أفسد الأكرادُ والعرَبُ بأرض المَوصِل وطريقِ خُراسان، وكان عبدُ الله بن حَمدان يتولَّى الجميعَ وهو ببغداد، وابنُه ناصر الدولة بالموصِل، فكتب إليه أبوه يأمُرُه بجمع الرجال، والانحدارِ إلى تكريت، ففعل وسارَ إليها، فوصل إليها في رمضانَ، واجتمعَ بأبيه، وأحضر العَرَب، وطالبهم بما أحدثوا في عمَلِه بعد أن قتَلَ منهم، ونكَّلَ ببعضهم، فردُّوا على الناس شيئًا كثيرًا، ورحل بهم إلى شَهرزور، فوطئَ الأكراد الجلالية فقاتلهم، وانضاف إليهم غيرُهم، فاشتدَّت شَوكتُهم، ثمَّ إنَّهم انقادوا إليه لَمَّا رأوا قوَّته، وكفُّوا عن الفساد والشرِّ.
بعد مَقتَل عُمَرَ بنِ حَفصون استلم ابنُه سليمان قيادةَ الثَّورةِ، وبقي على سيرةِ أبيه، ثم قُتِلَ في هذه السنة, كان سليمانُ قد ركب وخرج عن مدينة ببشتر مركزِ الثَّورةِ ومَقَرِّها. معارِضًا لبعض الحشَمِ المجاورينَ له من العسكر، فتبادرت إليه الخيلُ مِن الجهة التي كان فيها عبدُ الحميد الوزير، فصُرِعَ سليمانُ عن فرسِه، فاحتزَّ رأسَه سعيدُ بن بعلي العريف المعروف بالشفة، وقطعت يداه ورجلاه، وبعث الوزيرُ عبد الحميد برأسِه وجُثَّتِه ويديه مُبَعَّضةً مفترقةً، فرُفِعَت على باب السدَّة بقرطبةَ في خشبة عاليةٍ، وكان الفتحُ فيه عظيمًا سارًّا لجميع المُسلمين.
هو القائِمُ بأمرِ الله الفاطميُّ العُبَيدي أبو القاسم محمد نزارا بن عبيد الله المهدي صاحب إفريقيَّة، بايع له والِدُه عُبيد الله بولاية العهد بإفريقيَّة وجَهَّزه أبوه لضَمِّ مِصرَ مرتين، لكنَّه لم يُفلِحْ في ضَمِّها. وبعد وفاةِ القائمِ قام بالأمرِ بعده ابنُه إسماعيلُ، وتلقَّب بالمنصور بالله، وكتم موتَه؛ خوفًا أن يعلمَ بذلك أبو يزيد، وهو بالقربِ منه على سوسة، وأبقى الأمورَ على حالها، ولم يتسَمَّ بالخليفة، ولم يغيِّر السِّكَّة، ولا الخُطبة، ولا البنودَ، وبقي على ذلك إلى أن فرغ من أمرِ أبي يزيد، فلمَّا فرغ منه أظهَرَ موتَه، وتسمَّى بالخلافةِ.
قام أهلُ صور بالثَّورةِ على الحاكِمِ الفاطميِّ لَمَّا لَحِقَهم مِن جُندِه المغاربة البَربرِ الظُّلمُ والجَورُ، وأخذ الحريم من الحَمَّامات والطُّرُق, فقام أهلُ صور عليهم, بعد أن استنجَدوا بالإمبراطورِ البيزنطيِّ باسيل الثاني، فأمَدَّهم بأسطول. فقتلوا المغاربةَ البَربرَ، فأرسل جيشُ ابنِ الصمصامة جيشًا مِن مصر بقيادةِ أبي عبد الله الحسن بن ناصر ومعه ياقوت الخادِمُ, كما أرسل الحاكِمُ أسطولًا إلى طرابلسَ، فحاصر الجيشُ مدينةَ صور واشتبَكَ أسطولُ الحاكِمُ بالأسطولِ البِيزنطيِّ في معركةٍ عنيفةٍ كانت نتيجتُها هزيمةَ البيزنطيِّينِ والقضاءَ على ثورةِ أهلِ صورٍ.
استتابَ القادِرُ باللهِ الخَليفةُ فُقَهاءَ المُعتَزِلةِ، فأظهروا الرُّجوعَ وتبَرَّؤوا من الاعتزالِ والرَّفضِ والمقالاتِ المُخالِفةِ للإسلام، وأُخِذَت خطوطُهم بذلك، وأنَّهم متى خالفوا أحلَّ فيهم مِن النَّكالِ والعُقوبةِ ما يَتَّعِظُ به أمثالُهم. قال ابن كثير: "وامتَثَل محمودُ بنُ سبكتكين أمْرَ أميرِ المؤمنينَ في ذلك، واستَنَّ بسُنَّتِه في أعمالِه التي استخلَفَه عليها مِن بلادِ خُراسان وغيرها، في قَتلِ المُعتَزِلةِ والرَّافِضةِ، والإسماعيليَّةِ والقرامِطة، والجَهميَّة والمُشَبِّهة، وصَلَبَهم وحبَسَهم ونفاهم، وأمَرَ بلَعْنِهم على المنابِرِ، وأبعَدَ جَميعَ طوائِفِ أهلِ البِدَعِ، ونفاهم عن ديارِهم، وصار ذلك سُنَّةً في الإسلامِ"
خطبَ شبيب بن وثاب النميريُّ، صاحِبُ حران والرَّقَّة، للخليفةِ القائم بأمر الله، وقطَعَ خُطبةَ المستنصر بالله العُبَيديُّ، وكان سببُها أنَّ نَصرَ الدَّولة بنُ مروان كان قد بلغه عن الدزبري نائبُ العلويين بالشام أنَّه يتهَدَّده، ويريد قصدَ بلاده، فراسل ابنُ مروان قرواشًا، صاحِبَ الموصل، وطلب منه عسكرًا، وراسل أيضًا شبيبًا النميري يدعوه إلى المُوافقة، ويُحَذِّرُه من المغاربةِ العُبَيديِّين، فأجابه إلى ذلك، وقطعَ الخُطبةَ العَلَويَّة، وأقام الخُطبةَ العباسيَّة، فأرسل الدزبري إلى شبيب يتهدَّدُه، ثم أعاد الخطبةَ العَلَوية بحرَّانَ في ذي الحجَّة من السَّنة.
هو المستعلي بالله أبو القاسم أحمد بن معد المستنصر بالله الفاطمي العبيدي، حاكم مصر، حكمها مدة سبع سنين وقريبًا من الشهرين، وكان المدبِّر لدولته أمير الجيوش الأفضل بن بدر الجمالي، ولما توفِّيَ وَلِيَ بعده ابنُه أبو علي المنصور، وبويع له في اليوم الذي مات فيه أبوه، وله خمس سنين وشهر وأربعة أيام، ولُقِّب الآمر بأحكام الله، ولم يقدر يركبُ وحده على الفرس لصِغَرِ سنه، وقام بتدبير دولته الأفضل أحسن قيام، ولم يزل كذلك يدبِّرُ الأمرَ إلى أن قُتِلَ الآمر سنة خمس عشرة وخمسمائة.
جمع قسيمُ الدولة البرسقي صاحب الموصل عساكِرَه وسار إلى الشام، وقصد كفر طاب وحصَرَها، فمَلَكها من الفرنج، وسار إلى قلعة عزاز، وهي من أعمال حلب من جهة الشمال، وصاحبها جوسلين الفرنجي، فحصرها، فاجتمعت الفرنج؛ فارِسُها وراجِلُها، وقصدوه ليُرحلوه عنها، فلقيهم وضرب معهم مصافًّا، واقتتلوا قتالًا شديدًا صبروا كلهم فيه، فانهزم المسلمون وقُتِل منهم وأُسِر كثير، وكان عدد القتلى أكثر من ألف قتيل من المسلمين، وعاد منهزمًا إلى حلب، فخلف بها ابنه مسعودًا، وعبر البرسقي الفراتَ إلى الموصل؛ ليجمعَ العساكر ويعاوِدَ القتال.
سار عسكَرُ دِمشقَ مع مُقَدَّمِهم الأميرِ بزاوش إلى طرابلس الشَّام، فاجتمع معه من الغُزاةِ المُتطَوِّعة والتركمان أيضًا خَلقٌ كثير، فلَمَّا سَمِعَ القُمص- كبيرُ القَساوِسة- صاحِبُها بقُربِهم مِن ولايتِه، سار إليهم في جُموعِه وحُشودِه، فقاتَلَهم وانهزم الفرنجُ وعادوا إلى طرابلسَ على صورةٍ سَيِّئةٍ، وقد قُتِلَ كثيرٌ مِن فُرسانِهم وشُجَعانِهم، فنهب المسلمونَ مِن أعمالهم الكثيرَ، وحَصَروا حِصنَ وادي ابنِ الأحمر فمَلَكوه عَنوةً ونَهَبوا ما فيه، وقَتَلوا المُقاتِلةَ، وسَبَوا الحريمَ والذُّريَّة، وأسَروا الرِّجالَ فاشتَرَوا أنفُسَهم بمالٍ جَليلٍ، وعادوا إلى دِمشق سالِمينَ.
عاد الملكُ الكامل إلى قلعة الجبل من بلاد الشرق، وقد توحَّشَ ما بينه وبين أخيه الأشرف صاحب دمشق وغيره من الملوك، فقبَضَ الكامل على المسعود صاحب آمد واعتقله في برجٍ هو وأهلَه، يوم الاثنين سادس عشر جمادى الأولى، لممالأتِه لهم، فملك صاحبُ الروم حرَّان بالسيف، وعاد إلى بلاده، بعدما استولى على ما كان بها من الأموال، فلما بلغ الكامل ذلك أمر العساكر أن تتجهز للمسير إلى الشرق، وأقطع ابنَ الأمير صلاح الدين الإربلي صنافيرَ بالقليوبية، وجعل أقاربَ والده ومماليكه معه، وعدتهم سبعة عشر رجلًا.
هو زعيمُ القبيلة الذهبية بركة خان بن جوجي بن جنكيز خان في بلاد القفجاق، وهو ابنُ عم هولاكو، وقد أسلم بركة خان وزوجته ججك سنة 655، وكان يحِبُّ العلماء والصالحين ومن أكبَرِ حَسَناتِه كَسرُه لهولاكو وتفريقُ جنوده، وكان يناصِحُ الملكَ الظاهِرَ ويعَظِّمُه ويُكرِمُ رسُلَه إليه، ويُطلِقُ لهم شيئًا كثيرًا، وقد اتَّفَق معه على حربِ هولاكو، في سنة إحدى وستين وقد قام في الملكِ بعده بعضُ أهل بيته وهو منكوتمر بن طغان بن بابو بن تولى بن جنكيزخان، وكان على طريقتِه ومنوالِه، ولله الحمد.
فوض ملك التتار إلى علاء الدين صاحب الديوان ببغداد النظرَ في تستُرَ وأعمالِها، فسار إليها ليتصَفَّحَ أحوالها فوجد بها شابًّا من أولاد التجَّار يقال له "لي" قد قرأ القرآنَ وشَيئًا من الفقه والإشارات لابن سينا، ونظر في النجوم، ثمَّ ادعى أنه عيسى ابن مريم، وصَدَّقه على ذلك جماعةٌ من جهلة تلك الناحية، وقد أسقَطَ لهم من الفرائِضِ صلاةَ العصر وعِشاء الآخرة!! فاستحضره وسأله عن ذلك فرآه ذكيًّا، إنما يفعل ذلك عن قصدٍ، فأمر به فقُتِلَ بين يديه، جزاه الله خيرًا، وأمر العوامَّ فنهبوا أمتعَتَه وأمتعة العوامِّ ممَّن كان اتبعه.
خرج الأميرُ بدر الدين بكتاش النجمي إلى حمص مجردًا، وخرج الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري الصالحي لحفظ الساحل من الفرنج، وكتب السلطان قلاوون إلى الأمير سيف الدين بلبان الطباخي نائب حصن الأكراد بغزو الفرنج بالمرقب؛ لمساعدتهم التتارَ عند وصولهم حلب، فجمَعَ التركمان وغيرَهم، وحمل المجانيق والآلات، ونازل المرقَبَ، فانهزم المسلمون ونهَبَهم الفرنج، وعَدِمَ من المسلمين مقدارُ مائتي فارس وراجل، فكبُرَ ذلك على السلطان، وتحرك للسَّفَرَ وخرج في أول ذي الحجة، واستخلف ابنَه الملك الصالح، وخيم بمسجدِ تبر.
حَجَّ بالنَّاسِ في هذه السنة من الشامِ الأمير بدر الدين بكتوت الدوباسي، وحَجَّ قاضي القضاة شهاب الدين بن الخوي، وشمسُ الدين بن السلعوس ومقَدَّم الركب الأمير عتبة، فتوهَّم منه أبو نُمي، وكان بينهما عداوةٌ، فأغلق أبوابَ مكَّةَ ومنع الناسَ مِن دخولِها، فأحرق البابَ وقتَلَ جماعةً ونهَبَ بعض الأماكِنِ، وجرت خطوبٌ فظيعة، ثم أرسلوا القاضيَ ابن الخوي ليصلح بين الفريقين، ولَمَّا استقر عند أبي نمي رحل الركوبُ وبقي هو في الحَرَمِ وَحدَه وأرسل معه أبو نمي من ألحقَه بهم سالِمًا معظَّمًا.
هو المَلِكُ الحافِظُ غِياثُ الدين محمَّد بن الملك السعيد معين الدين بن الملك الأمجد بهرام شاه بن المعز عز الدين فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب، وُلِدَ بدمشق أو ببعلبك سنة 616 وقد سَمِعَ الحديثَ وسَمِعَ البخاريَّ من الزبيدي وحدَّث به وأجاز مروياته للشيخِ شمس الدين، وكان أميرًا جليلًا متميزًا، نسَخَ الكثيرَ بخطه المنسوب وخَلَّف عدة أولاد، وكان يحبُّ العُلَماء والفقراء. وتوفِّيَ يوم الجمعة سادس شعبان, ودفن عند جدِّه لأمه ابن المقدم، ظاهر باب الفراديس.