تُوفيَ الشيخُ صالحُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأطرمُ عضوُ هيئة كبار العلماء، وأستاذُ الدراسات العُليا في قسمِ الفقهِ بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياضِ، إثْرَ مرضٍ مُزمنٍ لازَمَه سنواتٍ عدةً، والشيخُ حصَلَ على الدكتوراه من المعهد العالي للقضاء، وكان يتولَّى تدريسَ مادة الفقه المقارَن بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياضِ، بالإضافةِ إلى تدريسه لطلبة مرحلتَيِ الماجستير والدكتوراه في الكليةِ ذاتِها، وفي المعهد العالي للقضاءِ بالرياضِ، والشيخُ الأطرمُ من مواليد الزلفي، وقد التحَقَ منذ وقتٍ مبكرٍ بحلقاتِ العلماء، حيث تلقَّى العلم على يدِ نُخبةٍ من كبار علماء المملكةِ، وعلى رأسهم فضيلةُ العلَّامةُ الشيخُ محمدُ بن إبراهيم رحمه اللهُ، والشيخُ ابنُ بازٍ، ومن أبرز تلاميذه: الشيخُ عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ اللهِ آلَ الشيخ (مفتي عام المملكة)، وفضيلةُ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، وغيرُهما.
هو الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي الهاشمي العباسي, وأمه: سلامة البربريَّة. وُلِدَ سنة 95, وكان أسمرَ, طويلًا, نحيفًا, مَهيبًا, خفيفَ العارِضَينِ, مُعرق الوجه, رحْبَ الجبهة, كأنَّ عينيه لسانان ناطقان, تخالِطُه أبَّهة المُلك بِزِيِّ النسَّاك, تَقبَلُه القلوبُ، وتَتبَعُه العيون, وكان فحْلَ بني العباس؛ هيبةً وشجاعةً، ورأيًا وحزمًا، ودهاءً وجبروتًا، وكان جمَّاعًا للمال, حريصًا تاركا للَّهوِ واللَّعب, كامِلَ العقلِ بعيدَ الغَورِ، حسَن المشاركةِ في الفقهِ والأدب والعِلم. أباد جماعةً كبارًا حتى توطَّدَ له المُلك، ودانت له الأمَمُ على ظُلمٍ فيه، وقُوَّةِ نَفسٍ، ولكنَّه يرجِعُ إلى صِحَّة إسلامٍ وتديُّنٍ في الجُملة، وتَصَوُّنٍ وصلاةٍ وخيرٍ، مع فصاحةٍ وبلاغةٍ وجَلالةٍ، وعظَ المنصور عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة فأبكاه، وكان المنصورُ يهابُ عَمرًا ويُكرِمُه، وقد كان المنصورُ يُصغي إلى أقوال المنجِّمين، وهذا من هناتِه مع فضيلتِه. كان حاكمًا على ممالك الإسلام بأسرِها, سوى جزيرة الأندلس، وكان ينظُرُ في حقيرِ المال، ويثَمِّرُه، ويجتهد بحيث إنَّه خلَّفَ في بيوت الأموالِ مِن النقدين أربعة عشر ألف ألف دينار، وستمئة ألف ألف درهم، وكان كثيرًا ما يتشبَّه بالثلاثة في سياسته وحَزمِه، وهم: معاوية، وعبد المَلِك، وهشام. لَمَّا رأى المنصورُ ما يدلُّ على قُربِ مَوتِه سار للحَجِّ، فلمَّا وصل إلى بئر ميمون مات بها مع السحَرِ قبل أن يصِلَ مكة، ولم يحضُرْه عند وفاتِه إلَّا خَدَمُه، والربيعُ مولاه، فكتم الربيعُ مَوتَه، واشتغلوا بتجهيزِ المنصور، ففرغوا منه العصرَ، وكُفِّنَ، وغطِّيَ وجهُه وبدَنُه، وجُعِلَ رأسُه مكشوفًا لأجل إحرامِه، وصلَّى عليه عيسى بن موسى، وقيل: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ودُفِنَ في مقبرة المُعَلَّاة، وحَفَروا له مائة قبرٍ ليغُمُّوا على النَّاسِ، ودُفِنَ في غيرها، عاش أربعًا وستِّينَ سنة، وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلَّا أربعة وعشرين يومًا.
كان سبَبُ ذلك أنَّ إبراهيمَ قَبَضَ على عيسى بن محمد بن أبي خالد وحبسَه، وأخذ عِدَّةً من قوَّاده وأهلَه، فحبَسَهم ونجا بعضُهم، وفيمن نجا أخو عيسى العباس بن محمد، ومشى بعضُ أهله إلى بعض، وحرَّضوا الناسَ على إبراهيم، وكان أشَدَّهم العباسُ بن محمد، وكان هو رأسَهم، فاجتمعوا وطردوا عاملَ إبراهيمَ على الجسر، والكرخ وغيره، وظهر الفُسَّاق والشُّطَّار، وكتب العباسُ إلى حميد بن عبد الحميد يسألُه أن يَقدَمَ عليهم حتى يُسَلِّموا إليه بغداد، فقَدِمَ عليهم، وسار حتى أتى نهر صرصر فنزل عنده. وخرج إليه العباسُ وقوَّادُ أهل بغداد، فلَقُوه، ووعدهم أن يصنعَ لهم العطاءَ يوم السبت في الياسرية على أن يدْعوَا للمأمونِ بالخلافة يوم الجمعة، ويخلعوا إبراهيمَ، فأجابوه إلى ذلك. ولَمَّا بلغ إبراهيمَ الخبَرُ أخرج عيسى ومن معه من إخوتِه من الحبسِ، وسأله أن يرجِعَ إلى منزله، ويكفيَه أمرَ هذا الجانب، فأبى عليه. ثم بعد ذلك رضِيَ فخَلَّى سبيله، وأخذ منه كُفَلاء، وكلَّم عيسى الجندَ، ووعدَهم أن يعطيَهم مثلَ ما أعطاهم حميدُ بن عبد الحميد، فأبوا ذلك، وشَتَموه وأصحابه، وقالوا: لا نريدُ إبراهيم، فقاتلهم ساعةً، ثم ألقى نفسَه في وسطهم، حتى أخذوه شِبهَ الأسيرِ، فأخذه بعضُ قُوَّاده، فأتى به منزِلَه، ورجع الباقونَ إلى إبراهيم، فأخبروه الخبَرَ، فاغتمَّ لذلك. ثم اختفى إبراهيمُ بنُ المهدي؛ وكان سببُ ذلك أنَّ أصحابَ إبراهيم وقوَّادَه تسلَّلوا إلى حميد بن عبد الحميد فصار عامَّتُهم عنده، وأخذوا له المدائِنَ. فلما رأى إبراهيمُ فعلهم أخرج جميعَ مَن بقيَ عنده حتى يقاتلوا فالتَقَوا على جسر نهر ديالى، فاقتتلوا فهَزمَهم حميدٌ وتَبِعَهم أصحابه، حتى دخلوا بغداد، وذلك نهايةَ ذي القعدة. فلما كان الأضحى اختفى الفَضلُ بن الربيع، ثم تحوَّلَ إلى حميد بن عبد الحميد، وجعل الهاشميُّون والقوَّاد يأتون حميدًا واحدًا بعد واحدٍ، فلمَّا رأى ذلك إبراهيمُ سُقِطَ في يديه، وشقَّ عليه، اختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة. وكانت أيامُ إبراهيم سنة وأحد عشر شهرًا واثني عشر يومًا.
هو عليُّ بنُ إسماعيلَ بنِ إسحاق بنِ سالم بن إسماعيلَ بنِ عبد الله بن موسى ابنِ أمير البصرةِ بلال بن أبي بُردة ابن صاحبِ رَسولِ اللهِ- صلَّى الله عليه وسلَّم- أبي موسى عبد الله بن قيس بن حضار الأشعري، اليماني، البصري. أبو الحسَن الأشعريُّ المتكلِّم المشهور، وُلِدَ بالبصرة سنة 260، وقيل: ولد سنة سبعين. كان عجبًا في الذَّكاء وقُوَّةِ الفَهمِ. يقولُ الذهبي: "لأبي الحسن ذكاءٌ مُفرِطٌ، وتبحُّرٌ في العِلمِ، وله أشياءُ حَسَنةٌ، وتصانيفُ جمَّة تقضي له بسَعةِ العلم" كان أوَّلَ أمرِه مع المعتزلةِ وتعَلَّم معهم، وعنهم أخذ حتى برع وصار إمامًا فيهم، حتى كان يتولَّى الجدلَ عن شيخِه الجُبَّائي، ولَمَّا برع في معرفةِ الاعتزال، كَرِه الجبَّائي وتبرَّأ منه، فأعلن رجوعَه عن الاعتزالِ وعمَّا كان يعتَقِدُه من معتقداتِهم، فمال إلى الفُقَهاءِ والمُحَدِّثين ثم أخذ يرُدُّ على المعتزلة، ويهتك عَوارَهم. قال الفقيه أبو بكر الصيرفي: "كانت المعتزلةُ قد رفعوا رؤوسَهم، حتى نشأ الأشعريُّ فحَجَرَهم في أقماعِ السِّمسِم" ولكنَّه لم يكُنْ كذلك على مِثلِ ما كان عليه المحَدِّثون من الاعتقادِ، فأصبح يشكِّلُ لنَفسِه مذهبًا مستقلًّا عُرِفَ إلى اليوم بالأشعريَّة، ثم بعد أن ظَلَّ فترةً على هذا المنوال مال بالكليَّة إلى مذهب المحَدِّثين كالإمام أحمد، والبربهاري، وغيرهم في الاعتقاد، ورجع عمَّا كان عليه, وألَّفَ لذلك كتابه الشهيرَ ((الإبانة عن أصول الدِّيانة))، فكانت مراحِلُه ثلاثة: الاعتزالُ، ثم الأشعريَّة، ثم رجع إلى أهل الحديثِ والأثَرِ، ومن مؤلَّفاتِه أيضًا: مقالات الإسلاميين، والرد على المجسمة وغيرها. قال زاهر بن أحمد السرخسي: "لَمَّا قَرُبَ حضورُ أجَلِ أبي الحسن الأشعري في دارِي ببغداد، دعاني فأتيتُه، فقال: اشهَدْ عليَّ أنِّي لا أكَفِّرُ أحدًا من أهل القِبلةِ؛ لأنَّ الكُلَّ يشيرونَ إلى معبودٍ واحدٍ، وإنَّما هذا كُلُّه اختلافُ العبارات" قلت- والكلام للذهبي-: "وبنحو هذا أدينُ، وكذا كان شيخُنا ابنُ تيميَّةَ في أواخِرِ أيَّامِه يقول: أنا لا أكَفِّرُ أحدًا مِن الأمَّةِ"
هو الإمامُ العلَّامةُ بدرُ الدين محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن محمد بن صلاح بن إبراهيم بن محمد العفيف بن محمد بن رزق، ينتهى نسَبُه إلى خيشنة الشوكاني نِسبةً إلى شوكان من بلاد خولان باليمن، وهو أحدُ أبرز عُلَماءِ أهل السنة والجماعة وفقهائِها، ومِن كبار علماء اليمن، ولِدَ في هجرة شوكان يوم الاثنين 28 من ذي الحجة سنة 1173 هـ بصنعاء، وتولى قضاءها، برعَ في الفقه والحديث والأصول والتفسير، وله مصنَّفات وفتاوى تدُلُّ على سعة عِلمِه وعُلُوِّ شأنِه، أما مصنَّفاتُه الكثيرةُ فيَصعُبُ حَصرُها هنا، ولكن من أشهرِها: نيل الأوطار في شرح منتقى الأخبار، وله تفسير فتح القدير الجامع بين فنَّي الرواية والدراية من علم التفسير، وله إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، وله إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وله البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، وله الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد، وله السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار في الفقه، وغيرها كثير، وأخذه عنه الطلبةُ، وتكرر أخذُهم عنه في كل يوم من تلك الكتبِ، وكثيرًا ما كان يقرأ على مشايخِه، فإذ فرغ من كتاب قراءةً أخذه عنه تلامذتُه، بل ربما اجتمعوا على الأخذِ عنه قبل أن يفرغَ من قراءةِ الكتاب على شيخِه، وكان يبلُغُ دروسه في اليوم والليلة إلى نحو ثلاثة عشر درسًا، منها ما يأخذه عن مشايخه، ومنها ما يأخذه عنه تلامذته، وكان في أيام قراءته على الشيوخِ وإقرائه لتلامذته يُفتي أهل مدينة صنعاء، بل ومن وفد إليها، بل ترد عليه الفتاوى من الديار التهامية، وشيوخُه إذ ذاك أحياءٌ، وكادت الفُتيا تدورُ عليه من عوامِّ الناسِ وخواصِّهم، واستمر يُفتي من نحو العشرين من عمرِه فما بعد ذلك، وكان لا يأخُذُ على الفتيا شيئًا؛ تنزُّهًا، فإذا عوتب في ذلك قال: أنا أخذتُ العلم بلا ثمنٍ، فأريد إنفاقَه كذلك. توفِّيَ الشوكاني في ليلة الأربعاء السابع والعشرين من شهرِ جمادى الآخرة.
بَعَث رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُحمَّدَ بنَ مَسلَمةَ رَضي اللهُ عنه، ومعه عَشَرةُ نَفَرٍ إلى بني ثَعلَبةَ من غَطَفانَ وبني عَوالٍ من ثَعلَبةَ، وهم بذي القَصَّةِ، فوَرَدوا عليهم ليلًا، فأحدَق به القومُ، وهم مئةُ رجلٍ، فتَرامَوا ساعةً من اللَّيلِ، ثم حَمَلتِ الأعرابُ عليهم بالرِّماحِ فقَتَلوهم جميعًا، ووَقَع محمدُ بنُ مَسلَمةَ جَريحًا، فضَرَبوا كعبَه فلم يتحرَّك فظَنُّوا مَوتَه، فجَرَّدوه من الثيابَ وانطَلَقوا، ومر بمُحمَّدٍ وأصحابِه رجلٌ من المسلمين فاستَرجَعَ، فلمَّا سَمِعه مُحمَّدٌ يَستَرجِعُ تَحرَّك له، فأخَذه وحَمَله إلى المدينةِ؛ فعند ذلك بَعَث رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبا عُبيدةَ بنَ الجرَّاحِ في أربعين رجُلًا إلى مَصارِعِهم فلم يَجِدوا أحدًا، ووَجَدوا نَعَمًا وشاءً فانحدَروا بها إلى المَدينةِ.
أَمَرَ سُليمانُ بن عبدِ الملك أَخاهُ مَسلمَة بالسَّيْرِ إلى القُسطنطينيَّة وألَّا يَعود حتَّى يَفتَحها، فَجَهَّزَهُ بمائةٍ وعشرين ألفًا في البَرِّ، ومائةٍ وعشرين ألفًا مِن المُقاتِلَة في البَحْرِ، وأَخرَج لهم الأُعْطِيات، وأَنفَق فيهم الأَموالَ الكَثيرَة، وأَعلَمَهم بِغَزْوِ القُسطنطينيَّة والإقامَة عليها إلى أن يَفتَحوها، ولمَّا اجْتَمَع العَساكِر عند سُليمان أَمَّرَ عليهم أَخاه مَسلمَة، وكان معه داودُ بن سُليمان بن عبدِ الملك, فسار الجَيْش إلى أن نَزلُوا على القُسطنطينيَّة فحاصَرَها عامًا كامِلًا فشَتَوْا وصافُوا بها، حتَّى عَرَضَ أَهلُها الجِزْيَةَ على مَسلمَة، فأَبَى إلَّا أن يَفتَحها عَنْوَةً, وبَقوا مُحاصِرين القُسطنطينيَّة دون جَدْوَى إلى أن تُوفِّيَ سُليمان بن عبدِ الملك في العاشِر مِن صَفَر سَنَة 99هـ، وتَوَلَّى عُمَرُ بن عبدِ العزيز الخِلافَةَ، فعادوا إلى الشَّامِ دون أن يَفتَحوا القُسطنطينيَّة.
في هذه السَّنَة وَجَّه إِبراهيمُ بن محمَّدِ بن عَلِيِّ بن عبدِ الله بن عَبَّاس الإمامُ أبا مُسلِم الخُراساني، واسمُه عبدُ الرَّحمن بن مُسلِم، إلى خُراسان، وعُمُره تِسع عَشرة سَنَة، وكتَبَ إلى أَصحابِه: إنِّي قد أَمَّرتُه بأَمري فاسمعوا له وأَطيعوا، فإنِّي قد أَمَّرتُه على خُراسان وما غَلَب عليه بعدَ ذلك. فأتاهم، فلم يَقبَلوا قوله وخَرَجوا مِن قابِل فالْتَقوا بمكَّة عند إبراهيم، فأَعلَمَه أبو مُسلِم أنَّهم لم يُنَفِّذوا كِتابَه وأَمْرَه. فقال إبراهيمُ قد عَرَضتُ هذا الأمرَ على غيرِ واحدٍ وأَبَوْهُ عليَّ. فأَعلَمَهم أنَّه قد أَجمَع رَأيَه على أبي مُسلِم، وأَمرَهم بالسَّمعِ والطَّاعة له، ثمَّ قال له: إنَّك رَجلٌ مِنَّا أهل البيتِ، احْفَظ وَصِيَّتي، انظُر هذا الحيَّ مِن اليَمَن فالْزَمهُم واسْكُن بين أَظهُرِهم، فإنَّ الله لا يُتِمُّ هذا الأمرَ إلَّا بهم.
هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، صاحِبُ الأندلس، سمِّيَ بالداخل؛ لأنَّه استطاع أن يهربَ مِن العباسيين رغمَ كُلِّ المحاولاتِ للإمساك به، واستطاع أن يدخُلَ الأندلسَ، وأن يكَوِّنَ فيها دولةً قَوِيَت يومًا بعد يوم، وقيل: كان عمره حينئذ عشرين سَنةً، وأما موتُه فكان بقرطبة، وصلَّى عليه ابنُه عبد الله، وكان عَهِدَ إلى ابنه هشام، وكان هشامٌ بمدينة ماردة واليًا عليها، وكان ابنُه سليمان بن عبد الرحمن، وهو الأكبَرُ، بطليطِلة واليًا عليها، فلم يحضُرا موت أبيهم، وحضَره عبد الله المعروفُ بالبلنسي، وأخذ البيعةَ لأخيه هشام، وكتب إليه بنعي أبيه ويهَنِّئُه بالإمارة، فسار هشامٌ إلى قرطبة. وكانت دولة عبد الرحمن ثلاثًا وثلاثين سنةً وأشهُر.
وثب أهلُ حِمصٍ بعامِلِهم أبي المُغيث موسى بن إبراهيم الرافعي، وكان قتَلَ رجلًا من رؤسائِهم، فقتلوا جماعةً مِن أصحابه، وأخرجوه، وأخرجوا عامِلَ الخراج، فبعث المتوكِّلُ إليهم عتَّاب بن عتاب، ومحمد بن عبدويه الأنباري، وقال لعتَّاب: قلْ لهم: إنَّ أميرَ المؤمنينَ، قد بَدَّلَكم بعامِلِكم، فإن أطاعوا فوَلِّ عليهم محمد بن عبدويه، فإن أبَوْا فأقمْ وأعلِمْني، حتى أُمِدَّك برجالٍ وفُرسانٍ، فساروا إليهم، فرَضُوا بمحمد بن عبدويه، فعَمِلَ فيهم الأعاجيبَ، حتى أحوَجَهم إلى محاربتِه, فأساء إليهم وعَسَف فيهم، فوثبوا به، وأمَدَّه المتوكِّلُ بجُندٍ مِن دمشق والرملة، فظفر بهم وقتلَ منهم جماعة، وأخرج النَّصارى منها، وهدَمَ كنائِسَهم، وأدخل منها بيعةً في الجامِعِ كانت تجاوِرُه.
هو سُليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد السِّجستاني، إمامٌ في الحديث، وُلِدَ بسجستان عام 202ه، رحل إلى بغداد وتفَقَّه فيها على الإمامِ أحمد وغيرِه، ورحل إلى الحجاز والشام ومصر، قال أبو بكر الخَلَّال: "أبو داود سليمانُ بن الأشعث السجستاني الإمامُ المقدَّم في زمانِه، رجلٌ لم يَسبِقْه إلى معرفةِ تخريجِ العلومِ وبَصرِه بمواضِعِها أحَدٌ مِن أهلِ زمانه، رجلٌ وَرِعٌ مُقَدَّم"، وقال إبراهيم الحربي: "أُلِينَ لأبي داودَ الحديثُ، كما أُلينَ لداودَ الحديدُ"، كان أحدَ حُفَّاظ الإسلام للحديثِ وعِلَلِه وسَنَدِه، وكان في أعلى درجةِ النُّسُك والعَفافِ والصَّلاحِ والوَرَع، من فُرسان الحديثِ، استقَرَّ بالبصرة بناءً على رغبة الموفَّق الخليفةِ العباسي، ودرَّس فيها إلى أن توفِّيَ فيها- رحمه الله تعالى- عن عمر 73 سنة.
هو الإمامُ الحافِظُ العلَّامة: أبو بكرٍ أحمدُ بنُ محمد بن هاني الإسكافي الأثرَم الطَّائي، وقيل: الكلبيُّ. أحدُ الأعلامِ، ومُصَنِّفُ (السُّنَن)، تلميذُ الإمام أحمد. ولد في دولة الرشيد. روى عنه كثيرًا مِن المسائِلِ، سَمِعَ مِن عفان، وأبي الوليد، والقعنبي، وأبي نُعيم، وابنِ أبي شيبة, وخلقٍ كثيرٍ، وحَدَّث عنه: النَّسائي في (سُنَنه)، وموسى بن هارون، ويحيى بن صاعد، وعليُّ بن أبي طاهر القزويني، وغيرهم. وكان حافظًا صادقًا قويَّ الذاكرة، كان ابنُ مَعينٍ يقول عنه: "كان أحدُ أبويه جِنِّيًّا"؛ لسُرعةِ فَهمِه وحِفظِه، وكان عالِمًا بكُتُبِ ابنِ أبي شيبة، وله كتبٌ مُصَنَّفةٌ في العِلَل والناسخ والمنسوخ، وكان من بحورِ العِلمِ، وله مُسنَدٌ مُصنَّفٌ كذلك.
في هذه السَّنةِ استولى ماكان بن كالي على جُرجان، وسبب ذلك أوَّلًا لَمَّا عاد ماكان من جرجان أقام بنَيسابور، وأقام بانجين بجُرجانَ، فلمَّا كان بعد ذلك خرج بانجين يلعَبُ بالكرة، فسقط عن دابَّتِه فوقع ميِّتًا، وبلغ خبَرُه ماكان بن كالي، وهو بنَيسابور، وكان قد استوحَشَ من عارض جيش خراسان، فاحتجَّ على محمَّد بن المظفَّر صاحب الجيش بخراسان بأنَّ بعض أصحابه قد هرب منه، وأنَّه قد يخرج في طَلَبِه، فأذِنَ له في ذلك، وسار عن نَيسابور إلى أسفرايين، فأنفذ جماعةً مِن عسكره إلى جُرجان واستولوا عليها، فأظهر العصيانَ على محمَّد بن المظفَّر، وسار من أسفرايين إلى نَيسابور، مغافصةً-على حين غِرَّةٍ-، وبها محمَّدُ بن المظفّر، فخذل محمَّدًا أصحابُه ولم يعاونوه، وكان في قلَّةٍ من العسكر غير مستعدٍّ له، فسار نحو سَرْخَس، وعاد ما كان من نَيسابور خوفًا من اجتماعِ العساكِرِ عليه.
بعد أن بدأ الخلاف في البيت الأيوبي وخاف كل أميرٍ من الآخر، لم يجدوا سبيلًا إلا الاستنجاد بالكُفَّار على إخوانهم، وتعهدوا لهم بعهودٍ ومواثيق وتسليمِ للبلاد, فسَلَّم الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق حصن شقيف أرنون لصاحب صيدا الفرنجي وسلَّمه غيرها من المدن، فاشتد الإنكارُ عليه من الناس عامَّةً؛ بسبب ذلك، حتى إن الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب البلد، والشيخ أبا عمرو بن الحاجب شيخ المالكية ندَّدا به وقطعا الخطبة له، فاعتقلهما مدةً ثم أطلقهما وألزمهما منازِلَهما، وولى الخطابةَ وتدريس الغزالية لعماد الدين داود بن عمر بن يوسف المقدسي خطيب بيت الأبار، ثم خرج الشيخان من دمشق، فقصد أبو عمرو الناصر داود بن الملك المعظَّم بالكرك، ودخل الشيخ عز الدين الديارَ المصريَّة.