سار السُّلطانُ ألب أرسلان من الرَّيِّ إلى أذربيجان، فوَصلَ إلى مرند عازِمًا على قِتالِ الرُّومِ وغَزْوِهِم، فلمَّا فَرَغَ مِن جَمعِ العساكرِ والسُّفُنِ سار إلى بلادِ الكرج، وجَعلَ مَكانَه في عَسكرِه وَلَدَهُ ملكشاه، ونِظامَ المُلْكِ وَزيرَه، فسار ملكشاه ونِظامُ المُلْكِ إلى قَلعةٍ فيها جَمعٌ كَثيرٌ مِن الرُّومِ، فنَزلَ أَهلُها منها، وتَخَطَّفُوا من العَسكرِ، وقَتَلوا منهم فِئَةً كَثيرةً، فنَزلَ نِظامُ المُلْكِ وملكشاه، وقاتَلوا مَن بالقَلعةِ، وزَحَفوا إليهم، فقُتِلَ أَميرُ القَلعةِ ومَلَكَها المُسلِمون، وساروا منها إلى قَلعةِ سرماري، وهي قَلعةٌ فيها من المِياهِ الجاريةِ والبَساتين، فَقاتَلوها ومَلَكوها، وأَنزَلوا منها أَهلَها، وكان بالقُربِ منها قَلعةٌ أُخرى، ففَتَحَها ملكشاه، وأَرادَ تَخريبَها، فنَهاهُ نِظامُ المُلْكِ عن ذلك، وقال: هي ثَغْرٌ للمُسلِمين، وشَحَنَها بالرِّجالِ والذَّخائِر والأَموالِ والسِّلاحِ، وسَلَّمَ هذه القِلاعَ إلى أَميرِ نقجوان، وسار ملكشاه ونِظامُ المُلْكِ إلى مَدينةِ مريم نشين، وهي مَدينةٌ حَصينَةٌ، سُورُها مِن الأَحجارِ الكِبارِ الصَّلْبَةِ، المَشدُودةِ بالرَّصاصِ والحَديدِ، وعندَها نَهْرٌ كَبيرٌ، فأَعَدَّ نِظامُ المُلْكِ لِقِتالِها ما يَحتاجُ إليه من السُّفُنِ وغَيرِها، وقاتَلَها، فضَجِرَ الكُفَّارُ، وأَخذَهم الإعياءُ والكَلالُ، فوَصلَ المسلمون إلى سُورِها، ونَصَبوا عليه السَّلاليمَ، وصَعَدوا إلى أَعلاهُ، فلمَّا رأى أَهلُها المسلمين على السُّورِ فَتَّ ذلك في أَعضادِهِم، وسُقِطَ في أيديهِم، ودَخلَ ملكشاه البلدَ، ونِظامُ المُلْكِ، وأَحرَقوا البِيَعَ، وخَرَّبوها، وقَتَلوا كَثيرًا من أَهلِها، وأَسلمَ كَثيرٌ فنَجَوْا من القَتلِ، واستَدعَى ألب أرسلان إليه ابنَه، ونِظامَ المُلْكِ، وفَرِحَ بما يَسَّرَهُ الله من الفَتحِ على يَدِ وَلَدِه. وفَتَحَ ملكشاه في طَريقِه عِدَّةً من القِلاعِ والحُصونِ، وأَسَرَ من النَّصارَى ما لا يُحصَونَ كَثْرَةً. وساروا إلى سبيذ شهر، فجَرَى بين أَهلِها وبين المسلمين حُروبٌ شَديدةٌ استُشهِدَ فيها كَثيرٌ من المسلمين، ثم إنَّ الله تعالى يَسَّرَ فَتْحَها فمَلَكَها ألب أرسلان، وسار منها إلى مَدينةِ أعآل لآل، وهي حَصينةٌ، عاليةُ الأَسوارِ، شاهِقةُ البُنيانِ، وهي من جِهَةِ الشَّرقِ والغَربِ على جَبلٍ عالٍ، وعلى الجَبلِ عِدَّةٌ من الحُصونِ، ومن الجانِبينِ الآخرينِ نَهْرٌ كَبيرٌ لا يُخاض، فلمَّا رآها المسلمون عَلِموا عَجزَهم عن فَتْحِها والاستيلاءِ عليها، وكان مَلِكُها من الكرج، وعَقَدَ السُّلطانُ جِسْرًا على النَّهْرِ عَريضًا، واشتَدَّ القِتالُ، وعَظُمَ الخَطْبُ، فخَرَجَ من المدينةِ رَجُلانِ يَستَغيثانِ، ويَطلُبانِ الأَمانَ، والتَمَسا من السُّلطانِ أن يُرسِلَ معهما طائفةٌ من العَسكرِ، فسَيَّرَ جَمْعًا صالحًا، فلمَّا جاوَزُوا الفَصِيلَ أَحاطَ بهم الكرجُ من أَهلِ المدينةِ وقاتَلوهُم فأَكثَروا القَتْلَ فيهم، ولم يَتمَكَّن المسلمون من الهَزيمَةِ لِضِيقِ المَسْلَكِ، وخَرجَ الكَرجُ من البَلدِ وقَصَدوا العَسكرَ، واشتَدَّ القِتالُ، وكَبَّرَ المسلمون عليهم، فوَلَّوْا مُنهَزِمينَ، فدخلوا البلدَ والمسلمون معهم، ودَخلَها السُّلطانُ ومَلَكَها، واعتَصمَ جَماعةٌ من أَهلِها في بُرْجٍ من أَبراجِ المدينةِ، فقاتَلهُم المسلمون، فأَمَرَ السُّلطانُ بإلقاءِ الحَطَبِ حَولَ البُرجِ وإحراقِه، ففعل ذلك، وأَحرَق البُرجَ ومَن فيه، وعاد السُّلطانُ إلى خِيامِه، وغَنِمَ المسلمون من المدينةِ ما لا يُحَدُّ ولا يُحصَى، ولمَّا جَنَّ اللَّيلُ عَصَفَت رِيحٌ شَديدةٌ، وكان قد بَقِيَ من تلك النَّارِ التي أَحرَق بها البُرجَ بَقِيَّةٌ كَثيرةٌ، فأَطارَتها الرِّيحُ، فاحتَرقَت المَدينةُ بأَسْرِها، وذلك في رجب، ومَلَكَ السُّلطانُ قَلعةً حَصينةً كانت إلى جانبِ تلك المدينةِ، وأَخذَها، وسار منها إلى ناحيةِ قرس، ومدينة آني وبالقُربِ منها ناحيتان يُقال لهما: سيل ورده، ونورة، فخَرجَ أَهلُهما مُذعِنينَ بالإسلامِ، وخَرَّبوا البِيَعَ، وبَنوا المساجِدَ، وسار منها إلى مَدينةِ آني فوَصلَ إليها فرآها مَدينةً حَصينةً، شَديدةَ الامتِناعِ، لا تُرام، ثلاثةُ أَرباعِها على نَهرِ أرس، والرُّبعُ الآخرُ نَهْرٌ عَميقٌ شَديدُ الجَرْيَةِ، لو طُرِحَت فيه الحِجارةُ الكِبارُ لدَحاها وحَملَها، والطَّريقُ إليها على خَندقٍ عليه سُورٌ من الحِجارةِ الصُّمِّ، فحَصَرَها وضَيَّقَ عليها، إلا أنَّ المسلمين قد أَيِسُوا من فَتْحِها لِمَا رَأَوا من حَصانَتِها، فعَمِلَ السُّلطانُ بُرْجًا من خَشَبٍ، وشَحَنَهُ بالمُقاتِلَةِ، ورَماهُ بالنُّشَّابِ، ونَصَبَ عليه المِنْجَنيقَ، فكَشَفوا الرُّومَ عن السُّورِ، وتَقدَّم المسلمون إليه لِيَنقُبوهُ، فأَتاهُم مِن لُطْفِ الله ما لم يكُن في حِسابِهم، فانهَدَمت قِطعةٌ كَبيرةٌ من السُّورِ بغيرِ سَبَبٍ، فدَخَلوا المدينةَ وقَتَلوا من أَهلِها ما لا يُحصَى بحيث إنَّ كَثيرًا من المسلمين عَجَزوا عن دُخولِ البلدِ من كَثرةِ القَتلى، وأَسَروا نَحوًا مما قَتَلوا، وسارت البُشرَى بهذه الفُتوحِ في البلادِ، فسُرَّ المسلمون، وقُرِئ كِتابُ الفَتْحِ ببغداد في دارِ الخِلافةِ، ورَتَّبَ فيها السُّلطانُ أَميرًا في عَسكرٍ جَرَّارٍ، وعاد عنها، وقد راسَلهُ مَلِكُ الكرجِ في الهُدْنَةِ، فصالَحَهُ على أَداءِ الجِزْيَةِ كلَّ سَنَةٍ، فقَبِلَ ذلك.
هو العلَّامةُ فيلسوف الوقت، أبو الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن شيخ المالكيَّة أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي. حفيدُ العلَّامة ابن رشد الفقيه المتوفى سنة 520، وُلِدَ سنة عشرين قبل وفاة جده العلامة بشهر واحد. درس الفقه والأصول حتى برَعَ فيه وأقبل على عِلمِ الكلام والفلسفة وعلوم الأوائل، حتى صار يُضرَبُ به المثَلُ فيها. واشتغل بالطبِّ والرياضيات. كان ذكيًّا رَثَّ البَزَّة، قَوِيَّ النفس، أوحَدَ زمانه في علم الفقه والخلاف. نُفِيَ إلى بلاد المغرب بسبب اشتغالِه بالفلسفة، وله كُتُب في الفقه والأصول واللغة، كان شديدَ الإعجاب بأرسطو. ألفَّ ابن رشد كتابًا رَدَّ فيه على كتابِ الغزالي (تهافُت الفلاسفة) مدافعًا فيه عن آراء الفلاسفة، وله كتابُ جوامع كتب أرسطوطاليس، وله في الطب كتاب الكليَّات في وظائف الجسم ومنافعها، وكتاب شرح أرجوزة ابن سينا في الطب، وله كتب أخرى في الفقه، مثل التحصيل، وله الكتاب المشهور بداية المجتهد ونهاية المقتصد، قال عنه الذهبي: "كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه، عَلَّلَ فيه ووَجَّه، ولا نعلَمُ في فنه أنفَعَ منه، ولا أحسَنَ مَساقًا"، وله كتابُ الكشف عن الأدلة في عقائد الملة، الذي رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية. نقل الذهبي عن ابن الأبار الأندلسي أنه قال: "لم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعِلمًا وفَضلًا. قال: وكان متواضِعًا، منخفِضَ الجناح، عُنِيَ بالعلم حتى حُكِيَ عنه أنه لم يترك النظَرَ والقراءة مذ عَقِلَ إلَّا ليلة وفاة أبيه وليلة عُرسِه، وأنه سوَّدَ فيما صَنَّف وقَيَّد, واختصر نحوًا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الأوائل، فكانت له فيها الإمامةُ دون أهل عصره. وكان يُفزَعُ إلى فُتياه في الطب كما يُفزَعُ إلى فتياه في الفقه، مع الحظِّ الوافِرِ مِن العربية, وقيل: كان يحفَظُ ديوان حبيب والمتنبي". قال الذهبي: قال ابن بشكوال: "كان ابن رشد فقيهًا عالِمًا، حافِظًا للفقهِ، مُقَدَّمًا فيه على جميع أهل عصره، عارفًا بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، بصيرًا بأقوالهم، نافذًا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسةِ في العلم والبراعة والفهم، مع الدِّينِ والفضل والوَقار والحلم، والسَّمت الحَسَن والهَدْي الصالح" وليَ قضاء قرطبة بعد أبي محمد بن مغيث، فحُمِدَت سيرته وعَظُم قَدْرُه. قال شيخ الشيوخ تاج الدين: "لَمَّا دخلتُ إلى البلاد سألتُ عنه، فقيل: إنه مهجورٌ في داره من جهةِ المنصور يعقوب الموحدي، ولا يدخُلُ أحَدٌ عليه، ولا يخرج هو إلى أحَدٍ. فقيل: لم ؟ قالوا: رُفِعَت عنه أقوالٌ رَدِيَّة، ونُسِبَ إليه كثرةُ الاشتغال بالعلوم المهجورة من علوم الأوائل. ومات وهو محبوسٌ بداره بمراكش ". اعتقله السلطانُ المنصور يعقوب وأهانه، ثم أعاده إلى الكرامةِ، استدعاه واحتَرَمه وقَرَّبَه، حتى تعدى به الموضِعَ الذي كان يجلِسُ فيه الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي، ثم بعد ذلك نَقِمَ عليه لأجل الحِكمة واشتغالِه بالفلسفة, ومات محبوسًا بداره بمراكش، ومات السلطان المنصورُ بعده بشهر.
ظهر محمَّدُ بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، بالطالقان من خراسان، يدعو إلى الرضا من آل محمَّد، وكان ابتداءُ أمرِه أنَّه كان ملازمًا مسجدَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حسَنَ السِّيرةِ، فأتاه إنسانٌ من خراسان كان مجاورًا، فلما رآه أعجَبَه طريقُه، فقال له: أنت أحَقُّ بالإمامةِ مِن كُلِّ أحَدٍ، وحَسَّنَ له ذلك وبايعه، وصار الخُراساني يأتيه بالنَّفَرِ بعد النفر مِن حُجَّاجِ خُراسان يبايعونه، فعل ذلك مُدَّةً. فلما رأى كثرةَ مَن بايعه من خراسانَ سارا جميعًا إلى الجوزجان، واختفى هناك، وجعل الخراساني يدعو النَّاسَ إليه، فعَظُم أصحابُه، وحمله الخراسانيُّ على إظهارِ أمْرِه، فأظهره بالطالقان، فاجتمع إليه بها ناسٌ كثير، وكانت بينه وبين قوَّادِ عبدِ الله بن طاهر وقَعاتٌ بناحيةِ الطالقان وجبالِها، فانهزم هو وأصحابه، وخرج هاربًا يريدُ بعضَ كور خراسان، وكان أهلُها كاتبوه، فلما صار بنسا، وبها والدُ بعضِ مَن معه، فلمَّا بَصُرَ به سأله عن الخبَرِ فأخبره، فمضى الأبُ إلى عامِلِ نسا فأخبَرَه بأمر محمد بن القاسم، فأعطاه العامِلُ عشرةَ آلاف درهم على دَلالَتِه، وجاء العامِلُ إلى محمد، فأخذه واستوثَقَ منه، وبعثه إلى عبدِ الله بن طاهر، فسيَّرَه إلى المعتصم، فحُبِسَ عند مسرور الخادمِ الكبير، وأجرى عليه الطَّعامَ، ووكَلَ به قومًا يحفَظونَه، فلمَّا كان ليلةُ الفطرِ اشتغلَ النَّاسُ بالعيد، فهرب من الحبسِ، دُلِّيَ إليه حبلٌ مِن كوَّة كانت في أعلى البيتِ، يدخل عليه منها الضوءُ، فلما أصبحوا أتَوْه بالطعام، فلم يَرَوه، فجعلوا لِمَن دلَّ عليه مائة ألفٍ، فلم يُعرَف له خبَرٌ.
هو عُمَرُ بنُ حَفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش بن أذفونش القس, وينتمي عمر بن حفصون لأسرة من المولَّدين قوطيَّة الأصل, فجَدُّه الأعلى وقت الفتح هو القِسُّ ألفونسو، وأوَّلُ من أسلَمَ مِن أسرته هو جدُّه الرابع جعفر, وابنُ حفصون هو رأس الخوارجِ بجزيرة الأندلس, وأحدُ أشهَرِ معارضي سُلطة الدولة الأمويَّة في الأندلس، وكاد أن يغلِبَ على الأندلس، وأتعبَ السَّلاطينَ، وطال أمرُه، وعظُم البلاءُ به، وكان جَلْدًا شُجاعًا فاتكًا، وكان يتحصَّن بقلعةٍ منيعةٍ في جبل ببشتر، فتح باب الشِّقاقِ والخلاف في الأندلس، نُعِت باللَّعينِ والخبيثِ ورأسِ النفاق، أوَّل ما ثار على الأمير محمد بن عبد الرحمن عام 270 واستفحل أمرُه، ثمَّ أظهر النصرانيَّة سنة 286 فاتَّصلَت عليه المغازي. أظهَرَ الطاعات مراتٍ وقُوبِلَ بالعفوِ، ولكنه لم يلبَثْ أن يتمَرَّدْ مَرَّةً أخرى، وكان عُبيد اللهِ الفاطمي العُبَيدي اعترف به وبزعامته وأمَدَّه بالذخائرِ والأسلحة ودعا له في المساجدِ؛ كلُّ ذلك أملًا منه أن ينضمَّ للفاطميِّينَ، عاصَرَ ابنُ حفصون في ثورته أربعةً مِن الأمراء الأمويين، بدأ في عهدِ الأمير محمد بن عبد الرحمن وحتى عهد عبد الرحمن الناصر لدين الله، وسيطر خلالَها على مناطِقَ كبيرةٍ في جنوبِ الأندلس، ولاقت حركتُه ترحيبًا من أعداد كثيرةٍ مِن سُكَّانِ تلك المناطِقِ من المولَّدين والمُستعربين، وقاومتها سُلُطاتُ الدولة بحزمٍ إلى أن أنهى عبدُ الرحمن الناصِرُ لدين الله حركةَ ابن حفصون وخلفائِه تمامًا عام 316، بعد عشرِ سَنواتٍ على وفاة عُمَرَ بنِ حفصون نفسِه, ولما توفِّيَ خَلَفَه ابنُه سُلَيمانُ.
هو الحافِظُ العلَّامة البارع، فتحُ الدين بن أبي الفتح محمد بن الإمام أبي عمرو محمد بن الحافظ أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس الربعي اليعمري الإشبيلي ثم المصري، وُلِدَ في العشر الأُوَل من ذي الحجة سنة 671، كان حافِظًا بارعًا أديبًا بليغًا مُتَرَسِّلًا، حَسَن المحاوَرةِ لَطيفَ العبارة، فصيحَ الألفاظ كامِلَ الأدوات لا تُمَلُّ مُحاضَرتُه، كريم الأخلاق زائِدَ الحياء، حسَن الشكل والعمَّة، وهو من بيتِ رياسة وعلم، وسَمِعَ الكثير وأجاز له الروايةَ عنهم جماعاتٌ من المشايخ، ودخل دمشقَ سنة تسعين فسَمِعَ من الكندي وغيره، واشتغل بالعِلمِ فبرع وساد أقرانَه في علوم شتى من الحديث والفقه والنحو من العربية، وعِلْم السير والتواريخ، وغير ذلك من الفنون، وقد جمع سيرةً حَسَنةً في مجَلَّدين المعروف باسم: عيون الأثر في فنون المغازي والسِّيَر، وشرح قطعة حسنة من أوَّلِ جامعِ التِّرمذي المعروف باسم النفح الشَّذِي في شرح جامع الترمذي، وله الشِّعرُ الرائق والفائق، والنَّثر الموافق، والبلاغةُ التامة، وحسن الترصيف والتصنيف، وله العقيدةُ السلفيَّة الموضوعة على الآيِ والأخبار والآثار والاقتفاء بالآثار النبوية، وله مدائِحُ في رسول الله صلى الله عليه وسلم حِسانٌ، منها: كتاب بشرى اللبيب في ذكر الحبيب، وله كتاب تحصيل الإصابة في تفضيل الصحابة، وكان شيخَ الحديثِ بالظاهرية بمصر، ولم يكُنْ في مصر في مجموعها مثلُه في حفظ الأسانيدِ والمتون والعِلَل والفِقهِ والمُلَح والأشعار والحكايات، توفِّيَ فجأة يوم السبت حادي عشر شعبان، وصلِّيَ عليه من الغد، وكانت جنازتُه حافلة.
لما دخل السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي إلى فاس سنة 956 وقبض على بني وطاس بها، فرَّ أبو حسون- أخو السلطان أبي العباس أحمد الوطاسي- إلى ثغر الجزائر حقنًا لدمه ومستعينًا بالعثمانيين على السعدي، وكان العثمانيون قد استولوا على المغرب الأوسط وانتزعوه من يد بني زيان، فلم يزل أبو حسون عندهم يفتلُ لهم في الغارات والسنام ويحسِّنُ لهم بلاد المغرب الأقصى ويعظِّمُها في أعينهم ويقول: "إن المتغلِّبَ عليها قد سلبني ملكي ومُلك آبائي، وغلبني على تراث أجدادي، فلو ذهبتم معي لقتاله لكنَّا نرجو الله تعالى أن يتيحَ لنا النصر عليه ويرزُقَنا الظَّفَر به ولا تعدِمونَ أنتم مع ذلك منفعةً مِن ملء أيديكم غنائِمَ وذخائِرَ". ووعدهم بمال جزيل فأجابوه إلى ما طلب وأقبلوا معه في جيشٍ كثيف تحت راية الباشا صالح التركماني المعروف بصالح رئيس، إلى أن اقتحموا حضرةَ فاس بعد حروب عظيمة ومعاركَ شديدة، وفَرَّ عنها محمد الشيخ السعدي إلى منجاتِه، وكان دخول السلطان أبو حسون إلى فاس ثالثَ صفر من هذه السنة, ولما دخلَها فرح به أهلُها فرحًا شديدًا، وترجل هو عن فرسه وصار يعانقُ الناس؛ كبيرًا وصغيرًا، شريفًا ووضيعًا، ويبكي على ما دهمَه وأهلَ بيته من أمر السعديين، واستبشر الناسُ بمقدَمِه وتيمَّنوا بطلعتِه، وقُبض على كبير فاس يومئذ القائد أبي عبد الله محمد بن راشد الشريف الإدريسي, واطمأنت بالسلطان أبي حسون الدارُ، ثم لم يلبث إلا يسيرًا حتى كثرت شكايةُ الناس إليه بالترك وأنهم مدُّوا أيديَهم إلى الحريم وعاثوا في البلاد، فبادر أبو حسون بدفع ما اتَّفق مع الترك عليه من المال وأخرجَهم عن فاس.
تُوفيَ الداعيةُ الإسلاميُّ الشهيرُ أحمد ديدات، بعد أنْ قَضى سنواتٍ عديدةً على فراش المرضِ، في مدينة (ديربان)، وكان قد قدَّم خِدْماتٍ جليلةً للإسلام في مجال الدعوة إلى الله، واشتَهَر بمناظراتِه للنصارى، ومحاضراتِه حولَ تناقُض الإنجيل (الموجود حاليًّا بين أيدي النصارى)، ممَّا أدَّى إلى إسلام عدد كبيرٍ على يدَيْه، وأُصيب الشيخ ديدات بمرض عُضالٍ منذُ عام 1996م، أجبره على لزوم الفراش، وقد أحدث دويًّا هائلًا في الغرب بمناظراتِه الشهيرةِ التي ذاعت منذُ منتصف الثمانينيَّات مع القِسِّ جيمي سوكرت عامَ 1981م، وما زال صداها يتردَّدُ حتى اليوم، ممَّا دفع الكنيسةَ ومراكزَ الدراسات التابعة لها، والعديدَ من الجامعات في الغرب لتخصيص قسم خاصٍّ من مكتباتها لمناظرات ديدات، وكتبه، وإخضاعها للبحث والدراسة، ورغم إصابة الداعية الكبير بشلل تامٍّ في كلِّ جسدِه -عدا دماغه- ولزومه الفراش منذُ عام 1996م، فإنَّ ديدات واصَلَ دعوتَه من خلال الرسائل، والتي تتدفَّق عليه يوميًّا من جميع أنحاء العالمِ، ويصِلُ في المتوسط إلى 500 رسالةٍ يوميةٍ، سواءٌ بالهاتف، أو الفاكس، أو عبرَ الإنترنت، والبريد، وأسَّس الشيخُ المركزَ العالميَّ للدعوة الإسلامية في ديربان، ووزَّع من خلاله أكثرَ من 20 مليونِ نُسخةٍ من كتبه، وأشرطتِه السمعية مجانًا، وقد دخل في الإسلام المئات من أبناء بلده جنوب أفريقيا، بينهم عددٌ كبيرٌ من المُنَصِّرين بفضلِ اللهِ تعالى، ثم بفضلِ مجهوداته في مجال الدعوة، ومن أهمِّ كُتبِه: ((الاختيار بين الإسلام والمسيحية))، وكتاب ((هل الكتاب المقدَّس كلام الله؟))، و((القرآن معجزة المعجزات))، و((ماذا يقول الكتاب المقدَّس عن محمد؟))، و((مسألة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء)).
هو أبو عليِّ الحسَنُ بنُ أحمد بن عبد الغَفَّار بن سليمان (أبو عليٍّ الفارِسيُّ) أحدُ عُلَماء العربيَّة المعدودينَ، وُلِدَ ببلده فسا, وقَدِمَ بغداد فاستوطَنَها، وكان فيه اعتزالٌ. عَلَت منزلتُه في النحوِ، حتى قال قومٌ مِن تلامذته هو فَوقَ المُبَرِّد، وأعلَمُ منه، وصنَّفَ كُتبًا عجيبةً حسَنة، لم يُسبَقْ إلى مثلِها، منها كتاب "الإيضاح" وكتاب "التكملة" في النحو. واشتهر ذِكرُه في الآفاق، وبَرَع له غِلمانٌ حُذَّاقٌ، مثل: عُثمانَ بنِ جِنِّيٍّ، وعليِّ بنِ عيسى الشيرازي، وغيرهما، وتقدَّمَ عند عَضُد الدولة وقال عنه: "أنا غلامُ أبي عليٍّ النَّحويِّ في النحوِ". توفي ودفن بالشونيزيه، وقد عاش 89 سنة.
كان إبراهيمُ بن محمَّدِ بن عَلِيٍّ زَعيمُ الدَّعوة العَبَّاسِيَّة قد سَجنَه مَرْوانُ ثمَّ قَتلَه، واخْتُلِف في كَيفيَّة ذلك، ثمَّ استَلَم بعدَه أَخوهُ المُلَقَّب بالسَّفَّاح عبدُ الله أبو العَبَّاس الذي تَوجَّه إلى الكوفَة فبُويِعَ له بالخِلافَة، وكانت خُراسان قد أُخْضِعَت أصلًا سابِقًا للعبَّاسِيِّين.
جاء جَرادٌ في شَعبانَ بعَددِ الرَّملِ والحَصَا، فأَكلَ الغَلَّاتِ وآذَى الناسَ، وجاعوا فطُحِنَ الخَرُّوبُ بِدَقيقِ الدُّخْنِ فأَكلوهُ، ووَقعَ الوَباءُ، ثم مَنعَ اللهُ الجَرادَ من الفَسادِ، وكان يَمُرُّ ولا يَضُرُّ، فرَخُصَت الأَسعارُ، ووَقعَ غَلاءٌ شَديدٌ بدِمشق واستَمرَّ ثلاثَ سِنين.
طَلَبَ يوسفُ بن تاشفين من الخَليفَةِ العبَّاسيِّ المُستَظهِر بالله أن يُقَلِّدَهُ البِلادَ التي فَتحَها وبَعثَ إليه بهذا الطَّلَبَ مع عبدِالله بن العربي الإشبيلي ووَلَدِه القاضي أبي بكرِ بن العربي الإمامِ المَشهورِ، فعَهِدَ الخَليفةُ لابنِ تاشفين بما طَلَبَ.
لمَّا مَلَكَ بركيارق بعدَ أَبيهِ وكان ما كان مِن قِتالِه مع عَمِّهِ تتش، ومُحاولَةِ بَعضِ العَسكرِ بالتَّحريضِ أن يَكحَلوهُ ويَسمُلوا عَينَيهِ فنَجَّاهُ الله من ذلك، ثم إنه مَرَضَ بالجُدَرِي وعاد عَمُّهُ لقِتالِه ثم شُفِيَ وقَتَلَ عَمَّهُ فأَصبحَ يَعلُو كَعبُه ويَقوَى شَأنُه ويَستَفحِل أَمرُه.
هو المَلِكُ عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود آل مقرن: مَلِكُ المملكة العربية السعودية، ومؤسِّسُ الدولة السعودية الثالثة، وأحدُ رجالاتِ العَصرِ. وُلِدَ في الرياض عام 1293هـ / 1876م، ودَولةُ آبائِه في ضَعفٍ وانحلال، وصَحِبَ أباه في رحلته إلى البادية، يطارده محمد بن عبد الله ابن رشيد، واستقَرَّ مع أبيه في "الكويت" سنة 1309ه (1891 م) وشبَّ فيها. وشنَّ الغارات على آل رشيد وأنصارهم. وفاجأ عامِلَ ابن رشيد في الرياض بوثبةٍ فاستولى عليها سنة 1319ه / 1902م، وضَمَّ إلى الرياض الخرج، والمحمل، والشعيب، والوشم، والحوطة والأفلاج ووادي الدواسر. واستولى على بلاد القصيم سنة 1324هـ, شَكَّل قواتِ الإخوان (إخوان من أطاع الله) العسكرية من خلال نظامِ الهجر التي كان لها أكبَرُ الأثر في إتمامه لتوحيد الجزيرة العربية، فأخضَعَ آل عائض أمراء عسير في الجنوب، وأزال إمارة آل رشيد في الشمال سنة 1340هـ. وكانت بينه وبين الشريف حسين بن علي أحداثٌ انتهت بالقضاء على دولة الهاشميين في الحجاز سنة 1343ه / 1925م فنودي به مَلِكًا على الحجاز وسلطانًا لنَجدٍ، وكان مِن قَبلُ يلقَّب بالأمير أو السلطان والإمام. ثار عليه بعضُ كبار قادة الإخوان فقضى على قوَّتِهم في معركة السبلة، ثم برزت فتنة "ابن رفادة" في الشمال فتمَكَّنَ مِن القضاء عليها. وفي سنة 1351ه / 1932م أعلن توحيدَ الأقطار الخاضعة له، وتسميتها "المملكة العربية السعودية"، ولم يشغَلْه خوضُ المعارك وتجهيزُ الجيوش وقمع الفتن عن تنظيم بلاده، وسنِّ ما يلائِمُها من النظم الحديثة، وإنشاء العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول العربية والأجنبية. واكتُشِف البترول في عهده، وكانت الدولة محدودةَ الموارد، فانتعَشَت واتجهت إلى العمران، وحلَّ الأمنُ محَلَّ الخوف في الصحاري والحواضر. وحوَّل كثيرًا من أهل الخيام إلى سكَّان قرى، وأوصل مملكتَه المترامية الأطراف بشبكاتٍ لاسلكيةٍ. وأتى بكثير من الطائرات التي سهَّلت على الناس التنقُّل، وأنشأ موانئَ وعبَّد طرُقًا. وأعفى الحجَّاجَ مِن الرُّسوم. واستكثَرَ من الأطباء والزراعيين والمدرسين، وأرسل بعثاتٍ من أبناء الحجاز ونجد إلى البلدان القريبة والبعيدة؛ لتلَقِّي العِلمِ في جامعاتها, ثم وافاه الأجَلُ رحمه الله بعد أن قضى في الملك قرابة 54 سنة، وكان قد عيَّنَ ابنَه الكبير سعودًا وليًّا للعهد، فتسَلَّمَ زِمامَ المُلكِ بعد وفاة أبيه.
دَعَا أَشْرَسُ بن عبدِ الله السُّلَمِي نائِبُ خُراسان أَهلَ الذِّمَّة بِسَمَرْقَنْد ومَن وَراء النَّهْر إلى الدُّخولِ في الإسلامِ، ويَضَع عنهم الجِزْيَة فأَجابوه إلى ذلك، وأَسلَم غالبُهم، ثمَّ طالَبَهم بالجِزْيَة فنَصَبوا له الحَرْب وقاتَلوه، ثمَّ كانت بينه وبين التُّرْك حُروبٌ كَثيرَة.