اضطربت أحوال الدولة المرينية بفاس وتسلَّط بها اليهود, بعد تعيين السلطان عبد الحق هارون اليهودي رئيسًا لدولته كما عين عددًا منهم في حكومته، وكانوا قد أظهروا الإسلام, فاجتمع رؤساءُ فاس عند خطيب القرويين الفقيه أبي فارس عبد العزيز بن موسى الورياكلي وكانت له صلابة في الحقِّ وجَلادة عليه بحيث يلقي نفسَه في العظائم ولا يبالي، وقالوا له: ألا ترى إلى ما نحن فيه من الذلَّة والصغار وتحكُّم اليهود في المسلمين والعبث بهم حتى بلغ حالهم إلى ما سمعت، فأثر كلامهم فيه, وللحينِ أغراهم بالفتك باليهودِ وخلع طاعة السلطانِ عبد الحق وبيعة الشريفِ أبي عبد الله الحفيد، فأجابوه إلى ذلك واستدعوا الشريف الحفيد فبايعوه والتفَّت عليه خاصَّتُهم وعامَّتهم وتولى كِبْرَ ذلك أهل حومة القلقليين منهم ثم تقدم الورياكلي بهم إلى فاس الجديد فصمدوا إلى حارة اليهود فقتلوهم واستلبوهم واصطلموا نعمَتَهم واقتسموا أموالهم، وكان السلطان عبد الحق يومئذ غائبًا في حركة له ببعض النواحي, وقيل إن السلطان عبد الحق خرج بجيشه إلى جهة القبائل الهبطية وترك اليهودي يقبض من أهل فاس المغارم فشَدَّ عليهم حتى قبض على امرأةٍ شريفة وأوجعها ضربًا وحكى ما تقدَّمَ فاتصل بعبد الحق خبَرُ خلعه فانفضَّ مُسرعًا إلى فاس واضطرب عليه أمر الجند ففسدت نيَّاتُهم وتنكَّرت وجوهُهم، وصار في كل منزلة تنفض عنه طائفة منهم فأيقن بالنكبةِ وعاين أسبابَ المنية، ولما قَرُب من فاس استشار هارون اليهوديَّ فيما نزل به فقال اليهودي له: لا تَقدَم على فاس لغَلَيان قِدرِ الفتنة بها، وإنما يكون قدومنا على مكناسة الزيتون؛ لأنها بلدنا وبها قوَّادنا وشيعتنا، وحينئذ يظهر لنا ما يكون، فما استتمَّ اليهودي كلامه حتى انتظمه بالرمحِ رجلٌ من بني مرين يقال له تيان، وعبد الحق ينظر، وقال: وما زلنا في تحكم اليهود واتِّباعِ رأيهم والعمل بإشارتِهم، ثم تعاورت اليهوديَّ الرماحُ من كل جانب وخرَّ صريعًا، ثم قالوا للسلطان عبد الحق: تقدم أمامَنا إلى فاس؛ فليس لك اليوم اختيار في نفسِك، فأسلم نفسه وانتُهِبت محلَّتَه وفيئَت أموالُه وحلَّت به الإهانة وجاؤوا به إلى أن بلغوا عين القوادس خارج فاس الجديد، فاتصل الخبر بأهل فاس وسلطانهم الحفيد، فخرج إلى عبد الحق وأركبه على بغل بالبردعة، وانتزع منه خاتم المُلك وأدخله البلد في يومٍ مشهود حضره جمعٌ كبير من أهل المغرب، وأجمعوا على ذمه، وشكروا الله على أخذِه، ثم جُنِّب إلى مصرعه، فضُربت عنقه صبيحة يوم الجمعة السابع والعشرين رمضان من هذه السنة, ودفن ببعض مساجد البلد الجديد ثم أُخرج بعد سنة ونُقِل إلى القلعة، فدفن بها وانقرضت بمَهلِكِه دولةُ بني عبد الحق من المغرب.
غزا الإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود الرياضَ في صفَر, فنازل أهلَها أيامًا عديدة وضيَّق عليهم واستولى على بعضِ برودِها وهدم أكثَرَها وهدم المرقابَ، وحصل بينهم قتالٌ قُتِل فيه عددٌ من أهل الرياض، وكانت هذه الغزوةُ. يقول ابن بشر: "بعد هذه الوقعة دخل قلبَ دهام الرعبُ والخجَلُ، ودخله الخوفُ والوجَلُ، فلم تستقرَّ له عينٌ, وقام يحاول الانهزامَ، وجمع رؤساءَ بلَدِه وأخبَرَهم بحقيقة مقصِدِه وأنه ملئَ خوفًا ورعبًا، فصاحوا عليه بأجمَعِهم وقالوا: خذ منا العهدَ والميثاقَ، فقال لهم: دعوني، فليست هذه البلدُ لي وطنًا، ولا أجد لي بها أنسًا ولا سكنًا" فلما انتصف ربيع الثاني من هذا العام سار عبد العزيز للمرَّةِ الثانية في هذا العام لغزوِ الرياضِ، فلمَّا قَرُب منها جاءه البشير بأنَّ ابنَ دواس قد هرب من الرياض، فحَثَّ عبد العزيز السيرَ إليها فدخلها بعد أن ألقى اللهُ في قلب دهام الرعبَ، فخرج منها هو ونساؤه وعياله وأعوانه. يصف ابنُ بشر خروجَ ابن دواس من الرياض ودخولَ الإمام عبد العزيز بن محمد بقوله: "وهذا شيء حدث، فإنَّه ما خاف من أهل بلدِه خيانةً، بل كلُّهم صادقون معه، ولا حصل عليه تضييقٌ يُلجِئه إلى ذلك، والحرب بينه وبين المسلمين له وعليه، ولكنَّ الله سبحانه جعلها آيةً لِمن افتكر، وعبرةً لمن اعتبر. قيل إنه انتفخ سَحرُه وطاش قلبُه ولبُّه، فقام فزعًا مرعوبًا وركب خيلَه وركابَه، فلما ظهر من القصر، قال: يا أهل الرياض، هذا لي مدة سنين أحارب ابنَ سعود، والآن سئمت من الحرب، فمن أراد أن يتبعني فليفعَلْ, ففَرَّ أهل الرياض في ساقتِه الرجال والنساء، هربوا على وجوههم إلى البَرِّ، وقصدوا الخرجَ، وهلك منهم خلقٌ كثير عطشًا وجوعًا.. والرجل من أهل الرياض يأخذُ الغرب- نوع من الدلو كبير-يجعل فيه ماء ويحمله على ظهرِه، والغرب لا يمسِكُ الماء، والإبل عنده لا يركَبُها، وتركوها خاويةً على عروشها: الطعام واللحم في القدور، والسواني في المناحي، والأبواب لم تغلق, وفي البلدِ مِن الأموال ما يعجِزُ عنه الحصر, فلما دخل عبد العزيز الرياضَ نادى فيها بالأمانِ، فرجع كثيرٌ منهم وسكنوها، وحاز عبد العزيز ما فيها من أموالِ الهاربين من السلاحِ والطعام والأمتعة وغير ذلك، ومات ممَّن مع دهام في هزيمتِه أربعمائة.. وقد أقام هذه الحرب سبعة وعشرين سنة، وذكر لي أنَّ القتلى في هذه المدة نحو أربعة آلاف رجل: من أهل الرياض ألفان وثلاثمائة, ومن المسلمين ألف وسبعمائة". وقد ترتَّب على خروج دهام بن دواس نهائيًّا من الرياض منهزمًا, وقُضِيَ على أعتى خصوم الدعوة في نجدٍ, ودخول الرياض تحتَ حُكمِ دولة الدرعية.
لَمَّا فَرَغ صلاحُ الدين مِن أمر عَسقلان وما جاورها من البلاد، أرسل إلى مِصرَ؛ لطَلَبِ الأسطول الذي بها في جمَع ٍمن المُقاتِلة، ومُقَدَّمُهم حسامُ الدين لؤلؤ الحاجب، فأقاموا في البَحرِ يقطعون الطريقَ على الفرنجِ، كُلَّما رأوا لهم مركبًا غَنِموه، وشانيًا أخَذوه، فحين وصلَ الأسطول وخلا سِرُّه من تلك الناحية سار عن عسقلان إلى بيت المقدس، وكان به البُطرُك المعظَّم عندهم، وهو أعظَمُ شأنًا من مَلِكِهم، وبه أيضًا باليان بن بيرزان، صاحِبُ الرملة، وكانت مرتبتُه عندهم تقارِبُ مرتبة الملك، وبه أيضًا مَن خَلَص من فُرسانِهم مِن حِطِّين، وقد جمعوا وحشدوا، واجتمع أهل تلك النواحي- عسقلان وغيرها- فاجتمع به كثيرٌ مِن الخلق، وحَصَّنوه ونَصَبوا المجانيقَ على أسواره، ولَمَّا قرب صلاحُ الدين وساروا حتى نزلوا على القُدسِ مُنتصَفَ رجب، فلما نَزَلوا عليه رأى المُسلِمون على سُورِه من الرجال ما هالهم، وسَمِعوا لأهله من الجَلَبةِ والضَّجيجِ مِن وسط المدينة ما استدَلُّوا به على كثرة الجمع، وبقي صلاحُ الدين خمسةَ أيام يطوف حولَ المدينة لينظُرَ مِن أين يقاتلُه؛ لأنَّه في غاية الحَصانةِ والامتناعِ، فلم يجِدْ عليه موضِعَ قتالٍ إلَّا من جهة الشَّمالِ نحو باب عمودا، وكنيسة صهيون، فانتقل إلى هذه الناحيةِ في العشرين من رجب ونزلها، ونصَبَ تلك الليلة المجانيقَ، فأصبح من الغَدِ وقد فُرِغَ مِن نصبها، ورمى بها، ونَصَب الفرنجُ على سور البلد مجانيقَ ورَمَوا بها، وقوتلوا أشَدَّ قتال رآه أحَدٌ مِن الناس، وكان خيَّالة الفرنج كلَّ يوم يخرجون إلى ظاهِرِ البلد يقاتِلونَ ويُبارِزونَ، فيُقتَلُ من الفريقين، ثم وصل المسلمون إلى الخندق، فجاوزوه والتصقوا بالسور فنَقَبوه، وزحف الرماةُ يحمونَهم، والمجانيقُ تُوالي الرميَّ لتكشِفَ الفرنجَ عن الأسوار ليتمَكَّنَ المسلمون من النَّقبِ، فلمَّا نقَبوه حَشَوه بما جرت به العادةُ، فلما رأى الفرنج شِدَّةَ قتال المسلمين، وتحكُّمَ المجانيق بالرمي المتدارِك، وتمكُّن النقَّابين من النَّقبِ، وأنهم قد أشرَفوا على الهلاكِ- اجتَمعَ مُقَدَّموهم يتشاورون فيما يأتونَ ويَذَرونَ، فاتَّفَق رأيُهم على طَلَبِ الأمان، وتسليم ِبيتِ المَقدِسِ إلى صلاحِ الدين، فأرسلوا جماعةً مِن كُبَرائِهم وأعيانِهم في طلب الأمان، فلمَّا ذكروا ذلك للسلطان امتنَعَ من إجابتِهم، وقال: لا أفعَلُ بكم إلَّا كما فعلتُم بأهلِه حين ملَكْتُموه سنة 491؛ مِن القَتلِ والسَّبيِ وجزاءُ السِّيِّئةِ بمِثلِها. فلما رجع الرسُلُ خائبين محرومين، أرسل باليان بن بيرزان وطلَبَ الأمان لنَفسِه ليَحضُرَ عند صلاح الدين في هذا الأمرِ وتحريره، فأُجيبَ إلى ذلك، وحضر عنده، ورَغِبَ في الأمان، وسأل فيه، فلم يُجِبْه إلى ذلك، واستعطَفَه فلم يَعطِفْ عليه، واسترَحَمه فلم يرحَمْه، فلمَّا أيِسَ مِن ذلك هدَّد بقَتلِ أنفُسِهم وتخريبِ المسجِدِ والصَّخرةِ وكُلِّ شَيءٍ، فاستشار صلاحُ الدين أصحابَه، فأجمعوا على إجابتِهم إلى الأمان، وألَّا يُخرَجوا ويُحمَلوا على ركوبِ ما لا يُدرى عاقبةُ الأمر فيه عن أيِّ شَيءٍ تنجلي، ونحسَبُ أنَّهم أسارى بأيدينا، فنبيعُهم نفوسَهم بما يستقِرُّ بيننا وبينهم، فأجاب صلاحُ الدين حينئذ إلى بذلِ الأمان للفرنج، فاستقَرَّ أن يَزِنَ الرجُلُ عشرةَ دنانير يستوي فيه الغنيُّ والفقير، ويَزِن الطفلُ من الذكور والبنات دينارين، وتَزِن المرأة خمسة دنانير، فمن أدَّى ذلك إلى أربعين يومًا فقد نجا، ومن انقَضَت الأربعونَ يومًا عنه ولم يؤَدِّ ما عليه فقد صار مملوكًا، فبذل باليان بن بيرزان عن الفُقَراء ثلاثين ألف دينار، فأُجيبَ إلى ذلك، وسُلِّمَت المدينةُ يوم الجمعة السابع والعشرين من رجَبٍ، وكان يومًا مشهودًا، ورَفَّت الأعلامُ الإسلاميَّةُ على أسوارِها، وكان على رأسِ قُبَّة الصخرةِ صَليبٌ كبيرٌ مُذهَبٌ. فلما دخل المسلمونَ البلد يومَ الجمعة تسَلَّقَ جماعةٌ منهم إلى أعلى القبة ليقلَعوا الصليبَ، فلمَّا فعلوا وسقط صاح النَّاسُ كُلُّهم صوتًا واحدًا من البَلَدِ ومِن ظاهِرِه، المُسلِمونَ والفرنج: أمَّا المسلمون فكَبَّرُوا فرحًا، وأمَّا الفرنجُ فصاحوا تفجُّعًا وتوجُّعًا، فلما ملك البلد وفارقه الكُفَّارُ، أمر صلاح الدين بإعادة الأبنيةِ إلى حالها القديمِ، وأمر بتطهيرِ المسجِدِ والصخرةِ مِن الأقذارِ والأنجاسِ، ففُعِلَ ذلك أجمَعُ، ولما كان الجمعة الأخرى، رابع شعبان، صلى المسلمونَ فيه الجمعة، ومعهم صلاحُ الدين، وصلَّى في قبة صلاح الدين خَطيبًا وإمامًا برَسمِ الصَّلواتِ الخمس، وأمَرَ أن يُعمَلَ له مِنبَرٌ، فقيل له: إنَّ نور الدين محمودًا كان قد عَمِلَ بحَلَبٍ مِنبَرًا أمَرَ الصُّناعَ بالمبالغة في تحسينِه وإتقانه، وقال: هذا قد عَمِلْناه ليُنصَب ببيتِ المَقدِسِ! فعَمِلَه النجَّارون في عِدَّةِ سنين لم يُعمَلْ في الإسلام مثله، فأمر بإحضارِه، فحُمِلَ من حَلَب ونُصِبَ بالقدس، وكان بين عَمَلِ المنبر وحَملِه ما يزيد على عشرينَ سنة، وكان هذا من كراماتِ نور الدين وحُسنِ مقاصِدِه! رحمه الله، ولَمَّا فرغ صلاح الدين من صلاة الجمعةِ تقَدَّمَ بعِمارةِ المسجد الأقصى واستنفاد الوُسعِ في تحسينِه وترصيفِه، وتدقيقِ نُقوشِه، فأحضَروا من الرُّخامِ الذي لا يُوجَدُ مِثلُه، ومِن الفص المُذهَب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون إليه، قد ادخر على طول السنين، فشَرَعوا في عمارته، ومحَوا ما كان في تلك الأبنية من الصُّورِ، فعاد الإسلامُ هناك غضًّا طريًّا، وهذه المَكرُمةُ مِن فتح بيتِ المَقدِسِ لم يفعَلْها بعدَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ- رضي الله عنه- غيرُ صلاحِ الدين- رحمه الله- وكَفَاه ذلك فَخرًا وشَرَفًا!
لمَّا سَمِعَ الحَجَّاجُ بِتَمَرُّدِ ابنِ الأشعث جَهَّزَ جُيوشًا وطَلَب مِن عبدِ الملك إمْدادَه فكان ذلك، ثمَّ الْتَقى الطَّرَفان في تُسْتَر واقْتَتَلوا قِتالًا شَديدًا فهَزَمَهُم ابنُ الأشعث ودَخَل البَصْرَةَ فبايَعَهُ أهلُها، وكان ذلك في ذي الحجَّة، ثمَّ في أواخر مُحَرَّم حصَل قِتالٌ شديدٌ آخر انْهزَم فيه أيضًا أصحابُ الحَجَّاج، فحمَل سُفيانُ بن الأبرد الكَلْبِيُّ على المَيْمَنَةِ التي لِعبدِ الرَّحمن فهَزَمها، وانْهزَم أهلُ العِراق وأقبلوا نحو الكوفَة مع عبدِ الرَّحمن، وقُتِلَ منهم خَلْقٌ كثيرٌ، ولمَّا بلَغ عبدُ الرَّحمن الكوفَة تَبِعَهُ أهلُ القُوَّةِ وأصحابُ الخَيْلِ مِن أهلِ البَصْرَة، واجتمع مَن بَقِيَ في البَصْرَة مع عبدِ الرَّحمن بن عبَّاس بن رَبيعَة بن الحارث بن عبدِ المُطَّلِب فبايَعُوه، فقاتَل بهم الحَجَّاجَ خَمْسَ ليالٍ أشدَّ قِتالٍ رآه النَّاسُ، ثمَّ انْصَرف فلَحِقَ بابنِ الأشعث ومعه طائفةٌ مِن أهلِ البَصْرَة، وهذه الوقعة تُسَمَّى: يومَ الزَّاوِيَة، اسْتَبْسَلَ فيها القُرَّاءُ -وهُم العُلَماء- وكان عليهم جَبَلَةُ بن زُحَر فنادَى فيهم: أيُّها النَّاس، ليس الفِرار مِن أَحَدٍ بأقْبَح منه منكم، فقاتِلُوا عن دِينِكم ودُنياكُم. وقال سعيدُ بن جُبير نحو ذلك، وقال الشَّعْبِيُّ: قاتِلُوهم على جَوْرِهِم، واسْتِذْلالِهِم الضُّعَفاء، وإماتَتِهِم الصَّلاة. ثمَّ حَمَلَت القُرَّاءُ على جيشِ الحَجَّاجِ حَمْلَةً صادِقَة، فبَدَّعُوا فيهم، وكان ابنُ الأشعث يُحَرِّض النَّاسَ على القِتال، فلمَّا رأى ما النَّاس فيه أَخَذ مَن اتَّبَعَه وذَهَب إلى الكوفَة، فبايَعَه أهلُها. ثمَّ إنَّ عبدَ الملك عرَض على أهلِ العِراق أن يَخْلَعَ الحَجَّاج ويَعودوا كما كانوا حَقْنًا للدِّماء فأبوا لمَّا رأوا بأَنفُسِهم قُوَّةً وكَثْرَةً وخلعوا عبدَ الملك أيضًا فخَلَّى بين الحَجَّاجِ وبينهم.
هو الإمامُ، العلامةُ، شَيخُ الحنابلةِ، القاضي، أبو يَعلى محمدُ بن الحُسينِ بن محمدِ بن خَلَفِ بن أحمدَ البغداديُّ، الحَنبليُّ، ابنُ الفَرَّاءِ، وُلِدَ في مُحرَّم سنةَ 380هـ، صاحبُ التَّعليقَةِ الكُبرى، والتَّصانيفِ المُفيدةِ في المَذهَبِ, ومُمَهِّدُ مَذْهَبِهم في الفُروعِ، أَفْتَى ودَرسَ، وتَخَرَّجَ به الأصحابُ، وانتهت إليه الإمامةُ في الفِقْهِ، وكان عالِمَ العراقِ في زَمانهِ، مع مَعرفةٍ بعُلومِ القُرآنِ وتَفسيرِه، والنَّظَرِ والأُصولِ، وكان أبوه مِن أَعيانِ الحَنفيَّة، مات ولأبي يَعلَى عَشرةُ أَعوامٍ، فلَقَّنَهُ مُقرِئُه العِباداتِ مِن (مُختَصَر) الخِرَقِي، فلَذَّ له الفِقْهُ، وتَحوَّل إلى حَلَقَةِ أبي عبدِالله بن حامدٍ البغداديِّ الوَرَّاق، شَيخِ الحنابلةِ، فصَحِبَهُ أَعوامًا، وبَرعَ في الفِقهِ عنده، وتَصدَّر بأَمرِه للإفادةِ سنةَ 402هـ، قال ابنُ الجوزي: "كان مِن ساداتِ العُلماءِ الثِّقاتِ، وشَهِدَ عند ابنِ ماكولا وابنِ الدَّامغاني فقَبِلَاهُ، وتَوَلَّى النَّظَرَ في الحُكمِ بِحَريمِ الخِلافةِ، وكان إمامًا في الفِقْهِ، له التَّصانيفُ الحِسانُ الكَثيرةُ في مَذهَبِ أحمد، ودَرَّسَ وأَفتَى سِنينَ، وانتهت إليه رِياسةُ المَذهبِ، وانتشرت تَصانيفُه وأَصحابُه، وجَمعَ الإمامةَ والفِقهَ والصِّدقَ، وحُسْنَ الخُلُقِ، والتَّعَبُّدَ والتَّقَشُّفَ والخُشوعَ، وحُسْنَ السَّمْتِ، والصَّمْتَ عمَّا لا يَعْنِي. اتَّهَمَهُ بعضُهم بالتَّجسيمِ بسَببِ كِتابهِ ((الصِّفات))، وله مِن المُصنَّفاتِ: ((الأحكام السُّلطانِيَّة)) و((الكِفاية في أُصولِ الفِقهِ)). قال الذهبيُّ: "وَلِيَ أبو يَعلَى القَضاءَ بدارِ الخِلافةِ والحَريمِ، مع قَضاءِ حران وحلوان، وقد تَلَا بالقِراءاتِ العَشْرِ، وكان ذا عِبادةٍ وتَهَجُّدٍ، ومُلازَمَةٍ للتَّصنيفِ، مع الجَلالَةِ والمَهابَةِ، ولم تكن له يَدٌ طُولَى في مَعرفةِ الحَديثِ، فرُبَّما احتَجَّ بالواهي". تُوفِّي في العشرين من رمضان عن ثَمانٍ وسبعين سَنةً، "واجتَمَع في جَنازَتهِ القُضاةُ والأَعيانُ، وكان يومًا حارًّا، فأَفطَرَ بعضُ مَن اتَّبَعَ جَنازَتَه"
بعَث الحَجَّاجُ كِتابًا إلى المُهَلَّب وعبدِ الرَّحمن بن مِخْنَف يأمرُهما بِمُناهَضة الخَوارِج، فزَحَفوا إليهم وقاتلوهم شيئًا مِن قِتالٍ، فانْهَزمت الخَوارِج كأنَّهم على حامِيَة، ولم يكُن منهم قِتالٌ، وساروا حتَّى نَزلوا كازَرُون، وسار المُهَلَّبُ وابنُ مِخْنَف حتَّى نزلوا بهم، وخَنْدَقَ المُهَلَّبُ على نَفسِه، وقال لابن مِخْنَف: إن رأيتَ أن تُخَنْدِقَ عليك فافْعَل. فقال أصحابُه: نحن خَنْدَقْنا سُيوفَنا, فأتى الخَوارِجُ المُهَلَّبَ لِيُبَيِّتُوه فوجدوه قد تَحَرَّزَ، فمالوا نحو ابن مِخْنَف فوجدوه لم يُخَنْدِق فقاتلوه فانهزم عنه أصحابُه، فنزَل فقاتَل في أُناسٍ مِن أصحابِه, فقُتِلَ وقُتِلوا حوله كُلُّهم.
كانت بين اليمانية والنِّزارية وكان سببُها أنَّ عُثمانَ بنَ نُعيم البرجمي صار إلى ديارِ مُضَر، فشكا الأزدَ واليمن، وقال: إنَّهم يغلبونَنا على حُقوقنا واستنصَرَهم، فسار معه إلى الموصِل ما يقارب عشرين ألفًا, فأرسل إليهم عليُّ بن الحسن الهمداني، وهو حينئذٍ متغَلِّبٌ على الموصِل، فسألهم عن حالهم، فأخبَروه، فأجابهم إلى ما يريدون، فلم يقبَلْ عثمان ذلك، فخرج إليهم عليُّ بن الحسَن مِن الموصِل في نحو أربعةِ آلاف رجل، فالتقَوا واقتَتَلوا قتالًا شديدًا عدَّة وقائِعَ، فكانت الهزيمةُ على النزاريَّة، وظفِرَ بهم عليُّ بنُ الحسن، وقتل منهم خلقًا كثيرًا وعاد إلى البلد.
ركِبَ المأمون إلى بلاد الروم فحاصر حِصنَ لؤلؤةَ مائة يومٍ، ثم ارتحلَ عنها واستخلف على حصارِها عجيف بن عنبسة، فخدعته الرومُ فأسَروه فأقام في أيديهم ثمانيةَ أيام، ثم انفَلَت منهم واستمَرَّ محاصِرًا لهم، فجاء توفيل ملِكُ الروم بنفسِه، فأحاط بجيشِه من ورائه، فبلغ المأمونَ فسار إليه، فلمَّا أحس توفيل بقدومِه هرب وبعث وزيرَه صنغل، فسأله الأمانَ والمصالحةَ، لكنَّه بدأ بنَفسِه قبل المأمون فرَدَّ عليه المأمونُ كتابًا بليغًا مضمونُه التقريعُ والتوبيخُ؛ قال فيه: وإنِّي إنما أقبل منك الدخولَ في الحنيفيَّة، وإلَّا فالسيفُ والقَتلُ، والسلامُ على من اتَّبع الهُدى.
في العشرين من ذي الحجة عاد الفرنج إلى الرملة، وكان سبَبُ عودهم أنَّهم كانوا ينقلون ما يريدونَه مِن الساحل، فلما أبعدوا عنه كان المسلمون يخرجونَ على مَن يجلِبُ لهم الميرةَ فيَقطَعونَ الطريق ويَغنَمونَ ما معهم، ثم إنَّ ملك الإنكليز قال لمن معه من الفرنج الشاميين: صَوِّروا لي مدينةَ القدس؛ فإني ما رأيتُها، فصوروها له، فرأى الواديَ يُحيطُ بها ما عدا موضِعًا يسيرًا من جهة الشمال، فسأل عن الوادي وعن عُمقِه، فأُخبِرَ أنه عميق، وَعرَ المسلك، فقال: هذه مدينةٌ لا يُمكِنُ حَصرُها ما دام صلاح الدين حيًّا وكَلِمةُ المسلمين مجتمعةً، فأشاروا عليه بالعَودِ إلى الرملة، فعادوا خائبينَ خاسرين.
قَدِمَ دمشقَ عليُّ بن الحسن بن أبي الفضل بن جعفر بن محمد بن كثير الحلبي الرافضيُّ، وأقام بها سنواتٍ، فاتفق أنَّه شَقَّ الصفوف والناسُ في صلاةِ جنازةٍ بالجامِعِ الأمويِّ وهو يلعَنُ ويسُبُّ من ظَلَم آلَ مُحمَّدٍ، فانتَهَره عمادُ الدين ابنُ كثيرٍ، وأغرى به العامَّةَ، وقال: إنَّ هذا يسُبُّ الصحابةَ، فحملوه إلى القاضي تقي الدين السبكي فاعترف بسَبِّ أبي بكر وعمر، فعَقَدوا له مجلسًا، فحكَم نائِبُ المالكي بضَربِ عُنُقِه بعد أن كُرِّرَت عليه التوبةُ ثلاثةَ أيامٍ، فأصَرَّ فضُرِبَت عُنُقُه بسوق الخيلِ وحَرَق العوامُّ جَسَده
هو المؤرِّخُ صلاح الدين محمد بن شاكر بن أحمد، المعروف بابن شاكر الكتبي، الداراني، الدمشقي. أحَدُ أعلام المؤرخين في القرن الثامن الهجري. كان باحثًا عارفًا بالأدب. ولِدَ في داريا (من قرى دمشق) ونشأ وتوفِّيَ بدمشق. كان فقيرًا جِدًّا، واشتغل بتجارة الكُتُب، فربح منها مالًا طائلًا. له مؤلَّفات مثل: كتاب "عيون التواريخ"، و "فوات الوفيات". قال ابن كثير: "في يوم السبت حادي عشر رمضان صَلَّينا بعد الظهر على الشيخ صلاح الدين محمد بن شاكر الكتبي، تفَرَّد في صناعته، وجمع تاريخًا مُفيدًا نحوًا مِن عشر مجلدات، وكان يحفَظُ ويذاكِرُ ويُفيد"
هو الوزيرُ العلَّامة أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السلماني, قرطبي الأصل, نزل سلفة طليطلة ثم لوشة ثم غرناطة، كان سلفة قديمًا يُعرَفون ببني وزير، ثم صاروا يُعرَفون ببني الخطيب نسبةً إلى سعيد جده الأعلى، وكان قد ولِيَ الخَطابة بها وتحَوَّل جَدُّه الأدنى سعيد إلى غرناطة. ولِدَ لسان الدين سنة 713 في لوشة ونشأ في غرناطة، كان عالِمًا بالتاريخ والفلسفة والرياضيات، والفقه والأصول والطب، فألَّفَ في كلِّ ذلك, فله الإحاطة في أخبار غرناطة، وتاريخ ملوك غرناطة، ورسالة في الموسيقى، والحلل المرقومة في اللمع المنظومة، وهي منظومة في أصول الفقه، وله مؤلَّف في الطب ضخم، وعلاج السموم، وكتاب البيطرة. أخذ الطبَّ والمنطق والحساب عن يحيى بن هذيل الفيلسوف, وبرز في الطبِّ وتولَّع بالشعر، فنبغ فيه وترسل ففاق أقرانه، واتصل بالسلطان أبي الحجاج يوسف بن أبي الوليد بن نصر بن الأحمر فمدحه وتقرَّب منه واستكتبه من تحت يد أبي الحسن بن الجباب إلى أن مات أبو الحسَنِ، استقل بكتابة السر وأضاف إليه رسوم الوزارة واستعمله في السفارة إلى الملوك، واستنابه في جميع ما يملِكُه، فلما قُتِل أبو الحجاج سنة 755 وقام ابنُه محمد استمَرَّ لسان الدين الخطيب على وزارته، ثم أرسله إلى أبي عنان المريني بفاس ليستنجِدَه فمدحه فاهتزَّ له وبالغ في إكرامه، فلما خُلِعَ محمد وتغلب أخوه إسماعيل على السلطنة قُبِضَ على الخطيب بعد أن أمَّنَه واستؤصلت نِعمَتُه ولم يكن بالأندلس مِثلُها، فبيع جميعُ ما يَملِكُ, وشَمِلَ الطَّلَبُ جميعَ الأقارب واستمر مسجونًا إلى أن وردت شفاعةُ أبي سالم ابن أبي عنان فيه، ثم شفع له أبو سالم مرةً ثانية فرُدَّت عليه ضِياعُه بغرناطة وقُلِّدَ ما وراء باب السلطان، فباشره مقتصرًا على الكفاية راضيًا به هاجرًا للزُّخرف، صادِعًا بالحق في أسواق الباطل, وعَمَّر حينئذ زاوية ومدرسة وصَلَحت أمور سلطانه على يَدِه، فلم يزل في ذلك إلى أن وقع بينه وبين عثمان بن يحيى بن عمر شيخِ الغُزاة منافرةٌ أدت إلى نفي عُثمان سنة 764 فظَنَّ لسانُ الدين الخطيب أن الوقت صفا له وأقبل سلطانُه على اللهوِ، وانفرد هو بتدبير المملكة، فكَثُرت القالةُ فيه من الحَسَدة واستشعر في آخِرِ الأمر أنهم سَعَوا به, وخَشِيَ على نفسه, فأخذ في التحَيُّل في الخلاصِ، وراسل أبا سالم صاحب فاس في اللحاق به, فدخل مدينة فاس سنة 73 فتلقاه أبو سالم وبالغ في إكرامه وأجرى له الرواتِبَ فاشترى بها ضياعًا وبساتين، فبلغ ذلك أعداءه بالأندلس فسَعَوا به عند سلطانه حتى أذِنَ لهم في الدعوى عليه بمجلِسِ الحكم بكلماتٍ كانت تصدُرُ منه وتُنسَبُ إليه وأثبتوا ذلك وسألوه الحُكمَ به فحُكِمَ بزندقته وإراقةِ دَمِه، وأرسلوا صورة المكتوب إلى فاس، فامتنع أبو سالم فقال: هلا أثبتم ذلك عليه وهو عندكم، فأمَّا ما دام عندي فلا يُوصَلُ إليه، فاستمر على حالته بفاس إلى أن مات أبو سالم فلما تسلطَنَ بها أبو العباس بعده أغراه به بعضُ من كان يعادي الخطيبَ، فلم يزل إلى أن قُبِضَ عليه وحوكم فعَزَّرَه القاضي بالكلامِ ثم امتُحِنَ وعُذِّب، فسُجِنَ وقُتِلَ داخِلَ سِجنِه خَنقًا أوائلَ هذه السنة.
هو غياثُ الدين أبو شجاع السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، سلطان بلاد العراق وخراسان وغير ذلك من البلاد الشاسعة, والأقاليم الواسعة. كان من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، عادلًا رحيمًا، سهل الأخلاق، محمود العشرة، لما توفي والده ملكشاه اقتسم مملكته أولادُه الثلاثة وهم: بركيارق، وسنجر، ومحمد، ولم يكن لمحمد وسنجر، وهما من أم واحدة، وجود في اهتمام بركيارق؛ لأنه كان السلطان المشار إليه، وهما كالأتباع له، ثم اختلف محمد وبركيارق، فدخل محمد وأخوه سنجر إلى بغداد، فخلع عليهما الخليفة المستظهر بالله, وخطب لمحمد، وتركوا الخطبة لبركيارق، وكان ذلك في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وقيل سنة 495, وقُطِعت خطبته عدة مرات، ولَقِيَ من المشاق والأخطار ما لا حدَّ له، فلما توفي أخوه بركيارق صفت له السلطنة، وعَظُمت هيبته، وكثرت جيوشه وأمواله، وكان اجتمع الناس عليه اثنتي عشرة سنة وستة أشهر. قال ابن خلكان: "كان السلطان محمد رجل الملوك السلجوقية وفحلهم، وله الآثار الجميلة والسيرة الحسنة، والمعدلة الشاملة، والبر للفقراء والأيتام، والحرب للطائفة الملحِدة والنظر في أمور الرعية". مرض السلطان محمد زمانًا طويلًا، ولما أيس من نفسه أحضر ولده محمدًا فقَبَّله وبكى كلٌّ واحد منهما، وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة وينظر في أمور الناس، فقال لوالده: إنه يوم غير مبارك، فقال: صدقتَ، ولكنْ على أبيك، وأمَّا عليك فمُبارَك بالسلطنة. فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين، وتوفي يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي الحجة في هذه السنة بمدينة أصبهان، وعمره سبع وثلاثون سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وهو مدفون بأصبهان في مدرسة عظيمة، وهي موقوفة على الطائفة الحنفية، وليس بأصبهان مدرسة مثلها, ولم يخلف أحد من الملوك السلجوقية ما خلفه من الذخائر وأصناف الأموال والدواب.
هو أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله مصغر بن أبي سعيد بن سليمان الأنباري النحوي صاحب التصانيف المفيدة، من الأئمَّة المشار إليهم في علمِ النحو، وُلِدَ في شهر ربيع الآخر سنة 513, وسكن بغداد من صباه إلى أن مات، وتفقَّه على مذهب الشافعي، بالمدرسة النظامية وتصدَّر لإقراءِ النحو بها، وصار شيخَ العراق في الأدب غيرَ مُدافَع له. تولى التدريس في بغداد, وقَصَده طلابُ العلم من سائر الأقطار, يقول ابنُ خَلِّكان: "اشتغل عليه خلقٌ كثيرٌ وصاروا عُلَماء، ولَقِيتُ جماعة منهم، وصَنَّف في النحو كتاب "أسرار العربية" وهو سهل المأخذ كثير الفائدة، وله كتاب "الميزان" في النحو، وله كتاب في "طبقات الأدباء" جمع فيه المتقَدِّمين والمتأخرين مع صغر حجمه، وكتُبُه كلها نافعة، وكان نفَسُه مباركًا ما قرأ عليه أحدٌ إلا وتميز". ثم انقطع ابن الأنباري في منزله مشتغلًا بالعلم والعبادة والإفادة، قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: "لم أر في العُبَّاد والمنقطعين أقوى منه في طريقِه، ولا أصدق منه في أسلوبه، جِدٌّ مَحضٌ لا يعتريه تصَنُّع، ولا يَعرِف الشرورَ ولا أحوال العالَم. كانت له دارٌ يَسكُنُها، وحانوت ودار أخرى يتقَوَّت بأجرتهما، سيَّرَ له المستضيء خمس مائة دينار فردَّها، وكان لا يُوقَد عليه ضوء، وتحته حصير قصب، وثوبَا قُطن، وله مائة وثلاثون مصنفًا" ومن تصانيفه في المذهب "هداية الذاهب في معرفة المذاهب" و"بداية الهداية" وفي الأصول "الداعي إلى الإسلام في أصول الكلام" و"النور اللائح في اعتقاد السلف الصالح" وغير ذلك، وفي الخلاف "التنقيح في مسلك الترجيح"، و"الجمل في علم الجدل" وغير ذلك، وفي النحو واللغة ما يزيد على الخمسين مصنَّفًا، وله شعر حسن كثير, ثم انقطع في آخر عمره في بيته مشتغلًا بالعلم والعبادة، وتَرَك الدنيا ومجالسة أهلها، ولم يزل على سيرة حميدة إلى أن توفي ليلة الجمعة تاسع شعبان من هذه السنة ببغداد، ودُفِنَ بباب أبرز بتربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي.
هو الإمامُ العلَّامة، مفتي المسلمين، أبو البركات زين الدين المنجي بن عثمان بن أسعد بن المنجي بن بركات بن المؤمل، التنوخي، المعرِّي الأصل، الدمشقي، شيخُ الحنابلة. ولد سنة 631. سمع الحديث وتفقَّهَ فبرع في فنون من العلمِ كثيرةٍ مِن الأصول والفروع والعربيَّة والتفسير وغير ذلك، وانتهت إليه رياسة المذهب، وصنَّف في الأصول وشرَحَ المُقنِعَ، وله تعاليقُ في التفسير, فدرَّس وأفتى وصنَّف, وتفقَّه عليه: ابن الفخر، وابن أبي الفتح، وابن تيمية، وجماعة من الأئمة. وكان قد جمع له بين حُسنِ السَّمت والديانة والعِلمِ والوجاهة وصِحَّة الذهن والمناظرة, وطولِ النفس في البحث، وله مُلكٌ وثَروةٌ وحُرمةٌ وافرةٌ, وكان له في الجامِعِ حلقة للإشغالِ والفتوى نحو ثلاثين سنة متبَرِّعًا لا يتناوَلُ على ذلك أجرًا. وكانت له أوراد، منها صومُ الاثنين والخميس، والذِّكرُ من حين يصلِّي الصبحَ إلى أن يصلي الضُّحى. وله مع الصلوات تطوع كثير. ويصلي الضحى ويطيلُها جِدًّا. وكان له في آخِرِ الليل تهجدٌ كثيرٌ وتيقُّظٌ وذِكرٌ. وكان له إيثارٌ كبير؛ يفطِّرُ الفقراء عنده في بعضِ الليالي، وفي شهر رمضانَ كُلِّه. وكان مع ذلك حسَنَ الأخلاقِ، لطيفًا مع المشتغلين، مليحَ المجالسة. قال الذهبي: " أجاز لي مرويَّاتِه سنة سبع وسبعين، وقصدته لأسمعَ منه فقال لي: تعالَ وقتًا آخر. فاشتغلت ولم يقَدَّر لي السماعُ منه. وكان مليحَ الشكل، حسَنَ البِزَّة، كثيرَ التطهُّر والنظافة. وكان غالِبَ أوقاته في الجامع وفي بيت المأذنةِ". توفي يوم الخميس رابع شعبان، وتوفيت معه زوجتُه أم محمد ست أبيها بنت صدر الدين الخجندي، وصُلِّيَ عليهما بعد الجمعة بجامع دمشقَ وحُمِلا جميعًا إلى سفح قاسيون شمال الجامع المظفري تحت الروضة، فدفنا في تربةٍ واحدة رحمهما الله تعالى، وهو والد رئيسِ القضاة علاء الدين، وكان شيخ المسماريَّة ثم وليها بعده ولداه شرف الدين وعلاء الدين، وكان شيخَ الحنبليَّة فدَرَّس بها بعده الشيخ تقي الدين ابنُ تيمية.