاغْفِر له زَلَّتَهُ. وكان شديدَ الحِرصِ على حِفْظِ مالِ الرَّعايا، بَلَغَهُ أنَّ غُلامًا من غِلمانِه أَخذَ إِزارًا لبَعضِ أَصحابِه فصَلَبَهُ فارتَدعَ سائرُ المَماليكِ به خَوفًا من سَطوتِه. في أَوَّلِ سَنةِ 465هـ قَصدَ السُّلطانُ ألب أرسلان، ما وَراءَ النَّهرِ، وصاحبُه شَمسُ المُلْكِ تكين، فعَقدَ على جيحون جِسْرًا وعَبرَ عليه في نَيِّفٍ وعِشرينَ يومًا، وعَسكرُه يَزيدُ على مائتي ألف فارسٍ، فأَتاهُ أَصحابُه بمُسْتَحْفِظِ قَلعَةٍ يُعرفُ بيُوسُف الخوارزمي، في سادس شهرِ رَبيعٍ الأوَّل، وحُمِلَ إلى قُرْبِ سَريرِه مع غُلامَينِ، فقال له يُوسفُ: يا مُخَنَّث! مِثلي يُقتَل هذه القِتلَة؟ فغَضِبَ السُّلطانُ ألب أرسلان، وأَخذَ القَوْسَ والنِّشابَ، وقال للغُلامَينِ: خَلِّيَاهُ! ورَماهُ بِسَهمٍ فأَخطَأهُ، ولم يكُن يُخطِئ سَهمَه، فوَثبَ يُوسفُ يُريدُه، والسُّلطانُ على سُدَّةٍ، فلمَّا رأى يُوسفَ يَقصِدُه قام عن السُّدَّةِ ونَزلَ عنها، فعَثَرَ، فوَقعَ على وَجهِه، فبَرَكَ عليه يُوسفُ وضَربَهُ بسِكِّينٍ كانت معه في خاصِرَتِه، وكان سعدُ الدَّولةِ واقِفًا، فجَرَحَهُ يُوسفُ أيضًا جِراحاتٍ، ونَهضَ ألب أرسلان فدَخَل إلى خَيمةٍ أُخرَى، وضَرَبَ بَعضُ الفَرَّاشِين يُوسفَ بِمِرْزَبَّةٍ على رَأسِه، فقَتَلَه وقَطَّعَهُ الأتراكُ، ولمَّا جُرِحَ السُّلطانُ قال: ما مِن وَجهٍ قَصدتُه، وعَدُوٍّ أَردتُه، إلَّا استَعنتُ بالله عليه، ولمَّا كان أَمسُ صَعدتُ على تَلٍّ، فارتَجَّت الأرضُ تحتي مِن عِظَمِ الجَيشِ وكَثرَةِ العَسكرِ، فقلتُ في نفسي: أنا أَملِكُ الدُّنيا، وما يَقدِر أَحَدٌ عَلَيَّ، فعَجَّزَني الله تعالى بأَضعفِ خَلْقِه، وأنا أَستَغفِرُ الله تعالى، وأَستَقيلُه من ذلك الخاطرِ. فتُوفِّي عاشرَ رَبيعٍ الأوَّلِ من السَّنَةِ، فحُمِلَ إلى مَرو ودُفِنَ عند أَبيهِ. تُوفِّي عن إحدى وأربعين سَنَةً، وكانت مُدَّةُ مُلكِه منذ خُطِبَ له بالسَّلْطَنَةِ إلى أن قُتِلَ تِسعَ سِنينَ وسِتَّةَ أَشهُر وأيامًا، ولمَّا وَصلَ خَبرُ مَوتِه إلى بغداد جَلسَ الوَزيرُ فَخرُ الدَّولةِ بن جهير للعَزاءِ به في صَحنِ السَّلامِ. تَركَ ألب أرسلان من الأولادِ ملكشاه، وإياز، ونكشر, وبوري برس, وأرسلان، وأرغو، وسارة، وعائشة، وبِنتًا أُخرى, وتَولَّى بعده ابنُه ملكشاه.

العام الهجري : 656 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1258
تفاصيل الحدث:

هو الخليفةُ الشهيد أمير المؤمنين المستعصِم بالله أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله منصور بن الظاهر محمد بن الناصر أحمد بن المستضيء الهاشمي، العباسي، البغدادي. ولد: سنة 609, واستُخلِفَ سنة أربعينَ يومَ مَوتِ أبيه في عاشر جمادى الآخرة، وكان فاضلًا تاليًا لكتاب الله، كان مليحَ الخَطِّ، قرأ القرآن على الشيخ علي بن النيار الشافعي، ويوم خَتَمَه خلع على الشَّيخِ، وأعطي ستة آلاف دينار. ويوم خلافته بلغت الخِلَع ثلاثة عشر ألف خلعة وسبعمائة وخمسين خلعة, وكان كريمًا حليمًا، سليمَ الباطن، حَسَن الديانة. قال الشيخ قطب الدين: "كان المستعصمُ بالله متدينًا مُتمَسِّكًا بالسنَّة كأبيه وجَدِّه، ولكنه لم يكن على ما كان عليه أبوه المستنصر وجده الناصر من التيقُّظ والحزم وعلُوِّ الهمة؛ فإن المستنصر بالله كان ذا همة عالية، وشجاعةٍ وافرة، ونفسٍ أبيَّة، وعنده إقدامٌ عظيم, وكان له أخٌ يُعرَف بالخفاجي يزيدُ عليه في الشهامة والشجاعة، وكان يقول: إن ملَّكني الله الأمرَ لأعبُرَنَّ بالجيوش نهر جيحون وأنتزع البلاد من التتار واستأصلهم, فلما توفِّيَ المستنصر لم يَرَ الدويدار والشرابي والكبار تقليد الخفاجي الأمرَ، وخافوا منه، وآثروا المستعصِمَ لِمَا يعلمون من لينِه وانقياده وضَعفِ رأيه؛ ليكونَ الأمر إليهم. فأقاموا المستعصم، ثم ركَنَ إلى وزيره ابن العلقمي، فأهلك الحَرثَ والنَّسلَ، وحَسَّنَ له جمع الأموال، والاقتصارَ على بعض العساكر، وقطَعَ الأكثر, فوافقه على ذلك, وكان فيه شُحٌّ، وقلة معرفة، وعدم تدبيرٍ، وحُبٌّ للمال، وإهمالٌ للأمور. وكان يتَّكِلُ على غيره، ويُقدِمُ على ما لا يليق وعلى ما يُستقبَحُ". قال الذهبي: "كان يلعب بالحَمام، ويُهمِلُ أمر الإسلام، وابنُ العلقمي يلعَبُ به كيف أراد، ولا يُطلِعُه على الأخبار. وإذا جاءته نصيحةٌ في السر أطلع عليها ابنَ العلقمي؛ ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا. حكى جمال الدين سليمان بن عبد الله بن رطلين قال: "جاء هولاكو في نحو مائتي ألف، ثم طلب الخليفةَ، فطلع ومعه القُضاة والمدرِّسون والأعيان في نحو سبعمائة نفس، فلما وصلوا إلى الحربية جاء الأمرُ بحضور الخليفة ومعه سبعة عشر نفسًا، فاتفق أن أبي كان أحدهم، فحدثني أنهم ساقوا مع الخليفة، وأنزلوا مَن بَقِيَ عن خيلهم، وضَرَبوا رقابَهم. ووقع السيف في بغداد، فعَمِلَ القتل أربعين يومًا. وأنزلوا الخليفةَ في خيمةٍ صغيرة، والسبعة عشر في خيمة. قال أبي: فكان الخليفةُ يجيء إلى عندنا كل ليلة ويقول: ادعُوا لي. قال: فاتفَقَ أنَّه نزل على خيمته طائرٌ، فطلبه هولاكو وقال: أيش عَمَلُ هذا الطائر؟ وأيش قال لك؟ ثم جرت له محاوراتٌ معه ومع ابن الخليفةِ أبي بكر. ثم أمَرَ بهما فأُخرِجا، ورفسوهما في غرارة -كيس كبير من صوف أو شعر- حتى ماتا، وكانوا يسمُّونه: الأبْلَه. توفي الخليفةُ في أواخر المحرم، وما أظنه دُفِنَ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكان الأمرُ أعظم من أن يوجَدَ مؤرخ لموته، أو موارٍ لجَسَدِه. وراح تحت السيف أممٌ لا يحصيهم أحَدٌ إلا الله، فيقال: إنَّهم أكثرُ من ألف ألف، واستغنت التتارُ إلى الأبد، وسَبَوا من النساء والولدان ما ضاق به الفَضاءُ. وقيل: إن الخليفة بقي أربعة أيام عند التتار، ثم دخل بغداد ومعه أمراء من المغول ونصير الطوسي، فأخرج إليهم من الأموال والجواهر والزركش والثياب والذخائر جملةً عظيمة، ورجَعَ ليَومِه، وقُتِلَ، وقُتِلَ ابناه أحمد وعبد الرحمن، وبَقِيَ ابنه الصغير مبارك، وأخواته فاطمة، وخديجة، ومريم، في أَسْرِ التتار"، وقُتِلَ عدد من أعمام الخليفة وأقاربه, وقيل كانت المغول بقيادة هولاكو قد أخذوه وكانوا أولًا يهابون قَتْلَه، ثم هون عليهم ابن العلقمي والطوسي قَتْلَه فقُتل, وكان عمره يومئذ ستًّا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر، به انتهت الخلافة العباسية وانقضت أيامُها، وبقي الناسُ بلا خليفة فكانت أيامُ الدولة العباسية جملةً خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة. 

العام الهجري : 696 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1296
تفاصيل الحدث:

بعد أن هرب السلطانُ العادِلُ كتبغا من حسام الدين لاجين وأمرائِه الذين حاولوا قتْلَه، كان قد قَدِمَ قبله إلى دمشق أميرُ شكاره وهو مجروح، ليُعلِمَ الأمير أغرلو نائب دمشق بما وقع، فوصَلَ في يوم الأربعاء آخر المحرم، فكثُرَ بدمشق القالُ والقيل، وألبس أغرلو العسكرَ السلاح ووقفوا خارجَ باب النصر، فوصل كتبغا في أربعةِ أنفس قبل الغروبِ وصَعِدَ القلعة، وحضر إليه الأمراءُ والقُضاة وجُدِّدَت له الأيمان، ثم أوقَعَ الحوطة على أموالِ لاجين، وقَدِمَ في أول صفر الأمير زين الدين غلبك العادلي بطائفةٍ مِن المماليك العادليَّة، وجلس شهابُ الدين الحنفي وزير الملك العادل كتبغا في الوزارة بالقلعةِ، ورتَّبَ الأمور وأحوال السلطنةِ، فاشتهرت بدمشقِ سلطنةُ الملك المنصور حسام الدين لاجين في اليومِ الثالث عشر من محرَّم، وأنَّ البشائِرَ دُقَّت بصفد ونابلس والكرك، فصار كتبغا مقيمًا بقلعة دمشق لا ينزِلُ منها، وبعث الأميرُ سيف الدين طقصبا الناصري في جماعةٍ لكشف الخبر، فعادوا وأخبروا بصِحَّةِ سلطنة لاجين، فأمر كتبغا جماعةً من دمشق، وأبطل عدَّةَ مكوس في يومِ الجمعة السادس عشر صفر، وكتب بذلك توقيعًا قُرِئَ بالجامع، فبعث المَلِكُ المنصور لاجين من مصرَ الأمير سنقر الأعسر وكان في خدمتِه، فوصل إلى ظاهِرِ دمشق في الرابع عشر صفر، وأقام ثلاثةَ أيام، فرَّقَ عِدَّةَ كُتُبٍ على الأمراء وغيرهم وأخذ الأجوبةَ عنها، وحلف الأمراءُ، وسار إلى قارا وكان بها عِدَّةُ أمراء مجرَّدين فحَلَّفَهم وحلَّف عدَّةً من الناس، وكتب بذلك كلِّه إلى مصر، وسار إلى لد، فأقام بها في جماعةٍ كبيرة لحفظ البلاد، ولم يعلَمْ كتبغا بشيءٍ من ذلك، وكان قد وصل الأميرُ سيف الدين كجكن وعِدَّةٌ من الأمراء كانوا مجرَّدينَ بالرَّحبة، فلم يدخلوا دمشق، ونزلوا بميدان الحصا قريبًا من مسجد القدم، فأعلنوا باسم السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، وراسلوا الأمراءَ بدمشق فخرجوا إليهم طائفةً بعد طائفة، وانحَلَّ أمر كتبغا، فتدارك نفسَه وقال للأمراء: السلطانُ الملك المنصورُ لاجين خوشداشي- زميل مهنتي- وأنا في خِدمتِه وطاعتِه، وأنا أكونُ في بعض القاعات بالقلعةِ إلى أن يكاتِبَ السُّلطانَ ويَرِدَ جوابُه بما يقتضيه في أمري فأدخله الأميرُ جاغان الحسامي مكانًا من القلعة، واجتمع الأمراءُ بباب الميدان، وحَلَفوا للملك المنصور وكتبوا إليه بذلك، وحفظ جاغان القلعةَ ورَتَّبَ بها من يحفَظُ كتبغا، وغُلِّقَت أبواب دمشق كلُّها إلا باب النصر، ورَكِبَ العسكر بالسلاح ظاهِرَ دمشق، وأحاط جماعةٌ بالقلعةِ خَوفًا من خروج كتبغا وتحيُّزه في جهةٍ أخرى، وكثُرَ كلام الناس واختلفت أقوالُهم، وعظم اجتماعُهم بظاهر دمشق حتى إنَّه سقط في الخندقِ جماعةٌ لشدة الزحام فيما بين باب النصرِ وباب القلعة، فمات نحوُ العشرة، واستمر الحالُ على هذا ذلك اليوم، ثم دُقَّت البشائر بعد العصر على القلعةِ، وأعلن بالدعاء للملك المنصور لاجين، ودُعِيَ له على المآذِنِ في ليلة الأحد، وضُرِبَت البشائر على أبواب الأمراء، وفُتِحَت الأبواب في يوم الأحد، وحضر الأمراءُ والقضاة بدار السعادة وحلف الأمراء بحضور الأمير أغرلو نائب الشام، وحلف هو وأظهر السرور، وركب أغرلو والأمير جاغان البريد إلى مصر، وبلغ ذلك الأمير سنقر الأعسر بلد، فنهض إلى دمشق ودخلها يوم الخميس التاسِعَ عشر، وقد تلقاه الناس وأشعلوا له الشموع، وأتاه الأعيان، ونودي من له مَظلمةٌ فعليه بباب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، وفي يوم الجمعةِ أوَّل شهر ربيع الأول خُطِبَ بدمشق للملك المنصور، فلما كان يومُ الجمعة ثامنه: وصل الأميرُ حسام الدين الأستادار بعسكر مصر ليحلِّفَ الأمراء، فحَلَفوا بدار السعادة في يوم السبت تاسِعَه، وقرئ عليهم كتابُ الملك المنصور باستقراره في المُلك وجُلوسِه على تخت الملك بقلعة الجبل، واجتماعِ الكلمة عليه وركوبه بالتشاريفِ الخليفيَّة والتقليد بين يديه من أمير المؤمنينَ الحاكِم بأمر الله أبي العباس أحمد.

العام الهجري : 808 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1405
تفاصيل الحدث:

في يوم الثلاثاء سادس ربيع الأول تخبطت الأحوال بين السلطان وبين المماليك؛ فوقف طائفة من المماليك الجراكسة، وسألوا أن يقبض على الأمير تغري بردي، والأمير دمرداش، والأمير أرغون؛ من أجل أنهم من جنس الروم؛ وذلك أن السلطان اختص بهم، وتزوج ابنة تغري بردي، وأعرض عن الجراكسة، وقبض على إينال باي، فخاف الجراكسة من تقدُّم الروم عليهم، وأرادوا من السلطان إبعادهم، فأبى عليهم، فتحزبوا عليه واجتمعوا على الأمير الكبير بيبرس، وتأخروا عن الخدمة السلطانية، فتغيب في ليلة الأربعاء الأميران تغري بردي ودمرداش، وأصبح الناس يوم الأربعاء سابعه وقد ظهر الأمير يشبك الدوادار، والأمير تمراز، والأمير جركس المصارع، والأمير قانباي العلاي، وكانوا مختفين من حين الكسرة بعد وقعة السعيدية؛ وذلك أن الأمير بيبرس ركب سَحَرًا إلى السلطان وتلاحى معه طويلًا، وعرَّفه بمواضع الأمراء المذكورين، فاستقرَّ الأمر على مصالحة السلطان للجراكسة، وإحضار الأمراء المذكورين، والإفراج عن إينال باي وغيره، فانفضُّوا على ذلك، وصار العسكر حزبين، وأظهر الجراكسة الخلاف، ووقفوا تحت القلعة يمنعون من يقصد السلطان، وجلس الأمير الكبير بيبرس في جماعة من الأمراء بداره، وصار السلطان بالقلعة، وعنده عدة أمراء، وتمادى الحال يوم الخميس والجمعة والسبت، والناس في قلق، وبينهم قالةٌ وتشانيع وإرجافات، ونزل السلطان إلى باب السلسلة، واجتمع معه بعض الأمراء ليصلح الأمر، فلم يُفِدْ شيئًا، وكثرت الشناعة عليه، وباتوا على ما هم عليه، وأصبحوا يوم الأحد الخامس والعشرين وقد كثروا، فطلبوا من السلطان أن يبعث إليهم بالأمير تغري بردي والأمير أرغون، فلما بعثهما قبضوا عليهما، وأخرجوا تغري بردي منفيًّا في الترسيم إلى القدس، فلما كان عند الظهيرة فُقِدَ السلطان من القلعة، فلم يُعرَف له خبر، وسبب اختفائه أن النوروز كان في يوم السبت الرابع والعشرين ربيع الأول، فجلس السلطان مع عدة من خاصكيته لمعاقرة الخمر، ثم ألقى نفسه في بحرة ماء وقد ثَمِل، فتبعه جماعة وألقَوا أنفسهم معه في الماء، وسبح بهم في البحرة، وقد ألقى السلطان عنه جلباب الوقار، وساواهم في الدعابة والمجون، فتناوله من بينهم شخص، وغمه في الماء مرارًا، كأنه يمازِحُه ويلاعبه، وإنما يريدُ أن يأتيَ على نفسه، وما هو إلا أن فُطِن به فبادر إليه بعض الجماعة -وكان روميًّا- وخلصه من الماء، وقد أشرف على الموت، فلم يُبدِ السلطان شيئًا، وكتم في نفسِه، ثم باح بما أسرَّه؛ لأنه كان لا يستطيع كتمان سر، وأخذ يذم الجراكسة -وهم قوم أبيه، وشوكة دولته، وجُلُّ عسكره- ويمدح الروم، ويتعصَّبُ لهم، وينتمي إليهم، فإنَّ أمه شيرين كانت رومية، فشقَّ ذلك على القوم، وأخذوا حِذرَهم، وصاروا إلى الأمير الكبير بيبرس ابن أخت الظاهر واستمالوه، فخاف السلطان وهم أن يفرَّ، فبادره الأمير بيبرس وعنَّفه، وما زال به حتى أحضر الأمراء من الإسكندرية ودمياط، وأظهر الأمراء المختفين، فاجتمع الأضداد، واقترن العدي والأنداد، ثم عادوا إلى ما هم عليه من الخلاف بعد قليل، وأعانهم السلطان على نفسه بإخراج يشبك بن أزدمر، وأزبك، فأبدوا عند ذلك صفحات وجوههم، وأعلنوا بخلافه، وصاروا إلى إينال باي بن قجماس ليلة الجمعة، وسعوا فيما هم فيه، ثم دسُّوا إليه سعد الدين بن غراب كاتب السر، فخيَّله منهم، حتى امتلأ قلبه خوفًا، فلما علم ابن غراب بما هو فيه من الخوف، حسَّن له أن يفِرَّ، فمال إليه، وقام وقت الظهر من بين حرمه وأولاده، وخرج من ظهر القلعة من باب السر الذي يلي القرافة، ومعه الأمير بيغوت، فركبا فرسين قد أعدهما ابن غراب، وسارا مع بكتمر مملوك ابن غراب، ويوسف بن قطلوبك صهره أيضًا، إلى بركة الحبش، ونزلا وهما معهما في مركب، وتركوا الخيل نحو طرا وغيبوا نهارهم في النيل، حتى دخل الليل، فساروا بالمركب إلى بيت ابن غراب، وكان فيما بين الخليج وبركة الفيل، فلم يجدوه في داره، فمروا على أقدامهم حتى أووا في بيت بالقاهرة لبعض معارف بكتمر مملوك ابن غراب، ثم بعثوا إلى ابن غراب فحول السلطان إليه وأنزله عنده بداره، من غير أن يعلم بذلك أحد.

العام الهجري : 813 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1410
تفاصيل الحدث:

هو أحمد بن أويس بن الشيخ حسن النوين بن حسين بن أقبغا بن أيلكان بن القال غياث الدين سلطان العراق. أوَّل ما ولي إمرة البصرة من أخيه حسين، فلما اختلف الأمراء على حسين خرج من بغداد إلى تبريز، فقدم أحمد بالجنود واغتال أخاه وقام بالسلطنة، وذلك في صفر سنة أربع وثمانين، وقبض على أعيان الأمراء فقتلهم وأقام أولادهم، فثار عليه من بقي ببغداد مع أخيه شيخ على شاه زاده؛ فآل الأمر إلى أن قتل واستبد أحمد فسار السيرة الجائرة وقتل في يوم واحد ثمانمائة نفس من الأعيان وانهمك في اللذات، واتفق أن تيمورلنك نازل شاه منصور صاحب شيراز وقتله وبعث برأسه إلى بغداد، والتمس منهم ضرب السكة باسمه، فلم يُطِعْه أحمد، فنزل تيمورلنك بغداد في شوال سنة خمس وتسعين، ففرَّ منها ابن أويس بأهله وما يعزُّ عليه من ماله، فلحقه عسكر تيمورلنك بالحلة فهزموه ونهبوا ما معه وخربوا الحلة، وقَصَد الشام فوصل إلى الرحبة واستأذن الظاهر في القدوم عليه، فأجابه بما يطيب خاطره وأمر النواب بإكرامه، ثم جهز السلطان أحمد بن أويس في أول شعبان سنة 796 ورسم له بجميع ما يحتاج إليه، فدخل بغداد في رمضان فوجد بها مسعود الخراساني من جهة تيمورلنك، ففر وأقام أحمد ببغداد، واستخدم جنودًا من العرب والتركمان، ووقع الوباء ببغداد، ففر أحمد إلى الحلة، وجرى على سيرته السيئة من سفك الدماء والجِدِّ في أخذ أموال الرعية، ولم يزل على ذلك إلى أن عاد تيمورلنك طالبًا الشام، ففرَّ أحمد إلى قرا يوسف بن قرا محمَّد بن بيرم خجا صاحب الموصل واستنجد به فسار معه، وكان أهل بغداد قد كرهوه فحاربوه وهزموهما معًا، فدخلا بلاد الشام واستأذنا أمير حلب وكان يومئذٍ دقماق من جهة الناصر فرج، وذلك في شوال سنة 802، فلم يأذن لهم فخرج لمحاربتهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم أهل حلب وأُسِرَ دقماق، فبلغ الناصر ذلك فغضب وأمر بتجهيز عساكر الشام، فتوجهوا ففر قرا يوسف فأوقعوا بأحمد فكسروه ونهبوا ما معه وبعثوا بسيفه إلى الناصر. رجع أحمد إلى بغداد فأقام بها قليلًا فثار عليه ولده طاهر بن أحمد ففر منه وأتى إلى قرا يوسف فسار معه وقاتلا طاهرًا بالحلة، فانهزم وغرق، ودخل أحمد بغداد ثم غدر أحمد بجماعة كانوا عنده من جهة قرا يوسف عدتهم خمسون نفسًا من أعيان دولته، فغضب قرا يوسف وسار لمحاربة أحمد، فهرب ثم اختفى في بئر ببغداد، فأمر قرا يوسف بطم البئر، فطُمَّت فما شكُّوا في هلاكه، واتفق أنه كان بالبئر فرجة فخرج منها ابن أويس ومضى إلى تكريت ثم إلى حلب، وملك قرا يوسف بغداد فأخذها منه تيمورلنك, فكتب قرا يوسف إلى أحمد ليجتمعا على قتال عسكر تيمورلنك فنازلا مرزا أبي بكر بن تيمورلنك بالسلطانية سنة 808، فهزموه وقتلوا ابنه, وملك قرا يوسف تبريز ورجع أحمد إلى بغداد، فاستأذنه قرا يوسف فيمن يقيمه في السلطنة، فأذن له بإقامة ولده بزق ففعل، وذلك في سنة إحدى عشرة، فقدم مرزا شاه في طلب ثأر ولده، فواقعه قرا يوسف فقتل، وغنم قرا يوسف جميع ما كان معه, واتفق في غضون ذلك أن أحمد لما تغلب على طباعه من الغدر مضى إلى تبريز فملكها، ونهب جميع ما وجده لقرا يوسف وولده، فرجع إليه وقاتله فانهزم منه، وذلك في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة، فلم يزل قرا يوسف يتطلب ابن أويس إلى أن ظفر به فأكرمه، ثم سجنه ثم دسَّ عليه من خنقه، فمات في آخر يوم من ربيع الآخر، واستقرت قدم قرا يوسف في بغداد وتبريز، وكان أحمد بن أويس سفاكًا للدماء، متجاهرًا بالقبائح، وله مشاركة في عدة علوم، كالنجوم والموسيقى، وله شعر كثير بالعربية وغيرها؛ وكتب الخط المنسوب، وكانت له شجاعة ودهاء وحِيَل، ومحبة في أهل العلم.

العام الهجري : 1359 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1940
تفاصيل الحدث:

هو الشيخُ عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس مؤسِّسُ جمعية العلماء المسلمين بالجزائر. ولِدَ في 11 من ربيع الآخر 1307هـ بمدينة قسنطينة، ونشأ في أسرةٍ كريمة ذات عراقة وثراء، ومشهورة بالعلم والأدب، سافر إلى تونس في سنة 1326هـ وانتسب إلى جامع الزيتونة، وتلقى العلومَ الإسلاميةَ على جماعةٍ مِن أكابر علمائه، أمثال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ولقد آمن ابنُ باديس بأنَّ الطريق الأوَّلَ لمقاومة الاحتلال الفرنسي هو العلم؛ لذا عَمِلَ ابن باديس على نشر العلم، وقد بدأ ابن باديس جهودَه الإصلاحية بعد عودته من الحَجِّ بإلقاء دروس في تفسير القرآن بالجامع الأخضر بقسنطينة، ودعوته إلى تطهير العقائدِ مِن الأوهام والأباطيل التي علقت بها، ثم بعد بضعِ سنوات أسَّس جماعةٌ من أصحابه مكتبًا للتعليم الابتدائي في مسجد سيد بومعزة، ثم انتقل إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسَّست سنة 1336هـ، وقد هدفت الجمعيةُ إلى نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف الدينية والعربية، والصنائع اليدوية بين أبناء المسلمين وبناتهم، ودعا المسلمين الجزائريين إلى تأسيسِ مِثلِ هذه الجمعية، أو تأسيس فروعٍ لها في أنحاء الجزائر؛ لأنه لا بقاءَ لهم إلا بالإسلام، ولا بقاءَ للإسلام إلا بالتربية والتعليم. وحثَّ ابنُ باديس الجزائريين على تعليم المرأة، وإنقاذها ممَّا هي فيه من الجهل، وتكوينها على أساسٍ من العِفَّة وحسن التدبير، وبعد احتفال فرنسا بالعيد المئوي لاحتلال الجزائر في سنة 1349هـ شُحِذَت همم علماء المسلمين في الجزائر وحماسهم وغيرتهم على دينهم ووطنهم، فتنادوا إلى إنشاءِ جمعية تُناهِضُ أهداف المستعمِر الفرنسي، وجعلوا لها شعارًا يعبِّرُ عن اتجاههم ومقاصدهم هو: "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا"، وانتخبوا ابنَ باديس رئيسًا لها. وقد نجحت هذه الجمعيةُ في توحيد الصفوف لمحاربة المستعمِر الفرنسي، وحشْد الأمة الجزائرية ضِدَّها، وبَعْث الروح الإسلامية في النفوس، ونَشْر العلم بين الناس، وانتبهت فرنسا إلى خطر هذه التعبئة، وخَشِيَت من انتشار الوعي الإسلامي، فعطَّلَت المدارس، وزجَّت بالمدرسين في السجون، وأصدر المسؤول الفرنسي عن الأمن في الجزائر في عام 1352هـ تعليماتٍ مُشدَّدة بمراقبة العلماء مراقبةً دقيقة، كان ابن باديس مجاهِدًا سياسيًّا مجاهِرًا بعدم شرعية الاحتلال الفرنسي، وأنَّه حُكمٌ استبدادي غير إنساني، يتناقَضُ مع ما تزعُمُه مِن أن الجزائر فرنسية، وأحيا فكرةَ الوطن الجزائري بعد أن ظنَّ كثيرون أن فرنسا نجحت في جعْل الجزائر مقاطعةً فرنسية، وقد عبَّرَ ابن باديس عن إصرار أمَّتِه وتحديها لمحاولات فرنسا بقوله: "إن الأمةَ الجزائريةَ ليست هي فرنسا، ولا يمكِنُ أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمةٌ بعيدةٌ عن فرنسا كلَّ البعد؛ في لغتها، وفي أخلاقِها وعنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمِجَ، ولها وطن محدَّدٌ مُعَيَّن هو الوطن الجزائري" ودخل في معركة مع الحاكم الفرنسي سنة 1352هـ واتَّهمه بالتدخُّل في الشؤون الدينية للجزائر على نحوٍ مخالفٍ للدين والقانون الفرنسي، وأفشل فكرةَ اندماج الجزائر في فرنسا التي خُدِعَ بها كثير من الجزائريين سنة 1353هـ. ودعا نوابَ الأمة الجزائريين إلى قَطعِ حبال الأملِ في الاتفاق مع الاستعمار، وضرورة الثقة بالنفس، وكانت الصحفُ التي يصدِرُها ابن باديس أو يشارِكُ في الكتابة بها من أهمِّ وسائله في نشر أفكاره الإصلاحية، وكان ابن باديس قد أصدر جريدة "المنتقد" سنة 1343ه وتولى رئاستَها بنفسِه، لكنَّ المحتَلَّ عطَّلها، فأصدر جريدة "الشهاب" واستمَرَّت في الصدور حتى سنة 1358هـ، واشترك في تحرير الصُّحُف التي كانت تصدِرُها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مثل (السنة) و(الصراط) و(البصائر). توفِّي ابن باديس في 8 ربيع الأول، وكان سببُ وفاته التعب والإرهاق، وذلك أنه كان يلقي يوميًّا 15 درسًا، وفي عطلة نهاية الأسبوع كان يسافر إلى العاصمة، ثم يتنقِلُ من محطة القطار إلى الجامع الأخضر، وكان آخر درس ألقاه على النساء 3 أيام قبل وفاتِه في نفس الجامع، وكان كثير التنقُّل في الفترة الممتدَّة بين الصبح والظهر من البيت الذي يحضِّرُ فيه الدروس إلى مكان الإلقاء. وقد وافته المنيةُ في حدود الساعة الثانية بعد الظهر بحضور الدكتور ابن جلول ودكتور فرنسي وشقيقه الأكبر زبير، ولم يتمَّ تسميمُه ولم يُصَب بسرطان ولا بمَرَض أمعاءٍ، كما أشيعَ بعد موتِه.

العام الهجري : 1393 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1973
تفاصيل الحدث:

هو الدُّكتور طه بن حسين بنِ عليِّ بن سلامةَ. وُلِد سنةَ 1889م في قرية (الكيلو) بمَغاغةَ مِن مُحافَظة المِنْيا (بالصعيد المصْري)، وأُصِيب بالجُدريِّ في الثالثة مِن عُمرِه، فكُفَّ بصَرُه. وكان السابعَ من إخوته وأخواتِه الذين بلَغَ عَددُهم (13)، وكان والدُه ذا مركزٍ مَرموقٍ في الضاحيةِ، حرَصَ على تَعليمِ أولادِه؛ وحرَص أنْ يُعلِّم ابنَه طه، فأدْخَله الكُتَّاب، وحفِظ فيه القرآنَ الكريمَ، وحفِظَ الكثير مما كان يَسمَع مِن أدعيةٍ وأشعارٍ وقصصٍ، وحفِظَ قواعدَ التَّجْويد، وحين تَرعرعَ راح أخوه الأزهريُّ يُحفِّظه الألفيَّةَ؛ لِيَعُدَّه للحياة الجديدةِ في الأزهر. دخَل الأزهرَ عام 1902، وتفتَّح ذِهْنُه، واتَّسعَت آفاقُ تَفكيرِه حين بَدأ يَحضُر دُروس الأدبِ على يَدِ سيد علي المَرْصفيِّ، والأستاذُ ينْحو في دُروسِه مَنْحى اللُّغويين والنُّقاد، مع مَيلٍ لِلتَّفقُّهِ والتحليلِ، ويُعنى بمُفردات اللُّغة، وإظهارِ ما في الشِّعرٍ من بَيانٍ وبديعٍ ومَعانٍ. وظهَرَت لَدَيه مَلَكة النَّقْد، وكان عامُ 1908 عامًا فاصلًا بينه وبين حياةِ الأزهرِ وشُيوخ الأزهرِ؛ ففي هذا العامِ فُتِحَت الجامعةُ المصريَّةُ الأهلية، فانْتَمى إليها وقَضى فيها سنواتٍ ثلاثًا يَختلِفُ إليها وإلى الأزهرِ. وقد وجَدَ في دُروس الجامعةِ اختلافًا كثيرًا ووجَدَ حُرِّيةَ البحثِ، فشُغِف بهذه الدُّروسِ حُبًّا، وتفتَّحَت لها نفْسُه، وكان أثَرُ ذلك عميقًا فيها، ووجَدَ في الجامعةِ مُبتغاهُ، وفي ظِلِّ البحثِ التَّحليليِّ أخْرَج رِسالتَه عن أبي العَلاءِ المَعرِّي ((ذِكرى أبي العَلاء)) التي نال بها دَرجةَ الدُّكتوراه، وهو أوَّلُ مَن نال شَهادةَ الدُّكتوراه من الجامعةِ المصرية عام 1914م، فلما وُزِّعت مَطبوعةً ثارت حَولها ضجَّةٌ، ورُمِيَ بالإلحاد، وقَدَّمَ أحدُ النُّواب إلى الجمعية العامَّةِ استجوابًا أثار به مَوضوعَ رِسالة طه حُسين، وطالَب بفَصْلِه ونزْعِ الشَّهادة عنه، ولولا تَداركُه مِن رئيس المجلِسِ (سعد زغلول) لَتغيَّر مجْرى حَياتِه. وفي 5 مارس 1914 سافَر على نَفقةِ الجامعةِ إلى فرنسا لِيُكمِل دِراستَه، فكان ذلك حَدَثًا لم يَتيسَّر لغَيرِه من أمثالِه. وفي جامعةِ مونبيليه التي يُدرَّس فيها الأدبُ الفرنسيُّ واللُّغةُ اللاتينيةُ، تعرَّف على سُوزان التي كانت زَميلتَه في الجامعة أثناءَ بَعثتِه إلى فرنسا، وقد كانت سُوزان تَقرأُ عليه كُتبًا من عُيون الأدبِ الفرنسيِّ والتاريخِ الرُّوماني واليونانيِّ. واقترَنَ بها يومَ 19 أغسطس 1919 م، فكان لِسُوزانَ الأثرُ الأكبر في توجُّهاته القادمةِ. تزوَّج بها طه وهو يَستعِدُّ للدُّكتوراه برسالةٍ عن "ابن خَلْدون" وفَلسفتِه الاجتماعيةِ، وفي السَّنة التي تزوَّج فيها بسُوزانَ عاد إلى مصرَ، وتمَّ تعيينُه أستاذًا للتاريخ القديمِ. وفي عام 1925 أُلحِقَت الجامعةُ بالحكومةِ، فتمَّ تَعيينُه أستاذًا دائمًا للأدبِ العربيِّ بكُلِّية الآدابِ، ثم عَميدًا لهذه الكُلِّية، فوَزيرًا للمعارِفِ، وفي هذه المدَّةِ تمكَّن طه مِن جعْلِ التعليمِ الثانوي والفنِّي مجانًا، وعيَّنته جامعةُ الدُّول العربيَّةِ رئيسًا لِلَجْنتِها الثقافية فأدارها مدَّةً. كان طه حُسين خلالَ هذه الفترة جمَّ النَّشاطِ؛ يَكتُب ويُحاضِر، ويَنشُر ويُؤلِّف حتى ذاع صِيتُه. وأخرَجَ مُحاضراته (في الظَّاهرة الدِّينية عند اليونان) في كِتابٍ عام 1919 يَحمِل اسمَ "آلهة اليونانِ". وفي 1926 نُشِر كِتابُه "الشِّعر الجاهِلي"، فأثار ظُهورُه ثورةً عاصفةً كادت تَعصِفُ بطه حُسين وكُرسِيِّه وأدَبِه، وانبَرَت أقلامُ الأدباء والمؤرِّخين وعُلماء المسلمين يَرُدُّون عليه، وأُحِيل طه حُسين سنةَ 1926 إلى النِّيابة وحَقَّقت معه، وانتهَت مِن قَرارِها سنة 1927. وكان قرارُها بتَفْنيدِ انحرافاتِ طه حُسين الفِكْرية في كِتابِه، وتَفنيدِ ما أخَذَه من المستَشْرقينَ أمْثال رِينان، ومَرْغليوث، وغَيرِهما، وصُودِرَ كتابُه وجُمِع من الأسواقِ. وقد حصَل على الدُّكتوراه الفَخْرية من جامعةِ مَدريد وجامعة كمَبِردج، ونال وِسامَ الباشويةِ ووِسامَ الليجيون دونير مو طَبقة كراند أوفيسيه، ونال الدُّكتوراه الفَخْريةَ من جامعاتِ ليون، ومونبيليه، ومَدْريد، وأكْسُفورد، وانتُخِبَ رئيسًا للمَجْمَع اللُّغوي بعدَ وَفاةِ أحمد لُطفي السَّيِّد سنة 1963. وكان مُشتغِلًا بالترجمةِ كثيرًا. أنْجَبَت سُوزانُ لِطه: أمينةَ، ومُؤنس الذي اعتنَقَ النَّصرانيةَ وأعْلَنها في إحدى الكنائسِ بفرنسا! وتُوفِّي طه حُسين عام 1973م.

العام الهجري : 782 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1380
تفاصيل الحدث:

في ليلةِ الجمعة تاسِعَ عَشَر صفر لَبِسَ الأمير بركة السلاحَ هو ومماليكه، ولبس الأمراءُ أيضًا وباتوا في إسطبلاتهم على احتراز، فلما أصبح نهارُ يوم الجمعة، طلب الأميرُ الكبير برقوق القضاةَ ومشايخَ العلم وندبهم للدخول بينه وبين الأمير بركة في الصُّلحِ؛ مكيدةً منه ودَهاءً، فما زالوا يتردَّدونَ بينهما عِدَّة مرار، حتى وقع الصلحُ على دَخَن، وحلف كلٌّ منهم لصاحبه، ونزعوا عنهم السلاحَ، فبعث الأميرُ برقوق بالأمير أَيْتَمِش إلى الأمير بركة، فنزل إليه وفي عُنُقِه منديل، ليفعل ما يريدُ مِن قتل أو حبس أو غير ذلك، وخضع له خضوعًا زائدًا، فلم يجِدْ بركةُ بدًّا من الإغضاءِ عنه وقبول معذرته، وخلع عليه، وأعاده إلى الأميرِ برقوق، والقلوبُ ممتلئةٌ حَنَقًا، ونودي في القاهرة بالأمان وفَتْح الأسواق، فسكن انزعاجُ الناس، فلما أصبح نهارُ الأربعاء تاسع شهر ربيع الأول أنزل برقوق السلطانَ المَلِكَ المنصور إلى عنده بالإسطبل السلطاني، ونادى للمماليكِ السُّلطانية بالحضور، فحضروا فأخرجَ جماعةً كبيرة من الأمراء ومعهم المماليك السلطانية ونَدَبَهم لقتال بركة بعد أن بلَغَه أنَّه يريدُ أن يقتُلَه غِيلةً يوم الجمعة في الصلاة، ودُقَّت الكوسات بقلعة الجبل، هذا وقد جَهَّز بركة أيضًا جماعةً كبيرة أيضًا من أصحابِه؛ لملتقى من ندبه برقوق لقتالِه، وسار كل من الفريقينِ إلى الآخر حتى تواجَها على بُعدٍ، فلم يتقَدَّمْ أحد من العسكرين إلى غريمِه، فلما كان بعد الظهر بعث الأميرُ بركة أمير آخوره سيف الدين طغاي يقول لبرقوق: ما هذا العَمَلُ، هكذا كان الاتفاق بيننا؟ فقال برقوق: هكذا وقع، قل لأستاذك: يتوجه نائبًا في أيِّ بلد شاء، فرجع أميرُ آخور بركة إليه بهذا القَولِ، فلم يوافِقْ بركة على خروجه من مصر أصلًا، فركب بركةُ بأصحابه ومماليكه من وَقتِه، وساقوا فرقتين: فرقةٌ من الطريق المعتادة، وفرقةٌ من طريق الجبل، وكان بركةُ في الفرقة التي بطريق الجَبَل، وبلغ برقوقًا ذلك فأرسل الأمراءَ والمماليك في الوَقتِ لِمُلتقاه، فلما أقبل بركةُ هرب أكثَرُ عساكر برقوق ولم يَثبُتْ إلَّا الأميرُ علان الشعباني في نحو مائة مملوك، والتقى مع بركة، وكان يلبغا الناصري بمن معه من أصحابِ بركة توجَّه من الطريق المعتادة، فالتقاه أيتمش البجاسي بجماعةٍ وكسره، وضَرَبَه بالطبر، وأخذ جاليشَه وطبلخاناتِه، ورجع مكسورًا بعد أن وقع بينهم وقعةٌ هائلة جُرِحَ فيها من الطائفتين خلائق، وأما بركة فإنه لما التقى مع علان صَدَمَه عَلَّان صدمةً تقنطَرَ فيها عن فَرَسِه، وركب غَيرَه، فلما تقنطر انهزم عنه أصحابُه، فصار في قِلَّة، فثبت ساعة جيدةً ثم انكسر وانهزم إلى جهةِ قُبَّة النصر، وأقام به إلى نِصفِ الليل، فلم يجسُرْ أحد من البرقوقيَّة على التوجه إليه وأخْذِه، فلما كانت نصفُ ليلة الخميس رأى بركة أصحابَه في قلة، وقد تخَلى عنه أكثَرُ مماليكه وحواشيه، وهرب من قُبَّة النصر هو والأمير آقبغا صيوان إلى جامع المقسي خارج القاهرة، فغُمِزَ عليه في مكانه فمُسِكَ هو وآقبغا من هناك، وطُلِعَ بهما إلى برقوق، وتتَبَّعَ برقوق أصحابَ بركة ومماليكه فمسك منهم جماعةً كبيرة مع من مُسِك مع بركة من الأمراء، وبَقِيَت القاهرة ثلاثة أيام مغلقة والنَّاسُ في وَجَل بسبب الفتنة، فنادى برقوقٌ عند ذلك بالأمان والاطمئنان، وأمَّا أمرُ بركة فإنه لما كان شهر رجب من هذه السنة ورد الخبَرُ من الأمير صلاح الدين خليل بن عرام نائب الإسكندرية بموت الأمير زين الدين بركة الجوباني اليلبغاوي بسِجنِ الإسكندرية، فلما بلغ الأتابك برقوقًا ذلك بعث بالأميرِ يونس النوروزي الدوادار بالإسكندرية لكَشفِ خَبَرِ الأمير بركة وكيف كانت وفاتُه، فتوجه يونُسُ إلى الإسكندرية، ثم عاد إلى مصر ومعه ابنُ عرام نائب الإسكندرية، وأخبر برقوقًا بأنَّ الأمرَ صَحيحٌ، وأَّنه كشف عن موته وأخرجه من قَبرِه فوجد به ضرباتٍ: إحداها في رأسِه، وأنه مدفون بثيابِه مِن غير كفن، وأن يونُسَ أخرجه وغَسَّله وكَفَّنه ودفنه وصلَّى عليه خارج باب رشيد، وبنى عليه تربة، وأن الأمير صلاح الدين خليل بن عرام هو الذي قتَلَه، فحَبَس برقوقٌ ابنَ عرام بخزانة شمائل وهي السِّجنُ المخصَّص لأصحاب الجرائم، ثم عصره وسأله عن فصوصٍ تركها بركة عنده، فأنكرها وأنكر أنَّه رآها، فلما كان يوم الخميس خامس عشرين شهر رجب طلع الأمراءُ للخدمة على العادة، وطُلِبَ ابن عرام من خزانة شمائل، فطلعوا به إلى القلعةِ على حمار، فرَسَم برقوق بتسميره، فخرج الأميرُ مأمور القلمطاوي حاجب الحجاب، وجلس بباب القلة هو وأميرُ جاندار، وطلب ابن عرام بعد خدمةِ الإيوان، فعُريَ وضُرِبَ بالمقارع ستة وثمانين شيبًا، ثم سفر على جمل بلعبة تسمير عطب، وأنزل من القلعة إلى سوق الخيل بالرميلة بعد نزول الأمراء، وأوقفوه تجاه الإسطبل السلطاني ساعةً، فنزل إليه جماعةٌ من مماليك بركة وضَرَبوه بالسيوف والدبابيس حتى هَبَروه وقطَّعوه قطَعًا عديدة، ثم إنَّ بَعضَهم قَطَع أذنه وجعل يَعَضُّها صفة الأكل، وأخذ آخَرُ رجله، وآخر قَطَعَ رأسَه وعَلَّقَها بباب زويلة، وبقيت قِطَعٌ منه مرمية بسوق الخيل، وذُكِرَ أن بعض مماليك بركة أخذ من لحمه قطعةً شواها، والله أعلم بصحة ذلك، ثم جُمِعَ ابن عرام بعد ذلك ودُفِنَ بمدرسته خارج القاهرة عند جامع أمير حسين بن جندر بحكر جوهر النوبي.

العام الهجري : 1255 العام الميلادي : 1839
تفاصيل الحدث:

ظهر في إيران رجلٌ شيعي إسماعيلي اسمُه حسن علي شاه، وجمع حولَه عددًا كبيرًا من الإسماعيليَّةِ وغيرهم، فأرهبوا القوافل، وهاجموا القرى حتى ذاع صيتُه، وقَوِيت شوكته، وخَشِيَته الأسرة القاجارية الشيعية الحاكمةُ في إيران، فأُعجِبَ الناس بقوته، وانضموا تحت لوائِه؛ طمعًا في المكاسب المادية التي وعدهم بها، وكان الإنجليزُ في ذلك الوقت يعملون على بَسطِ الثورة ضِدَّ شاه إيران. وقام الإسماعيلي حسن علي بالثورة ضِدَّ الشاه القاجاري بعد أن وعَده الإنجليزُ بحكم فارس، لكِنَّ الثورة لم يُكتَب لها النجاح، حيث قَبَض عليه الشاه وسجنه، فتدخَّل الإنجليز للإفراج عنه، فتحقق لهم ذلك على أن يُنفى خارج إيران، فزيَّن له الإنجليز الرحيلَ إلى أفغانستان، فلما وصلها كشف أمرَه الأفغانُ، فاضطرَّ إلى الرحيل إلى الهند فأقام بها، واتخذ من مدينة بومباي مقرًّا له، واعترف به الإنجليزُ إمامًا للطائفة النزارية الإسماعيلية لقبوه بـ "آغا خان". وتجمَّع الإسماعيليون في الهند حوله، فلما رأى فيهم الطاعةَ العمياء، كما هي طاعة الإسماعيلية لأئمَّتهم، قَوِيَ عُوده، وأخذ ينظِّمُ شؤون طائفتِه إلى أن هلك سنة 1881م. ويعتبر حسن علي شاه مؤسِّسَ الأسرة الآغاخانية، وأوَّلَ إمام إسماعيلي يلقَّب بـ (أغاخان) وهو الإمامُ السادس والأربعون في ترتيب الأئمة الإسماعيلية في رأي هذه الفرقة، وصارت هذه الفرقةُ مِن الإسماعيلية تُعرَف بـ "الأغاخانية". وعقائد الأغاخانية هي عقائِدُ الإسماعيلية، ومِن أبرزها ما صاغه الأغاخانيون بأسلوبِهم، وما احتوته كتبُهم ونشراتهم؛ فبنى الإسماعيليون ومنهم الأغاخانيون معتقدَهم في الألوهية على ما أسموه (التنزيه والتجريد) وانتهوا إلى تعطيلِ الله سبحانه عن كلِّ وصفٍ وتجريدِه من كل حقيقة، وقالوا: "لا هو موجود، ولا لا موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز..!" ونَفَوا أسماءه وصفاته بزعم أنه فوق متناول العقل. وصرفوا صفاتِ الله إلى أول مبدعٍ خلقه الله ـ بزعمهم ـ وهو العقل الأول، واعتبروا أن المخلوقاتِ كُلَّها وُجِدَت بواسطة العقل والنفس! حيث يقول مصطفى غالب، وهو من الإسماعيلية المعاصرين، في كتابه "الثائر الحميري الحسن الصباح": "والعقل الأوَّلُ أو المبدِعُ الأول في اعتقاد الإسماعيلية هو الذي رمز له القرآن بـ (القلم) في الآية الكريمة (ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، وهو الذي أبدع النفسَ الكلية التي رمز لها القرآن أيضًا بـ ( اللوح المحفوظ) ووصفت بجميع الصفات التي للعقل الكلي، إلَّا أن العقل كان أسبقَ إلى توحيد الله فسُمِّيَ بـ (السابق) وسميت النفس بـ (التالي)، وبواسطة العقل والنفس وُجِدَت جميع المبدعات الروحانية والمخلوقات الجسمانية، من جماد وحيوان ونبات وإنسان، وما في السموات من نجوم وكواكب. ويصرف الأغاخانيون صفات الربوبية والألوهية إلى أئمتهم؛ فقد ادَّعى الأغاخان الثالث أنَّ الإله متجسم فيه شخصيًّا وأن آلافًا من البشر يعتقدون ذلك. ويعتقدون أن النبوَّةَ مكتسبة وليست هبةً من الله، والنبي صلى الله عليه وسلم عندهم عبارةٌ عن شخص فاضت عليه من "السابق" بواسطة "التالي" -أي: العقل والنفس- قوةٌ قدسية صافية؛ ذلك أن الإنسانَ تميَّز عن سائر الموجودات بالاستعداد الخاص لفيض الأنوار عليه، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يمثِّل أعلى درجات هذا الاستعداد، وأن هذه القوةَ القدسيَّةَ الفائضة على النبي صلى الله عليه وسلم لا تستكملُ في أول حلولها.. وأنَّ كمال هذه القوةِ أن تنتقل من الرسولِ الناطق إلى الأساسِ الصامت، أي الإمام، وهم بهذا الاعتقاد يعتبرون الإمامةَ مكملة للنبوة واستمرارًا لها، واشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصِلَ إلى مرتبته أن يمرَّ بمرتبة الولي؛ لأنه يجمع في نفسه الولاية والنبوة والرسالة. ويعتقدون أن رسالةَ النبي صلى الله عليه وسلم محمد صلى الله عليه وسلم ليست آخرَ الرسالات، بل هي حلقةٌ من حلقات تتابُعِ النبوة التي انتهت بظهورِ إمامهم السابع محمد بن إسماعيل بن جعفر كما يزعمون. واعتقدوا أنَّه فاتح عهد جديد، وصاحِبُ شريعة نسخت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم!! ويتوجَّه بعض الأغاخانيون بقِبلتِهم إلى حيث يقيمُ إمامُهم، وهم لا يقيمون الصلاةَ مع المسلمين، ولا يُسمُّون أماكِنَ عبادتهم مساجِدَ، إنما بيتُ الجماعة، والصلاة عندهم عبارةٌ عن مجموعة من السَّجَدات، وهم يجمعون في صلاتِهم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، والأغاخانيون يعتبرون قبلةَ المسلمين الكعبة ليست سوى حِجارة، ويقولون إن الحج إليها في بداية الإسلام كان نظرًا للمستوى العقلي للنَّاسِ في ذلك الوقت، وبدلًا من ذلك يفضِّلون الذهاب للأغاخان وزيارته، وتقديم الولاء والإجلال له، ويوجدون بشكلٍ خاص في باكستان؛ حيث المركز الرئيسي في مدينة كراتشي، وفي المنطقة الشمالية الجبلية من باكستان مثل منطقة جيترال وكيلكيت، ويُعرَفون هناك بالهونزا، إضافةً إلى وجودٍ أقَلَّ في بعض المدن، مثل العاصمة إسلام أباد، ولاهور، وروالبندي. وفي غرب الهند في ولاية كجرات، لا سيما في مدينة بومباي. وكذلك في سوريا وخاصة في مدينة سلمية التابعة لمحافظة حماة، وفي بعضِ قراها، وفي جوار قلعة الخوابي قرب طرطوس، وفي قدموس. ويوجدون في شرق أفريقيا: في أوغندا وكينيا وتنزانيا وزنجبار وما حولها، وفي جزيرة مدغشقر جنوب شرق أفريقيا. كما يوجدون بشكل أقل في قم بإيران، وفي المناطق الجبلية لطاجيكستان، ومنطقة جبال الهندوكوش في أقصى الشمال الشرقي لأفغانستان، ويُعرَفون في أفغانستان باسم (مفتدي)، ولهم في عُمان حيٌّ خاص في مطرح بالقرب من مسقط. وينتشرون كذلك في بورما، أمَّا في طاجكستان وهي إحدى جمهوريات آسيا الوسطى، فإنهم يوجدون في إقليم بدخشان الذي يتمتع بما يشبه الحُكم الذاتي، ويقدَّر عددهم هناك بـ 100 ألف.

العام الهجري : 267 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 880
تفاصيل الحدث:

وجَّه أبو أحمد الموفَّق ولَدَه أبا العباسِ في نحوٍ مِن عشرة آلافِ فارس وراجلٍ، في أحسَنِ هيئةٍ وأكملِ تجَمُّل لقتال الزنج، فساروا نحوَهم فكان بينه وبينهم من القتالِ والنِّزال في أوقاتٍ متعدِّدة ووقعاتٍ مشهورةٍ، استحوذ أبو العباس بن الموفِّق فيها على ما كان استولى عليه الزنجُ ببلاد واسط وأراضي دجلة، هذا وهو شابٌّ حَدَثٌ لا خبرةَ له بالحرب، ولكِنْ سَلَّمَه الله وأعلى كلمَتَه وسَدَّد رَميَتَه وأجاب دعوتَه، وفتح على يديه وأسبَغَ نِعَمَه عليه، وهذا الشابُّ هو الذي وليَ الخلافةَ بعد عمه المعتمد، ثم ركب أبو أحمد الموفَّق ناصر دين الله في بغداد في صفر منها في جيوشٍ كثيفة، فدخل واسط في ربيع الأوَّل منها، ثم سار بجميعِ الجيوش إلى صاحب الزنج وهو بالمدينة التي أنشأها وسمَّاها المنيعة، فقاتل الزنجُ دونها قتالًا شديدًا فقهرهم ودخلها عَنوةً وهربوا منها، فبعث في آثارِهم جيشًا، فلَحِقوهم إلى البطائح يقتُلون ويأسرون، وغَنِمَ أبو أحمد من المنيعة شيئًا كثيرًا، واستنقذ من النساء المُسلمات خمسةَ آلافِ امرأة، وأمر بإرسالهنَّ إلى أهاليهن بواسط، وأمر بهدمِ سُورِ البلد وبطَمِّ خندقها وجعلها بلقعًا بعد ما كان للشَّرِّ مَجمعًا، ثم سار الموفَّق إلى المدينة التي لصاحب الزنج التي يقال لها المنصورة، وبها سليمان بن جامع، فحاصروها وقاتلوه دونها فقُتِلَ خَلقٌ كثيرٌ من الفريقين، ورَمى أبو العباس بن الموفَّق بسهمٍ أحمدَ بن هندي أحدَ أمراء صاحب الزنج فأصابه في دماغِه فقَتَله، فشَقَّ ذلك على الزنجِ جِدًّا، وأصبح الناسُ محاصِرينَ مدينة الزنج يومَ السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر والجيوشُ المُوَفَّقية مُرتَّبة أحسنَ ترتيب، فتقدم الموفَّق واجتهد في حصارِها، فهزم الله مقاتِلَتَها وانتهى إلى خَندقِها، فإذا هو قد حُصِّنَ غايةَ التحصين، وإذا هم قد جعلوا حول البلدِ خمسةَ خنادقَ وخمسة أسوار، فجعل كلمَّا جاوز سورًا قاتلوه دون الآخَرِ، فيَقهَرُهم ويجوز إلى الذي يليه، حتى انتهى إلى البلد فقتل منهم خلقًا كثيرًا وهرب بقيَّتُهم، وأسَرَ مِن نساءِ الزِّنج من حلائل سليمان بن جامع وذويه نساءً كثيرةً وصِبيانًا، واستنقذ من أيديهم النساءَ المُسلِمات والصبيانَ مِن أهل البصرة والكوفة نحوًا من عشرة آلاف نسمةٍ فسَيَّرَهم إلى أهليهم، ثمَّ أمر بهدم أسوارِها ورَدْم خنادِقِها وأنهارِها، وأقام بها سبعةَ عشر يومًا، بعث في آثارِ مَن انهزم منهم، فكان لا يأتونَ بأحدٍ منهم إلَّا استماله إلى الحقِّ برِفقٍ ولِينٍ وصَفحٍ، فمن أجابه أضافه إلى بعض الأمراءِ - وكان مقصودُه رجوعَهم إلى الدينِ والحَقِّ- ومن لم يُجِبْه قتله أو حبَسَه، ثم ركب إلى الأهواز فأجلاهم عنها وطرَدَهم منها وقتلَ خلقًا كثيرًا من أشرافهم؛ منهم أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصري، وكان رئيسًا فيهم مُطاعًا، وغَنِم شيئًا كثيرًا من أموالهم، وكتب الموفَّق إلى صاحب الزنج- قبَّحَه الله- كتابًا يدعوه فيه إلى التوبةِ والرجوع عمَّا ارتكبه من المآثِمِ والمظالمِ والمحارمِ، ودعوى النبوَّةِ والرِّسالة، وخرابِ البُلدانِ واستحلالِ الفُروج الحرام، ونبَذَ له الأمانَ إن هو رجَعَ إلى الحق، فلم يَرُدَّ عليه صاحِبُ الزنج جوابًا، فسار أبو أحمد الموفَّق إلى مدينةِ صاحب الزنج وحصار المختارة، فلمَّا انتهى إليها وجدَها في غاية الإحكام، وقد حَوَّط عليها من آلات الحصار شيئًا كثيرًا، وقد التفَّ على صاحب الزنج نحوٌ من ثلثمائة ألفِ مقاتلٍ بسيفٍ ورُمحٍ ومِقلاعٍ، ومن يكثر سوادهم، فقَدَّم الموفَّق ولدَه أبا العباس بين يديه فتقَدَّم حتى وقف تحت قصرِ الملك فحاصَره محاصرةً شديدةً، وتعجَّبَ الزنج من إقدامِه وجرأتِه، ثم تراكمتِ الزِّنجُ عليه من كلِّ مكان فهزمهم وأثبتَ بهبوذ بن عبدالوهاب أكبَر أمراءِ صاحبِ الزنجِ بالسِّهام والحجارةِ، ثم خامر جماعةٌ من أصحاب أمراءِ صاحِب الزنج إلى الموفَّق فأكَرَمهم وأعطاهم خِلَعًا سَنِيَّة، ثم رَغِبَ إلى ذلك جماعةٌ كثيرون فصاروا إلى الموفَّق، ثم ركب أبو أحمد الموفَّق في يوم النصف من شعبان ونادى في الناسِ كلِّهم بالأمان إلى صاحبِ الزنج، فتحول خلقٌ كثيرٌ من جيش صاحب الزنج إلى الموفَّق، وابتنى الموفَّق مدينةً تجاه مدينة صاحب الزنج سمَّاها الموفَّقيَّة، ليستعينَ بها على قتال صاحب الزنج، ثم جرت بينهم حروبٌ عظيمة، وما زالت الحربُ ناشبةً حتى انسلخت هذه السنةُ وهم محاصِرونَ للخبيثِ صاحِبِ الزنج، وقد تحوَّل منهم خلقٌ كثيرٌ، فصاروا على صاحِبِ الزنج بعد ما كانوا معه، وبلغ عددُ من تحول قريبًا مِن خمسين ألفًا من الأمراءِ الخواصِّ والأجناد، والموفَّق وأصحابُه في زيادةٍ وقوَّة ونصرٍ وظفَرٍ.

العام الهجري : 444 العام الميلادي : 1052
تفاصيل الحدث:

في هذه السَّنَةِ دَخلتْ العَربُ إلى إفريقية, وسببُ ذلك أنَّ المُعِزَّ بن باديس كان خَطَبَ للقائم بأَمرِ الله الخليفة العبَّاسي، وقَطَع خُطبةَ المُستَنصِر العُبيدي الفاطمي صاحب مصر، فلمَّا فعل ذلك كَتَب إليه المُستَنصِر العَلويُّ يَتَهدَّدهُ، فأَغلظَ المُعِزُّ في الجوابِ، ثم شَرعَ المُستَنصِرُ ووَزيرهُ الحسنُ بن عَليٍّ اليازوري في إرسالِ العَربِ إلى أفريقية، وأصلحوا بني زُغْبَة ورِياحٍ، وكان بينهم حُروبٌ وحُقودٌ، وأعطوهم مالًا، وأَمروهُم بِقَصدِ بِلادِ القَيروان، ومَلَّكوهُم كُلَّ ما يَفتحونَه، ووَعَدوهُم بالمَدَدِ والعُدَدِ. فدَخلتْ العربُ إلى إفريقية، وكَتَب اليازوري إلى المُعِزِّ وكان حاقدا عليه: "أمَّا بعدُ، فقد أرسلنا إليكم خُيولًا فُحولًا، وحَملنا عليها رِجالًا كُهولًا، ليقضي الله أمرًا كان مَفعولًا". فاحلوا فلمَّا حَلُّوا أرضَ بَرْقَة وما والاها ووجدوا بِلادًا كَثيرةَ المَرْعَى خالِيَة مِن الأَهلِ، فأَقامَت العَربُ بها واستَوطَنَتها، وعاثوا في أَطرافِ البِلادِ, وبَلَغ ذلك المُعِزَّ فاحتَقَرهُم, وكانت عَربُ زُغبَة قد مَلكَت مَدينةَ طرابلس سنة 446هـ، فتَتابَعَت رِياحٌ والأثبجُ وبنو عَدِيٍّ إلى إفريقية، وقَطَعوا السَّبيلَ وعاثوا في الأرضِ، وأرادوا الوصولَ إلى القَيروان، فقال مُؤْنِسُ بن يحيى المِرداسيُّ: "ليس المُبادرَة عندي بِرَأيٍ. فقالوا: كيف تُحِبُّ أن تَصنعَ؟ قال: خُذوا شيئًا فشَيئًا حتى لا يَبقَى إلَّا القَيروان، فخُذوها حينئذٍ. فقالوا: أنت المُقَدَّمُ علينا، ولَسْنَا نَقطعُ أَمرًا دُونك". ثم قَدِم أُمراءُ العَربِ إلى المُعِزِّ فأَكرَمَهم وبَذَل لهم شيئًا كَثيرًا، فلمَّا خَرجوا مِن عِندِه لم يُجازُوهُ بما فَعلَ مِن الإحسانِ، بل شَنُّوا الغاراتِ، وقَطَعوا الطَّريقَ، وأَفسَدوا الزُّروعَ، وقَطَّعوا الثِّمارَ، وحاصَروا المُدُنَ، فضاق بالنَّاسِ الأَمرُ، وساءَت أَحوالُهم، وانقَطعَت أَسفارُهم، ونَزلَ بإفريقية بَلاءٌ لم يَنزِل بها مِثلُه قط، فحينئذٍ احتَفلَ المُعِزُّ وجَمعَ عَساكرَه، فكانوا ثلاثين ألف فارس، ومِثلَها رَجَّالَة، وسار حتى أَتَى جَنْدِران، وهو جَبَلٌ بينه وبين القَيروان ثلاثةُ أيَّامٍ، وكانت عُدَّةُ العَربِ ثَلاثةُ آلافِ فارس، فلمَّا رَأَتْ العَربُ عساكِر صنهاجة والعَبيدَ مع المُعِزِّ هالَهُم ذلك، وعَظُمَ عليهم، فقال لهم مُؤْنِسُ بن يحيى: ما هذا يوم فِرارٍ. والتَحَم القِتالُ واشتَدَّتْ الحَربُ، فاتَّفقَت صِنهاجَة على الهزيمةِ وتَرْكِ المُعِزِّ مع العَبيدِ حتى يَرَى فِعلَهم، ويُقتَل أَكثرُهم، فعند ذلك يَرجِعون على العَربِ، فانهَزمتْ صِنهاجَة وثَبَتَ العَبيدُ مع المُعِزِّ، فكَثُرَ القَتلُ فيهم، فقُتِلَ منهم خَلْقٌ كَثيرٌ، وأرادت صِنهاجة الرُّجوعَ على العَربِ فلم يُمكِنهُم ذلك، واستَمرَّت الهَزيمةُ، وقُتِلَ مِن صِنهاجة أُمَّةٌ عَظيمَة، ودَخلَ المُعِزُّ القَيروانَ مَهزومًا، على كَثرَةِ مَن معه، وأَخذتْ العَربُ الخَيْلَ والخِيامَ وما فيها مِن مالٍ وغَيرِه. ولمَّا كان يومُ النَّحْرِ من هذه السَّنَةِ جَمعَ المُعِزُّ سَبعةً وعِشرينَ ألف فارس، وسار إلى العَربِ جَرِيدَةً -الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- وسَبَقَ خَبرُه، وهَجَم عليهم وهُم في صَلاةِ العِيد، فرَكِبَت العَربُ خُيولَهم وحَملَت، فانهَزَمت صِنهاجة، فقُتِلَ منهم عالَمٌ كَثيرٌ. ثم جَمعَ المُعِزُّ وخَرجَ بِنَفسِه في صِنهاجة وزِناتَة في جَمعٍ كَثيرٍ، فلمَّا أَشرفَ على بُيوتِ العَربِ، انتَشَب القِتالُ، واشتَعَلت نِيرانُ الحَربِ، وكانت العَربُ سَبعةَ آلافِ فارس، فانهَزَمت صِنهاجة، وزِناتَة، وثَبَتَ المُعِزُّ فيمَن معه من عَبيدِه ثَباتًا عَظيمًا لم يُسمَع بمِثلِه، ثم انهَزَم وعاد إلى المَنصوريَّة. وأحصي مَن قُتِلَ مِن صنهاجة ذلك اليوم، فكانوا ثلاثةَ آلاف وثلاثمائة. ثم أَقبلَت العَربُ حتى نَزلَت بمُصَلَّى القَيروان، ووَقعَت الحَربُ، فقُتِلَ مِن المَنصوريَّة ورقادة خَلْقٌ كَثيٌر، فلمَّا رأى ذلك المُعِزُّ أَباحَهم دُخولَ القَيروان لِمَا يحتاجون إليه مِن بَيعٍ وشِراءٍ، فلمَّا دخلوا استَطالَت عليهم العامَّةُ، ووَقعَت بينهم حَربٌ كان سَببُها فِتنةً بين إنسانٍ عَربيٍّ وآخرَ عامِيٍّ، وكانت الغَلَبةُ للعَربِ. وفي سنة 444هـ بُنِيَ سورُ زويلة والقَيروان، وفي سنة 446هـ حاصرت العَربُ القَيروانَ، ومَلَكَ مُؤنِسُ بن يحيى مدينةَ باجَة، وأَشارَ المُعِزُّ على الرَّعِيَّة بالانتقالِ إلى المَهديَّة لِعَجزِه عن حمايتهم من العَربِ. وشَرعَت العَربُ في هَدمِ الحُصونِ والقُصورِ، وقَطَّعوا الثِّمارَ، وخَرَّبوا الأَنهارَ، وأَقامَ المُعِزُّ والناسُ يَنتَقِلون إلى المَهديَّة إلى سَنةِ تِسعٍ وأربعين، فعندها انتَقلَ المُعِزُّ إلى المَهديَّة في شعبان، فتَلقَّاهُ ابنُه تَميمٌ، ومَشَى بين يَديهِ، وكان أَبوهُ قد وَلَّاهُ المَهديَّة سَنةَ خَمسٍ وأربعين، وفي رمضان من سَنةِ تِسعٍ وأربعين نَهبَت العَربُ القَيروانَ, وهكذا تَتابَعت هَزائمُ المُعِزِّ وعَسكرِه على يَدِ العَربِ بِدَعمٍ مِن المُستَنصِر العُبيدي حاكم مصر.

العام الهجري : 586 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1190
تفاصيل الحدث:

خرجت الفرنج فارسُها وراجِلُها من وراء خنادقهم في عكا، وتقَدَّموا إلى المسلمين، وهم كثيرٌ لا يُحصى عددهم، وقصدوا نحوَ عسكر مصر، ومُقَدَّمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان المصريونَ قد ركبوا واصطَفُّوا للقاء الفرنج، فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، فانحاز المصريون عنهم، ودخل الفرنجُ خيامَهم، ونَهَبوا أموالهم، فعطف المصريُّون عليهم، فقاتلوهم مِن وَسطِ خيامهم فأخرجوهم عنها، وتوجَّهت طائفة من المصريين نحو خنادِقِ الفرنج، فقطعوا المَدَد عن أصحابِهم الذين خرجوا، وكانوا متَّصِلينَ كالنمل، فلما انقطعت أمدادُهم ألقَوا بأيديهم، وأخَذَتْهم السيوفُ مِن كل ناحية، فلم ينج منهم إلا الشَّريدُ، وقُتِلَ منهم مقتلة عظيمة، يزيد عددُ القتلى على عشرة آلاف قتيل، وكانت عساكِرُ الموصل قريبةً من عسكر مصر، وكان مُقَدَّمُهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضًا على الفرنج، وبالغوا في قتالِهم، ونالوا منهم نيلًا كثيرًا، ولَمَّا جرى على الفرنج هذه الحادثة خَمَدت جمرتُهم، ولانت عريكتُهم، فلما كان بعد يومين أتت الفرنجَ أمدادٌ في البحر فعادت نفوسُهم فقَوِيَت واطمأنَّت، وأخبرهم أن الأمدادَ واصلة إليهم يتلو بعضُها بعضًا، فتماسكوا وحَفِظوا مكانهم، ثمَّ إن الكند هري نصَبَ منجنيقًا ودباباتٍ وعرادات، فخرج مَن بعكا من المسلمين فأخذوها، وقَتَلوا عندها كثيرًا من الفرنج؛ ثم إنَّ الكند هري بعد أخْذِ مجانيقه أراد أن ينصِبَ منجنيقًا، فلم يتمَكَّنْ من ذلك؛ لأن المسلمينَ بعكا كانوا يمنعونَ مِن عَمَلِ ستائِرَ يستَتِرُ بها مَن يرمي من المنجنيق، فعمل تلًّا من تراب بالبعد من البلد، ونَصَبوا وراءه منجنيقين، وصار التلُّ سترة لهما، وكانت الميرةُ قد قلَّت بعكا، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمُرُهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخَّرَ إنفاذها، فسَيَّرَ إلى نائبه بمدينةِ بيروت في ذلك، فسَيَّرَ سفينةً عظيمة مملوءةً مِن كل ما يريدونه، وأمَرَ مَن بها فلَبِسوا ملبسَ الفِرنجِ وتَشَبَّهوا بهم ورفعوا عليها الصُّلبانَ، فلَمَّا وصلوا إلى عكا لم يشُكَّ الفِرنجُ أنَّها لهم، فلم يتعَرَّضوا لها، فلما حاذت ميناء عكَّا أدخلها مَن بها، ففرح بها المسلمون، وانتَعَشوا وقَوِيَت نفوسُهم، وتبلَّغوا بما فيها إلى أن أتَتْهم الميرةُ من الإسكندرية، ثم في حادي عشر شوال، خرج النصارى في عددٍ كالرمل كثرةً وكالنارِ جَمرةً، فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقالَ المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثةِ فراسِخَ عن عكَّا، وكان قد عاد إليه فَرقٌ مِن عساكِرِه لَمَّا هلك ملك الألمان، ولَقِيَ الفرنج على تعبئة حسنة، فسار الفرنجُ شَرقيَّ نهرٍ هناك حتى وصلوا إلى رأس النهر، فشاهدوا عساكِرَ الإسلام وكثرتها، فارتاعوا لذلك، ولقيهم الجالشية- جالش كلمة فارسية تعني تحدي- وأمطروا عليهم من السِّهام ما كاد يستُرُ الشمس، فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربيَّ النهر، ولَزِمَهم الجالشية يقاتلونهم، والفرنجُ قد تجمعوا، ولزم بعضُهم بعضًا، فلما كان الغدُ عادوا نحو عكا ليعتَصِموا بخندَقِهم، والجالشيةُ في أكتافهم يقاتلونهم تارةً بالسيوف وتارةً بالرماح وتارةً بالسهام، فلما بلغ الفرنجُ خَندَقَهم، ولم يكُنْ لهم بعدها ظهورٌ منه، عاد المسلمون إلى خيامِهم، وقد قتلوا من الفرنج خلقًا كثيرًا، وفي الثالث والعشرين من شوال كَمَن جماعة من المسلمين، فخرج لهم الفرنجُ في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى أن وصلوا الكمينَ، فخرجوا عليهم فلم يُفلِتْ من الفرنج أحد, واشتَدَّ الغلاء عليهم, ثم زاد الأمرُ شِدَّةً عليهم عند هيجانِ البَحرِ وانقطاعِ المراكِبِ في فصل الشتاء, فأرسى الفرنجُ مراكِبَهم بصور؛ خوفًا عليها على عادتِهم في صور في فَصلِ الشتاء, فانفتح الطريقُ إلى عكا في البَحرِ، فأرسل أهلُها إلى صلاح الدين يَشكُونَ ما نزل بهم، وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين، فشكى مِن ضَجَرِه بطول المقام والحرب، فأمر صلاح الدين بإنفاذِ نائبٍ وعسكَرٍ إليها بدلًا منهم وأمَرَ أخاه العادِلَ بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبَلِ حيفا وجمَعَ المراكبَ والشواني- سفن حربية كبيرة- وبَعَث العساكر إليها شيئًا فشيئًا، كلما دخلت طائفةٌ خرج بدلها، فدخل عشرون أميرًا بدلا من ستين, وعادت مراكِبُ الفرنج بعد انحسارِ الشتاء فانقطعت الأخبارُ عن عكا وعنها، وكان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وعز الدين أرسلان مقَدَّم الأسدية، وابن عز الدين جاولي، وغيرهم، وكان دخولهم عكا أوَّلَ سنة سبع وثمانين.

العام الهجري : 821 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1418
تفاصيل الحدث:

قَدِمَ الأمير بردبك الحمزاوي -أحد أمراء الألوف بحلب- ومعه نائب كختا -الأمير منكلي بغا- بكتاب يشبك نائب حلب، والأمير عثمان بن طر علي، المعروف بقرا يلك التركماني العثماني، بأن قرا يلك عدى الفرات من مكان يقال له زغموا، ونزل على نهر المرزبان؛ وذلك أنه بلغه أن قرا يوسف قصد كبْسَه، فما أحس قرا يلك إلا وقد هجمت فرقة من عسكر قرا يوسف التركماني عليه من شميصات دخل بهم خليل نائب كركر، فأدركوا قرا يلك عند رحيله من نهر المرزبان إلى مرج دابق، فقاتلهم في يوم الثلاثاء الثاني عشر شعبان، وأخذوا بعض أثقاله، فنزل مرج دابق، ثم قدم حلب في نحو ألف فارس، باستدعاء الأمير يشبك له، فجفل من كان خارج سور مدينة حلب، ورحلوا ليلًا عن آخرهم، واضطرب من بداخل السور، وألقوا بأنفسهم من السور ورحل أجناد الحلقة ومماليك النائب المستخدمين، بحرمهم وأولادهم، فانثنى عزم السلطان عن السفر إلى الحجاز، وكتب إلى العساكر الشامية في المسير إلى حلب، والأخذ في تهيئة الإقامات، وأصبح يوم الثلاثاء السادس والعشرين وقد جمع الأمراء والخليفة وقضاة القضاة، وطلب شيخ الإسلام جلال الدين البلقيني، وقص عليهم خبر قرا يوسف، وما حصل لأهل حلب من الخوف والفزع، وجفلتهم هم وأهل حماة, وأن قرا يوسف في عصمته أربعون امرأة، وأنه لا يدين بدين الإسلام، وكتب صورة فتوى في المجلس فيها كثير من قبائحه، وأنه قد هجم على ثغور المسلمين، ونحو هذا من الكلام، فكتب شيخ الإسلام جلال الدين البلقيني وقضاة القضاة بجواز قتاله، وكتب الخليفة خطه بها أيضًا، وانصرفوا ومعهم الأمير مقبل الداودار فنادوا في الناس بالقاهرة بين يدي الخليفة وشيخ الإسلام وقضاة القضاة الأربعة، بأن قرا يوسف يستحل الدماء، ويسبي الحريم، ويخرب الديار، فعليكم بجهاده كلكم، بأموالكم وأنفسكم، فدهى الناس عند سماعهم هذا، واشتد قلقُهم، وكتب إلى ممالك الشام أن ينادَى بمثل ذلك في كل مدينة، وأن السلطان واصِلٌ إليهم بنفسه وعساكره، وكتب إلى الوجه القبلي بإحضار الأمراء، ثم في شهر رمضان في أوله الأحد قدم الخبر بأن قرا يلك رحل من حلب، وأقام بها الأمير يشبك نازلًا بالميدان، وعنده نحو مائة وأربعين فارسًا، وقد خلت حلب من أهلها، إلا من التجأ إلى قلعتها، فأتاه النذير ليلًا أن عسكر قرا يوسف قد أدركه، فركب قُبَيل الصبح فإذا مقدَّمته وطأت بابلًا فواقعهم وهزمهم، وقتل وأسر جماعة، فأخبروه أنهم جاؤوا لكشف خبر قرا يلك، وأن قرا يوسف بعينتاب، فعاد وتوجه إلى سرمين، فلما بلغ قرا يوسف هزيمة عسكره، كتب إلى نائب حلب يعتذر عن نزوله بعينتاب، وأنه ما قصد إلا قرا يلك؛ فإنه أفسد في ماردين، فبعث إليه صاروخان -مهمندار حلب- فلقيه على جانب الفرات، وقد جازت مجموعة الفرات وهو على نية الجواز، فأكرمه واعتذر عن وصوله إلى عينتاب، وحلف أنه لم يقصد دخول الشام، وأعاده بهدية للنائب، فسُرَّ السلطان بذلك، وكان سبب حركة قرا يوسف أن الأمير قرا يلك صاحب آمد نزل في أوائل شعبان على مدينة ماردين من بلاد قرا يوسف، فأوقع بأهلها، وأسرف في قتلهم، وسبى نساءهم، وباع الأولاد والنساء، حتى بِيعَ الصغير بدرهمين، وحَرَق المدينة، ورجع إلى آمد، فلما بلغ قرا يوسف ذلك اشتد حنقه وسار، ومعه الطائفة المخالفة للسلطان، يريد أخذ قرا يلك، ونزل على آمد، ثم رحل عنها في ثامن شعبان جريدة خلف قرا يلك، وقطع الفرات من شميصات في عاشره، ولحق قرا يلك، وضربه على نهر المرزبان ففَرَّ منه إلى حلب، وهو في أثره، فتوجه قرا يلك من حلب، وكان من مواقعة نائب حلب لعسكر قرا يوسف ما ذُكر، وفي تاسع رمضان قدم الخبر بأن قرا يوسف أحرق أسواق عينتاب ونهبها، فصالحه أهلها على مائة ألف درهم، وأربعين فرسًا، فرحل عنها بعد أربعة أيام إلى جهة البيرة، وعدى معظم جيشه إلى البر الشرقي في يوم الاثنين سابع عشر شعبان، وعدى من الغد، ونزل ببساتين البيرة وحصرها، فقاتله أهلها يومين وقتلوا منه جماعة، فدخل البلد ونهب وأحرق الأسواق، حتى بقيت رمادًا، وامتنع الناس منه ومعهم حريمهم بالقلعة، ثم رحل في التاسع عشر إلى جهة بلاده، بعدما حرق ونهب جميع معاملة البيرة، فسُرَّ السلطان برجوع قرا يوسف، وفتر عزمُه عن السفر إلى الشام.

العام الهجري : 887 العام الميلادي : 1482
تفاصيل الحدث:

بدأ ملك الأمير أبي الحسن علي بن سعد ملك غرناطة في التقهقر والانتكاس والانتقاض. من وقت السيل العظيم سنة 883 الذي أصاب غرناطة؛ وذلك أن الأمير اشتغل باللذات والانهماك في الشهوات واللهو بالنساء المطربات، وركن إلى الراحة والغفلات، وضيع الجند وأسقط كثيرًا من نجدة الفرسان وثقَّل المغارم وكثَّر الضرائب في البلدان ومكَّس الأسواق ونهب الأموال وشحَّ بالعطاء، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يثبت معها المُلك, وكان للأمير أبي الحسن وزير يوافقُه على ذلك ويُظهِرُ للناس الصلاحَ والعفاف وهو بعكس ذلك، وانصرف عن تقوية عساكره، فأهمل كل من فيه نجدة وشجاعة من الفرسان ويقطع عنهم المعروف والإحسان حتى باع الجند ثيابهم وخيلهم وآلات حربهم وأكلوا أثمانها، وقَتَل كثيرًا من أهل الرأي والتدبير والرؤساء والشجعان من أهل مدن الأندلس وحصونها، ولم يزل الأمير مستمرًّا على حاله والجيش في نقص والملك في ضعف إلى أن انقضى الصلح الذي كان بينه وبين النصارى في محرم سنة 887 فلم يشعر بهم أحد حتى دخلوا مدينة الحامة؛ وذلك أنهم طرقوها ليلًا على حين غفلة من أهلها فدخلوا قصبَتَها وكانت خالية، فلم يكن بها إلا عيال قائدها فملكوا القصبة والناس نيام مطمئنون، فلم يشعر أحد إلا والنصارى قد هبطوا من القصبة على البلد بالسيف والقتل والسبي الشديد حتى قتل من نفد أجَلُه وفَرَّ من قَدَر على الفرار واستولى النصارى على البلد وجميع ما كان فيه من الرجال والنساء والصبيان والأموال، وكان ذلك في التاسع عشر محرم، فلما بلغ أهل غرناطة ما فعل النصارى بإخوانهم المسلمين هاجت الرعية وقالوا: لا صبر لنا على هذه المصيبة العظمى ولا خير لنا في عيش بعد هذه النكبة الكبرى، إما أن نفك إخواننا أو نموت دونهم، فاجتمعوا مع الأمير أبي الحسن ووزيره فجعل الأمير والوزير يعجِّزانهم عن المسير ويتربصان بهم ويقولان لهم اصبروا حتى نأخذ أُهبَتَنا ونعمل على حال الحرب، فلم تزل بهم العامة حتى أخرجوهما فتقدم صدر الجيش فوجدوا النصارى قد أخرجوا من البلد ما سَبَوا من الرجال والنساء والصبيان والأموال، وقد أوقروا الدواب بذلك وهم عازمون على المسير إلى بلادهم، فلما رأوا خيل المسلمين قد أقبلت عليهم حطوا الأحمال ودخلوا البلد وتحصَّنوا بالأسوار ثم أقبل المسلمون بحملتهم واقتربوا منهم فقاتلوهم قتالًا شديدًا بجِدٍّ وعزم وقلوب محترقة وحزم، حتى دخلوا بعض أبواب المدينة وكسروه وحرقوه وتعلقوا بأسوار البلد وطمعوا في الدخول إليه، فبينما هم كذلك إذ وصل لهم أمر من الأمير أبي الحسن والوزير يأمرانهم فيه بالرجوع عن القتال، فأبى الناس عن الرجوع فقالا لهم: إذا كان غدًا ندخل عليهم أول النهار؛ لأن الليل قد أقبل ودخل علينا فترك الناس القتال ورجعوا إلى محلاتهم، أما النصارى فباتوا يصلحون شأنهم ويمنعون أسوارهم ويغلقون نقابهم، فلما أصبح الصباح ونظر المسلمون إلى البلد فإذا هو على صفة أخرى من المنعة والتحصين والاستعداد، فصَعُب عند ذلك على المسلمين الدخول إليه بل والدنو منه، ومع ذلك عزم المسلمون على حصار البلد والإقامة عليه فأقبلت وفود المسلمين من كل أرض من بلاد الأندلس، واجتمع في ذلك المحل محلة عظيمة وفتحوا الأسواق للبيع والشراء وجلبوا لأسواقهم كل ما يحتاجون إليه من الأطعمة والعلف والزاد وغير ذلك، وحاصروا العدو حصارًا شديدًا ومنعوا عليه الماء والحطب والداخل والخارج، والعامة في ذلك بحزم وعزم وجِدٍّ واجتهاد ونية صادقة وقلوب محترقة، والوزير يعد الناس بالدخول والقتال وعدًا بعد وعد، ويقول عن قريب نأخذهم عطشًا وها نحن نُعمل الحيلة في الدخول عليهم، وكان التقصير والتفريط والغش يبدو منه شيئًا بعد شيء حتى تبين لعامة الناس وخاصتهم ولاح لهم كالشمس، وظنوا بالملك والوزير ظنونَ السوء وكثر الكلام القبيحُ بينهم، فعند ذلك هاج شيطان الفتنة بينهم وتحدث الناس بعضهم مع بعض في مسائل غشِّهما للمسلمين، فبينما الناس كذلك في إساءة ظنهم بأميرهم وبوزيرهم إذا بهما قد استعملا حيلةً وكتبا كتبًا مزورة كأنها أتتهما من بعض من نصحهم من ناحية المسلمين المجاهدين المجاورين لبلاد الكفرة يعلمونَهم بها أن الطاغية ملك النصارى جمع جمعًا عظيمًا وحشد حشودًا كثيرة وعزم على نصرة النصارى المحصورين في بلد الحامة وهو قادم عن قريب، ولا طاقة لكم بملاقاته فحين أعلمهم الوزير بما ذُكر وخوفهم بذلك سُقِط في أيدي الناس فأمرهم حينئذ بالرحيل والإقلاع عن دار الحرب فرحل الناس كرهًا باكين متأسفين بحسرة وفجعة يا لها من حسرة!! وانصرف الناس كل واحد إلى وطنه.

العام الهجري : 902 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1497
تفاصيل الحدث:

هو الإمام العلامة شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي القاهري أصله من سخا من قرى مصر، ولد بالقاهرة في ربيع الأول سنة 831 بحارة مجاورة لمدرسة شيخ الإسلام البلقيني محل أبيه وجده، ثم تحول منه حين دخل في الرابعة مع أبويه لمِلْك اشتراه أبوه مجاور لسكن شيخه ابن حجر، وأدخله أبوه المكتب بالقرب من الميدان عند المؤدب الشرف عيسى بن أحمد المقسي الناسخ، فأقام عنده يسيرًا جدًّا، ثم نقله لزوج أخته الفقيه الصالح البدر حسين بن أحمد الأزهري فقرأ عنده القرآن وصلى بالناس التراويح في رمضان، ثم توجه به أبوه لفقيهه المجاور لسكنه الشيخ المفيد النفاع القدوة المؤدب الشمس محمد بن أحمد النحريري الضرير, ثم لازم شيخه إمام الأئمة الشهاب ابن حجر العسقلاني حيث كان يسمع منه مع والده ليلًا الكثير من الحديث، فكان أول ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمان وثلاثين، وأوقع الله في قلبه محبته فلازم مجلسه وعادت عليه بركته في هذا الشأن فأقبل عليه بكليته إقبالًا يزيد على الوصف؛ بحيث تقلل مما عداه, وداوم الملازمة لشيخه ابن حجر حتى حمل عنه علمًا جمًّا اختص به كثيرًا بحيث كان من أكثر الآخذين عنه، وأعانه على ذلك قُرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر، إما لكونه حمله أو لأن غيره أهم منه وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. ولما علم شيخه ابن حجر شدة حرصه على ذلك كان يرسل خلفه أحيانًا بعض خدمه لمنزله يأمره بالمجيء للقراءة, وكان شيخه يأذن له في الإقراء والإفادة والتصنيف، وصلى به إمامًا التراويح في بعض ليالي رمضان, وتدرب به في طريق القوم ومعرفة العالي والنازل والكشف عن التراجم والمتون وسائر الاصطلاح, وأخذ عنه علم الحديث وبرع فيه، ولم ينفك عن ملازمته ولا عدل عنه بملازمة غيره من علماء الفنون؛ خوفًا على فقده، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية، بل ولا حجَّ إلا بعد وفاة شيخه ابن حجر, ومع ذلك حمل السخاوي عن شيوخ مصر والواردين إليها كثيرًا من دواوين الحديث وأجزائه بقراءته وقراءة غيره في الأوقات التي لا تعارض أوقات شيخه، سيما حين اشتغال شيخه بالقضاء وتوابعه، حتى صار السخاوي أكثر أهل العصر مسموعًا وأكثرهم رواية، ولما عاد السخاوي سنة تسع وتسعين للقاهرة من الحج للمرة السادسة والمجاورة في المدينة انجمع عن الناس وامتنع من الإملاء لمزاحمة من لا يحسن فيها وعدم التمييز من جُل الناس أو كلهم, وراسل إلى من لامه على ترك الإملاء بما نصه: "إنه ترك ذلك عند العلم بإغفال الناس لهذا الشأن؛ بحيث استوى عندهم ما يشتمل على مقدمات التصحيح وغيره من جمع الطرق التي يتبين بها انتفاء الشذوذ والعلة أو وجودهما، مع ما يورد بالسند مجردًا عن ذلك، وكذا ما يكون متصلًا بالسماع مع غيره, وكذا العالي والنازل والتقيد بكتاب ونحوه مع ما لا تقيد فيه إلى غيرها، مما ينافي القصد بالإملاء وينادي الذاكر له العامل به على الخالي منه بالجهل". كما أنه التزم ترك الإفتاء مع الإلحاح عليه فيه حين تزاحم الصغار على ذلك واستوى الماء والخشبةَ، سيما وإنما يعمل بالأغراض، بل صار يكتُب على الاستدعاءات وفي عرض الأبناء من هو في عدادِ من يلتمس له ذلك حين التقيد بالمراتب والأعمال بالنيات، وقد سبقه للاعتذار بنحو ذلك شيخ شيوخه الزين العراقي وكفى به قدوة، بل وأفحش من إغفالهم النظر في هذا وأشد في الجهالة إيراد بعض الأحاديث الباطلة على وجه الاستدلال وإبرازها حتى في التصانيف والأجوبة، كل ذلك مع ملازمة الناس له في منزله للقراءة دراية ورواية في تصانيفه وغيرها، بحيث خُتم عليه ما يفوق الوصف من ذلك، وأخذ عنه من الخلائق من لا يُحصى" وقد حدث خلاف بين السخاوي ومعاصره جلال الدين السيوطي، وهو من خلاف الأقران الذي لا يُقبَل فيه نقد أحدهما في الآخر مع جلالة قدر كل منهما في علمه وعمله في خدمة العلم وأهله. وللسخاوي مصنفات كثيرة جدًّا منها ترجمة لشيخه ابن حجر في كتاب سماه الجوهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، والقول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع، والمقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة، وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي، ووجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام، والضوء اللامع في أخبار أهل القرن التاسع، واستجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول وذوي الشرف، وغيرها من الكتب والسؤالات المدونة له. توفي بالمدينة عصر يوم الأحد 28 من شعبان سنة 902 (1497م) وهو في الحادية والسبعين من عمره، ودُفِن بالبقيع بجوار الإمام مالك.