هو الشيخُ صفيُّ الدين إسحاقُ بن جبريل الأرْدَبيلي، ويقال: إنَّ نسبَه يرجعُ إلى موسى الكاظم, وهو مؤسِّسُ الطريقة الصفويَّة. ولِدَ صفيُّ الدين بأردبيل سنة 650. درس في مطلع ِحياتِه العلومَ الدينيَّةَ والعقليَّةَ في أردبيل. ثم صار واعظًا صوفيًّا في مدينة أردبيل، ثم أسَّس فرقةً صوفيةً تُسمَّى الإخوان، وقد كثُرَت هذه الفرقةُ في إقليم أذربيجان, ولَمَّا أدركته الجذبة- الجذبُ: مصطلحٌ صوفي يعني: حالًا من أحوالِ النفس يغيبُ فيها القلبُ عن عِلمِ ما يجري من أحوالِ الخَلقِ، ويتصِلُ فيها بالعالَمِ العلويِّ- رحل إلى شيراز، فنزل بخانقاه الشيخِ خفيفِ الشيرازي، واشتغل هناك مُدَّةً، ولقيَ الشيخَ سعدي الشيرازي، فاستفاد منه وسمع هناك خبَرَ الشيخِ زاهد الكيلاني، فقصد الرحلةَ إليه، فأخذ عنه الطريقةَ القادريَّةَ، ثمَّ عاد إلى بلَدِه، ثم إليه واشتغَلَ في خدمة الشيخ تاج الدين الكردي من أصحابِه مدةً إلى أن بلغ رتبةَ الإرشادِ وتزوَّج ابنتَه، ثم أجاز له بالرجوعِ إلى وطنه، فعاد وجلس على سجادة الإرشاد، فأقبل عليه أهلُ السلوك واجتمع عنده جمعٌ كثيرٌ من الأقطار، فبنى زاويةً مشهورةً به. ولَمَّا مَرِضَ شَيخُه بكيلان ذهب إلى عيادته فشَهِدَ جنازتَه وبنى على قبره، ثم عاد وأقام بزاويته مُرشدًا داعيًا مدة ثلاثين سنة، ثم قضى نحْبَه ودُفن بزاويته. وجلس مكانَه ابنُه صدر الدين موسى، وصفيُّ الدين هذا هو جَدُّ الصفويَّة المشهورةِ بقزلباش، وكان كثيرَ الأتباع جدًّا من الدراويش والمُريدين. وقيل: تشَيَّع صفيُّ الدين أو ابنُه صدرُ الدين موسى, وكان أتباعُ صفي الدين من السُّنَّة الشافعية ثم انقلبوا إلى شيعة؛ بسبب شيوخهم صفي الدين وأولاده وأحفاده، وقد قَوِيت طريقة صفي الدين وكثُر أتباعها في زمن أحفاده حتى استطاع أحدُهم وهو إسماعيل بن حيدر أن يتملَّك إيران سنة 907 ويؤسِّس فيها الدولة الصفوية الشيعية. توفي صفي الدين بأردبيل في محرَّم من هذه السنة.
ثار في الشرق من الأندلس رجلٌ من بربر مكناسة، كان يعلِّمُ الصبيان، وكان اسمُه شقنا بن عبد الواحد، وكانت أمُّه تُسمى فاطمة، وادَّعى أنَّه من ولد فاطمةَ رَضِيَ الله عنها، ثم مِن ولَد الحُسين بن علي رضي الله عنهما، وتَسمَّى بعبد الله بن محمَّد، وسكن شنت برية، واجتمع عليه خلقٌ كثير من البربر، وعظُمَ أمرُه، وسار إلى عبد الرحمن الداخِل الأموي فلم يقِف له وراغ في الجبالِ، فكان إذا أمِنَ انبسط، وإذا خاف صَعِدَ الجبال بحيث يصعُبُ طَلبُه، فاستعمل عبد الرحمن على طليطِلة حبيبَ بن عبد الملك، فاستعمل حبيبٌ على شنت برية سليمانَ بنَ عثمان بن مروان بن أبان بن عثمان بن عفان، وأمَرَه بطلب شقنا. فنزل شقنا إلى شنت برية، وأخذ سليمانَ فقتله، واشتدَّ أمرُه، وطار ذِكرُه وغلب على ناحية قورية، وأفسدَ في الأرض فعاد عبد الرحمن الداخل فغزاه في سنة 152 بنفسِه، فلم يثبُتْ له فأعياه أمرُه، فعاد عنه وسيَّرَ إليه سنة ثلاث وخمسين بدرًا مولاه، فهَرَب شقنا وأخلى حصنَه شطران، ثم غزاه عبد الرحمن بنفسِه سنة 154، فلم يثبُتْ له شقنا، ثم سيَّرَ إليه سنة خمس وخمسين أبا عثمان عبيد الله بن عثمان، فخَدَعه شقنا وأفسد عليه جُندَه، فهرب عبيد الله، وغَنِم شقنا عسكرهَ وقتلَ جماعةً من بني أميَّة كانوا في العسكر. وفي سنة خمس وخمسين أيضًا سار شقنا بعد أن غَنِم عسكرَ عُبَيد الله إلى حصن الهواريين المعروف بمدائن، وبه عاملٌ لعبد الرحمن، فمكرَ به شقنا حتى خرج إليه، فقتله شقنا وأخذ خيلَه وسلاحَه وجميعَ ما كان معه، ثم بقي أمرُه مستمرًّا إلى أن اغتالَه بعضُ أصحابه سنة 160
غَضِبَ المتوكِّلُ على ابنِ أبي دؤاد القاضي المعتزليِّ، وكان على المظالمِ، فعَزَله عنها واستدعى يحيى بنَ أكثَمَ، فولاه قضاءَ القُضاةِ والمظالمِ أيضًا. وفي ربيع الأوَّل أمر الخليفةُ بالاحتياطِ على ضِياعِ ابنِ أبي دؤاد، وأخَذَ ابنَه أبا الوليد محمَّدًا فحَبَسه في يوم السبتِ لثلاثٍ خَلَونَ من ربيع الآخر، وأمَرَ بمصادرتِه، فحَمَل مائةَ ألفِ وعشرين ألف دينار، ومن الجواهِرِ. كان ابنُ أبي دؤاد قد أصابه الفالجُ (الشلل النصفي) بعد أن دعا على نفسِه إن لم يكُن الواثِقُ قد قتَلَ أحمدَ بنَ نصرٍ كافرًا, ثم نفى المتوكِّلُ أهلَ ابن أبي دؤاد من سامِرَّا إلى بغداد مُهانين، وفي عيدِ الفطر من هذا العام أمَرَ المتوكِّل بإنزالِ جُثَّة أحمدَ بنِ نصرٍ الخُزاعي والجَمعِ بين رأسِه وجَسَدِه وأن يُسَلَّم إلى أوليائِه، ففَرِحَ النَّاسُ بذلك فرحًا شديدًا، واجتمع في جنازتِه خَلقٌ كثيرٌ جِدًّا، وكان يومًا مَشهودًا, ثمَّ كتب المتوكِّلُ إلى الآفاقِ بالمَنعِ مِن الكلامِ في مسألةِ الكلامِ، والكَفِّ عن القولِ بخَلقِ القرآن، وأنَّ من تعلَّمَ عِلمَ الكلامِ لو تكلَّمَ فيه فالمطبق (سجن من سجون بغداد) مأواه إلى أن يموتَ. وأمر الناسَ ألَّا يشتغِلَ أحدٌ إلَّا بالكتابِ والسنَّةِ لا غيرُ، ثمَّ أظهر إكرامَ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل واستدعاه من بغدادَ إليه، فاجتمع به فأكرمَه وأمَرَ له بجائزةٍ سَنِيَّةٍ فلم يقبَلْها، وخلع عليه خِلعةً سَنيَّةً مِن ملابسِه فاستحيا منه أحمدُ كثيرًا، فلبسها إلى الموضِعِ الذي كان نازلًا فيه، ثمَّ نزعها نزعًا عنيفًا وهو يبكي- رحمه الله تعالى- وارتفَعَت السُّنَّة جِدًّا في أيام المتوكِّل- عفا الله عنه- وكان لا يولِّي أحدًا إلا بعد مشورةِ الإمام أحمد، وكانت ولايةُ يحيى بن أكثم قضاءَ القضاةِ مَوضِعَ ابنِ أبي دؤاد عن مشورتِه، وقد كان يحيى بن أكثَم هذا من أئمَّة السنة، وعُلماء الناس، ومن المعظِّمين للفقه والحديث واتِّباع الأثَر.
دارت مَعركةٌ بين "محمود غازان" سلطانِ الدولةِ الإيلخانية المغوليَّة, والذي أعلن هو وكثيرٌ من التتار دخولَهم في الإسلام سنة 694, و"النَّاصر قلاوون" سلطانُ دولة المماليك، وكانت معركةً هائلةً أسفرت عن انتصار غازان وجنودِه؛ بسَبَبِ تفَوُّقِهم في العِدَّة والعتاد، وتعَرَّض السلطانُ الناصر محمد قلاوون لمؤامرةٍ لخَلعِه, فقد تحرَّك غازان متَّجِهًا إلى بلاد الشام فقَطَع الفرات، وكانت الأخبارُ قد وصلت إلى السلطنةِ وتجهَّزَ العسكرُ مِن مصر ووصل إلى دمشقَ وتجهز عسكر دمشق، ووصلت الأخبارُ أن غازان قد وصل قريبًا من حلب في جيشٍ عظيم، حتى هرب كثيرٌ من أهل حلب وحماة إلى دمشق، ووصل العسكرُ المصري إلى دمشق، ثم خرج السلطانُ بالجيش من دمشق يوم الأحدِ سابع عشر ربيع الأول، ولم يتخَلَّف أحد من الجيوش، وخرج معهم خلقٌ كثير من المتطَوِّعة، فلما وصل السلطانُ إلى وادي الخزندار عند وادي سلمية قريبًا من حمص، التقى مع التَّتَر هناك يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول وتصادما، وقد كَلَّت خيولُ السلطان وعساكِرُه مِن السَّوْق؛ والتحم القتالُ بين الفريقين، وحمَلَت ميسرةُ المسلمين عليهم فكسَرتَهم أقبحَ كَسرةٍ، وقَتَلوا منهم جماعة كثيرة نحو خمسةِ آلاف أو أكثر، ولم يُقتَل من المسلمين إلا اليسير، ثم حملت القلبُ أيضًا حملةً هائلة وصَدَمت العدوَّ أعظمَ صَدمةٍ، وثبت كلٌّ من الفريقين ثباتًا عظيمًا، ثم حصل تخاذلٌ في عسكَرِ الإسلام بعضُهم في بعضٍ؛ بلاءً مِن الله تعالى، - فانهزمت ميمنةُ السلطان بعد أن كان لاح لهم النصرُ، فلا قوةَ إلا بالله، ولما انهزمت الميمنةُ انهزم أيضًا من كان وراء السناجق- الرايات- السلطانية من غير قتالٍ، وألقى الله تعالى الهزيمةَ عليهم فانهزم جميعُ عساكر الإسلام بعد النصر، وساق السلطان في طائفة يسيرةٍ من أمرائه ومدبري مملكتِه إلى نحو بعلبك وترَكوا جميع الأثقال مُلقاةً، فبقيت العُدَد والسِّلاح والغنائم والأثقالُ ملأت تلك الأراضي حتى بقيت الرماحُ في الطرقِ كأنَّها القَصَبُ لا ينظر إليها أحدٌ، ورمى الجندُ خُوذَهم عن رؤوسِهم وجواشنَهم وسلاحَهم تخفيفًا عن الخيلِ لتنجيَهم بأنفسهم، وقصد الجميعُ دمشق، وكان أكثَرُ من وصل إلى دمشق من المنهزمين من طريق بعلبك، ولما بلغ أهلَ دمشق وغيرها كسرةُ السلطانِ عَظُمَ الضجيج والبكاء، وخرجت المخَدَّراتُ حاسراتٍ لا يعرفن أين يذهبن والأطفالُ بأيديهن، وصار كل واحد في شغلٍ عن صاحِبِه إلى أن ورد عليهم الخبَرُ أن ملك التتار قازان مسلِمٌ، وأن غالِبَ جَيشِه على ملَّة الإسلام، وأنهم لم يتْبَعوا المنهزمين، وبعد انفصال الوقعة لم يقتلوا أحدًا ممن وجَدوه، وإنما يأخذونَ سلاحَه ومركوبَه ويُطلِقونه، فسكن بذلك روعُ أهل دمشق قليلًا، ثم صار من وصل إلى دمشق أخذَ أهلَه وحواصِلَه بحيث الإمكان وتوجَّه إلى جهة مصر، وبقي من بقيَ بدمشق في خمدةٍ وحَيرةٍ لا يدرون ما عاقبةُ أمرهم؛ فطائفةٌ تغَلَّب عليهم الخوفُ، وطائفةٌ يترجَّونَ حَقنَ الدماء، وطائفةٌ يترجَّون أكثَرَ من ذلك من عَدلٍ وحُسنِ سيرة.
أمَرَ الحاكِمُ بأمْرِ اللهِ العُبَيديُّ، صاحبُ مِصرَ، بهَدمِ كَنيسةِ قمامة، وهي بالبيتِ المقَدَّس، وتُسَمِّيها العامَّةُ كنيسةَ القيامة، وإليها يحُجُّونَ مِن أقطارِ الأرض، وأمَرَ بهَدمِ البِيَعِ في جميعِ مَملكَتِه، فهُدِّمَت في هذه السَّنَة عِدَّةُ كنائِسَ ببلادِ مِصرَ، ونودِيَ في النَّصارى: من أحَبَّ الدُّخولَ في دينِ الإسلامِ دخَلَ، ومَن لا يَدخُل فلْيَرجِعْ إلى بلاد الرُّومِ آمِنًا، ومن أقام منهم على دينِه فلْيَلتزِمْ بما يُشرَطُ عليهم من الشُّروطِ التي زادها الحاكِمُ على العُمَرِيَّة، من تعليقِ الصُّلبانِ على صُدورِهم، وأن يكونَ الصَّليبُ مِن خَشَبٍ زِنتُه أربعةُ أرطال، وعلى اليهودِ تَعليقُ رأسِ العِجلِ زِنتُه ستَّة أرطال، وفي الحَمَّام يكونُ في عُنُقِ الواحِدِ منهم قِربةٌ زِنة خَمسة أرطال، بأجراسٍ، وأن لا يركَبوا خَيلًا، ثمَّ بعد هذا كُلِّه أمَرَ بإعادةِ بناءِ الكنائِسِ التي هَدَمَها وأذِنَ لِمَن أسلَمَ منهم في الارتدادِ إلى دينِه، وقال: نُنَزِّهُ مَساجِدَنا أن يدخُلَها من لا نِيَّةَ له، ولا يُعرَفُ باطِنُه!!
لَمَّا انقَطَعَت دعوةُ يحيى بنِ عليٍّ الفاطميِّ عن قُرطُبةَ، أجمَعَ رأيُ أهلِ قُرطبةَ على ردِّ الأمرِ إلى بني أمَيَّة، وكان عَميدُهم في ذلك والذي تولَّى مُعظَمَه وسعى في تمامِه الوَزير أبا الحَزمِ جهور بنَ مُحمَّد بن جهور بن عبيد الله بن محمَّد بن الغمر بن يحيى بن عبد الغافر بن أبي عبدة، وقد كان ذهَبَ كُلُّ مَن يُنافِسُ في الرِّياسةِ في الفِتنةِ بقُرطُبةَ، فراسَلَ جهور من كان معه على رأيِه مِن أهلِ الثُّغورِ والمتَغَلِّبينَ هنالك على الأمورِ وداخلهم في هذا الأمرِ، فاتَّفَقوا بعد مُدَّةٍ طويلةٍ على تقديمِ أبي بكر هِشامِ بنِ مُحَمَّد بنِ عبد الملك بنِ عبدِ الرَّحمنِ الناصر، وهو أخو المرتضى، وكان هِشامٌ هذا مقيمًا بحِصنٍ في الثُّغورِ يُدعى ألبنت تحتَ إمرةِ أبي عبدِ اللهِ مُحَمَّد بن عبد الله بن قاسم القائِد المتغَلِّب بها، فبايعوه وتلَقَّبَ بالمعتَدِّ بالله.
عندما قوي أمر الصوصو الذين قضوا على إمبراطورية غانا ضَمُّوا إليهم أكثَرَ الممالك التي كانت تتبع لغانا، ومنها مملكة كانغابا (مالي) وقُتِلَ ملك الصوصو سومانغارو ملكهم وأولاده الأحد عشر باستثناء الصغير منهم، وهو سندياتا إذ عرف فيما بعد بماري جاطه الذي تمكن بعد أن كبر من إحراز النصر على الصوصو، وقتل فيها إمبراطور الصوصو عام 633, فانتهى أمر الصوصو وسار ماري جاطه إلى عاصمة إمبراطورية غانا ودمر ما كان بقي منها، لكنَّه ترك المسلمين، ثم شكَّلَ ماري هذا مملكةً واسعة حكَمَتْها أسرة كيتا وجعل عاصمتَه سانكاراني، وسميت نياتي واشتهرت باسم مالي، وأما أصل أسرة كيتا فيعود إلى موسى ديجيو الذي يلقب بكيتا، وهو أول من دخل الإسلام من ملوك دولة كانغابا أو ماندينغ. ثم تولى أمر أسرة كيتا أو مملكة مالي بعد ماري جاطه ابنه منسي علي، الذي عُرِفَ بالصلاح وأدى فريضة الحجِّ سنة 658.
إنَّ مما قام به الإنجليز في الهند لتوطيدِ بقائهم وسيطرتهم فيها أنْ عَمِلوا على إنشاءِ الفِرَق الضالَّة، أو على الأقلِّ دعمها أو السكوت عنها وتَرْكها تنشُرُ ضلالها، فكان مما عَمِلَته أن شجَّعَت مرزا غلام أحمد القادياني على إحياءِ ما دعا إليه المَلِك المغولي في الهند جلال الدين أكبر شاه المتوفَّى عام 1014ه. فأنشأ مرزا غلام القاديانية، وكتب البراهينَ الأحمدية، ثم تطوَّر أمره فادَّعى عام 1322هـ أنَّه المهدي المنتظَرُ، وأعلن أنَّ الإنجليز هم أولو الأمر، فيَجِبُ طاعتهم، ولا يصِحُّ الخروجُ عليهم ولا قتالُهم ولا الجهاد ضِدَّهم مع أحدٍ، وعَمِلَ على التوفيق بين الأديان، فادعى أنَّه يتقَمَّصُ روح المسيح عليه السلام وروحَ الإله كرشنا ربِّ الخير عند الهندوس!! وأصبح له أتباعٌ, وقَوِيَ أمرُه، وكان البريطانيون يدعمونه ويحمونه، ثم لَمَّا توفِّيَ عام 1326هـ انقَسَمت جماعتُه إلى قسمين: الأحمدية وتدَّعي أنه كان رجلًا مُصلِحًا، والقاديانية: وتقول بنبُوَّتِه وتدعو إلى ما كان عليه من أفكارٍ ومعتقداتٍ باطلةٍ.
بعد أن غزا الرشيدُ نقفور وطلبَ الصُّلحَ وقَبِلَ منه، قام نقفور بنكثِ العَهدِ في نفسِ السَّنة، لكن الأمرَ لم يصِلْ إلى الرشيدِ إلَّا بعد سنةٍ؛ للبَردِ الشَّديد الذي منع وصولَ البريدِ، فغزا إبراهيمُ بن جبرئيل الصائفة، فدخل أرضَ الروم من درب الصفصاف، فخرج إليه نقفور ملكُ الروم، فأتاه مِن ورائه أمرٌ صَرَفه عنه، ولَقِيَ جمعًا من المسلمين، فجرح ثلاث جِراحات، وقُتِلَ مِن الروم- فيما قيل- أربعون ألفًا وسبعمائة.
وَضَعَ هيلاسيلاسي خُطَّة لإنهاء المسلمين خلال 15 عامًا، وتباهى بخُطَّتِهِ أمام الكونجرس الأمريكي, وقام بإحْراقِ الشُّيوخ والنِّساءِ والأطفالِ بالنَّار والبنزين في قَريةِ جرسم, وأمَرَ بالتَّعْقيم الإجباريِّ للمسلمين رجالًا ونساءً. وقام بعدَه السَّفَّاح منجستو بمذبحةٍ كبيرةٍ؛ حيث أمر بإطلاق النَّار على المَسجِدِ الكبيرِ بمدينةِ ريرادار بإقليم أوجاوين؛ فقُتِل أكثَرُ من ألْفِ مُسلمٍ كانوا يُؤدُّون الصَّلاةَ في رمضان عام 1399هـ، كما تمَّ تشريدُ المُسلمين وحارَبَهم من أجْلِ دينِهِم.
في رابع عشر شهر صفر قدم الخبر بخروج تنبك البجاسي عن الطاعة ومحاربته أمراء دمشق، وسبب ذلك أنه لما ولي سودن بن عبد الرحمن نيابة الشام عوضا عن تنبك، تقدمت الملطفات السلطانية إلى أمراء دمشق، بالقبض على تنبك البجاسي، فأتوا دار السعادة في ليلة الجمعة رابِعَه، واستدعوه ليقرأ عليه كتاب السلطان، فارتاب من ذلك، وخرج من باب السِّرِّ، وقد لبس السلاحَ في جمع من مماليكه، فثار إليه الأمراءُ واقتتلوا معه حتى مضى صدر نهار الجمعة، فانهزموا منه، وتحصن طائفة منهم بالقلعة، ومضى آخرون إلى سودن بن عبد الرحمن، وقد نزل على صفد، ثم خرج تنبك البجاسي من دمشق بعد محاربته الأمراء حتى نزل على الجسر في يوم الجمعة الحادي عشر، وقد قطع سودن بن عبد الرحمن الجسرَ، فباتوا يتحارسون، وأصبحوا يوم السبت الثاني عشر يترامَون نهارهم كلَّه حتى حجز الليلُ بينهم، فباتوا ليلةَ الأحد على تعبيتهم، وأصبح تنبك يوم الأحد الثالث عشر راحلًا إلى جهة الصبيبة، في انتظار ابن بشارة أن يأتيه تقويةً له، فكتب سودن بذلك إلى السلطان، وركب بمن معه على جرائد الخيل، وترك الأثقال في مواضعها مع نائب القدس، وساق حتى دخل دمشق في يوم الأربعاء السادس عشر، فتمكن من القلعة، فللحال أدركهم تنبك وقد بلغه مسيرهم، فلقوه عند باب الجابية وقاتلوه، فثبت لهم مع كثرتهم، وقاتلهم أشد قتال، والرمي ينزل عليه من القلعة، فتقنطر عن فرسه لضربةٍ أصابت كَتِفَه حتى خلعته، فتكاثروا عليه وجروه إلى القلعة ومعه نحو عشرين من أصحابه، وكُتِبَ بذلك للسلطان، فقَدِمَ الكتاب الأول من جسر يعقوب في يوم الأحد عشرين، فاضطرب الناس، ووقع الشروع في السفر، وأُحضِرَت خيول كثيرة من مرابطها بالربيع، فقدم الخبر الثاني بأخذ تنبك البجاسي بدمشق، فدُقَّت البشائر، وكُتِبَ بقتله وحَمْل رأسه إلي مصر، وتتبُّع من كان معه، وبطلت حركةُ السَّفَرِ.
هو الإمامُ الأَوحدُ، البَحرُ، ذو الفُنونِ والمَعارِف، العَلَّامَةُ أبو مُحمدٍ عليُّ بن أحمدَ بن سَعيدِ بن حَزْمِ بن غالبِ بن صالحِ بن خَلَفِ بن معد بن سُفيانَ بن يَزيدَ (مَولى يَزيدَ بن أبي سُفيانَ) الأُمَويُّ الفَقيهُ الحافظُ، المُتَكَلِّمُ، الأَديبُ، الوَزيرُ، الظَّاهريُّ، صاحبُ التَّصانيفِ. أَصلُ جَدِّهِ يَزيدَ من فارس، وهو أَوَّلُ مَن أَسلَم من أَجدادِه، وجَدُّهُ خَلَفٌ أَوَّلُ مَن دَخَلَ بِلادَ المَغرِب من آبائهِ زَمنَ عبدِالرحمن الدَّاخِل، وكانت بَلدُهم قُرطبةَ، ووُلِدَ ابنُ حَزمٍ بها في رمضان، سنة 384هـ، وكان والِدُه من كُبَراءِ أَهلِ قُرطُبة؛ عَمِلَ في الوِزارةِ للدَّولةِ العامِريَّة، فنَشأَ ابنُ حَزمٍ في تَنَعُّمٍ ورَفاهِيَةٍ، ورُزِقَ ذَكاءً مُفرِطًا، وذِهْنًا سَيَّالًا. فقَرأَ القُرآنَ واشتَغَلَ بالعُلومِ النَّافِعَةِ الشَّرعيَّةِ، وبَرَزَ فيها وَفاقَ أَهلَ زَمانِه. كان حافِظًا عالِمًا بعُلومِ الحَديثِ وفِقْهِهِ، مُستَنبِطًا للأَحكامِ من الكِتابِ والسُّنَّةِ بعدَ أن كان شافِعيَّ المَذهبِ، انتَقلَ إلى مَذهبِ أَهلِ الظَّاهرِ، وكان مُتَفَنِّنًا في عُلومٍ جَمَّةٍ، عامِلًا بِعِلمِه، زاهِدًا في الدُّنيا بعدَ الرِّياسَةِ التي كانت له ولأَبيهِ مِن قَبلِه في الوزارةِ وتَدبيرِ المَمالِكِ، مُتواضِعًا ذا فَضائلَ جَمَّةٍ. قال الذَّهبيُّ: "كان قد مَهَرَ أوَّلًا في الأَدبِ والأَخبارِ والشِّعْرِ، وفي المَنطِقِ وأَجزاءِ الفَلسفَةِ، فأَثَّرَت فيه تَأثيرًا لَيْتَهُ سَلِمَ من ذلك، ولقد وَقفتُ له على تَأليفٍ يَحُضُّ فيه على الاعتِناءِ بالمَنطِقِ، ويُقَدِّمُه على العُلومِ، فتَألَّمتُ له، فإنَّه رَأسٌ في عُلومِ الإسلامِ، مُتَبَحِّرٌ في النَّقْلِ، عَديمُ النَّظيرِ على يُبْسٍ فيه، وفَرْطِ ظاهِريَّةٍ في الفُروعِ لا الأُصولِ". وله تَصانيفُ وكُتُبٌ مَشهورةٌ كَثيرةٌ أَهَمُّها ((المُحَلَّى))، و((الفَصلُ في المِلَل والنِّحَل)). ويُقال: إنَّه صَنَّفَ أربعمائةَ مُجَلَّدٍ في قَريبٍ من ثمانين ألف وَرَقَةٍ. وكان أَديبًا طَبيبًا شاعِرًا فَصيحًا، له في الطِبِّ والمَنطِقِ كُتُبٌ، كان مُصاحِبًا للشَيخِ أبي عُمرَ بن عبدِ البَرِّ النمري، ومُناوِئًا للشيخِ أبي الوليدِ سُليمانَ بن خَلفٍ الباجيِّ، وقد جَرَت بينهما مُناظراتٌ كَثيرةٌ، وكان ابنُ حَزمٍ كَثيرَ الوَقيعةِ في العُلماءِ بِلِسانِه وقَلَمِه لا يَكادُ يَسلَمُ أَحَدٌ من لِسانِه من العُلماءِ المُتقَدِّمين والمُتأخِّرين، حتى قيلَ: "كان لِسانُ ابنِ حَزمٍ وسَيفُ الحَجَّاجِ بن يوسفَ شَقِيقَينِ, لكَثرةِ وُقوعِه في الأئمةِ" فنَفَرَت عنه القُلوبُ،، فتَمالَأَ العُلماءُ على بُغضِه ورَدُّوا قَولَه واجمَعوا على تَضليلِه وشَنَّعُوا عليه, وحَذَّروا السَّلاطِينَ من فِتنَتهِ, ونَهوا عَوامَّهُم عن الدُّنُوِّ إليه والأَخذِ منه, فأَورَثَهُ ذلك حِقدًا في قُلوبِ أَهلِ زَمانِه، وما زالوا به حتى بَغَّضوهُ إلى مُلوكِهم، فطَردوهُ عن بلادِه حتى تَشَرَّدَ في الباديةِ ومع ذلك لم يرجِع عن أَقوالِه وأَفعالِه. كان ظاهِريًّا لا يقولُ بشيءٍ من القِياسِ لا الجَلِيِّ ولا غَيرِه، وهذا الذي وَضَعهُ عند العُلماءِ، وأَدخَلَ عليه خَطأً كَبيرًا في نَظَرِه وتَصرُّفِه وكان مع هذا مِن أَشَدِّ الناسِ تَأويلًا في باب الأُصولِ، وآياتِ الصِّفاتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ، لأنَّه كان أَوَّلًا قد تَضَلَّع من عِلْمِ المَنطِق، أَخذَهُ عن محمدِ بن الحسنِ المُذحجيِّ الكِناني القُرطُبي، ففَسَدَ بذلك حالُه في بابِ الصِّفاتِ، قال الذَّهبيُّ: "قيلَ: إنَّه تَفَقَّهَ أوَّلًا للشافعيِّ، ثم أَدَّاهُ اجتِهادُه إلى القَوْلِ بنَفْيِ القِياسِ كُلِّهِ جَلِيِّهِ وخَفِيِّهِ، والأَخْذِ بظاهرِ النَّصِّ وعُمومِ الكتابِ والحديثِ، والقَولِ بالبَراءةِ الأصليَّة، واستِصحابِ الحالِ، وصَنَّفَ في ذلك كُتُبًا كَثيرةً، وناظَرَ عليه، وبَسَطَ لِسانَه وقَلَمَه، ولم يَتأَدَّب مع الأئمةِ في الخِطابِ، بل فَجَّجَ العِبارةَ، وسَبَّ وجَدَّعَ، فكان جَزاؤُه من جِنْسِ فِعْلِه، بحيث إنَّه أَعرَض عن تَصانيفِه جَماعةٌ من الأئمةِ، وهَجرُوها، ونَفَروا منها، وأُحرِقَت في وَقتٍ، واعتَنَى بها آخرون من العُلماءِ، وفَتَّشُوها انتِقادًا واستِفادةً، وأَخْذًا ومُؤاخَذةً، ورَأوا فيها الدُّرَّ الثَّمينَ مَمْزوجًا في الرَّصْفِ بالخَرزِ المهينِ، فتارةً يطربون، ومَرَّةً يعجبون، ومِن تَفَرُّدِه يَهزَؤون. وفي الجُملةِ فالكمالُ عَزيزٌ، وكلُّ أَحَدٍ يُؤخذُ من قَولِه ويُتركُ، إلَّا رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم, وكان يَنهضُ بِعُلومٍ جَمَّةٍ، ويُجيدُ النَّقْلِ، ويُحسِن النَّظْمَ والنَثْرَ. وفيه دِينٌ وخَيْرٌ، ومَقاصِدُه جَميلةٌ، ومُصنَّفاتُه مُفيدةٌ، وقد زَهِدَ في الرِّئاسَةِ، ولَزِمَ مَنزِلَه مُكِبًّا على العِلْمِ، فلا نَغلُو فيه، ولا نَجفُو عنه، وقد أَثنَى عليه قَبلَنا الكِبارُ. قال أبو حامد الغزالي: "وجدتُ في أَسماءِ الله تعالى كِتابًا أَلَّفَهُ ابنُ حَزمٍ يَدُلُّ على عِظَمِ حِفظِه وسَيَلانِ ذِهْنِهِ". وقال الإمامُ أبو القاسمِ صاعدُ بن أحمدَ: "كان ابنُ حَزمٍ أَجْمَعَ أَهلِ الأندَلُسِ قاطِبةً لِعُلومِ الإسلامِ، وأَوْسَعَهُم مَعرِفَةً مع تَوَسُّعِهِ في عِلْمِ اللِّسانِ، ووُفورِ حَظِّهِ من البَلاغةِ والشِّعْرِ، والمَعرِفَةِ بالسِّيَرِ والأَخبارِ". قال الحافظُ أبو عبدِ الله محمدُ بن فتوح الحُميدي: "ما رأينا مِثلَه فيما اجتَمَع له من الذَّكاءِ وسُرعَةِ الحِفظِ وكَرَمِ النَّفْسِ والتَّدَيُّنِ، وما رأيتُ مَن يقولُ الشِّعْرَ على البَديهةِ أَسرعَ منه". قال أبو القاسمِ صاعدٌ: "كان أَبوهُ مِن وُزَراءِ المَنصورِ محمدِ بن أبي عامرٍ، ثم وَزَرَ للمُظَفَّرِ، ووَزَرَ أبو محمدٍ للمُسْتَظْهِر عبدِ الرحمن بن هشامٍ، ثم نَبَذَ هذه الطَّريقَة، وأَقبلَ على العُلومِ الشَّرعيَّة، وعَنِيَ بِعِلْمِ المَنطِقِ وبَرَعَ فيه، ثم أَعرَض عنه". قُلتُ (الذهبي): "ما أَعرَض عنه حتى زَرَعَ في باطِنِه أُمورًا وانحِرافًا عن السُّنَّةِ". وقد حَطَّ أبو بكر بن العربي على أبي محمدٍ وعلى الظاهريَّةِ في كِتابِ القَواصِم والعَواصِم، فقال: "هي أُمَّةٌ سَخِيفةٌ، تَسَوَّرَت على مَرتَبةٍ ليست لها، وتَكلَّمَت بكَلامٍ لم تفهَمهُ". قلتُ (الذهبي): "لم يُنصِف القاضي أبو بكرٍ شَيْخَ أَبيهِ في العِلْمِ، ولا تَكلَّم فيه بالقِسْطِ، وبالَغَ في الاستِخفافِ به، وأبو بكرٍ فعَلَى عَظَمَتِه في العِلْمِ لا يَبلُغ رُتْبَةَ أبي محمدٍ، ولا يَكادُ، فرَحِمَهُما الله وغَفَرَ لهُما". ثم قال (الذهبي): "وَلِي أنا مَيْلٌ إلى أبي محمدٍ لِمَحَبَّتِهِ في الحَديثِ الصَّحيحِ، ومَعرِفَتِه به، وإن كنتُ لا أُوافِقُه في كَثيرٍ مما يَقولُه في الرِّجالِ والعِلَلِ، والمَسائِلِ البَشِعَةِ في الأُصولِ والفُروعِ، وأَقطعُ بخَطَئِه في غيرِ ما مَسألةٍ، ولكن لا أُكَفِّرُه، ولا أُضَلِّلُه، وأرجو له العَفْوَ والمُسامَحةَ وللمسلمين. وأَخضَعُ لِفَرْطِ ذَكائِه وسِعَةِ عُلومِه، ورَأيتُه قد ذَكَرَ – أي ابن حزم- قولَ مَن يقول: أَجَلُّ المُصنَّفاتِ (المُوطَّأ). فقال: بل أولى الكُتُبِ بالتَّعظيمِ (صَحيحا) البُخاريِّ ومُسلمٍ" وكانت وَفاتُه شَريدًا في البادِيَةِ بعدَ أن أَقْصَتْهُ المُلوكُ وشَرَّدَتْهُ عن بِلادِه حتى انتهى إلى بادِيَةِ لبلة فتُوفِّي بها آخرَ نهارِ الأحدِ للَيلتينِ بَقِيَتا من شعبان، وقيلَ: إنَّه تُوفِّي في منت ليشم، وهي قَريةٌ له، وقد جاوَزَ التِّسعين.
في ثامِنَ عشر رجب قَدِمَت طائفة كبيرة من جيش المصريِّين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأميرُ حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأميرُ سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعدهم طائفةٌ أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح وأيبك الخزندار فقَوِيَت القلوبُ واطمأنَّ كثير من الناس، وكان الناسُ في حفل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي، وتقهقر الجيشُ الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهَمَهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرجَ يوم الأحد خامس شعبان، ووصل التتارُ إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادًا، وقَلِقَ الناس قلقًا عَظيمًا، وخافوا خوفًا شديدًا، واختبطَ البَلَدُ لتأخُّرِ قدوم السلطان ببقيَّة الجيش، وقال النَّاسُ: لا طاقة لجيشِ الشام مع هؤلاء المصريين بلقاءِ التتار لكثرَتِهم، وإنما سبيلُهم أن يتأخَّروا عنهم مرحلةً مرحلة، وتحَدَّث الناسُ بالأراجيف فاجتمع الأمراءُ في يوم الأحد خامس شعبان بالميدان وتحالَفوا على لقاء العدو، وشَجَّعوا أنفُسَهم، ونودِيَ بالبلد أنْ لا يرحل أحدٌ منه، فسكن النَّاسُ وجلس القضاةُ بالجامِعِ وحَلَّفوا جماعة من الفقهاء والعامَّة على القتال، وتوجَّهَ الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة إلى العسكَرِ الواصِلِ من حماة فاجتمع بهم في القطيعةِ فأعلَمَهم بما تحالف عليه الأمراءُ والنَّاسُ من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحَلَفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يَحلِفُ للأمراءِ والنَّاسِ إنَّكم في هذه الكَرَّة منصورون، فيقولُ له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقولُ: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يتأوَّلُ في ذلك أشياءَ مِن كتاب اللهِ منها قَولُه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] ولَمَّا كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكِرُ الشاميَّة فخَيَّمَت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاةُ، فصار الناسُ فيهم فريقين: فريقٌ يقولونَ إنَّما ساروا ليختاروا موضِعًا للقتالِ؛ فإنَّ المرج فيه مياهٌ كثيرة فلا يستطيعون معها القتال، وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة لِيَهرَبوا وليلحقوا بالسلطان، فلما كانت ليلةُ الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقَوِيَت ظنون الناسُ في هَرَبِهم، وقد وصلت التتارُ إلى قارة، وبلغ الأمراءَ قُدومُ السلطانِ فتَوَجَّهوا إليه من مَرجِ راهط، فلَقُوه على عقبة الشحورا في يومِ السبت ثانيَ عَشَر رمضان، ثمَّ وَرَدَ عند لقائِهم به الخبَرُ بوصول التتار في خمسينَ ألفًا مع قطلوشاه نائب غازان، فلبس العسكَرُ بأجمعه السلاح، واتَّفَقوا على قتال التتار بشقحب تحت جبل غباغب (وهي من الطرف الشمالي لمرج الصفر)، فلما تمَّ الترتيبُ زَحَفت كراديس التتار كقِطَع الليل، وكان ذلك وقتَ الظهر من يوم السبتِ ثاني رمضان, وأقبل قطلوشاه بمن معه من الطوامين، وحملوا على الميمنة فثَبَتَت لهم الميمنة وقاتلوهم أشدَّ قِتالٍ، ثم قُتِلَ مِن الميمنة الكثيرُ فأدركَتْهم الأمراءُ مِن القَلبِ ومِن المَيسَرة واستمَرُّوا في القتال إلى أن كَشَفوا التتارَ عن المسلمينَ واستمَرَّ القتالُ بين التتار والمسلمينَ إلى أن وقفَ كل من الطائفتينِ عن القتال، ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبَلٍ قريب منه، وصَعِدَ عليه وفي نفسه أنَّه انتصر، وأن بولاي في أثر المنهزمينَ مِن المسلمين، فلمَّا صَعِدَ الجبَلَ رأى السَّهلَ والوَعرَ كُلَّه عساكِرَ، والميسرةَ السُّلطانيةَ ثابتةً وأعلامها تخفُق، فبُهِتَ قطلوشاه وتحيَّرَ واستمَرَّ بمَوضِعِه حتى كَمُلَ معه جمعُه وأتاه مَن كان خلف المنهزمينَ مِن الميمنةِ السُّلطانيَّة ومعهم عِدَّةٌ من المسلمينَ قد أسروهم، فعند ذلك جمَعَ قطلوشاه أصحابَه وشاوَرَهم فيما يفعَلُ، وإذا بكوسات- قطعتان من نحاس تشبهان الترسَ الصغير يدقُّ بأحدها على الآخِرِ بإيقاعٍ مخصوص- السُّلطانِ والبوقات قد زَحَفَت وأزعجت الأرضَ وأرجفت القلوبَ بحِسِّها، فلم يثبت بولاي وخرج من تجاهِ قطلوشاه في نحوِ العشرين ألفًا من التتار، ونزل مِن الجَبَل بعد المغرب ومَرَّ هاربًا، وبات السلطانُ وسائِرُ عساكره على ظهور الخيل والطبولُ تُضرَبُ، وتلاحقَ بهم من كان انهَزَمَ شيئًا بعد شيءٍ، وهم يَقصِدونَ ضَربَ الطبول السلطانيَّة والكوسات؛ وأحاط عسكَرُ السُّلطانِ بالجبَلِ الذي بات عليه التتارُ وشرع قطلوشاه في ترتيبِ مَن معه، ونزلوا مشاةً وفرسانًا وقاتلوا العساكِرَ، فبرزت المماليكُ السلطانية بمقَدَّميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعمِلوا في قتالهم عملًا عظيمًا، فصاروا تارةً يرمونهم بالسِّهامِ وتارة يواجهونَهم بالرماح، واشتغل الأمراء أيضًا بقتال من في جهتِهم، وصاروا يتناوبون في القتال أميرًا بعد أمير، وألحَّت المماليك السلطانيَّةُ في القتال وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعةِ والفروسية ما لا يوصَفُ، حتى إن بعضَهم قُتِلَ تحته الثلاثةُ من الخيل، وما زال الأمراءُ على ذلك حتى انتصف نهارُ الأحد، صعد قطلوشاه الجبل وقد قُتِلَ من عسكره نحو ثمانين رجلًا، وجُرح الكثير واشتَدَّ عَطَشُهم، واتفق أنَّ بعضَ من كان أسَرَه التتار هرب ونزل إلى السلطان، وعَرَّفه أنَّ التتارَ قد أجمعوا على النزولِ في السَّحَرِ لمصادمة العساكرِ السُّلطانية، وأنَّهم في شدة من العَطَشِ، فاقتضى الرأيُ أن يُفرِجَ لهم عند نزولِهم ويركَبَ الجيشُ أقفيتَهم، فلما باتوا على ذلك وأصبحوا نهارَ الاثنين، ركب التتارُ في الرابعة من النَّهارِ ونزلوا من الجبل فلم يتعَرَّض لهم أحدٌ وساروا إلى النهر فاقتَحَموه، فعند ذلك رَكِبَهم بلاءُ الله من المسلمين وأيَّدَهم الله تعالى بنَصرِه حتى حَصَدوا رؤوسَ التتار عن أبدانِهم ووضعوا فيهم السَّيفَ ومَرُّوا في أثرهم قتلًا وأسرًا إلى وقت العصر، وعادوا إلى السُّلطانِ وعَرَّفوه بهذا النصر العظيم، واستمَرَّت الأمراء وبَقِيت العساكرُ في طلب التتار إلى القريتينِ، وقد كَلَّت خيولُ التتار وضَعُفَت نفوسُهم وألقَوا أسلحَتَهم واستسلموا للقَتلِ، والعساكِرُ تقتلُهم بغير مدافعةٍ، حتى إن أراذِلَ العامَّة والغِلمان قتلوا منهم خلقًا كثيرًا وغَنِموا عندئذ غنائِمَ، وقتل الواحِدُ من العسكر العشرينَ من التتار فما فوقها، ثم أدركت عُربانُ البلاد التتارَ وأخذوا في كيدهم، فيجيء منهم الاثنانُ والثلاثة إلى العِدَّة الكثيرة من التتار، كأنهم يهدونَهم إلى طريقٍ قريبةٍ مفازة، فيوصلونهم إلى البَرِّيَّة ويتركونهم بها فيموتون عطشًا، ومنهم من دار بهم وأوصلوهم إلى غوطة دمشق، فخرجت إليهم عامَّةُ دِمشقَ فقَتَلوا منهم خلقًا كثيرًا، وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبَشَّروا النَّاسَ بالنصرِ.
بعدَ أن تُوفِّي يَزيدُ وكان قد عَهِدَ بالخِلافَة لابنِه مُعاوِيَة، وكان شَابًّا مَريضًا، وكان ناسِكًا صالِحًا مُتَعبِّدًا لم تَدُمْ خِلافتُه بالنَّاس سِوى اليَسيرِ، ولم يُرِدْ الخِلافَةَ وقد عَلِمَ أنَّه ليس لها بأهلٍ، واعْتَزَل النَّاسَ وقال: إنَّه لم يَجِدْ للنَّاس مَن يَخلُفُه كما خَلَّفَ أبو بكرٍ للنَّاس عُمَرَ بن الخطَّاب، ولا وجَد في النَّاسِ سِتَّةً مِن أهلِ الشُّورى يكون الأمرُ بينهم كما وجَد عُمَرُ بن الخطَّاب للنَّاس أهلَ الشُّورى، فترَك الأمرَ للنَّاس يَختارون مَن شاءوا، واعْتَزَلهم حتَّى تُوفِّي.
لَمَّا قام محمد بالمدينة ودعا لنفسه خرج أخوه إبراهيم في البصرة ودعا للبيعة، وقوِيَ أمره ثم غلبَ عليها وبايعه أهلُ الأهواز كذلك واستحوذَ على البلاد، وبعث إبراهيم إلى بلاد فارس فأخَذَها، وكذلك واسِط والمدائن والسَّواد، واستفحل أمرُه جدًّا، ولكنْ لَمَّا جاءه نعيُ أخيه محمد انكسر جدًّا، ثم إنَّ المنصورَ استدعى عيسى بن موسى وجيشَه وسيَّرَه لقتال إبراهيم حتى هزمه في موقعة باخمرا، وقُتِلَ إبراهيمُ كذلك وأُخِذَ رأسُه إلى المنصور، وكان ذلك في ذي الحجَّةِ من هذا العام،