تولَّى السلطانُ سليم الثالث وما زالت الحربُ دائرةً بين الدولة العثمانية والروس، فأعطى السلطانُ وقتَه وجهده لقتالهم، غيرَ أنَّ جنده قد ضَعُفَت همَّتهم، في المقابِلِ اتحدت الجيوش الروسية والنمساوية ضِدَّ الدولة العثمانية، فتمكَّنت روسيا من الاستيلاء على الأفلاق والبغدان وبساربيا، كما استطاعت النمسا احتلالَ بلاد الصرب ودخلت بلغراد أيضًا، غيرَ أن هذا الاتفاق الروسي النمساوي لم يدُمْ طويلًا؛ إذ انصرف إمبراطور النمسا ليوبولد الثاني الذي خلَّف جوزيف الثاني إلى الثورة الفرنسية، وما حدث من نتائج من قَتلِ الملك لويس السادس عشر ملك فرنسا، فخاف مَلِكُ النمسا أن تمتَدَّ الثورة إلى بلاده، فحرص على مصالحة الدولة العثمانية؛ ونتيجةً لذلك أعيدَ للدولة العثمانية بلادُ الصرب وبلغراد.
هو الملك أبو العز الرشيد بن محمد بن علي الحسني أول ملوك شرفاء مراكش من العلويين، وكان قد قاتل أخاه محمدًا الذي كان قد تسلم بعد وفاة أبيهما عام 1069هـ وكانت قاعدتهم سجلماسة، فلما أصبح الأمر للرشيد نقل العاصمة إلى مراكش؛ ولهذا عُدَّ هو أولَ ملوك العلويين في مراكش وتولى أخوه إسماعيل الملك خلفًا له.
هو أبو الفَتحِ مَودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين الغزنويُّ، صاحِبُ غزنة، لَمَّا ملَكَ مودودٌ قَبَض على عمِّه عبدِ الرَّشيدِ بنِ محمود وسَجَنَه في قلعة ميدين، بطريقِ بست، وكاتَبَ أصحابَ الأطرافِ ودعاهم إلى نُصْرَتِه، وبذل لهم الأموالَ والإمرةَ على بلادِ خُراسان فأجابوه، منهم: أبو كاليجار صاحِبُ أصبهان، فإنَّه سار بجيوشِه في المفازة فهلك كثيرٌ مِن عسكره، ومَرِضَ هو ورجع، ومنهم خاقان التُّرك فإنَّه أتى ترمذ فنهَبَ وخَرَّب وصادَرَ، وسار مودودٌ مِن غزنة فاعتراه قولنج، فرجع وبَعَث وزيرَه لأخذ سجستان من الغز، وكان مَوتُه بغزنة, ومُدَّةُ مُلكِه تِسعَ سنين وعشرة أشهر،، ثم قام في المُلكِ بعده ولَدُه، فبقي خمسة أيام ثمَّ عَدَل النَّاسُ عنه إلى عَمِّه علي بن مسعود، فنزل عبدُ الرشيد إلى العَسكَرِ ودعاهم إلى طاعته، فأجابوه وعادوا معه إلى غزنة، فلمَّا قارَبَها هرب عنها عليُّ بنُ مسعود، ومَلَك عبد الرشيد، واستقَرَّ الأمر له، ولُقِّبَ شمس دين الله سيف الدَّولة، وقيل جمال الدَّولة، ودفع اللهُ شَرَّ مودود عن داود.
سار كندفري ملك الفرنج بالشام -وهو صاحب بيت المقدس- إلى مدينة عكا بساحل الشام، فحصرها فأصابه سهم فقتله، وكان قد عمَرَ مدينة يافا وسلَّمَها إلى قمص -كبير القساوسة- من الفرنج اسمه طنكري، فلما قُتِل كندفري سار أخوه بغدوين إلى بيت المقدس في خمسمائة فارس وراجل، فبلغ الملك دقاق- صاحب دمشق- خبره، فنهض إليه في عسكره، ومعه الأمير جناح الدولة في جموعه، فقاتله، فنُصِر على الفرنج، ومَلَك الفرنجُ مدينةَ سروج من بلاد الجزيرة، وسببُ ذلك أن الفرنج كانوا قد ملكوا مدينة الرها بمكاتبة من أهلِها؛ لأن أكثرَهم أرمن، وليس بها من المسلمين إلا القليل، فلما كان الآن جمع سقمان بن أرتق التركماني بسروج جمعًا كثيرًا من التركمان، وزحف إليهم، فلَقُوه وقاتلوه، فهزموه في ربيع الأول. فلما تمَّت الهزيمة على المسلمين سار الفرنجُ إلى سروج، فحصروها وتسلَّموها، وقتلوا كثيرًا من أهلِها وسَبَوا حريمَهم، ونهَبوا أموالهم، ولم يسلَمْ إلَّا من مضى منهَزِمًا، وملك الفرنجُ مدينة حيفا، وهي بالقربِ مِن عكا على ساحل البحر، ملكوها عَنوةً، وملكوا أرسوف بالأمان، وأخرجوا أهلَها منها، وفي رجب ملكوا مدينة قيسارية بالسيف، وقتلوا أهلَها، ونهبوا ما فيها.
هو الأميرُ قُطبُ الدين سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان، صاحب آمد وحصن كيفا، ملك بعد والده، وتلقَّبَ بقطب الدين، وكان صغيرًا فقام بتدبيره القوَّام بن سماقا الأسعدي, ثم بادر سقمان إلى خدمة السلطان صلاح الدين وهو يحاصِرُ ميافارقين، فأقرَّه على ملك بلاده، وأنْ يَصدُرَ عن أمْرِه ونهيه, وكان سقمان شديدَ الكراهةِ لأخيه محمود، والنفور عنه، قد أبعده وأنزله حِصنَ منصور في آخِرِ بلادهم، واتخذَ مملوكًا اسمه إياس، فزوَّجَه أخته، وأحبَّه حبًّا شديدًا، وجعله وليَّ عهده، وفي رمضان من هذه السنة سَقَط سقمان من سطح جوسق كان له بظاهِرِ حِصنِ كيفا فمات، فلمَّا توفي مَلَك بعده مملوكُه إياس عِدَّة أيام، وتهدَّد وزيرًا كان لقطب الدين، وغيرَه من أمراء الدولة، فأرسلوا إلى أخيه محمود سرًّا يستدعونه، فسار مجِدًّا، فوصل إلى آمد وقد سبَقَه إليها إياس مملوكُ أخيه، فلم يقدِرْ على الامتناع، فتسَلَّم محمود البلادَ جميعَها ومَلَكَها، وحبسَ المملوك فبَقِيَ مدة محبوسًا، ثم شَفَع له صاحِبُ بلاد الروم، فأُطلِقَ مِن الحبس، وسار إلى الروم، فصار أميرًا من أمراءِ الدَّولةِ.
بعد القتال الذي دار بين أمراء بني نصر على الملك، بقيت هذه الفتنة بينهم إلى أن تم الاتفاق على أن تنقسمَ المملكة إلى قسمين؛ القسم الأول: وهو غرناطة ومالقة، يكون تحت ملك أبي عبد الله محمد بن سعد المعروف بالزغل، والقسم الثاني: وهو القسم الشرقي يكون تحت ملك ابن أخيه محمد بن علي المعروف بأبي عبد الله الصغير، ولكن هذا الأخير لم يلبث أن نقض الاتفاق وظهر فجأة في ساحة البيازين بغرناطة، وأذاع عقده للصلح مع الإسبان، وأنهم أمدوه بالرجال والعتاد، وبينما كان الأمير محمد بن سعد الزغل في طريقه إلى غرناطة بلغه خبر أن غرناطة قد قامت بدعوة ابن أخيه محمد بن علي, وأنه دخل البلد بقيام البيازين معه وملكه لها، وقتل القواد الذين كانوا بالبلد يقاتلونه، فرجع الأمير محمد بن سعد عند ذلك على عَقِبه يريد البشرة، فسار إلى وادي آش ممتنعًا بقواته فيها، وبعد هذا الاستيلاء انقسم ما تبقى من غرناطة إلى قسمين؛ الأول: ويحوي غرناطة وأعمالها اختص به أبو عبد الله محمد الصغير، الثاني: يضم وادي آش وأعماله اختص به عمه أبو عبد الله محمد الزغل.
كان الباعث لهذه الفتنة وخلع المؤيَّد أنه لما تسلطن لم يحرك ساكنًا ولم يتغير أحدٌ مما كان عليه، فشقَّ ذلك على الظاهريَّة، وقال كل منهم في نفسه: كأن الملك الأشرف إينال ما مات، فإن الغالبَ كلٌّ منهم كان أخذ ما بيده من الإقطاعات، وحبس ونفى في أوَّل سلطنة الأشرف إينال، كما هي عادة أوائل الدُّول، وبقى منهم جماعة كثيرة بلا رزق ولا إمرة ولم يجدوا عندهم قوةً ليخلعوا الملك المؤيد هذا ويسلطنوا غيره وحدهم، فكلَّموا الأشرفيَّة في هذا المعنى غير مرَّة، وترققوا لهم، فلم يقبلوا منهم ذلك؛ لنفرةٍ كانت بين الطائفتين قديمًا وحديثًا، وأيضا فلسان حال الأشرفية: نحن الآن في كفاية من الأرزاق والوظائف، فعلام نحرك ساكنًا، ونخاطر بأنفسنا؟ فعجز فيهم الظاهرية وقد ثقُل عليهم الملك المؤيَّد، وكثر خوفُهم منه، فإنه أوَّل ما تسلطن أبرق وأرعد، فانخزى كل أحد، قال ابن تغري بردي: "كان دخول المؤيد السلطنة بحرمة وافرة؛ لأن سنَّه كان نحو الثلاثين سنة يوم تسلطن، وكان قد ولِّيَ الأتابكية في أيَّام أبيه، وأخذ وأعطى، وسافر أميرَ حاجِّ المحمل، وحجَّ قبل ذلك أيضًا وسافر البلاد، ومارس الأمورَ في حياة والده وهذا كلُّه بخلاف من تقدَّمه من سلاطين أولاد الملوك؛ فإن الغالب منهم حدث السِّنِّ يريد له من يدبِّرُه، فإنه ما يعرف ما يرادُ منه، فيصير في حكم غيرِه من الأمراء فتتعلَّق الآمالُ بذلك الأمير، وتتردَّد الناسُ إليه، إلى أن يدبِّر في سلطنة نفسه، بخلاف المؤيَّد هذ؛ فإنَّه ولِيَ السلطنة وهو يقول في نفسه: إنه يدبِّرُ مع مملكة مصر ممالكَ العجم زيادةً على تدبير مصرَ! قلت: وكان كما زعم؛ فإنه كان عارفًا عاقلًا مباشرًا، حسن التدبير، عظيمَ التنفيذ شهمًا، وكان هو المتصرفَ في الأمور أيَّام أبيه في غالب الولايات والعَزلِ وأمور المملكة، فلما تسلطن ظنَّ كل أحد أنْ لا سبيل في دخول المكيدة على مثل هذا؛ لمعرفة الناس بحذقه وفطنته, وكان مع هذه الأوصاف مليح الشكل، وعنده تؤدة في كلامه، وعقل وسكوت خارج عن الحد، يؤديه ذلك إلى التكبُّر، وهذا كان أعظم الأسباب لنفور خواطر الناس عنه؛ فإنه كان في أيام سلطنته لا يتكلَّمُ مع أحد حتى ولا أكابر الأمراء إلا نادرًا، ولأمر من الأمور الضروريات، وفعل ذلك مع الكبير والصغير، وما كفى هذا حتى صار يبلُغُ الأمراءَ أنَّه في خلوته يسامِرُ الأطرافَ الأوباشَ الذين يُستحيا من تسميتهم، فعظم ذلك على الناس، فلما وقع ذلك وجد من عنده حقدٌ فرصةً، وأشاع عنه هذا المعنى وأمثاله، وبشَّع في العبارة وشنَّع، وقال هذا وغيره: إنَّه لا يلتفت إلى المماليك ويزدريهم، وهو مستعزٌّ بمماليك أبيه الأجلاب وأصهاره وحواشيه وخشداشية أبيه- زملاء مهنته-وبالمال الذي خلَّفه أبوه، ومنهم من قال أيضًا: إنما هو مستعزٌّ بحسن تدبيره، فإنه قد عبَّأ لكل سؤال جوابًا، ولكل حرب ضربًا، وكان مع هذا قد قمع مباشري الدولة وأبادهم، وضيَّق عليهم، ودقَّق في حسابهم كما هو في الخاطر وزيادة، فما أحسن هذا لو كان دام واستمر, فنفرت قلوب المباشرين منه، وأخذ أمره في إدبار؛ لعدم مثابرته على سير طريقه الأوَّل من سلطنته، فلو جَسَر لكَسَر، لكنه هاب فخاب" فلما كان آخرُ يوم الجمعة السابع عشر رمضان رسم السلطان الملك المؤيد أحمد لنقيب الجيش الأمير ناصر الدين محمد بن أبي الفرج أن يدور على الأمراء مقدَّمي الألوف، ويُعلمَهم أن السلطان رسم بطلوعهم من الغد في يوم السبت إلى الحوش السلطاني من قلعة الجبل بغير قماش الموكب، ولم يعلِمْهم لأيِّ معنى يكون طلوعهم واجتماعهم في هذا اليوم بالقلعة، وهو غيرُ العادة، وأخذ الأمراء من هذا الأمر أمرٌ مريج، وخلا كل واحد بمن يثق به، وعرفه الخبر، وهو لا يشكُّ أن السلطان يريد القبضَ عليه من الغد، ووجد لذلك من كان عنده كمينٌ من الملك المؤيد أو يريد إثارةَ فتنة فرصةً، وحرَّض بعضهم بعضًا، إلى أن ثارت المماليك الظاهرية في تلك الليلة، وداروا على رفقتهم وإخوانهم وعلى من له غرضٌ في القيام على الملك المؤيد، وداموا على ذلك ليلتَهم كلها، فلما كان صبح نهار السبت تفرَّقوا على أكابر الدولة والأمراء في بيت الأتابك خشقدم لعمل المصلحة، وقد اجتمعت طوائفُ المماليك والجميع في بيت الأمير الكبير، ولم يطلع إلى القلعة في هذا اليوم أحدٌ من الأمراء والأعيان إلا جماعة يسيرة جدًّا، فلما تكامل جمعهم في بيت الأمير الكبير وصاروا على كلمة واحدة؛ على خلع الملك المؤيَّد أحمد من السلطنة، وسلطنة غيره، وتكلموا فيمن يولونه السلطنة, فأجمع رأي الجميع على سلطنة أحد من أعيان الأمراء، ثم تكلموا فيمن يكون هذا السلطان، فقال جانبك: الرأي عندي سلطنةُ الأمير الكبير خشقدم المؤيدي؛ فإنه من غير الجنس يعني كونه روميَّ الجنس وأيضًا إنه رجل غريبٌ ليس له شوكة، ومتى أردتم خلعَه أمكنكم ذلك، وحصل لكم ما تقصدونه من غير تعب، فأعجب الجميعَ هذا الكلامُ، بخلاف المماليك الأشرفية، وإن كانوا هم أيضًا متفقين على خلع المؤيد؛ لتطَلُّعهم تسلطُنَ خشداشهم الأمير جانم نائب الشام، ولو أنَّ أمر المؤيد طرقهم بغتةً ما طاوعوا على الرُّكوبِ في مثل هذا اليوم قبل مجيء خشداشهم جانم، فبويع خشقدم ولقِّبَ بالملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين خشقدم ونودي بالحال بسلطنته بشوارع القاهرة، ثم شرعوا بعد ذلك في قتالِ الملك المؤيد أحمد، كل ذلك والملك المؤيَّدُ في القلعة في أناس قليلة من مماليكه ومماليك أبيه الأجلاب، ثم التحم القتال بين الطائفتين مناوشةً لا مصاففةً، غير أن كلًّا من الطائفتين مُصِرٌّ على قتال الطائفة الأخرى، والملك المؤيَّد في قلة عظيمة من المقاتلة ممن يعرف مواقِعَ الحرب وليس معه إلا أجلاب، فلم ينقضِ النهار حتى آل أمرُ الملك المؤيد إلى زوال، وهو مع ذلك ينتظر من يجيء إليه لمساعدته، حتى من ليس له غرض عند أحد بعينه جاء إلى الأمير الكبير مخافة على رزقه ونفسه؛ لِما علم من قوة شوكة الأمير الكبير وما يؤول أمره إليه، هذا مع حضور الخليفة والقضاة الأربعة عند الأمير الكبير وجميع أعيان الدولة من المباشرين وأرباب الوظائف وغيرهم، والملك المؤيَّد في أناس قليلة جدًّا، وظهر ذلك للملك المؤيد عيانًا، فأراد أن يسَلِّمَ نفسه، ثم أمسك عن ذلك من وقته، فلما رأى الملك المؤيد أنَّ ذلك لا يفيده إلا شدةً وقسوةً أمر عساكره ومقاتلته بالكفِّ عن القتال، وقام من وقته وطلع القلعة بخواصِّه، وأمر أصحابه بالانصراف إلى حيث شاؤوا، ثم دخل هو إلى والدته خوند زينب بنت البدري حسن بن خاص بك، وترك باب السلسلة لمن يأخذه بالتسليم، وتمزَّقت عساكره في الحال كأنها لم تكن، وزال ملكه في أقل ما يكون، وخُمِدت الفتنة كأنَّها لم تكن، ثم أرسل الأتابك خشقدم في الحال جماعةً من أصحابه قبضوا على الملك المؤيد أحمد هذا من الدور السلطانية، فأُمسِكَ من غير ممانعة، وسلَّم نفسه، وأُخرِجَ من الدور إلى البحرة من الحوش السلطاني، وحُبِسَ هناك بعد أن اقتِيدَ واحتُفظ به، وكانت مدة حكمه أربعة أشهر وستة أيام، ثم رسم السلطان الملك الظاهر خشقدم بتوجُّهِه وتوجه أخيه محمد إلى سجن الإسكندرية.
لَمَّا كان في مستهَلِّ شَهرِ ربيع الآخر نزل السلطانُ من قلعة الجبل وعَدَّى إلى بر الجيزة ليتوجه إلى الصيدِ بالبحيرة، بعد أن ألزم الأمراءَ أن يجعلوا- في الشواني التي نجز عملها برسم الغُزاة- العِدَد والسلاحَ والرجالَ على هيئة القِتالِ؛ لِيَنظُرَ السلطان والنَّاس، ثم سار السلطان والأتابك يلبغا بالعساكِرِ مِن بر الجيزة يريدون البحيرةَ حتى نزلوا في ليلة الأربعاء سادسَ شهر ربيع الآخر بالطرانة وباتوا بها، وكانت مماليكُ يلبغا قد نَفِرَت قلوبُهم منه؛ لكثرةِ ظُلمِه وعَسفِه وتنوُّعِه في العذاب لهم على أدنى جُرمٍ، فاتفق جماعةٌ من مماليك يلبغا تلك الليلة على قَتْلِه من غير أن يُعلِموا المَلِكَ الأشرفَ هذا بشَيءٍ مِن ذلك، وركبوا عليه نِصفَ الليل، ورؤوسُهم من الأمراء: آقبغا الأحمدي الجلب، وأسندمر الناصري، وقجماس الطازي، وتغري برمش العلائي، وآقبغا جاركس أمير سلاح، وقرابغا الصرغتمشي، في جماعةٍ مِن أعيان اليلبغاوية، ولَبِسوا آلة الحرب وكبَسوا في الليل على يلبغا بخيمتِه بغتةً وأرادوا قتله، فأحسَّ بهم قبل وصولِهم إليه، فركِبَ فَرَس النوبةِ بخواصِّه من مماليكه، وهرب تحت الليل، وعَدَّى النيل إلى القاهرة، ومنع سائرَ المراكب أن يعدُّوا بأحد، واجتمع عنده من الأمراء طيبغا حاجِبُ الحجَّاب، وأيبك البدري أمير آخور، وجماعة الأمراء المقيمين بالقاهرة، وأمَّا مماليك يلبغا فإنَّهم لَمَّا عَلِموا بأن أستاذهم نجا بنَفسِه وهرب، اشتدَّ تخَوُّفُهم من أنَّه إذا ظَفِرَ بهم بعد ذلك لا يُبقي منهم أحدًا، فاجتمع الجميعُ بمن انضاف إليهم من الأمراءِ وغيرِهم وجاؤوا إلى المَلِك الأشرَفِ شعبان وهو بمُخَيَّمِه أيضًا بمَنزِلِه بالطرانة وكَلَّموه في مُوافَقَتِهم على قتالِ يلبغا فامتنع قليلًا ثم أجاب لِما في نفسه من الحزازةِ مِن حَجْرِ يلبغا عليه، وعدم تصَرُّفه في المملكة، وركِبَ السلطان بمماليك يلبغا وخاصكيَّته، فأخذوه وعادوا به إلى جهة القاهرة، وقد اجتمع عليه خلائِقُ من مماليك يلبغا وعساكر مصر، وساروا حتى وصلوا إلى ساحِلِ النيل ببولاق التكروري تجاه بولاق والجزيرة الوسطى، فأقام المَلِكُ الأشرف ببولاق التكروري يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة، فلم يجدوا مراكِبَ يعدون فيها، وأما يلبغا فإنَّه لما علم أن الملك الأشرف طاوع مماليكَه وقَرَّبهم، أنزل من قلعة الجبل آنوك ابنَ الملك الأمجد حسين أخي الملك الأشرف شعبان وسَلْطَنَه ولَقَّبَه بالملك المنصور، وذلك بمُخَيَّمِه بجزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطانيَّة تجاه بولاق التكروري، حيث الملك الأشرف نازلٌ بمماليك يلبغا بالبر الشرقي والأشرف بالبر الغربي، فسَمَّتْه العوامُ سُلطان الجزيرة، ثمَّ في يوم الجمعة حضر عند الأتابك يلبغا الأمير طغيتمر النظامي والأمير أرغون ططر، فإنهما كانا يتصَيَّدان بالعباسة وانضافا بمن معهما إلى يلبغا فقَوِيَ أمره بهما، وعَدَّى إليه أيضًا جماعة من عند الملك الأشرف، وهم: الأمير قرابغا البدري، والأمير يعقوب شاه، والأمير بيبغا العلائي الدوادار، والأمير خليل بن قوصون، وجماعة من مماليك يلبغا الذين أمَّرَهم مثل: آقبغا الجوهري، وكمشبغا الحموي، ويلبغا شقير، في آخرين، واستمَرَّ الأتابك يلبغا وآنوك بجزيرة الوسطى، والملك الأشرف ومماليك يلبغا ببولاق التكروري، إلى أن حضر إلى الأشرفِ شَخصٌ يُعرَفُ بمحمد ابن بنت لبطة رئيس شواني السلطان، وجَهَّز للسلطانِ مِن الغربان التي عَمَّرَها برسم الغزاة نحو ثلاثينَ غُرابًا برجالها وكَسَر بروقها، وجعلها مثل الفلاةِ لأجلِ التَّعدية، فنزل فيها جماعةٌ مِن الأمراء ومن مماليك يلبغا ليعَدُّوا فيها إلى الجزيرة، فرمى عليهم يلبغا بمكاحِلِ النفط، وصار هؤلاء يرمون على يلبغا بالسهام فيردونَهم على أعقابِهم، وأخذ يلبغا ومن معه يرمون أيضًا النِّفطَ والنشاب، والأشرفيَّة لا يلتفتون إلى ذلك، بل يزيدونَ في سب يلبغا ولَعْنه وقتاله، وأقاموا على ذلك إلى عَصرِ يوم السبت، وقد قَوِيَ أمر الملك الأشرف وضَعُفَ أمر يلبغا، ثم اتفق رأيُ عساكر الملك الأشرف على تعدية المَلِك الأشرف من الورَّاق، فعدى وقتَ العَصرِ من الوراق إلى جزيرة الفيل وتتابعَتْه عساكره، فلما صاروا الجميعُ في بر القاهرة، وبلغ ذلك يلبغا، هرب الأمراءُ الذين كانوا مع يلبغا بأجمعهم وجاؤوا إلى الملك الأشرف وقَبَّلوا الأرض بين يديه، فلمَّا رأى يلبغا ذلك رجع إلى جهة القاهرة، ووقف بسوقِ الخيل من تحت قلعة الجبل، ولم يبقَ معه غير طيبغا حاجِبِ الحجَّاب الذي كان أولًا أستاداره، فوقف يلبغا ساعةً ورأى أمْرَه في إدبار، فنزل عن فَرَسِه بسوق الخيل تجاه باب الميدان، وصلَّى العصر، وحلَّ سَيْفَه وأعطاه للأميرِ طيبغا الحاجب، ثم نزل وقصَدَ بَيتَه بالكبش فرجمته العوامُّ مِن رأس سويقة منعم إلى أن وصل حيثُ اتجه، وسار الملك الأشرف شعبان بعساكره، حتى طلع إلى قلعةِ الجَبَلِ في آخر نهار السبت، وأرسل جماعةً منِ الأمراء إلى يلبغا، فأخذوه من بيتِه ومعه طيبغا الحاجِبُ، وطلعوا به إلى القلعةِ بعد المغرب، فسُجِنَ بها إلى بعدِ عشاء الآخرة، فلما أُذِّنَ للعشاء جاء جماعةٌ من مماليك يلبغا مع بعض الأمراء، وأخذوا يلبغا من سجنه وأنزلوه من القلعةِ، فلما صار بحدرة القلعة أحضروا له فَرَسًا ليركَبَه، فلما أراد الركوب ضَرَبه مملوكٌ مِن مماليكه يسمَّى قراتمر فأرمى رأسَه، ثم نزلوا عليه بالسيوفِ حتى هَبَروه تهبيرًا، وأخذوا رأسَه وجعلوها في مِشعَلِ النار إلى أن انقَطَع الدم، فلما رآه بعضُهم أنكره وقال: أخفيتُموه، وهذه رأسُ غَيرِه فرفعوه من المِشعَل، ومَسَحوه ليُعَرِّفوه أنَّه رأس يلبغا بسلعةٍ كانت خلفَ أذنه، فعند ذلك تحقَّقَ كُلُّ أحد بقتله، وأخذوا جثَّتَه فغَيَّبوها بين العروستين، فجاء الأميرُ طشتمر الدوادار فأخذ الرأسَ منهم في الليل، واستقصى على الجثَّةِ حتى أخذها، وحَطَّ الرأس على الجثة، وغَسَّلها وكفَّنَها وصلى عليه في الليل، ودفنه بتربتِه التي أنشأها بالصحراء بالقربِ مِن تربة خوند طغاى أم آنوك زوجة الناصر محمد بن قلاوون.
ظهرت فكرة محاكم التفتيش في القرن الثالث عشر الميلادي مع تزايد غطرسة الكنيسة الكاثوليكية واجتهادها في مراقبة ضمائر الناس في الدول التي كانت تحت سيطرتها، فكان بابا روما يكلف بعض الأساقفة بتعقب من كانت أفكاره مخالفة لتعاليم الكنيسة وطبق هذا النظام في البداية في إيطاليا وفرنسا وألمانيا حيث كان يتجول مندوبو البابا في أنحاء البلاد لتقصي أخبار الناس واتهام كل مخالف بالكفر ثم القبض عليه ومعاقبته, وكانت تُعقَد لذلك مجالس كنسية مؤقتة كانت بمثابة محاكم التفتيش المبدئية. ثم تحل المحكمة بعد مطاردة المتهمين والقضاء عليهم. وهكذا عذبت الكنيسة الكاثوليكية أجيالًا كاملة من المفكرين والعلماء في أنحاء أوربا بكل قساوة وبطرق إجرامية لا تمتُّ للإنسانية بصلة. كان الملك فرديناند ملك أراغوان والملكة إيزابيلا ملكة قشتالة وقتذاك معنيين بالمتنصِّرين في الأندلس بصفة خاصة، آملين أن يأتي وقت يصبح فيه جميع سكان الأندلس من المسلمين مسيحيين مخلصين، وأجرت إيزابيلا مدرسة لأصول الدين لتعليمهم، ومع ذلك فقد احتفظ كثير منهم بعقيدته السالفة سرًّا ولقنوها أبناءهم. وسكنت كراهية الكاثوليك لليهود غير المعمَّدين إلى حين، بينما اشتد الحنق على "المسيحيين الجدد" ونشبت الفتن ضدهم في طليطلة (1467م) وبلد الوليد (1470م) وقرطبة (1472م) وسيجوفيا (1474م) وأصبحت المسألة الدينية عنصرية، ودبر الملك والملكة الوسائل التي تحول هذا المزيج المضطرب في الشعوب واللغات والمذاهب المتصارعة إلى وحدة منسجمة وسلام اجتماعي. ورأيَا أن خير وسيلة لبلوغ هذه الأهداف هي تأسيس محاكم التفتيش في إسبانيا. خاصة أن إيزابيلا التي عاشت في جو علماء الدين كانت تتبنى آراء دينية متشددة تجاه المخالفين للكاثوليكية من النصارى واليهود فضلًا عن المسلمين. ولعل فرديناند، الذي كان رجلًا صلبًا من رجال الدنيا قد ارتاب في بعض إجراءات هذه المحاكم، ولكن يبدو أنه اقتنع بأن توحيد العقيدة الدينية يجعل إسبانيا أيسر حكمًا، وأقدر في التغلب على أعدائها. ولقد أصدر البابا سكستوس الرابع، بناء على رغبة فردينان وإيزابيلا، قرارًا في هذه السنة 883 (أول نوفمبر 1478م) يفوض لهما أن يعينا ستة قسس، من ملة الإجازات العليا في علوم الدين والشريعة، ليؤلفوا هيئة محكمة التفتيش؛ ليحققوا تهم الهرطقة ويعاقبوا عليها. ووضعت الهيئة برُمَّتها بعد سنة 889 (1483م) تحت إمرة وكالة حكومية، ولم تمسَّ محاكم التفتيش في أول أمرها اليهود الذين لم يتنصروا، وإنما وجهت أهوالها إلى المتنصرين الذين يشكُّ أنهم ارتدوا إلى اليهودية أو إلى الإسلام، وإلى المسيحيين المتهمين بالهرطقة، وكان اليهودي غير المتنصر إلى سنة 900 (1492م) آمنًا على نفسه أكثر من المعمَّد، وطالب القس والرهبان والمتعبدون الإعفاء من التفتيش، ولكن مطالبهم رُفضت، وقاوم اليسوعيون تشريعَها نصف قرن، ولكنهم غُلبوا على أمرهم أيضًا, وكانت محاكم التفتيش تطالب بتعاون من جميع الموظفين المدنيين، وشرعت القوانين والإجراءات الخاصة بها. وكانت قبل أن تقيم قضاتها في مدينة من المدن تذيع في الشعب عن طريق منابر الكنائس منشورًا دينيًّا "يطالب كل من له علم بهرطقة أن يكشف عنها لرجال التفتيش, وشجع كل امرئ على أن يكون شاهدًا، ليبلغ عن جيرانه وأصدقائه وأقاربه، وكان البابا ستيكوس الرابع أصدر الموافقة على طلب الملكة إيزابيلا ملكة مملكة قشتالة بإنشاء محاكم تفتيش لتزيد من سلطانها باسم الدين النصراني, كما أصدر الملك أنريكي الرابع، ملك قشتالة، سنة 863 (1459م) أمرًا ملكيًّا للأساقفة بالبحث والاستقصاء في دوائرهم عن المارقين المضمرين لأفكار مخالفة للكثلكة. وهكذا ابتدأ الاضطهاد الكنسي ضد اليهود المتنصرين فأحرق منهم الجمَّ الغفير قبل سقوط غرناطة. ولم تشمل هذه المحاكم آنذاك المسلمين أو المدجنين- المداهنين- بعدُ، بل أرسل سكتوس الرابع- بابا روما- مرسولًا كلفه بالتحقيق والقبض على الخارجين على الكنيسة ومعاقبتهم. فخاف الملكان فراندو وإيزابيلا أول الأمر على سلطتِهما ووقفا ضد هذه المحاولة البابوية، فأوقفا القساوسة من متابعة النصارى من أصل يهودي. لكن مقاومة الملكين الكاثوليكيين لم تدم طويلًا؛ إذ أرسلا سفيرهما إلى البابا سنة 1478 م في هذا الأمر. فأصدر البابا مرسومًا في شهر نوفمبر من سنة 1478 م بإنشاء محكمة التفتيش في قشتالة وتعيين المفتشين لمطاردة الكفر ومحاكمة المارقين, وندب مفتشين إلى إشبيلية، عاصمة قشتالة آنذاك. وهكذا ابتدأت محاكم التفتيش عملها الجهنمي ضد المسلمين في إسبانيا. فكانت إجراءات هذه المحاكم تتم باسم الديانة الكاثوليكية وتقضي على المناوئين لها ولسياستها ومصادرة ممتلكاتهم، والأمر بتعذيبهم وإحراقهم، ثم انتقلت هذه المحاكم إلى غرناطة بعد سقوطها بيد الإسبان سنة 897 (1489م).
أرسل الملك أبو كاليجار البويهيُّ إلى السُّلطانِ رُكنِ الدين طغرلبك في الصُّلح، فأجابه إليه، واصطلحا، وكتَبَ طغرلبك إلى أخيه ينال يأمُرُه بالكَفِّ عَمَّا وراء ما بيده، واستقَرَّ الحالُ بينهما أن يتزوَّجَ طغرلبك بابنةِ أبي كاليجار، ويتزوَّج الأميرُ أبو منصور بن أبي كاليجار بابنةِ الملك داود أخي طغرلبك، وتمَّ العَقدُ.
هو السلطان أحمد العباس بن أبي مروان عبد الملك، ملك السعديين في المغرب الأقصى، قتله أخوه، ويعتبر هو آخر الملوك السعديين فرع الحسنيين، وكان من أسباب نهاية هذا الفرع من السعديين الأشراف تنافس الأمراء على الحكم والاستعانة بخصوم الدولة سواء الأسبان والبرتغال أو الأتراك. وبدأت بعد عهد الأشراف دولة العلويين في مراكش بزعامة الرشيد بن محمد.
أَمَرَ سُليمانُ بن عبدِ الملك أَخاهُ مَسلمَة بالسَّيْرِ إلى القُسطنطينيَّة وألَّا يَعود حتَّى يَفتَحها، فَجَهَّزَهُ بمائةٍ وعشرين ألفًا في البَرِّ، ومائةٍ وعشرين ألفًا مِن المُقاتِلَة في البَحْرِ، وأَخرَج لهم الأُعْطِيات، وأَنفَق فيهم الأَموالَ الكَثيرَة، وأَعلَمَهم بِغَزْوِ القُسطنطينيَّة والإقامَة عليها إلى أن يَفتَحوها، ولمَّا اجْتَمَع العَساكِر عند سُليمان أَمَّرَ عليهم أَخاه مَسلمَة، وكان معه داودُ بن سُليمان بن عبدِ الملك, فسار الجَيْش إلى أن نَزلُوا على القُسطنطينيَّة فحاصَرَها عامًا كامِلًا فشَتَوْا وصافُوا بها، حتَّى عَرَضَ أَهلُها الجِزْيَةَ على مَسلمَة، فأَبَى إلَّا أن يَفتَحها عَنْوَةً, وبَقوا مُحاصِرين القُسطنطينيَّة دون جَدْوَى إلى أن تُوفِّيَ سُليمان بن عبدِ الملك في العاشِر مِن صَفَر سَنَة 99هـ، وتَوَلَّى عُمَرُ بن عبدِ العزيز الخِلافَةَ، فعادوا إلى الشَّامِ دون أن يَفتَحوا القُسطنطينيَّة.
في هذه السنةِ ملَكَ المُسلِمونَ سَرقوسة- وهي من أعظمِ مُدُنِ صَقَليَّة- وكان سببَ مِلكِها أنَّ جعفرَ بنَ محمد أميرَ صقليَّة غزاها فأفسَدَ زَرعَها وزَرْعَ قطانية، وطبرمين، ورمطة، وغيرِها من بلاد صقليَّة التي بيَدِ الروم، ونازل سرقوسة، وحصَرَها برًّا وبحرًا وملَكَ بعضَ أرباضها، ووصَلَت مراكِبُ الرومِ نَجدةً لها، فسيَّرَ إليها أسطولًا فأصابوها وتمكَّنوا حينئذٍ مِن حَصرِها فأقام العسكرُ مُحاصَرًا لها تسعة أشهر، وفُتِحَت، وقُتِلَ من أهلها عِدَّةُ ألوفٍ، وأصيبَ فيها من الغنائِمِ ما لم يُصَبْ بمدينةٍ أخرى، ولم ينجُ مِن رجالِها إلا الشاذَّ الفَذَّ، وأقاموا فيها بعدَ فتحها بشهرين، ثم هَدَموها ثمَّ وصل بعدَ هَدمِها من القسطنطينية أسطولٌ، فالتقَوا بالمسلمين، فظفِرَ بهم المسلمون، وأخذوا منهم أربعَ قِطَع، فقَتَلوا من فيها، ثم انصرف المسلمون إلى بلدِهم آخِرَ ذي القَعدة.
هو أبو الفَتحِ وأبو الجود عِمادُ الدين زنكي بنُ قُطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي بن اقسنقر، صاحِبُ سنجار ونصيبين، والخابور والرقة، كان قد مَلَك حلب سنة 577 بعد ابنِ عَمِّه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، ومَلَك بعدَه ابنُه قطب الدين محمد، وتولَّى تدبير دولته مجاهِدُ الدين يرنقش مملوكُ أبيه، كان يحِبُّ أهل العلم والدين، ويحتَرِمهم ويجلس معهم ويرجع إلى أقوالهم، وكان شديد التعَصُّب لمذهب الحنفية، كثيرَ الذَّمِّ للشافعيَّة، فمِن تعَصُّبِه أنه بنى مدرسة للحنفيَّة بسنجار، وشَرَط أن يكون النظَرُ للحنفيَّةِ مِن أولاده دونَ الشافعيَّة، وشَرَطَ أن يكون البوَّاب والفراش على مذهب أبي حنيفةَ، وشَرَط للفُقَهاءِ طبيخًا يُطبَخُ لهم كلَّ يَومٍ.
توجَّهت مراكب من عكا فيها ملك قبرص المسمَّى إليان إلى ثغر دمياط، فدخله ليلًا وأغار على بعض البلاد، فقتل وسبى وكر راجعًا، فركب مراكبه ولم يدركه الطلبُ، وقد تقدمت له غارة مثلُها قبل هذه، وهذا شيءٌ لم يتَّفِق لغيره، وفيها عاثت الفرنجُ بنواحي القدس، فبرز إليهم الملك المعظم شرف الدين بن الملك العادل، وعمل أبو المظفر سبط ابن الجوزي ميعادًا بنابلس وحثَّ على الجهاد، وكان يومًا مشهودًا، ثم سار هو ومن معه وبصحبته المعظَّم نحو الفرنج، فقتلوا خلقًا وخربوا أماكن كثيرة، وغَنِموا وعادوا سالمين، وشرع المعظَّم في تحصين جبل الطور وبنى قلعة فيه ليكونَ إلبًا على الفرنج، فغرم أموالًا كثيرة في ذلك، فبعث الفرنجُ إلى العادل يطلُبونَ منه الأمان والمصالحة، فهادنهم وبطلت تلك العمارةُ وضاع ما كان المعظَّمُ غرم عليها.