بعد أن أحضر إسحاقُ بنُ إبراهيمَ العُلَماءَ والمحدِّثينَ لامتحانِهم، كان مِن بينهم الإمامُ أحمَدُ، ومحمدُ بنُ نوح، وغيرُهم كثيرٌ، ولَمَّا انتهت النوبةُ إلى امتحانِ الإمامِ أحمَدَ بنِ حنبَل، قال له: أتقولُ إنَّ القرآنَ مَخلوقٌ؟ فقال: القرآنُ كلامُ اللهِ، لا أزيدُ على هذا، فقال له: ما تقولُ في هذه الرُّقعةِ؟ بالرقعةِ التي وافَقَ عليها قاضي القُضاةِ بِشرُ بن الوليد الكِندي، فقال: أقولُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فقال رجلٌ من المعتزلة: إنَّه يقولُ: سَميعٌ بأذُنٍ، بصيرٌ بعَينٍ! فقال له إسحاقُ: ما أردتَ بقَولِك: سَميعٌ بصيرٌ؟ فقال: أردتُ منها ما أراده اللهُ منها؛ وهو كما وصف نفسَه، ولا أزيدُ على ذلك. فكتب جواباتِ القَومِ رَجُلًا رجلًا وبعثَ بها إلى المأمون، فلما وصَلَت جواباتُ القوم إلى المأمونِ، بعث إلى نائبه يمدَحُه على ذلك ويرُدُّ على كلِّ فَردٍ ما قال في كتابٍ أرسَلَه. وأمر نائِبَه أن يمتَحِنَهم أيضًا فمن أجاب منهم شُهِرَ أمرُه في الناس، ومن لم يجِبْ منهم فابعَثْه إلى عسكَرِ أميرِ المؤمنين مقيَّدًا مُحتَفِظًا به حتى يصِلَ إلى أميرِ المؤمنين فيرى فيه رأيَه، ومِن رأيِه أن يضرِبَ عُنُقَ مَن لم يقُلْ بِقَولِه. فعند ذلك عقد النائبُ ببغداد مجلسًا آخر وأحضر أولئك، وفيهم إبراهيمُ بنُ المهدي، وكان صاحبًا لبِشرِ بنِ الوليد الكندي، وقد نصَّ المأمونُ على قتلِهما إن لم يُجيبا على الفَورِ، فلما امتحنَهم إسحاقُ أجابوا كلُّهم مُكرَهينَ متأوِّلينَ قَولَه تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} إلَّا أربعةً، وهم: أحمد بن حنبل، ومحمَّد بن نوح، والحسَنُ بن حمَّاد سجادة، وعُبيد الله بن عمر القواريري. فقيَّدَهم وأرصدهم ليبعَثَ بهم إلى المأمونِ، ثم استدعى بهم في اليومِ الثاني فامتحَنَهم فأجاب سجادة إلى القولِ بذلك فأُطلِقَ. ثم امتحَنَهم في اليوم الثالثِ فأجاب القواريريُّ إلى ذلك فأُطلِقَ قَيدُه، وأَخَّرَ أحمدَ بنَ حَنبل ومحمَّدَ بن نوحٍ الجندُ؛ لأنَّهما أصرَّا على الامتناعِ من القول بذلك، فأكَّدَ قيودَهما وجمَعَهما في الحديدِ، وبعَثَ بهما إلى الخليفةِ وهو بطرسوس، وكتب كتابًا بإرسالهما إليه. فسارا مُقَيَّدينِ في محارة على جمَلٍ متعادِلَينِ- رَضِيَ الله عنهما- وجعل الإمامُ أحمد يدعو الله عزَّ وجَلَّ ألَّا يجمَعَ بينهما وبين المأمونِ، وألَّا يَرَياه ولا يراهما، ثمَّ جاء كتابُ المأمونِ إلى نائبِه أنَّه قد بلغني أنَّ القومَ إنما أجابوا مُكرَهينَ متأوِّلينَ قَولَه تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} وقد أخطؤوا في تأويلِهم دلك خطأً كبيرًا، فأرسَلَهم كلَّهم إلى أميرِ المؤمنين. فاستدعاهم إسحاقُ وألزَمَهم بالمسيرِ إلى طرسوس فساروا إليها، فلمَّا كانوا ببعض الطريقِ بلَغَهم موتُ المأمونِ، فرُدُّوا إلى الرقَّةِ، ثمَّ أُذِنَ لهم بالرجوعِ إلى بغداد، فاستجاب اللهُ سبحانَه دُعاءَ عَبدِه ووَلِيِّه الإمامِ أحمَدَ بنِ حَنبل.
لمَّا خَرجَ طُغرلبك من بغداد خَلْفَ أَخيهِ إبراهيمَ ينال استَغلَّ الفُرصةَ البساسيري، فلمَّا كان يومُ الأحدِ الثامن من ذي القعدة جاء إلى بغداد ومعه الرَّاياتُ البِيضُ المِصريَّةُ العُبيدِيَّةُ، وعلى رَأسِه أَعلامٌ مَكتوبٌ عليها اسمُ المُستَنصِر بالله أبو تَميمٍ مَعَدُّ، أَميرُ المؤمنين، فتَلقَّاهُ أَهلُ الكَرخِ الرَّافِضَةُ وسَألوهُ أن يَجتازَ من عندهم، فدَخلَ الكَرخَ وخَرجَ إلى مشرعةِ الزَّاويا، فخَيَّمَ بها والنَّاسُ إذ ذاك في مَجاعةٍ وضُرٍّ شَديدٍ، ونَزلَ قُريشُ بن بَدران وهو شَريكُ البساسيري في هذه الفِتنةِ، في نحوٍ مِن مائتي فارسٍ على مشرعةِ بابِ البَصرةِ، وكان البساسيري قد جَمعَ العَيَّارِينَ وأَطمَعَهُم في نَهبِ دارِ الخِلافةِ، ونَهَبَ أَهلُ الكَرخِ مِن الشِّيعةِ دُورَ أَهلِ السُّنَّةِ ببابِ البَصرةِ، ونُهِبَت دارُ قاضي القُضاة الدَّامغاني، وتملك وهلك أَكثرُ السِّجِلَّاتِ والكُتبِ الحُكمِيَّة، وبِيعَت للعطَّارِين، ونُهِبَت دُورُ المُتعلِّقِين بخِدمةِ الخَليفةِ، وأَعادَت الرَّوافضُ الأذانَ بحيَّ على خَيرِ العَملِ، وأُذِّنَ به في سائرِ نواحي بغداد في الجُمُعاتِ والجَماعاتِ وخُطِبَ ببغداد للمُستَنصِر العُبيدي على مَنابِرِها، وضُربَت له السِّكَّةُ على الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وحُوصِرَت دارُ الخِلافةِ، فدافَع الوزيرُ أبو القاسم بن المسلمة المُلَقَّب برَئيسِ الرُّؤساءِ، بمن معه من المُستَخدِمين دون دارِ الخِلافةِ, فلم يُفِد ذلك شيئًا، فرَكِبَ الخَليفةُ بالسَّوادِ والبُردَةِ، وعلى رَأسِه اللِّواءُ وبِيَدِه سَيفٌ مُصَلَّتٌ، وحولَه زُمرةٌ مِن العبَّاسيِّين والجواري حاسِراتٌ عن وُجوهِهنَّ، ناشِراتٌ شُعورِهِنَّ، ومَعهُنَّ المصاحِفُ على رُؤوسِ الرِّماحِ، وبين يَديهِ الخَدَمُ بالسُّيوفِ، ثم إنَّ الخَليفةَ أَخذَ ذِمامًا من أَميرِ العَربِ قُريشٍ لِيَمنَعهُ وأَهلَهُ ووَزيرَهُ ابن المسلمة، فأَمَّنَهُ على ذلك كُلِّه، وأَنزلَه في خَيمةٍ، فلامَهُ البساسيري على ذلك، وقال: قد عَلِمتَ ما كان وقعَ الاتفاقُ عليه بيني وبينك، من أنَّك لا تَبُتَّ برَأيٍ دُوني، ولا أنا دُونكَ، ومهما مَلكْنَا بيني وبينك. ثم إن البساسيري أخذَ القاسمَ بن مَسلمةَ فوَبَّخَهُ تَوبيخًا مُفضِحًا، ولامَهُ لَومًا شَديدًا ثم ضَربهُ ضَربًا مُبرِحًا، واعتَقلهُ مُهانًا عنده، ونَهبَت العامَّةُ دارَ الخِلافةِ، ثم اتَّفقَ رأيُ البساسيري وقُريشٍ على أن يُسَيِّروا الخليفةَ إلى أَميرِ حَديثَةِ عانَة، وهو مهارش بن مجلي النَّدوي، وهو مِن بني عَمِّ قُريشِ بن بدران، وكان رجلًا فيه دِينٌ وله مُروءةٌ، فلمَّا بلغ ذلك الخَليفةَ دَخلَ على قُريشٍ أن لا يخرج من بغداد فلم يَفِد ذلك شيئًا، وسَيَّرَهُ مع أَصحابِهما في هَودَج إلى حَديثَةِ عانَة، فكان عند مهارش حَولًا كامِلًا، وليس معه أَحدٌ من أَهلِه، وأما البساسيري، وما اعتَمدَهُ في بغداد، فإنَّه رَكِبَ يومَ عيدِ الأضحى وأَلبَس الخُطباءَ والمُؤذِّنينَ البَياضَ، وكذلك أَصحابَه، وعلى رَأسِه الأَلوِيَةُ العُبيديَّة المِصريَّة، وخَطَب للمُستَنصِر العُبيدي المِصري، وانتَقَم البساسيري من أَعيانِ أَهلِ بغداد انتِقامًا عَظيًما، وغَرَّقَ خَلْقًا ممن كان يُعادِيه، وبَسَطَ على آخرين الأرزاقَ ممن كان يُحبُّه ويُواليه، وأَظهرَ العَدلَ، ثم إنَّه عَلَّقَ ابنَ المسلمة رَئيسَ الرُّؤساءِ بِكَلُّوبٍ في شِدْقَيْهِ، ورُفِعَ إلى الخَشبةِ، إلى أن مات.
في هذه السَّنَةِ خَرجَ أرمانوس مَلِكُ الرُّومِ في مائتي ألفٍ من الرُّومِ، والفِرنجِ، والغَربِ، والرُّوسِ، والبجناك، والكرج، وغَيرِهم، من طوائفِ تلك البِلادِ، فجاءوا في تَجَمُّلٍ كَثيرٍ، وزِيٍّ عَظيمٍ، وقَصدَ بِلادَ الإسلامِ، فوَصلَ إلى ملازكرد من أَعمالِ خلاط. فبَلغَ السُّلطانَ ألب أرسلان الخَبرُ. وهو بمَدينةِ خوي من أذربيجان، قد عاد من حَلَب. وسَمِعَ بكَثرَةِ الجُموعِ التي مع مَلِكِ الرُّومِ، فلم يَتَمَكَّن من جَمْعِ العَساكرِ لبُعدِها وقُرْبِ العَدُوِّ، فسَيَّرَ الأَثقالَ مع زَوجتِه ونِظامِ المُلْكِ إلى همذان، وسار هو فيمن عنده من العَساكرِ، وهُم خَمسة عشر ألف فارس. وَجَدَّ في السَّيْرِ وقال لهم: إنَّني أُقاتِلُ مُحتَسِبًا صابرًا، فإن سَلِمْتُ فنِعمةٌ مِن الله تعالى، وإن كانت الشهادةُ فإنَّ ابني ملكشاه وَلِيُّ عَهْدِي. وساروا فلمَّا قارَبَ العَدُوَّ جَعلَ له مُقدِّمةً، فصادَفَت مُقدِّمَتُه، عند خلاط، مُقدِّمَ الرُّوسِيَّة في نَحوِ عشرة آلاف من الرُّومِ، فاقتَتَلوا، فانهَزمَت الرُّوسِيَّةُ، وأَسَرَ مُقدِّمَهم، وحُمِلَ إلى السُّلطانِ، فجَدَعَ أَنْفَهُ، وأَنْفَذَ بالسَّلَبِ إلى نِظامِ المُلْكِ، وأَمرَهُ أن يُرسِلَهُ إلى بغداد، فلمَّا تَقارَب العَسكرانِ أَرسلَ السُّلطانُ إلى مَلِكِ الرُّومِ يَطلُب منه المُهادَنة، فقال: لا هُدْنَةَ إلَّا بالرَّيِّ. فانزَعجَ السُّلطانُ لذلك، فقال له إِمامُه وفَقِيهُه أبو نصرٍ محمدُ بن عبدِ المَلِكِ البُخاريُّ، الحَنَفيُّ: إنَّك تُقاتِل عن دِينٍ وَعَدَ الله بِنَصْرِهِ وإِظهارِهِ على سائرِ الأديانِ، وأَرجو أن يكون الله تعالى قد كَتبَ باسمِك هذا الفَتحَ، فالْقِهِم يومَ الجُمعةِ، بعدَ الزَّوالِ، في الساعةِ التي تكون الخُطباءُ على المنابرِ، فإنَّهم يَدعُون للمُجاهِدين بالنَّصرِ، والدُّعاءُ مَقرونٌ بالإجابةِ. فلمَّا كانت تلك الساعةُ صلَّى بهم، وبَكَى السُّلطانُ، فبَكَى الناسُ لِبُكائِه، وَدَعا ودَعَوا معه وقال لهم: مَن أَرادَ الانصرافَ فليَنصَرِف، فما هاهنا سُلطانٌ يأمرُ ويَنهى، وأَلقَى القَوْسَ والنِّشابَ، وأَخذَ السَّيفَ والدَّبُّوسَ – الدَّبُّوس آلة من آلاتِ الحَربِ تُشبِه الإِبْرَة-، وعَقَدَ ذَنَبَ فَرَسِه بِيَدِه، وفَعلَ عَسكرُه مِثلَه، ولَبِسَ البَياضَ وتَحَنَّطَ، وقال: إن قُتِلتُ فهذا كَفَني. وزَحَفَ إلى الرُّومِ وزَحَفوا إليه، فلمَّا قارَبَهم نَزلَ السُّلطانُ عن فَرَسِه وسَجَدَ لله عزَّ وجلَّ، ومَرَّغَ وَجهَه في التُّرابِ وَدَعا الله واستَنصَرَهُ، فأَنزلَ الله نَصرَهُ على المُسلمينَ، ومَنَحَهم أَكتافَهم فقَتَلوا منهم خَلْقًا كَثيرًا، وأُسِرَ مَلِكُهم أرمانوس، أَسَرَهُ غُلامٌ رُومِيٌّ، فلمَّا أُوقِفَ بين يدي المَلِكِ ألب أرسلان ضَرَبَهُ بِيَدِه ثلاثَ مَقارِع وقال: لو كنتُ أنا الأَسيرَ بين يَديكَ ما كنتَ تفعل؟ قال: كلَّ قَبيحٍ. قال: فما ظَنُّكَ بي؟ فقال: إمَّا أن تقتل تَقتُلَني وتُشْهِرَني في بِلادِك، وإمَّا أن تَعفُو وتَأخُذ الفِداءَ وتُعيدَني. قال: ما عَزمتُ على غَيرِ العَفوِ والفِداءِ. فافتَدَى نَفسَه منه بألف ألف دِينارٍ وخمسمائة ألف دينار، فلما انتهى إلى بِلادِه وَجدَ الرُّومَ قد مَلَّكوا عليهم غَيرَه، فأَرسلَ إلى السُّلطانِ يَعتَذِر إليه، وبَعثَ من الذَّهبِ والجَواهِر ما يُقارِب ثلاثمائة ألف دينار، وتَزَهَّدَ ولَبِسَ الصُّوفَ ثم استغاث بملك الأرمن فأَخذَه وكحله وأَرسلَه إلى السُّلطانِ يَتَقَرَّبُ إليه بذلك.
كان دبيس بن صدقة صاحب الحلة المزيدية قد أطلق عفيفًا خادِمَ الخليفة المسترشد بالله، وكان مأسورًا عنده، وحمَّله رسالة فيها تهديد للخليفة بإرسال قسيم الدولة البرسقي صاحب الموصل إلى قتاله، وتقويته بالمال، وأن السلطان كَحَل أخاه، وبالغ في الوعيد، ولبس السواد، وجزَّ شعره، وحلف لينهبَنَّ بغداد، ويخرِّبها، فاغتاظ الخليفة لهذه الرسالة وغضب، وتقدم إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس؛ فبرز في رمضان سنة 516، وتجهز الخليفة، وبرز من بغداد، واستدعى العساكر، وأرسل دبيس إلى نهر ملك فنهب، وعمل أصحابه كلَّ عظيم من الفساد، فوصل أهله إلى بغداد، فأمر الخليفة فنودي ببغداد لا يتخلَّف من الأجناد أحد، ومن أحبَّ الجندية من العامة فليحضُر، فجاء خلق كثير، ففَرَّق فيهم الأموال والسلاح. فلما علم دبيس الحال كتب إلى الخليفة يستعطفه ويسألُه الرضا عنه، فلم يُجِب إلى ذلك، وأُخرِجَت خيام الخليفة في العشرين من ذي الحجة سنة 516، ودخلت هذه السنة، فنزل الخليفة مُستهَلَّ المحرم، بالحديثة، وجعل دبيس أصحابه صفًّا واحدًا: ميمنة، وميسرة، وقلبًا، وجعل الرجَّالة بين أيدي الخيالة بالسلاح، وكان قد وعد أصحابه بنهب بغداد، وسبي النساء، فلما تراءت الفئتان بادر أصحاب دبيس، وبين أيديهم الإماءُ يَضرِبن بالدفوف، والمخانيث بالملاهي، ولم يُرَ في عسكر الخليفة غيرُ قارئ ومُسَبِّح وداع، فقامت الحرب على ساق، فلما اختلط الناس خرج الكمين على عسكر دبيس، فانهزموا جميعهم وألقوا أنفُسَهم في الماء، فغرق كثير منهم، وقُتل كثير، ولما رأى المسترشد بالله اشتداد الحرب جرَّد سيفه وكبر وتقدم إلى الحرب، فلما انهزم عسكر دبيس وحُمِلت الأسرى بين يدي الخليفة أمر أن تُضرَب أعناقهم صبرًا، وعاد الخليفةُ إلى بغداد، فدخلها يوم عاشوراء من هذه السنة. وأما دبيس بن صدقة فإنه لما انهزم نجا بفرسه وسلاحه وأدركته الخيل، ففاتها وعبر الفرات، واختفى خبرُه بعد ذلك، وأُرجِف عليه بالقتل، ثم ظهر أمرُه أنه قَصَد غزية من عرب نجد، فطلب منهم أن يحالِفوه، فامتنعوا عليه فرحل إلى المنتفق، واتفق معهم على قصد البصرة وأخْذِها، فساروا إليها ودخلوها، ونهبوا أهلَها، وقتل الأمير "سخت كمان" مقدَّم عسكرها، وأُجلِيَ أهلها، فأرسل الخليفة إلى البرسقي يعاتبه على إهمالِه أمر دبيس، حتى تمَّ له من أمر البصرة ما أخربها، فتجهز البرسقي للانحدار إليه، فسمع دبيس ذلك ففارق البصرة، وسار على البر إلى قلعة جعبر، والتحق بالفرنج، وحضر معهم حصار حلب، وأطمعهم في أخذِها، وقال لهم: إن أهلها شيعة، وهم يميلون إليَّ لأجل المذهب، فمتى رأوني سلَّموا البلد إليَّ. فلم يظفروا بها، فعادوا عنها، ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل بن السلطان محمد، وأقام معه، وحَسَّن له قَصْدَ العراق.
شرع السلطانُ الأشرفُ صلاحُ الدين خليلُ بن قلاوون في الاهتمامِ بفَتحِ عَكَّا، وبعثَ الأميرَ عِزَّ الدين أيبك الأفرم أمير جاندار إلى الشامِ لتجهيزِ أعوادِ المجانيق، فقَدِمَ دِمشقَ وجُهِّزَت أعوادُ المجانيق، وبرزت في أول ربيع الأول وتكامَلَت في الثاني عشر، وسار بها الأميرُ عَلَم الدين سنجر الدواداري أحدُ أمراء الشام، ثم فُرِّقَت على الأمراء مقَدَّمي الألوف، فتوجَّهَ كل أمير ومضافيه بما أمر بنقله منها، وخرج من القاهرةِ الأمير سيف الدين طغريل الأيغاني إلى استنفار الناسِ مِن الحصون بممالكِ الشام، فوصل المظفَّر صاحب حماة إلى دمشق في الثالث عشر بعسكره وبمجانيقِ وزردخاناه- خزانة الأسلحة- ووصل الأميرُ سيف الدين بلبان الطباخي نائبُ الفتوحات بعساكِرِ الحصون وطرابلس، وبالمجانيق والزردخاناه في الرابع عشر، وتوجَّه الأميرُ حسام الدين لاجين نائبُ الشام بالجيشِ مِن دمشق في العشرينَ مِن ربيع الأول، وسار جميعُ النواب بالعساكر إلى عكا، وكان السلطانُ الأشرف خليل توجَّه بالعساكِرِ يوم الثلاثاء ثالث ربيع الأول يريد أخْذَ عَكَّا، وسيَّرَ حريمه إلى دمشق فوصلوا إليها في سابع ربيع الآخر، وسار السلطان فنزل عكَّا في يوم الخميس ثالث ربيع الآخر، ووصلت المجانيقُ يوم ثاني وصولِه وعدَّتُها اثنان وتسعون منجنيقًا، فتكاملَ نَصبُها في أربعة أيام، وأُقيمَت الستائرُ ووقع الحصارُ، وقد أتت جمائِعُ الفرنجِ إلى عكا أرسالًا من البحر، صار بها عالمٌ كبير، فاستمَرَّ الحصارُ إلى سادس عشر جمادى الأولى، وكثُرَت النقوب بأسوارِ عَكَّا، فلما كان يومُ الجمعة السابع عشر عزم السُّلطانُ على الزحف، فرَتَّب كوساته- قطعتان من نحاس تشبهانِ الترسَ الصغيرَ يُدَقُّ بأحدها على الآخر بإيقاع مخصوص- على ثلاثمائة جمل، وأمر أن تُضرَبَ كُلُّها دفعة واحدة، وركب السلطانُ وضُرِبَت، فهال ذلك أهلَ عكا، وزحف بعساكِرِه ومن اجتمع معه قَبلَ شروق الشمس، فلم ترتفع الشمسُ حتى علت السناجِقُ- الرايات- الإسلاميَّة على أسوار عكا، وهرب الفرنجُ في البحر وهلك منهم خلقٌ كثير في الازدحام، والمسلمون يقتُلونَ ويأسِرونَ وينهَبونَ فقَتَلوا ما لا يحصى عَدُّه كثرةً، وأخذوا من النساءِ والصبيان ما يتجاوَزُ الوصفَ، وكان عند فتحها أن أقبل من الفرنجِ نحوُ عشرة آلاف في هيئةٍ مُستأمنين، ففَرَّقهم السلطان على الأمراء فقتلوهم عن آخِرِهم، وكانت مدَّةُ حصار عكا أربعة وأربعين يومًا، واستُشهِدَ من المسلمين الأميرُ علاء الدين كشتغدي الشمسي ودُفِنَ بجلجولية، وعزُّ الدين أيبك العزي نقيب العساكر، وسيفُ الدين أقمش الغتمي، وبدرُ الدين بيليك المسعودي، وشرفُ الدين قيران السكزي، وأربعةٌ من مقَدَّمي الحلقةِ، وجماعةٌ من العسكر، وفي يومِ السبت الثامن عشر وقع الهدمُ في مدينة عكا، فهُدِّمَت الأسوار والكنائسُ وغيرها وحُرِقَت، وحُمِلَ كثير من الأسرى بها إلى الحصونِ الإسلاميَّة.
كان تسليم غرناطة للملك فرديناند ملك أراغون والملكة إيزابيلا ملكة قشتالة بناء على معاهدة، لكن فرديناند وزوجته لم يَفيَا بهذه العهود، بل أصدرت إيزابيلا قانونًا يقضي بإجبار المسلمين على التنصر وتحريم إقامة شعائرهم الدينية، وتأمر كذلك بإحراق الكتب الإسلامية في غرناطة, وبعد أن نقض فرديناند شروط تسليم غرناطة شرطًا شرطًا بدا بدعوة المسلمين إلى التنصر وأكرههم عليه فدخلوا في دينه كرهًا وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق من يقول فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارًا إلا من يقولها في نفسه وفي قلبه أو خفيةً من الناس!! وجعلت النواقيس بدل الأذان في مساجدِها والصور والصلبان بعد ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، فكم فيها من عينٍ باكية! وكم فيها من قلب حزين! وكم فيها من الضعفاء والمعدومين لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين! قلوبهم تشتعل نارًا ودموعهم تسيل سيلًا غزيرًا مدرارًا، وينظرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان ويسجدون للأوثان ويأكلون الخنزير والميتات ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم ولا على زجرهم! ومن فعل ذلك عوقب أشد العقاب، فيا لها من فاجعة ما أمرَّها ومصيبةٍ ما أعظمَها وأضرَّها وطامَّةٍ ما أكبَرَها! عسى الله أن يجعل لهم من أمرهم فرجًا ومخرجًا، إنه على كل شيء قدير. وقد كان بعض أهل الأندلس قد امتنعوا من التنصر وأرادوا أن يدافعوا عن أنفسهم كأهل قرى ونجر والبشرة وأندراش وبلفيق، فجمع الملك فرديناند عليهم جموعه وأحاط بهم من كل مكان حتى أخذهم عنوة بعد قتال شديد فأخذ أموالهم وقتل رجالهم وسبى نساءهم وصبيانهم ونصَّرهم واستعبدهم إلا أن أناسًا في غربي الأندلس امتنعوا من التنصر وانحازوا إلى جبل منيع وعر فاجتمعوا فيه بعيالهم وأموالهم، وتحصنوا فيه فجمع عليهم الملك فرديناند جموعه وطمع في الوصول إليهم كما فعل بغيرهم، فلما دنا منهم وأراد قتالهم خيب الله سعيه ورده على عَقِبه ونصرهم عليه بعد أكثر من ثلاثة وعشرين معركة، فقتلوا من جنده خلقًا كثيرًا من رجال وفرسان! فلما رأى أنه لا يقدر عليهم طلب منهم أن يعطيهم الأمان ويجوزهم لعدوة الغرب مؤمَّنين فأنعموا له بذلك إلا أنه لم يسَرِّح لهم شيئًا من متاعهم غير الثياب التي كانت عليهم وجوَّزهم لعدوة الغرب كما شرطوا عليه، ولم يطمع أحد بعد ذلك أن يقوم بدعوة الإسلام، وعمَّ الكفرُ جميع القرى والبلدان وانطفأ من الأندلس نور الإسلام والإيمان، فعلى هذا فليبك الباكون، ولينتحب المنتحبون، كما انتحب شاعر الأندلس أبو البقاء الرندي (ت684) في قصيدته المشهورة التي رثا فيه الأندلس بعد سقوط قرطبة سنة 633 ومدن كبرى كإشبيلية وبلنسية وغيرها بيد الفرنج، والتي مطلعها: (لكل شيء إذا ما تم نقصانُ * فلا يغرَّ بطيبِ العيشِ إنسانُ)، فإنا لله وإنا إليه راجعون! كان ذلك في الكتاب مسطورًا، وكان أمر الله قدَرًا مقدورًا، لا مردَّ لأمره ولا معقِّبَ لحكمِه، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!
نشأ محمود شاكر في بيتِ عِلمٍ؛ فأبوه كان شيخًا لعُلماء الإسكندرية، وتولَّى منصبَ وكيلِ الأزهر لمدة خمس سنواتٍ (1909م-1913م)، واشتغل بالعملِ الوطني، وكان من خُطباءِ ثورةِ 1919م، وأخوه العلَّامةُ أحمد شاكر واحدٌ من كِبار مُحَدِّثي العصر، وله مؤلَّفاتٌ وتحقيقاتٌ مشهورةٌ ومُتداوَلة.
انصرف محمود شاكر -وهو أصغرُ إخوتِه- إلى التعليم المدَني، فالتحق بالمدارس الابتدائية والثانوية، وكان شغوفًا بتعلُّمِ الإنجليزية والرياضيات، ثم تعلَّق بدراسة الأدب وقراءة عيونِه، وحفِظَ وهو فتًى صغيرٌ ديوانَ المتنبي كاملًا، وحضَرَ دروسَ الأدب التي كان يُلْقيها الشيخ المَرْصَفيُّ في جامعِ السلطانِ برقوق، وقرأ عليه في بيته: الكاملَ للمُبَرِّد، والحماسةَ لأبي تمَّامٍ، وبعد حصوله على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) من القسم العِلمي سنةَ 1925م فضَّلَ أنْ يَدرُسَ العربية في كلية الآدابِ.
وفي الجامعة استمعَ شاكرٌ لمحاضرات طه حسين عن الشِّعرِ الجاهلي، وهى التي عُرفت بكتاب "في الشِّعر الجاهلي"، وكم كانت صدمتُه حينَ ادَّعى طه حسين أن الشِّعرَ الجاهلي مُنتَحَلٌ، وأنه كذبٌ مُلفَّق، وضاعَف من شدَّةِ هذه الصدمة أنَّ ما سمِعَه من المحاضر الكبير سبَقَ له أنْ قرأه بحذافيره في مَجلَّة استشراقيةٍ بقلم المستشرِق الإنجليزي مرجليوث؛ فترك الجامعةَ غيرَ آسفٍ عليها وهو في السَّنة الثانية، ولم تُفلحِ المحاولاتُ التي بذلها أساتذتُه وأهلُه في إقناعه بالرُّجوع، وسافَرَ إلى الحجاز سنةَ 1928م مُهاجرًا، وأنشأ هناك مدرسةً ابتدائيةً عمِلَ مديرًا لها، حتى استدعاه والدُه الشيخ، فعاد إلى القاهرة.
وبعد عودته سنةَ 1929م، انصرفَ إلى قراءة الأدب ومطالعةِ دواوينِ شُعراءِ العربية على اختلافِ عصورهم، حتى صارتْ له مَلَكةٌ في تذوق الشعرِ، والتفرِقة بين نَظْمه وأساليبه، وبدأ ينشُرُ بعض قصائده الرومانسية في مَجلتَيِ "الفتح" و"الزهراء" لمحب الدِّين الخطيب، واتصل بأحمد تيمور، وأحمد زكي باشا، والخضر حسين، ومصطفى صادق الرافعي الذي ارتبط بصداقةٍ خاصةٍ معه، ولم يكُنْ شاكرٌ معروفًا بين الناس قبلَ تأليفه كتابه "المتنبي".
وفي ندواته الفِكرية في بيته كان يُعارضُ عبد الناصر عَلانيةً، ويسخَرُ من رجالات الثورة، ويستنكِرُ ما يحدُث للأبرياء في السجون من تعذيبٍ وإيذاءٍ، وكان يفعَل ذلك أمام زوَّاره، ومن بينهم مَن يشغَل منصب الوزارة، ونتيجةً لذلك لم يسلَمْ شاكرٌ من بطشِ السُّلْطة، فألقت القبضَ عليه سنةَ 1959م، وبَقيَ رَهنَ السجن 9 أشهرٍ، حتى تدخَّلت شخصياتٌ عربية، فأُفرج عنه، وعاد لمواصَلة نشاطه في تحقيق كتاب تفسير الطبريِّ الذي بدأ في نَشرِه من قبلُ، وانتظمت ندوته مرةً أُخرى، ثم أُلقيَ به في غياهبِ السجن سنتينِ وأربعةَ أشهرٍ من آخِرِ شهرِ أغسطس سنةَ 1965م، حتى آخرِ شهر ديسمبر سنةَ 1967م.
وفي أُخْريات عُمرِه نال جائزةَ الدولة التقديريَّة في الأدب سنةَ 1981م، ثم جائزةَ الملكِ فَيْصلٍ في الأدب العربي عامَ 1984م، وفي أثناء ذلك اختير عضوًا في مجمَع اللُّغة العربية بدِمَشقَ، ثم بالقاهرة، وتُوفيَ يومَ الخميس الموافِقِ 3 من ربيعٍ الآخِرِ 1418ه.
عَظُمَ خَطبُ العيَّارينَ (وهم طائفة من أهل الدعارة والنهب واللصوصية)، وعاثُوا ببغداد فسادًا، وأخذوا الأموالَ والعُملاتِ الثِّقالَ ليلًا ونهارًا، وحَرَقوا مواضِعَ كثيرةً، وأخذوا من الأسواقِ الجباياتِ، وتطَلَّبَهم الشُّرَطُ، فلم يُفِدْ ذلك شيئًا ولا فَكَّروا في الدولة، بل استمَرُّوا على ما هم عليه من أخذِ الأموالِ، وقَتْلِ الرِّجالِ، وإرعابِ النِّساءِ والأطفال، في سائِرِ المحالِّ، فلمَّا تفاقم الحالُ بهم تطَلَّبَهم السلطانُ بهاء الدولة وألحَّ في طلبهم فهربوا بين يديه واستراح النَّاسُ مِن شَرِّهم.
عُزِلَ مجاهِدُ الدينِ بهروز عن شحنكية بغداد– شحنكية: أي: ضابطُ أمن البلَدِ-، ووَلِيَها قزل وهو مِن مماليك السُّلطان محمود، كانت له شحنكية برجرد والبصرة، فأضيف إليه شحنكية بغدادَ، ثمَّ وصَلَ السُّلطان مسعودٌ إلى بغداد، فرأى مِن تبَسُّطِ العيَّارينَ وفسادِهم ما ساءه، فأعاد بهروز إلى الشحنكية ببغداد, فتاب كثيرٌ منهم، ولم ينتَفِعِ النَّاسُ بذلك؛ لأنَّ وَلَدَ الوَزيرِ وأخا امرأةِ السُّلطان كانا يقاسِمانِ العيَّارينَ، فلم يَقدِرْ بهروز على مَنْعِهم.
أخذ الشَّريفُ راجح بن قتادة مكَّةَ من الشريف جماز بن حسن، بغيرِ قتال، ثم أخذها ابنُه غانم بن راجح في ربيعٍ الأول بغير قتالٍ، فقام عليه الشَّريفُ أبو نمي بن أبي سعيد بن علي بن قتادة في شوال ومعه الشريفُ إدريس، وحارباه ومَلَكَا مكة، فقدم في خامس عشر ذي القعدة مبارز الدين الحسين بن علي بن برطاس من اليمن، وقاتَلَهما وغَلَبَهما، وحجَّ بالنَّاسِ.
بعد أن انتُخب أحمد بن بلة رئيسًا للجزائر لم تَرُقْ للناسِ طريقتُه في الحكم؛ حيث أعلن القوانينَ الاشتراكيَّةَ ولم يُطَبِّقْها، وأبقى القانونَ الفرنسي ولم يُقِمِ المحاكِمَ الشرعية، وبقيت السياسةُ الخارجية بيد فرنسا، فتمَّ تشكيلُ مجلس عسكري برئاسة العقيد هواري بومدين في 20 صفر 1385هـ / 19 حزيران, فقَرَّر هذا المجلس عزلَ الرئيس أحمد بن بلة والقَبضَ عليه بتهمة استخدام أموال الدولة في غير وجهِها الشرعي، وتسلَّم العقيدُ هواري بومدين الرِّئاسةَ.
لَمَّا فعل الرُّومُ ما فعلوا بأهلِ زبطرة وغيرِها، وكانت فِتنةُ بابك قد انتهت، سار المعتَصِمُ بجَيشِه قاصدًا فتحَ عَمُّوريَّة؛ إذ كانت تعَدُّ من أقوى مُدُنِ الروم، بل ربما كانت بمكانةِ القُسطنطينيَّة، فكان أوَّلَ الأمرِ أن التقى الأفشينُ مع الروم وهَزَمَهم شَرَّ هزيمةٍ، ثم سار المعتَصِمُ والأفشين وأشنان، كلٌّ على رأس جيشٍ، متوجِّهينَ إلى عمُّورية وكانت حصينةً ذاتَ سورٍ منيعٍ وأبراجٍ تحَصَّنَ أهلُها فيها، فنصَبَ المنجنيقَ وهدَمَ السُّورَ مِن جهةٍ كانت ضعيفةً دلَّهم عليها أحدُ الأسرى، فبعث نائِبُ البلد لمَلِك الروم كتابًا يُعلِمُه بالأمرِ، ولكن الكتابَ لم يَصِلْ حيث قُبِضَ على الغلامينِ اللذين كان معهما الكتابُ، ثم زاد الضربُ بالمنجنيق حتى انهدم ذلك الجزءُ، لكنه لا يزالُ صَغيرًا على دخولِ الجَيشِ، ثمَّ إنَّ الموكَّلَ بحِفظِ ذلك البرجِ مِن الروم لم يستَطِع الصمودَ، فنزل للقتال ولم يعاوِنْه أحدٌ من الروم, فأمر المعتَصِمُ المسلمين أن يدخلوا البلدَ مِن تلك الثغرةِ التي قد خلت من المقاتِلة، فركب المسلِمونَ نَحوَها، فجَعَلَت الرومُ يُشيرون إليهم ولا يَقدِرونَ على دفاعِهم، فلم يلتَفِت إليهم المُسلِمون، ثم تكاثروا عليهم ودخَلوا البلد قهرًا، وتتابع المسلمونَ إليها يكَبِّرونَ، وتفَرَّقَت الرومُ عن أماكِنِها، فجعل المسلِمونَ يَقتُلونهم في كلِّ مكانٍ حيث وجدوهم، وقد حَشَروهم في كنيسةٍ لهم هائلةٍ ففتحوها قَسرًا وقتلوا من فيها وأحرقوا عليهم بابَ الكنيسةِ، فاحتَرَقت فأُحرِقوا عن آخِرِهم، ولم يبقَ فيها موضِعٌ محصَّنٌ سوى المكانِ الذي فيه نائب عمورية إلى ملك الروم واسمه مناطس في، ثم أُنزِلَ مُهانًا وأَخَذَ المسلمونَ من عمُّورية أموالًا لا تحَدُّ ولا تُوصَفُ، فحَمَلوا منها ما أمكن حمْلُه، وأمر المعتَصِمُ بإحراقِ ما بقيَ من ذلك، وبإحراقِ ما هنالك من المجانيقِ والدبَّابات وآلات الحربِ؛ لئلَّا يتقوَّى بها الرومُ على شيءٍ مِن حربِ المسلمين، ثم انصرف المعتَصِمُ راجعًا إلى ناحية طرسوس.
قُبِضَ على الأمير جمال الدين آقوش الأشرفي المعروفِ بنائب الكرك في يوم الخميس نصف جمادى الآخرة، وهو يومئذٍ نائِبُ طرابلس وسُجِنَ بقلعة صرخد، ثم نقِلَ في مستهل شوال إلى الإسكندرية فسُجِنَ بها، ونزل النشو إلى بيتِه بالقاهرة، وأخذ موجودَه كُلَّه وموجودَ حَريمِه، وعاقَبَ أستادراه، واستقَرَّ عِوَضَه في نيابة طرابلس الأميرُ طينال على عادته، ونُقِلَ بكتمر العلائي إلى نيابة حمص، عوضًا عن بشاش المتوفى، وسبب ذلك كلِّه أنَّه تراءى بطرابلس مرَكبٌ للفرنج في البحر، فرَكِبَ العسكر إلى الميناء، فدفعت الريحُ المركَبَ عن الميناء ثم أخذ الأميرُ آقوش في تجديد عمارة مركب هناك، وأنفق فيه من مالِه أربعينَ ألف درهم، فقَدِمَت مركب الفرنج، فركب العسكَرُ في المركب المستجَدِّ، وقاتلوا الفرنجَ، فقتلوا منهم جماعةً وغَنِموا مركَبَهم بما فيها، فادَّعى صاحِبُها أنَّه تاجِرٌ قَدِمَ بتجارته، فنُهِبَت أموالُه وقُتِلَت رجالُه، وذُكِرَ عنه بعضُ التجَّار أنه متحَرِّم لا تاجر، وأنَّه قَدِمَ في السنة الماضية إلى ميناء طرابلس وأخَذَ منها مركبًا، فكتب آقوش بذلك إلى السلطان، فأجيب بالشُّكرِ وحَمْل الفرنجي إلى السلطان، فحَمَله آقوش مقيدًا على البريد، فأكثَرَ الفرنجيُّ من التظلم، وتبرأ من التحَرُّم في البحر، وأنه قَدِمَ بتجارة وهدية للسُّلطانِ، فظَلَمَه نائب طرابلس وأخذ ما كان معه من التحَفِ وغيرها، فصَدَّقه السلطان، وكتب بإعادة مركَبِه إليه وجميعِ ما أُخِذ له، فأجاب النائبُ بأن المذكور حرامي يقطع الطريقَ على المسلمين، فلا يَسمَع السلطانُ قَولَه، وكتب إليه بالتأكيدِ في رَدِّ المركب عليه، فرَدَّها النائب عليه، وشَقَّ ذلك عليه، ثمَّ طلب آقوش الإعفاءَ من نيابة طرابلس فأُجيبَ بتخييره بين نيابةِ صرخد وبعلبك، وبَعَث السلطان إليه الأمير برسبعا الحاجب، فسار به إلى دمشق، فقَبَض عليه تنكز بدار السعادة، وحَمَلَه إلى صرخد.
عندما وصل سعودٌ بجيوشِه إلى مشارف الشام وقراها واكتسح ما أمامه من القرى والعربان، وقبل ذلك غزا كربلاء وهدد العراق وهزم جميعَ الجيوش التي أرسلها ولاةُ الشام والعراق لمحاربته، حتى اضطرت الدولةُ العثمانية أن تطلُبَ من سعود المهادنةَ والمسابلة وتَبذُل له مقابِلَ ذلك كلَّ سنة ثلاثين ألف مثقال ذهبي، وأوفدت الدولة لهذ الغرض رجلًا يسمَّى عبد العزيز القديمي وأوفدت بعده رجلًا آخر يسمى عبد العزيز بيك، فرجع كما رجع الأول بعدم القبول وبرسالة طويلة من سعود، ومما ورد فيها: "وأما المهادنة والمسابلة على غير الإسلامِ، فهذا أمر محال بحولِ الله وقوَّتِه، وأنت تفهم أن هذا أمرٌ طلبتموه منا مرَّةً بعد مرة، أرسلتم لنا عبد العزيز القديمي ثم أرسلتم لنا عبد العزيز بيك، وطلبتم منا المهادنة والمسابلة، وبذلتم الجزيةَ على أنفُسِكم كلَّ سنة ثلاثين ألف مثقالٍ ذهبًا، فلم نقبل ذلك منكم ولم نُجِبْكم بالمهادنة، فإن قبلتم الإسلامَ فخيرتها لكم وهو مطلبنا، وإن توليتم فنقول كما قال الله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] فلما أصبحت الدولةُ العثمانيةُ عاجزةً عن مهادنة الإمام سعود بن عبد العزيز بن سعود فضلًا عن محاربته، طلب عندئذ السلطان العثماني من والي مصر محمد علي باشا القيامَ بمحاربة الإمام سعود وإخراجِه من الحجاز، فتردَّد محمد علي أولًا ثم أخيرًا لبَّى طلب السلطان وسيَّرَ ابنَه طوسون سنة 1226هـ ثم خرج هو بنفسِه إلى أن سقطت الدولة السعودية سنة 1233هـ على يد إبراهيم باشا، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
وُلد الشيخُ العلَّامةُ بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمَع الفقه الإسلامي الدولي، وعضوُ هيئة كبار العلماء، وعضوُ اللجنة الدائمة للإفتاء السابقُ، في عالية نجدٍ، عامَ 1365 هـ. درس الشيخُ في المعهد العلمي، ثم في كلية الشريعة، حتى تخرَّج فيها عامَ 1388هـ، وفي عام 1384هـ انتقَلَ إلى المدينة النبوية، فعمِلَ أمينًا للمكتبة العامة بالجامعة الإسلامية، وكان بجانب دراسته النظامية يُلازمُ حِلَقَ عددٍ من المشايخ في الرياض، ومكَّةَ المكرَّمَة، والمدينة المنورة، وفي عام 1399 هـ / 1400 هـ درسَ في المعهد العالي للقضاء مُنتسبًا، فنال شهادةَ العالِميةَ (الماجستير)، وفي عام 1403 هـ تحصَّلَ على شهادةِ العالِميةِ العالية (الدكتوراه)، وقد تلقَّى العلمَ على عدد من أهل العلمِ منهم الشيخُ صالح بن مطلق، والشيخُ ابنُ باز، ولازَمَ الشيخَ محمد الأمين الشنقيطي نحوَ عَشْرِ سنينَ، وشغَلَ الشيخُ -رحمه الله- وظائف عدةً منها: ولايةُ القضاء بالمدينة النبوية، وعُيِّن إمامًا وخطيبًا في المسجد النبوي حتى مطلعِ عامِ 1396 هـ، وفي عام 1400 هـ اختير وكيلًا عامًّا لوزارة العدل حتى نهاية عامِ 1412 هـ، ثم عضوًا في لجنة الفتوى، وهيئة كبار العلماء، وفي عام 1405هـ عُيِّن ممثلًا للمملكة في مجمَع الفقه الإسلامي الدولي، المنبثق عن منظمة المؤتمرِ الإسلاميِّ، واختير رئيسًا للمجمَعِ، وفي عامِ 1406هـ عُيِّن عضوًا في المجمَع الفقهي برابطةِ العالمِ الإسلاميِّ، وكانت له في أثناء ذلك مشاركةٌ في عددٍ من اللجان والمؤتمرات داخلَ المملكة وخارجَها، ودرَّسَ في المعهد العالي للقضاء، وفي الدراسات العُليا في كلية الشريعة بالرياض، والشيخ له العديدُ من المصنَّفاتِ النافعة منها: ((المدخل المفصل))، ((فقه النوازل))، ((التقريب لعلوم ابن القَيِّم))، ((معجم المناهي اللفظية)) وغيرها.