لمَّا اطْمأنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بخَيبرَ بعدَ فَتحِها أَهدَتْ له زَينبُ بنتُ الحارثِ -امرأةُ سَلاَّمِ بنِ مِشْكَمٍ- شاةً مَصْلِيَّةً، وقد سَألتْ أيَّ عُضْوٍ أَحَبُّ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقِيلَ لها: الذِّراعُ، فأَكثرتْ فيها مِنَ السُّمِّ، ثمَّ سَمَّتْ سائرَ الشَّاةِ، ثمَّ جاءت بها، فلمَّا وَضعتْها بين يَدي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تناوَلَ الذِّراعَ، فَلاكَ منها مُضغةً فلم يسغْها، ولَفَظَها، ثمَّ قال: (إنَّ هذا العَظمُ لَيخبِرُني أنَّه مَسمومٌ). ثم دَعا بها فاعْترَفتْ، فقال: (ما حمَلكِ على ذلك؟). قالتْ: قلتُ إن كان مَلِكاً استَرحتُ منه، وإن كان نَبِيًّا فسيُخبَرُ، فتجاوَز عنها. وكان معه بِشْرُ بنُ البَراءِ بنِ مَعْرورٍ، أخَذ منها أَكلةً فأَساغَها، فمات منها, واخْتلفَتِ الرِّواياتُ في التَّجاوُزِ عنِ المرأةِ وقَتْلِها، وأجمعوا بأنَّه تَجاوَز عنها أوَّلًا، فلمَّا مات بِشْرُ قَتَلَها قِصاصًا.
الفَرَزدَق هو هَمَّام بن غالِب التَّميمِي أبو فِراس، له مَواقِف وأَشعار في الذَّبِّ عن آلِ البَيتِ، كان غالِبَ شِعْرِه الفَخْرُ، تُوفِّي وعُمُرُه يُقارِب المِائة. وجَدُّهُ صَعْصَعَة بن ناجِيَة صَحابِيٌّ، وَفَدَ إلى رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان يُحْيِي المَوْءُودَة في الجاهِلِيَّة. قال: الفَرَزدَق وَفَدْتُ مع أبي على عَلِيٍّ، فقال: مَن هذا؟ قال: ابني وهو شاعِرٌ. قال: عَلِّمْهُ القُرآنَ فهو خَيْرٌ له مِن الشِّعْرِ. قال الفَرَزدَق: نَظَر أبو هُريرةَ إلى قَدَمي فقال: يا فَرَزدَق إنِّي أَرَى قَدَمَيك صَغِيرتَين، فاطْلُب لَهُما مَوْضِعًا في الجَنَّة. فقلتُ: إنَّ ذُنوبي كَثيرَة. فقال: لا تَيْأَس. و لمَّا سُئِلَ عن قَيْدٍ في رِجْلِه قال: حَلَفْتُ أن لا أَنْزَعَه حتَّى أَحفَظَ القُرآنَ. قال له بَعضُهم: ألا تَخافُ مِن الله في قَذْفِ المُحْصَنات؟ فقال: واللهِ للهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن عَيْنَيَّ اللَّتَيْنِ أُبصِرُ بهما، فكيف يُعَذِّبُني؟. أمَّا جَرير فهو جَريرُ بن عَطِيَّة بن الخَطَفِيِّ، أبو حَزْرَةَ، الشَّاعِر البَصْرِي. اشْتَهَر جَريرٌ بِرِقَّةِ شُعورِه وحُسْنِ خُلُقِه. سَمَّتْهُ أُمُّهُ جَريرًا -وهو الحَبْلُ الغَليظُ- لأنَّ أُمَّهُ رَأتْ وهي حامِل به أنَّها وَلَدَتْ جَريرًا يعني الحَبْلَ، فسَمَّتْهُ بذلك، تُوفِّي وهو ابنُ اثنين وثمانين عامًا، وكان في عَصْرِه مِن الشُّعَراء الذين يُقارَنون به الفَرَزدَق، والأَخْطَل، وكان بين الثَّلاثة تَناظُر بالأَشْعار وتَساجُل، وكان جَريرٌ أَشْعَرَهُم وأَخْيَرَهُم. لمَّا مات الفَرَزدَق وبَلَغ خَبرُه جَريرًا بَكَى وقال: أمَّا والله إنِّي لأَعلَمُ أنِّي قَليلُ البَقاءِ بَعدَه، ولقد كان نَجْمًا واحِدًا وكُلُّ واحِد مِنَّا مَشغولٌ بِصاحِبِه، وقَلَّما مات ضِدٌّ أو صَديقٌ إلَّا وتَبِعَهُ صاحِبُه. وكذلك كان، مات جَريرٌ بَعدَه بِأَشهُر.
هو أبو عبدِ الرَّحمن مُعاوِيَةُ بن أبي سُفيان الأُمَويُّ القُرشيُّ، مِن أصحابِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وأحدُ كُتَّابِ الوَحْي، سادِسُ الخُلفاءِ في الإسلامِ، وأوَّلُ مُلوكِ المسلمين، ومُؤَسِّسُ الدَّولةِ الأُمويَّة في الشَّام، وُلِدَ بمكَّة وتَعَلَّم الكِتابَةَ والحِسابَ، أَسلَم مُعاوِيَةُ رضي الله عنه يومَ الفَتحِ، وقِيلَ: في عُمرَةِ القَضاءِ وكان يَكتُم إسلامَهُ خَوفًا مِن أَبيهِ، وقد اسْتَعمَله رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على كِتابَةِ الوَحْي، واسْتَعمَلَه على الشَّامِ الخُلفاءُ: عُمَرُ، وعُثمانُ، وبَقِيَ على الشَّام في خِلافَة عَلِيٍّ بغَيرِ رِضاهُ، فبَقِيَ كذلك قُرابةَ العِشرين سنة، ثمَّ تَمَّ له الأَمْرُ بعدَ تَنازُلِ الحسنِ بن عَلِيٍّ له، وبَقِيَ خَليفَةً مُدَّةَ تِسعةَ عشرَ عامًا وأَشْهُر، فتَح الله له فيها الكثيرَ مِن البِلادِ، واشْتُهِرَ بالحِكمَةِ في سِياسَتِه للنَّاس، ومُداراتِه لهم، وكان قد عَهِدَ لابنِه يَزيدَ قبلَ مَوتِه، وبعَث في البِلادِ لِيأخُذوا له ذلك، وتُوفِّي في دِمشقَ وصلَّى عليه الضَّحَّاكُ بن قيسٍ، ودُفِنَ فيها، جَزاهُ الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين.
قال ابنُ كَثيرٍ في تَفسيرِ قولِه تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} هذا كان يومَ حَمراءِ الأسدِ، وذلك أنَّ المشركين لمَّا أصابوا ما أصابوا مِن المسلمين -أي يومَ أُحُدٍ-كَرُّوا راجِعين إلى بلادِهم، فلمَّا استَمرُّوا في سَيْرهِم تَنَدَّمُوا لِمَ لا تَمَّموا على أهلِ المدينةِ وجعلوها الفَيْصلةَ. فلمَّا بلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَدَبَ المسلمين إلى الذِّهابِ وراءَهُم ليُرْعِبَهم ويُرِيَهُم أنَّ بهِم قُوَّةً وجَلَدًا، ولم يأذنْ لأَحَدٍ سِوَى مَن حضر الوَقعةَ يومَ أُحُدٍ، سِوَى جابرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه فانْتدبَ المسلمون على ما بهِم مِنَ الجِراحِ والإثْخانِ طاعةً لله عزَّ وجلَّ ولِرسولِه صلى الله عليه وسلم. عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّها قالت في قولِه تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} قالت لِعُروةَ: يا ابنَ أُختي، كان أَبَواكَ منهم: الزُّبيرُ، وأبو بكرٍ، لمَّا أصابَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما أصابَ يومَ أُحُدٍ، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يَرجِعوا، قال: «مَن يَذهبُ في إثْرِهِم» فانْتدَبَ منهم سبعون رجلًا، قال: كان فيهم أبو بكرٍ، والزُّبيرُ". قال ابنُ كُثيرٍ عَقِبَ ذِكرِ هذا الحديثِ: (وهذا السِّياقُ غريبٌ جِدًّا، فإنَّ المشهورَ عند أصحابِ المغازي أنَّ الذين خرجوا مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى حَمراءِ الأسدِ كُلُّ مَن شَهِدَ أُحُدًا، وكانوا سبعمائةٍ، قُتِلَ منهم سبعون، وبَقِيَ الباقون). والظَّاهرُ أنَّه لا تَخالُف بين قولي عائشةَ وأصحابِ المغازي؛ لأنَّ معنى قولِها: فانْتدَبَ لها سبعون. أنَّهم سبَقوا غيرَهُم، ثمَّ تلاحَق الباقون.
وموقعُ حمراءِ الأسدِ على بُعْدِ ثمانيةِ أَميالٍ مِنَ المدينةِ.
لمَّا تَسلَّم عَلِيُّ بن أبي طالبٍ الخِلافةَ بدَأ بِعَزْلِ بعضِ العُمَّالِ وأبدَلَهم بآخَرين، وكان ممَّن عزَلَهم مُعاويةُ بن أبي سُفيانَ الذي كان على الشَّامِ, كان رأيُ عَلِيٍّ في قَتلةِ عُثمانَ عدمَ الاسْتِعجالِ في القِصاصِ قبلَ أن يَسْتَتِبَّ الأمرُ ويَقْوَى سُلطانُ الخِلافةِ, وكان مُعاويةُ على رأي أهلِ الجَملِ الاسْتِعجال في الاقْتِصاصِ مِن قَتَلَةِ عُثمانَ، قَرَّرَ عَلِيٌّ عَزْلَ مُعاويةَ عن وِلايةِ الشَّام, ووَلَّى بدلًا عنه سَهلَ بن حَنيفٍ، ولمَّا سار الأخيرُ للشَّامِ رَفَضَهُ أهلُها، وأَبَى مُعاويةُ الانْعِزالَ؛ لأنَّه يَرى أنَّ الأمرَ لم يَسْتَتِبَّ تمامًا لِعَلِيٍّ، وخاصَّةً أنَّ قَتَلَةَ عُثمانَ لا يَزالون يَسرَحون في البِلادِ، فقام عَلِيٌّ بالحَزْمِ وهو لا يَرضى اللِّينَ في مِثل ذلك، فحَرَّك جيشًا إليه وهو على رَأسِهِم؛ ولكنَّه تَحوَّلَ إلى البَصرَةِ بعدَ سَماعِه بخُروجِ طَلحةَ والزُّبيرِ وعائشةَ ومَن معهم، فكانت مَوقعةُ الجَملِ، وبعدَ أن انتهى مِن الجَملِ وبَقِيَ في الكوفةِ فَترةً أرسَل خِلالَها جَريرَ بن عبدِ الله لِمُعاويةَ ليُبايِعَ له، ويُبَيِّنَ له حُجَّةَ عَلِيٍّ في أَمْرِ القَتَلَةِ؛ لكنَّ مُعاويةَ لم يُعْطِ جَوابًا، ثمَّ تَتابَعت الرُّسُلُ ولكن دون جَدوى حتَّى سَيَّرَ عَلِيٌّ الجيشَ، وعَلِمَ مُعاويةُ بذلك فسار بجَيشِه وسَبَقَ إلى صِفِّينَ واسْتَمْكَنَ مِن الماءِ، ولمَّا وصَل عَلِيٌّ طلَب أن يكونَ الماءُ حُرًّا للطَّرَفين فأَبَوْا عليه، فاسْتَطاع أهلُ العِراقِ إزاحَتَهُم عن الماءِ فجعَلهُ عَلِيٌّ رضِي الله عنه حُرًّا للجَميعِ، وبَقِيَ الطَّرفان أيَّامًا دون قِتالٍ، ثمَّ وقَع القِتالُ ودخَل شهرُ مُحَرَّم فتَوقَّفَ الفَريقان عن القِتالِ لَعَلَّهُم يتَصالحون، وكانت السُّفَراءُ بينهم ولكن دون جَدوى، فعَلِيٌّ باقٍ على رَأيِه ومُعاويةُ لا يَستَجيبُ بشيءٍ، ثمَّ عادت المُناوَشاتُ واسْتَمرَّتْ لشهرِ صَفَر، ثمَّ اشْتَدَّ القِتالُ ثلاثةَ أيَّامٍ قُتِلَ فيها عمَّارُ بن ياسرٍ الذي قال فيه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (وَيْحَ عمَّارٍ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ). ولمَّا بدأت لَوائحُ الهَزيمةِ تَلوحُ على أهلِ الشَّام اقْتَرحوا التَّحْكيمَ، ثمَّ كُتِبَتْ صَحيفةُ التَّحكيمِ وشهِد عليها رِجالٌ مِن الطَّرَفين، ثمَّ رحَل عَلِيٌّ إلى الكوفةِ ومُعاويةُ إلى الشَّامِ، ثمَّ اجْتَمع المحكمان أبو موسى الأشعريُّ مِن طَرَف عَلِيٍّ وعَمرُو بن العاصِ مِن طَرَف مُعاويةَ، ولكنَّ اجْتِماعَهُما لم يُسْفِرْ عن أيِّ اتِّفاقٍ ممَّا جعَل عَلِيًّا يَتَهَيَّأُ للمَسيرِ ثانِيةً للشَّامِ؛ ولكنَّ أمرَ الخَوارِجِ صرَفهُ عن ذلك.
لَمَّا قُبِضَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ارتدَّت العَرَبُ، واشرأَبَّ النِّفاقُ، وعَظُمَ الخَطْبُ واشتدَّت الحالُ، وأنفذ الصِّديقُ جَيشَ أُسامةَ، فقَلَّ الجندُ عند الصِّدِّيقِ، فطمَعِتَ كثيرٌ من الأعرابِ في المدينةِ، وراموا أن يَهجُموا عليها، فجَعَل الصِّدِّيقُ على أنقابِ المدينةِ حُرَّاسًا يبَيتون بالجُيوشِ حولَها، وجعَلَت وفودُ العَرَبِ تَقدَمُ المدينةَ يُقِرُّونَ بالصَّلاةِ ويمتنعون من أداء الزكاةِ، ومنهم من امتَنَع مِن دَفْعِها إلى الصِّدِّيقِ، وقد تكلَّم الصَّحابةُ مع الصِّدِّيقِ في أن يترُكَهم وما هم عليه مِن مَنْعِ الزَّكاةِ ويتألَّفَهم حتى يتمكَّنَ الإيمانُ في قلوبِهم، ثم هُم بعد ذلك يزكُّونَ، فامتنع الصِّدِّيقُ من ذلك وأباه، فقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ لأبي بكرٍ: علامَ تقاتِلُ النَّاسَ؟ وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أُمِرتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتى يَشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، فإذا قالوها عصَمَوا مني دِماءَهم وأموالَهم إلَّا بحَقِّها؟ فقال أبو بكرٍ: واللهِ لو منعوني عَناقًا -وفي روايٍة: عِقالًا- كانوا يؤدُّونه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لأقاتِلَنَّهم على مَنْعِها؛ إنَّ الزكاةَ حقُّ المالِ، واللهِ لأقاتِلَنَّ مَن فَرَّق بين الصَّلاةِ والزكاةِ. قال عُمَرُ: فما هو إلَّا أن رأيتُ اللهَ قد شَرَح صَدْرَ أبي بكرٍ للقِتالِ، فعَرَفْتُ أنَّه الحَقُّ، وقاتلهم الصِّدِّيق رضي الله عنه حتى لم يَبْقَ بجزيرةِ العَرَبِ إلَّا أهلُ طاعةٍ لله ولرَسولِه، وأهلُ ذِمَّةٍ مِن الصِّدِّيقِ، كأهلِ نجرانَ وما جرى مجراهم، وعامَّةُ ما وقع من هذه الحروبِ كان في أواخِرِ سنةِ إحدى عَشْرةَ وأوائِلِ سنةِ اثنتي عَشْرةَ.
اختلفتْ الأقوالُ في عُمُرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعُمُرِ خَديجةَ حين زَواجهِما، فقِيل: كان خمسًا وعِشرين. وقِيل: سبعًا وعِشرين. وقِيل: ثلاثين. وقِيل: غيرَ ذلك، وأمَّا عُمُرُ خَديجةَ فكذلك تضاربتِ الأقوالُ بين خمسٍ وثلاثين وأربعين وغيرِ ذلك، لمَّا سمِعتْ خَديجةُ رضي الله عنها بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وبأمانتِه و أخلاقِه الكريمةِ، فقد جاء في رِوايةٍ: أنَّ أُختَ خَديجةَ قد اسْتَكْرَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وشَريكَه، فلمَّا قَضَوْا السَّفرَ بقِي لهم عليها شيءٌ، فجعل شَريكُه يأتيهِم ويتقاضاهُم، ويقولُ لمحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم): انطلقْ. فيقولُ: اذهبْ أنت، فإنِّي أستحيي. فقالتْ مَرَّةً -وقد أتاهُم شَريكُه-: أين محمَّدٌ لا يجيءُ معك؟ قال: قد قلتُ له، فزعَم أنَّه يَستحيي، فذكرتْ ذلك لأختِها خَديجةَ، فقالتْ: ما رأيتُ رجلًا قَطُّ أشدَّ حياءً، ولا أَعَفَّ ولا......من محمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم). فوقع في نَفْسِ أختِها خَديجةَ، فبعثتْ إليهِ، فقالتْ: ائْتِ أبي فاخطُبْ إليهِ. فقال: أبوكِ رجلٌ كثيرُ المالِ وهو لا يفعلُ. قالتْ: انطلقْ فالقِه وكَلِّمْهُ، ثمَّ أنا أَكفيكَ. وقد تزوَّجها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وهي ثَيِّبٌ.
هو محمَّد بن عَلِيٍّ بن أبي طالِب، أُمُّهُ خَوْلَةُ بِنتُ جَعفَر مِن بني حَنِيفَة مِن سَبْيِ اليَمامَة، نُسِبَ إليها تَمييزًا له عن أَخَوَيْهِ الحسن والحُسين وَلَدَي فاطِمَة رضي الله عنهم أجمعين، كانت الشِّيعَة في زَمانِه تَتَغالى فيه، وتَدَّعِي إمامَتَه، وأوَّل مَن دَعا إلى ذلك المُخْتار الثَّقَفِيُّ، ولَقَّبُوه بالمَهْدِيِّ، ويَزعُمون أنَّه لم يَمُت، كان أحدَ الأبطال الشُّجْعان، وكان كثيرَ العِلْم والوَرَع، تُوفِّي في المدينة ودُفِنَ في البَقيع كما قال وَلدُه عبدُ الله، وله خَمْسٌ وسُتُّون سَنَة.
بعدَ أن تَوَلَّى المُثَنَّى بن حارِثةَ قِيادةَ المسلمين وكان عُمَر رضِي الله عنه يُمِدُّهُ بالمُقاتلين، الْتَقَى المُثَنَّى مع الفُرْسِ في البُوَيْب قُرْب الكوفةِ، وطلَبَت الفُرْسُ أن يَعبُرَ المسلمون إليهم، أو أن يَعبُروا هُم إليهم، فاختار المُثَنَّى أن يَعبُر الفُرْسُ فعَبَروا, وجرَت مَعركةٌ عَنيفةٌ هُزِم فيها الفُرْسُ هزيمةً مُنكَرةً، وقُتِلَ منهم الكثيرُ قتلًا أو غَرَقًا في النَّهرِ، وقُتِلَ فيها قائدُ الفُرْسِ مِهرانُ.
هو أبو بكرٍ الصِّدِّيق عبدُ الله بن عُثمانَ بن عامرِ بن كعبِ بن سعدِ بن تَيْمِ بن مُرَّةَ بن كعبِ بن لُؤَيٍّ. وهو أحدُ العشرةِ المُبشَّرين بالجنَّةِ، وأوَّلُ الخُلفاءِ الرَّاشِدين، مِن أَوائلِ المُصَدِّقين للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والمؤمنين به، بَقِيَ معه في مكَّة حتَّى هاجَر معه فكان صاحِبَه في ذلك، قَدَّمَهُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم للصَّلاةِ بالنَّاس في مَرَضِ مَوتِه، أَنفقَ في سبيلِ الله كُلَّ مالِه، كان وَزيرَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصاحِبَ مَشورَتِهِ، بايَعَهُ المسلمون على الخِلافَةِ بعدَ مَوْتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كما هو مَذكور، تُوفِّيَ أبو بكرٍ الصِّدِّيق بعدَ أن بَقِيَ خَليفةً مُدَّةَ سَنتين وثلاثةِ أَشهُر وعشرةِ أيَّام، تُوفِّيَ بعدَ أن مَرِضَ، وقد قام خِلالَ هذه المُدَّةِ القصيرةِ بِرَدِّ المُرْتَدِّين وحَرْبِهِم والتي شَمِلَتْ أجزاءَ الجزيرةِ كلَّها، ثمَّ كانت الحُروبُ مع الفُرْسِ والرُّومِ حيث أظهرت قُوَّةَ المسلمين وإمكاناتِهم القِتاليَّة التي لا يُستهان بها، دُفِنَ بجانِبِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حُجْرَةِ عائشةَ، فكان مع صاحِبِه كما كان معه في الدُّنيا، فجزاهُ الله عن الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ خيرًا ورضِي الله عنه وأَرضاهُ.
بَعَث رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عُكَّاشةَ بنَ مِحصَنٍ رَضي اللهُ عنه إلى الغَمْرِ -ماءٍ لبني أسَدٍ- في أربعين رَجلًا، فيهم: ثابِتُ بنُ أقرَمَ، وشُجاعُ بنُ وَهبٍ؛ فخَرَج سَريعًا ونَذِرَ به القَومُ فهَرَبوا فنَزَلوا عَلياءَ بلادِهِم، ووَجَد ديارَهم خُلوفًا -أي: أهلُها غائِبون-، فبَعَث شُجاعَ بنَ وَهبٍ طَليعةً؛ فرَأى أثَرَ النَّعَمِ، فتَحمَّلوا فأصابوا مَن دَلَّهم على بَعضِ ماشيَتِهِم، فأمَّنوه، فدَلَّهم على نَعَمٍ لبني عمٍّ له، فأغاروا عليها، فاستاقوا مِائتَي بَعيرٍ؛ فأرسَلوا الرَّجلَ، وساقوا النَّعَمَ إلى المدينةِ، وقَدِموا على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولم يَلقَوا كَيدًا.
كانت بعدَ غزوة مُؤْتَةَ، وسُمِّيتْ ذاتَ السَّلاسِلِ لأنَّها وقعت بالقُرْبِ مِن ماءٍ يُقالُ له: السَّلْسَلُ. بلَغ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّ جمعًا مِن قُضاعةَ تَجَمَّعوا وأَرادوا أن يَدنوا مِن أَطرافِ المدينةِ فَدعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَمرَو بنَ العاصِ فعقَد له لِواءً أَبيضًا وبَعثَهُ في ثلاثمائةٍ مِن سَراةِ المُهاجرين والأنصارِ، فكان أَميرُها عَمرَو بنَ العاصِ رضي الله عنه. قال عَمرٌو: بعَث إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: خُذْ عليك ثِيابَك وسِلاحَك ثمَّ ائْتِني. فأَتيتُه وهو يتَوضَّأُ، فصَعَّد فِيَّ النَّظرَ، ثمَّ طَأْطَأَ، فقال: إنِّي أُريدُ أن أَبعثَكَ على جَيشٍ، فيُسَلِّمَك الله ويُغْنِمَك، وأَرْغَبُ لك مِنَ المالِ رَغبةً صالِحةً، قال: قلتُ: يا رسولَ الله، ما أَسلمتُ مِن أجلِ المالِ، ولكنِّي أَسلمتُ رَغبةً في الإسلامِ، وأن أكونَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عَمرُو، نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للمَرءِ الصَّالحِ).
وفي الغَزوةِ سأَلهُ أصحابُه أن يُوقِدوا نارًا فمَنعَهُم فكَلَّموا أبا بكرٍ فكَلَّمهُ في ذلك فقال: لا يُوقِدُ أحدٌ منهم نارًا إلَّا قَذفْتُه فيها. قال: فلَقوا العَدُوَّ فهَزموهُم فأرادوا أن يَتَبَعوهُم فمنَعهُم، فلمَّا انصرَف ذلك الجيشُ ذَكَروا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وشَكَوْهُ إليه، فقال: يا رسولَ الله، إنِّي كَرِهتُ أن آذنَ لهم أن يُوقِدوا نارًا فيَرى عَدُوُّهم قِلَّتَهُم، وكَرِهتُ أن يَتْبَعُوهم فيكونُ لهم مَدَدٌ فيَعْطِفوا عليهم. فحمِد رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أَمْرَهُ...). وفيها صلَّى عَمرٌو بالنَّاسِ وهو جُنُبٌ ومعه ماءٌ، لم يَزِدْ على أن غسَل فَرْجَهُ وتَيمَّمَ، فلمَّا قَدِمَ عَمرٌو على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم سأَلهُ عن صلاتِه، فأَخبرَهُ فقال: والذي بعثَك بالحقِّ لو اغْتسَلتُ لَمُتُّ، لم أَجِدْ بَردًا قَطُّ مِثلَهُ، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فضَحِك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولم يَقُلْ له شيئًا.
هبةُ اللهِ بن علي بن هبة الله بن محمد بن الحسن مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب أستاذ دار المستضيء بأمر الله، انتهت إليه الرئاسةُ في زمانِه، ووليَ حجابةَ الباب في أيام المستنجدِ، وبلغ رتبةَ الوزراءِ، وولَّى وعَزَل وماج الرفض في أيامِه، وشمخت المبتدعةُ، ولَمَّا بويع الناصِرُ قَرَّبَه وحكَّمَه في الأمور، ثم إنَّ بعض النَّاسِ سعى به فاستدعيَ إلى دار الخلافة وقُتِلَ بها ثمَّ عُلِّقَ رأسُه على بابِ دارِه، وكان سيئَ الطريقة يرتكب المعاصيَ، بخيلًا خسيس النفس، ساقطَ المروءةِ، مذمومَ الأفعالِ، كان إذا رجع من متصَيَّده وقد صَحِبَه شيءٌ من لحوم الصيد، قطع راتبَه من اللَّحمِ واجتزأ بلحمِ الصَّيدِ عنه ولم يقدِرْ أحدٌ على أن يأكل له لقمةً ولا ينتَفِعَ مِن ماله بشيءٍ، ولما هلك خلَّفَ من الأموال شيئًا كثيرًا، وكان رافضيًّا محترقًا شديد التعَصُّب لهواه، معلِنًا بغُلَوائِه، ظهر بسببه سبُّ الصحابة رضي الله عنهم على ألسنة الفَسَقة الرَّافضة في الأسواق وفي المشاهد والمزارات، ولم يجسر أحدٌ من أهل السنة على إنكار ذلك، لا بِيَدِه ولا بلسانِه؛ خَوفًا من بطشِه وبأسِه! وحُكي أنه رئِيَ في المنام في الليلة التي قُتِلَ في صبيحتها كأنه يشبر عنُقَه ويقَدِّرُها بيده، فأصبح وقُصَّ منامُه على رجلٍ ضريرٍ كان يعبِّرُ الرؤيا ولم يقُلْ له إنَّه رآه بنَفسِه، فقال له: إن هذا الرائي لهذا المنام يُقتَلُ وتحَزُّ رَقَبتُه؛ لأنَّ الله تعالى يقولُ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}.
هو نقيبُ العَلَويِّينَ، أبو الحسَنِ محمَّدُ بنُ الحُسَينِ بنِ موسى بنِ مُحمَّد بنِ إبراهيم بن موسى الكاظمِ الحُسيني المُوسَوي البغدادي الشِّيعي، الشاعِرُ المُفلِق، الذي يقالُ: إنَّه أشعَرُ قُرَيشٍ، قال ابنُ خَلِّكانَ: "هو أشعَرُ الطالبيِّينَ مَن مضى منهم ومَن غَبَر، على كثرةِ شُعَرائِهم المُفلِقينَ، ولو قُلتُ: إنَّه أشعَرُ قُرَيشٍ لم أُبعِدْ عن الصِّدقِ". وُلِدَ ببغداد سنة 359ه، وتعلَّمَ فيها وبرَعَ في اللُّغةِ والأدَبِ والفِقهِ، وابتدأ بنَظمِ الشِّعرِ وله عشرُ سنين، وكان مُفرِطَ الذَّكاءِ، ولَّاه بهاءُ الدَّولة البُويهيُّ نقابةَ الطَّالبيِّينَ وسَمَّاه الشَّريفَ الرَّضيَّ، كان أبوه يتولَّى نقابةَ نُقَباءِ الطَّالبيِّينَ، ويحكُمُ فيهم أجمعين، والنَّظَر في المظالم، ثمَّ رُدَّت هذه الأعمالُ كُلُّها إلى ولَدِه الرَّضِيِّ في سنة 388 وأبوه حيٌّ. له أشعارٌ وتصانيفُ، منها: معاني القرآن، ومجاز القرآن، وهو الذي وضَعَ كتابَ نَهجِ البَلاغةِ الذي فيه الخُطَبُ التي تُنسَبُ لعليِّ بن أبي طالبٍ رَضيَ الله عنه، له ديوانٌ في أربَعِ مُجَلَّدات, توفِّيَ ببغداد عن 47 عامًا في الخامِسِ مِن مُحَرَّم، وكانت جنازتُه مشهودةً، ودُفِنَ بداره بمسجِدِ الأنباريِّ.
انْتَقَض أهلُ خُراسان (وهي مُوزعة الآنَ بين إيران وأفغانستان وروسيا) على عُثمانَ بن عفَّانَ رضِي الله عنه، فأرسَل إليهم عبدَ الله بن عامرٍ عامِلَه على البَصرَةِ، فاشْتَبَك مع أهالي تلك البِلادِ في مَرْو ونَيْسابور وغيرِها ففتَحها مِن جديدٍ، ثمَّ تَوَجَّه الأحنفُ بن قيسٍ -وهو الذي كان على مُقدِّمةِ جيشِ عبدِ الله بن عامرِ تَوَجَّه- إلى طَخارِستان فحاصرَهُم حتَّى صالَحوه، ولكن انْضَمَّ لهم أهلُ مَرْو الرُّوذ وغيرُهم فاشْتَبكوا مَرَّةً أُخرى فهزَمهُم الأحنفُ ففتَح جُوزجان عَنْوَةً، ثمَّ الطَّالقان صُلْحًا وغيرَها مِن البِلادِ.