هو أحمديل بن إبراهيم بن وهسوذان الروادي، الكردي، صاحب مراغة وغيرها من أذربيجان. في أول المحرم حضر أتابك طغتكين، صاحب دمشق، دارَ السلطان محمد ببغداد، وحضر جماعة من الأمراء ومعهم أحمديل وهو جالس إلى جانب طغتكين، فأتاه رجل متظلِّم، وبيده رقعة، وهو يبكي، ويسأله أن يوصِلَها إلى السلطان، فأخذها من يده، فضربه الرجلُ بسكين فجذبه أحمديل فبرك فوقَه، فوثب رفيق للباطني وضرب أحمديل سكينًا أخرى، فأخذَتْهما السيوف، وأقبل رفيق لهما وضرب أحمديل ضربة أخرى، فعجب الناس من إقدامِه بعد قَتلِ صاحِبَيه، وظن طغتكين والحاضرون أن طغتكين كان المقصود بالقتل، وأنه بأمرِ السلطان، فلما علموا أنهم باطنية زال هذا الوهم.
بدأ تجمُّع أصحاب الفكر الشيوعي والاشتراكي في أفغانستان منذ عام 1361هـ تحت اسم (ويش ذلميان) أي: حركة يقظة الشباب، وكان من أعضائها نور محمد تراقي، وبابرك كارمل، وكانت جريدة (أنجاد البرلمان) تنشر آراءهم، وتهاجم الإسلام، ثم أُلغيت هذه الجريدة عام 1393هـ، ثم نما هذا التجمُّع في عهد وزارة محمد داود، وأصدر محمد تراقي جريدةَ خلق، وفي 28 شعبان 1384هـ الأول من كانون الثاني عام 1965 نشرت جريدة خلق خبرَ ميلاد حزب (ديمقراتيك خلقي أفغانستان) أي: حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني، وعُقد أول اجتماع له في بيت تراقي، حضره 27 عضوًا، يُمثِّلون 77 مؤيدًا، وانتُخِب في ذلك اللقاء نور محمد تراقي رئيسًا للجنة المركزية التي ضمَّت 9 أعضاء، واختير بابرك كارمل نائبًا له، وكان من أعضاء اللجنة حفيظ الله أمين، وشاه ولي كريم، وطاهر بدخشي، ومير أكبر خيبر. دخل الحزبُ الانتخاباتِ عام 1385هـ / 1965م، وفاز بثلاثة مقاعد، اثنان عن كابل، والمقعد الثالث عن قندهار، ثم أخذت صحيفةُ خلق الشيوعية تدعو صراحةً لمبادئه الإلحادية، فتعالت الصيحاتُ ضِدَّها، فأُغلقت بتهمة العمل ضِدَّ الإسلام والهجوم عليه. ثم في سنة 1387هـ حدث انشقاقٌ في الحزب بين تراقي من قبيلة البشتو وبابرك كارمل من قبيلة الطاجيك؛ فانشق بابرك مع جماعته، فأسس حزب برشام (الراية) وأصدر صحيفة برشام، وأنشأ تراقي حزب الشعب مع أعوانه، ومنهم حفيظ الله أمين، وشجَّعت روسيا هذا الانقسام.
في ربيع الأول، سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر، فمَلَكَها ومعه العساكر النورية، وسَبَبُ ذلك تمكُّن الفرنج من البلاد المصرية، وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنةً وتسَلَّموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعةً من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكَموا المسلمين حكمًا جائرًا، ورَكِبوهم بالأذى العظيم، فعَمِلوا أيضًا على تجهيز الجيوش لتمَلُّك مصر كلها، وشرعوا يتجهَّزون ويُظهِرون أنَّهم يريدون قصد مدينة حمص، فلما سمع نور الدين محمود بهم شرع يجمَعُ عساكِرَه، وأمَرَهم بالقدوم عليه، وجَدَّ الفرنج في السير إلى مصر، فقدموها، ونازلوا مدينة بلبيس، ومَلَكوها قهرًا مستهَلَّ صفر، ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسَبَوا، وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج، ووعَدوهم النصرة، فقَوِيَ جنان الفرنج، وساروا من بلبيس إلى مصر، فنزلوا على القاهرة عاشِرَ صَفَر وحصروها، فخاف الناسُ منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحمَلَهم الخوف منهم على الامتناعِ، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونَه وبذلوا جُهدَهم في حفظه، وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر، وأمر أهلَها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن يُنهَب البلد، فانتقلوا، وبقُوا على الطرق، ونُهِبَت المدينة وافتقرَ أهلُها، وذهبت أموالُهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم، خوفًا أن يملِكَها الفرنج، فبَقِيَت النار تحرقها أربعة وخمسين يومًا، وأرسل حاكمُ مصر العاضد العبيدي إلى نور الدين يستغيثُ به، ويُعَرِّفُه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، فشرع في تسيير الجيوش، وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضَيَّقوا على أهلها، وشاوِر هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضَعُف عن ردهم، فأخلد إلى أعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يَذكُرُ له مودته ومحبته القديمة له، وأنَّ هواه معه؛ لخوفه من نور الدين والعاضد، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يُعَجَّل البعض، ويُمهَل البعض فاستقرت القاعدةُ على ذلك، وجعل شاوِر يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصَّل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وهم في خلالِ هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكونَ أسدُ الدين مقيمًا عندهم في عسكر، وأقطاعهم في الديار المصرية أيضًا خارجًا عن الثُّلث الذي لهم، وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدًّا منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصرَ رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادِهم بخُفَّي حُنَين خائبين مما أمَّلوا، وسمع نور الدين بعودهم، فسره ذلك، وأمر بضَربِ البشائر في البلاد، وبَثَّ رسله في الآفاق مبشرين بذلك، فإنه كان فتحًا جديدًا لمصر، وحفظًا لسائر بلاد الشام وغيرها، فأمَّا أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه وعاد إلى خيامِه بالعاضدية، وفرح به أهلُ مصر، وأُجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة، والإقامات الوافرة.
بعد أن دخل العثمانيون بعض بلاد الصفويين سنة 991, ورجع عثمان باشا إلى إستانبول، عاد في هذه السنة إلى غزو الصفويين وانتصر على قائدِهم حمزة ميرزا، ودخل تبريز عاصمَتَهم ثم جرى الصلح بين الطرفين، وتنازل الصفويون للعثمانيين عن بلاد الكرج وشروان ولورستان الواقعة جنوب أذربيجان.
بَعَث رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُحمَّدَ بنَ مَسلَمةَ رَضي اللهُ عنه، ومعه عَشَرةُ نَفَرٍ إلى بني ثَعلَبةَ من غَطَفانَ وبني عَوالٍ من ثَعلَبةَ، وهم بذي القَصَّةِ، فوَرَدوا عليهم ليلًا، فأحدَق به القومُ، وهم مئةُ رجلٍ، فتَرامَوا ساعةً من اللَّيلِ، ثم حَمَلتِ الأعرابُ عليهم بالرِّماحِ فقَتَلوهم جميعًا، ووَقَع محمدُ بنُ مَسلَمةَ جَريحًا، فضَرَبوا كعبَه فلم يتحرَّك فظَنُّوا مَوتَه، فجَرَّدوه من الثيابَ وانطَلَقوا، ومر بمُحمَّدٍ وأصحابِه رجلٌ من المسلمين فاستَرجَعَ، فلمَّا سَمِعه مُحمَّدٌ يَستَرجِعُ تَحرَّك له، فأخَذه وحَمَله إلى المدينةِ؛ فعند ذلك بَعَث رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبا عُبيدةَ بنَ الجرَّاحِ في أربعين رجُلًا إلى مَصارِعِهم فلم يَجِدوا أحدًا، ووَجَدوا نَعَمًا وشاءً فانحدَروا بها إلى المَدينةِ.
هو سُليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد السِّجستاني، إمامٌ في الحديث، وُلِدَ بسجستان عام 202ه، رحل إلى بغداد وتفَقَّه فيها على الإمامِ أحمد وغيرِه، ورحل إلى الحجاز والشام ومصر، قال أبو بكر الخَلَّال: "أبو داود سليمانُ بن الأشعث السجستاني الإمامُ المقدَّم في زمانِه، رجلٌ لم يَسبِقْه إلى معرفةِ تخريجِ العلومِ وبَصرِه بمواضِعِها أحَدٌ مِن أهلِ زمانه، رجلٌ وَرِعٌ مُقَدَّم"، وقال إبراهيم الحربي: "أُلِينَ لأبي داودَ الحديثُ، كما أُلينَ لداودَ الحديدُ"، كان أحدَ حُفَّاظ الإسلام للحديثِ وعِلَلِه وسَنَدِه، وكان في أعلى درجةِ النُّسُك والعَفافِ والصَّلاحِ والوَرَع، من فُرسان الحديثِ، استقَرَّ بالبصرة بناءً على رغبة الموفَّق الخليفةِ العباسي، ودرَّس فيها إلى أن توفِّيَ فيها- رحمه الله تعالى- عن عمر 73 سنة.
تدفقت بعض القبائل المغربية وخاصة قبائل لمطة إلى الضفة اليسرى لنهر النيجر عند مدينة دندي، وسيطرت هذه القبائل على الزرَّاع من أهل صنغي الذين رحَّبوا بهم ليحموهم من الصيادين الذين كانوا يعتدون عليهم، ونجح هؤلاء الوافدون الجدد في تكوين أسرة حاكمة استفادت من علاقاتها التجارية مع غانة وشمال أفريقيا، وكان لهذه العلاقة أثر بعيد في تحويل ملوك صنغي إلى الإسلام وانتشاره في غربي قارة أفريقيا. كانت صنغاي في بداية أمرها دويلة صغيرة تحت حكم مالي غرب نهر النيجر في المنطقة الواقعة شمال بنين وغربي نيجيريا، ثم انتقلت مع نهر النيجر إلى الشمال وانتقلت معها عاصمتها، فكانت في البداية في دندي ثم كوكيا ثم رأى ملوك الصنغاي أن ينقلوا حاضرة ملكهم إلى جاو لتكون على مقربة من طرق القوافل الرئيسية, ولما كانت الصنغاي تحت حكم مالي قد قدمت رهائن لضمان بقاء خضوعها، ولكن لم يلبث الرهائن وهما ولدا الملك صنغاي زايا سبيًا- وولداه هما علي كولن وسليمان نار- وكانا طفلين يوم أخذا كرهائن، ثم لما كَبِرا استطاعا الفرار من مالي ووصلا إلى جاو وأنقذا مدينتهما من الحامية المالية، وأسَّسا مملكة جديدة أخذت تتوسع على حساب مملكة مالي التي بدأ الضعف يدب فيها، وكان علي كولن أول ملوك الدولة الجديدة، لكنه مات فخلفه أخوه سليمان نار، ثم عادت مملكة صنغاي تتبع اسميًّا لمالي، ولكن ما زال أمر الصنغاي يقوى، وقام ملكهم محمد دوغو بحملة ضد مالي واستطاع أن يتخلص من سيطرة الماليين عليهم، ثم خلفه ابنه سني علي الذي يعد مؤسس مملكة صنغاي المنفصلة؛ حيث احتل مدينة تومبكتو وطرد الطوارق منها، كما أخضع منطقة النيجر كلها مستوليًا على مدينة جني باسطًا نفوذه على منطقة ياتنغا مقر قبائل الموش، فكان هذا العمل إعلان قيام مملكة صنغاي المنفصلة.
دخل السلطان محمود إلى بغداد، واجتهد في إرضاء الخليفة عن دبيس بن صدقة، وأن يسلِّمَ إليه بلاد الموصل، فامتنع الخليفةُ من ذلك وأبى أشدَّ الإباء، وقد تأخَّر دبيس عن الدخول إلى بغداد، ثم دخلها وركِبَ بين الناس فلعنوه وشتموه في وجهه، وقَدِم عماد الدين زنكي فبذل للسلطان في كل سنة مائة ألف دينار، وهدايا وتحفًا، والتزم للخليفة بمثلِها على ألَّا يولي دبيسًا شيئًا، وعلى أن يستمر زنكي على عمله بالموصل، فأقرَّه على ذلك وخلع عليه، ورجع إلى عمله فملك حلب وحماة، وفي رمضان جاء دبيس في جيش إلى الحلة فملكها ودخلها في أصحابه، وكانوا ثلاثمائة فارس، ثم إنه شرع في جمع الأموال وأخْذ الغلات من القرى حتى حصَّل نحوًا من خمسمائة ألف دينار، واستخدم قريبًا من عشرة آلاف مقاتل، وتفاقم الحالُ بأمره، وبعث إلى الخليفة يسترضيه فلم يرضَ عليه، وعرض عليه أموالًا فلم يقبلها، وبعث إليه السلطان جيشًا فانهزم إلى البرية، ثم أغار على البصرة فأخذ منها حواصِلَ السلطان والخليفة، ثم دخل البرية فانقطع خبرُه.
دخل أهلُ طرسوس بلادَ الروم غازين، ودخلها أيضًا نجا غلامُ سيفِ الدولة بن حمدان من دربٍ آخر، ولم يكن سَيفُ الدولة معهم لِمَرضِه؛ فإنَّه كان قد لَحِقَه قبل ذلك بسنتين فالجٌ، فأقام على رأس دربٍ من تلك الدروب، فأوغل أهلُ طرسوس في غزوتِهم حتى وصلوا إلى قونية وعادوا.
انطَلَقت الثورةُ اللِّيبيةُ بعد اعتقالِ محامي ضحايا سجن بوسليم "فتحي تربل" في مدينة بنغازي؛ فخَرَج أهالي الضَّحايا ومُناصِروهم لتَخليصِه؛ وتَلَتْها مُظاهَراتٌ للمُطالبةِ بإسقاطِ النِّظام بمدينةِ البيضاء، فأطلَق رجالُ الأمنِ الرَّصاصَ، وقَتَلوا بعضَ المتظاهِرين، كما خرَجَت مدينةُ الزنتان والرجبان في اليوم نفسِه، وقام المُتظاهِرون في الزنتان بحرقِ مقرِّ اللِّجان الثَّورِيَّة، ومركز الشُّرطة المحليِّ، ومبنَى المَصرِف العقاريِّ بالمدينة، وجاء يومُ الخميسِ (17 فبراير) من هذا العامِ على شكلِ انتفاضةٍ شَعبيَّةٍ شَمِلت بعضَ المدن الليبيَّةِ في المِنطَقة الشرقيةِ، فكَبُرت الاحتجاجاتُ بعد سُقوطِ أكثر من (400) ما بين قتيلٍ وجريحٍ برَصاصِ قوَّات الأمن. كانت الثورةُ في البِدايةِ عبارةً عن مُظاهَراتٍ واحتِجاجاتٍ سلميةٍ، لكن مع تطوُّر الأحداثِ وقيام الكتائِبِ التابِعة لمُعَمَّر القذافي باستخدامِ الأسلحةِ النارية الثقيلةِ والقصفِ الجويِّ لقَمعِ المُتظاهِرين العُزَّل، تحوَّلَت إلى ثورةٍ مُسلَّحةٍ تسعى للإطاحةِ بمُعَمَّرٍ القذافي الذي قرَّر القتالَ حتى اللحظةِ الأخيرةِ. وبعد أن أتمَّ المُعارِضون سيطرَتَهم على الشرقِ الليبيِّ أعلنوا فيه قيامَ الجمهوريةِ اللِّيبية بقيادةِ المجلسِ الوطنيِّ الانتقاليِّ، وفي يومَي (21 و22 أغسطس) دَخَل الثُّوار إلى العاصِمَةَ طرابُلْس وسيطروا عليها، كما تمَكَّنوا من السَّيطرةِ على آخِرِ معاقِلِ القذافيِّ؛ حيث قُتل أخيرًا في مدينة سرت في يوم (20) أكتوبر، بعد حُكمٍ دام أكثرَ من أربعين عامًا.
كان أبو بكرٍ قد كتَب إلى خالدٍ أن يَلحقَ بالشَّام لِمُساندةِ أَجنادِ المسلمين، وأَمَدَّ هِرقلُ الرُّومَ بباهان، فطلَع عليهم وقد قَدَّمَ الشَّمامِسَةَ والرُّهْبانَ والقِسِّيسينَ يَحُضُّونهم على القِتالِ، ولمَّا قَدِمَ خالدٌ الشَّامَ أشار على الأُمراءِ أن يَجتمِعوا تحت قِيادةٍ واحدةٍ، فقال لهم: إنَّ تَأْمِيرَ بعضِكم لا يُنْقِصُكم عند الله ولا عند خَليفةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فهَلُمُّوا فَلْنَتَعاوَر الإمارةَ، فليَكُنْ عليها بَعضُنا اليومَ، والآخرُ غدًا، حتَّى يتَأَمَّرَ كُلُّكُم، ودَعوني أَتَوَلَّى أَمْرَكم اليومَ, فأَمَّرُوه. خرَجت الرُّومُ في تَعْبِئَةٍ لم يَرَ الرَّاءون مِثلَها قَطُّ، مِائتي ألفٍ وأربعين ألفًا، منهم ثمانون ألفًا مُقَيَّدٌ بالسَّلاسِل. وخرَج خالدٌ في تَعْبِئَةٍ لم تُعَبِّئْها العَربُ قبلَ ذلك، وكان المسلمون سِتَّة وثلاثين ألفًا. وقِيلَ سِتَّة وأربعين ألفًا, جعلهم خالدٌ في سِتَّة وثلاثين كُرْدُوسا إلى الأربعين كُرْدُوس، شَهِدَ اليَرموك ألفٌ مِن أصحابِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فيهم نحوٌ مِن مِائةٍ مِن أهلِ بدرٍ, وكان أبو سُفيانَ يَسيرُ فيَقِفُ على الكَراديس فيقول: الله الله، إنَّكم ذَادَةُ العَربِ، وأنصارُ الإسلامِ، وإنَّهم ذَادَةُ الرُّومِ وأنصارُ الشِرْكِ! اللَّهمَّ إنَّ هذا يومٌ مِن أيَّامِك، اللَّهمَّ أَنزِلْ نَصرَك على عِبادِك. قال رجلٌ لخالدٍ: ما أكثرَ الرُّومَ وأَقَلَّ المسلمين! فقال خالدٌ: ما أَقَلَّ الرُّومَ وأكثرَ المسلمين! إنَّما تَكْثُرُ الجُنودُ بالنَّصرِ وتَقِلُّ بالخُذلانِ، لا بعددِ الرِّجالِ، والله لوَدِدْتُ أنَّ الأشقرَ -يعني فَرَسَهُ- بَرَأَ مِن تَوَجُّعِه وأنَّهم أَضْعَفُوا في العَدَدِ. خرَج جَرَجَةُ أحدُ قادةِ الرُّومِ حتَّى كان بين الصَّفَّيْنِ، ونادى: لِيَخرُج إليَّ خالدٌ، فخرَج إليه خالدٌ، فوافَقَهُ بين الصَّفَّيْنِ، حتَّى اختلفت أَعناقُ دابَّتَيْهِما، فحاوَرهُ خالدٌ حتَّى دخَل في الإسلامِ وكانت وَهْنًا على الرُّومِ. أَمَّرَ خالدٌ عِكرِمةَ والقَعقاعَ، والْتَحَم النَّاسُ، وتَطارَد الفِرْسانُ وهُم على ذلك إذ قَدِم البَريدُ مِن المدينةِ، بموتِ أبي بكرٍ وتَأْميرِ أبي عُبيدةَ، فأسرَّ خالدٌ الخَبَرَ حتَّى لا يُوهِنَ الجيشَ، وحَمِيَ الوَطيسُ، واشْتَدَّ القِتالُ, وقام عِكرمةُ بن أبي جهلٍ يُنادي: مَن يُبايِع على الموتِ؟ فبايَعَهُ أربعمائة مِن وجوه المسلمين، فقاتلوا حتَّى أُثْبِتُوا جميعًا, فهزَم الله الرُّومَ مع اللَّيلِ، وصعَد المسلمون العَقبةَ، وأصابوا ما في العَسكرِ، وقتَل الله صناديدَهُم ورءوسَهُم وفِرسانَهُم، وقتَل الله أخا هِرقل، وأُخِذَ التَّذارِقُ، وقاتَل جَرَجَةُ قِتالًا شديدًا مع المسلمين، إلى أن قُتِلَ عند آخرِ النَّهارِ، وصلَّى النَّاسُ الأوُلى والعصرَ إيماءً، وتَضَعْضَع الرُّومُ، ونهد خالد بالقلبِ حتَّى كان بين خَيْلِهِم ورَجْلِهم، فانهزم الفِرْسان وتركوا الرَّجَّالةَ. ولمَّا رَأي المسلمون خيلَ الرُّومِ قد تَوجَّهَت للمَهْرَبِ أَفرَجوا لها، فتَفرَّقَت وقُتِلَ الرَّجَّالةُ، واقتحموا في خَندقِهم فاقْتَحَمه عليهم، فعَمِدوا إلى الوَاقُوصَةِ حتَّى هوى فيها المُقتَرِنون وغيرُهم، ثمانون ألفًا مِن المُقْتَرِنين، ودخَل خالدٌ الخَندقَ ونزَل في رِواقِ تَذارِق، وانتهت الهَزيمةُ إلى هِرقل وهو دون مَدينةِ حِمْصَ، فارْتَحَلَ.
وجَّه المعتصِمُ القائد العسكري التركي بغا الكبيرَ إلى الأفشين، ومعه مالٌ للجندِ والنفقات، فوصل أردبيل، فبلغ بابك الخبر، فتهيَّأ هو وأصحابُه ليقطعوا عليه قبل وُصولِه إلى الأفشين، فجاء جاسوسٌ إلى الأفشين، فأخبَرَه بذلك، فلما صَحَّ الخبَرُ عند الأفشين كتب بغا أن يُظهِرَ أنَّه يريد الرحيلَ، ويحمِل المالَ على الإبل، ويسير نحوه، حتى يبلغ حصنَ النَّهر، فيَحبِس الذي معه، حتى يجوزَ مَن صَحِبَه من القافلة، فإذا جازوا رجع بالمال إلى أردبيل. ففعل بغا ذلك، وسارت القافلةُ، وجاءت جواسيسُ بابك إليه، فأخبَروه أن المال قد سار فبلغ النَّهرَ، وركب الأفشين في اليومِ الذي واعدَ فيه بغا عند العصرِ، مِن برزند، فنزل خارِجَ خندق أبي سعيد، فلما أصبح ركِبَ سِرًّا ورحلت القافلة التي كانت توجَّهَت ذلك اليوم من النهر إلى ناحيةِ الهيثم، وتعبَّى بابك في أصحابِه، وسار على طريق النهر، وهو يظنُّ أن المالَ يُصادِفُه، فخرجت خيلُ بابك على القافلة، ومعها صاحِبُ النهر، فقاتَلَهم صاحبُ النهر، فقتلوه، وقتلوا من كان معه من الجند، وأخذوا جميعَ ما كان معهم، وعَلِموا أن المالَ قد فاتهم، وأخذوا عَلَمَه ولباسَ أصحابِه، فلبسوها وتنكَّروا ليأخذوا الهيثم الغنوي ومن معه أيضًا ولا يعلمونَ بخروج الأفشين، وجاؤوا كأنَّهم أصحابُ النهر، فلم يعرفوا الموضِعَ الذي يقف فيه علَمُ صاحب النهر، فوقفوا في غيرِه وجاء الهيثمُ فوقف في موضِعِه، وأنكر ما رأى، فوجَّهَ ابنَ عم له، فقال له: اذهَبْ إلى هذا البغيضِ فقُلْ له: لأيِّ شَيءٍ وقوفُك؟ فجاء إليهم فأنكَرَهم، فرجع إليه فأخبَرَه، فأنفذ جماعةً غيرَه، فأنكروهم أيضًا وأخبروه أنَّ بابك قد قتَلَ علويه، صاحبَ النهر، وأصحابَه، وأخذ أعلامَهم ولباسَهم، فرحل الهيثمُ راجعًا ونَجَت القافلةُ التي كانت معه، وبقيَ هو وأصحابُه في أعقابهم حاميةً لهم حتى وصلت القافلةُ إلى الحصن، وسيَّرَ رجلين من أصحابِه إلى الأفشين وإلى أبي سعيدٍ يُعَرِّفُهما الخبر، ودخل الهيثمُ الحصن، ونزل بابك عليه، وأرسل إلى الهيثمِ أن خَلِّ الحِصنَ وانصرِفْ، فأبى الهيثمُ ذلك، فحاربه بابك وهو يشرَبُ الخمرَ على عادته والحربُ مُشتَبِكةٌ، وسار الفارسان، فلقيا الأفشين على أقلَّ مِن فرسَخٍ، وأجرى الناسُ خَيلَهم طلقًا واحدًا حتى لَحِقوا بابك وهو جالِسٌ، فلم يُطِقْ أن يركَبَ، حتى وافته الخيلُ، فاشتبكت الحربُ، فلم يُفلِتْ من رَجَّالة بابك أحدٌ، وأفلت هو في نفرٍ يسيرٍ مِن خيَّالتِه، ودخل موقان وأقام بها فلمَّا كان في بعضِ الأيام مرَّت قافلة، فخرج عليها أصبهنذ بابك، فأخذها وقتَل مَن فيها، فقَحِطَ عسكرُ الأفشين لذلك، فكتب الأفشينُ إلى صاحب مراغة بحَملِ الميرة وتعجيلِها، فوجه إليه قافلةً عظيمة، ومعها جندٌ يسيرون بها فخرج عليهم سريةٌ لبابك، فأخذوها عن آخِرِها وأصاب العسكرَ ضِيقٌ شديد، فكتب الأفشين إلى صاحبِ شيروان يأمُرُه أن يحمِلَ إليه طعامًا، فحمل إليه طعامًا كثيرا وأغاث الناسَ، وقدِمَ بغا على الأفشين بما معه.