قَدِمَ الخَبَرُ بنفاقِ عُربان الوجه القبلي، وقَطْعِهم الطُّرُقات على الناس، وامتدادِ الفِتَن بينهم نحو شهرينِ قُتِلَ فيها خلقٌ عظيم، وأنَّ عَربَ الفيومِ أغار بعضُهم على بعض، وذبحوا الأطفالَ على صدورِ أمَّهاتهم، فقُتِلَ بينهم قتلى كثيرٌ، وأخربوا ذاتَ الصفا، ومنعوا الخراجَ في الجبال، وقطعوا المياهَ حتى شَرِقَ أكثَرُ بلاد الفيوم، فلم يلتَفِت أمراءُ الدولة لذلك؛ لشُغلِهم بالصَّيدِ ونحوه، وفيه قَدِمَ الخَبَرُ بكثرة فساد العشير ببلاد الشام، وقَطْعِهم الطرقات؛ لقلة حُرمةِ الأمير طقزدمر نائب الشام، فانقطعت طرقات طرابلس وبعلبك، ونُهِبَت بلادهما، وامتَدَّت الفتنةُ بين العشير زيادة على شهر، قُتِلَ فيها خلق كثير، وأضرموا النارَ على موضع احترقَ فيه زيادةٌ على عشرين امرأة.
وُلِد الشيخُ محمد سليمان الأشقر في قريةِ بَرقَة التَّابعةِ لمُحافظة نابُلُس في الثلاثينات من القرن الماضي، وهو من بيتِ علمٍ، وكان رحمه الله المدرِّسَ الأولَ لأخيه الدكتور المعروف الشَّيخِ عمر سليمان الأشقر... وخَرَج الشيخُ الأشقر من فِلَسطين إلى المملكة العربية السعودية، وعَمِل مدرِّسًا في جامعةِ الإمام محمد بن سعود في الرِّياض مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، ثم انتَقَل إلى المدينةِ سنةَ (1382هـ) مع الشيخِ ابن باز أيضًا، ثم رَحَل إلى الأردُنِّ، ومنها إلى الكُوَيت قبلَ أن يَحُطَّ رحاله أخيرًا في عَمَّان حيث قُبض، رحمة الله عليه. وللشيخِ الأشقر تفسيرٌ مُختصَر للقرآن الكريم وهو ((زُبدة التفسير))، وكتاب ((الواضح في أصول الفقه))، وغيرُها من الكتب.
فازَ الرئيسُ محمد بخاري بولايةِ رئاسيَّةٍ ثانيةٍ وتستمِرُّ ولايتُه حتى عام 2023م بعدَما فازَ على مُنافسِه نائبِ الرئيسِ السَّابقِ عتيق أبو بكرٍ.
وُلِدَ محمد بخاري عام 1942 في قريةٍ صغيرةٍ تُدعى "دورا" لأُسرةٍ مُسلمةٍ، تقعُ في ولايةِ كاتسينا شمالَ نيجيريا قُربَ الحدودِ مع تشادَ والتَحقَ بالجيشِ وعمرُه لم يتجاوزْ 19 سنةً، ثم درسَ الفنونَ العسكريَّةَ في بريطانيا قبلَ أن يعودَ إلى بلادِه ليتقلَّدَ مناصِبَ عسكريَّةً هامَّةً؛ إذْ تمَّ تعيينُه في 1980م جنرالًا ومَسؤولًا للقوَّاتِ العسكريَّةِ النيجيريَّةِ، وقادَ انقِلابًا عام 1983م أطاحَ بالرئيسِ المدنيِّ المنتخَبِ شيخو شاجاري، وفي 27 أغسطس 1985م أطاحَ به الجنرالُ إبراهيمُ بابنجيدا بانقلابٍ آخرَ.
سار الحُجَّاجُ من بغداد، فقَدِموا الكُوفةَ، ورَحَلوا منها، فخَرَجت عليهم خَفاجَةٌ، وقد طَمِعوا بمَوتِ السُّلطانِ وبُعْدِ العَسكرِ، فأَوقَعوا بهم، وقَتَلوا أَكثرَ الجُندِ الذين معهم، وانهَزمَ باقيهم، ونَهَبوا الحُجَّاجَ، وقَصَدوا الكوفةَ فدَخَلوها، وأغاروا عليها، وقَتَلوا في أَهلِها، فرَماهُم الناسُ بالنُّشَّابِ، فخَرَجوا بعدَ أن نَهَبوا، وأَخَذوا ثِيابَ مَن لَقوهُ من الرِّجالِ والنِّساءِ، وَصَلَ الخَبرُ إلى بغداد، فسُيِّرَت العَساكرُ منها، فلمَّا سَمِعَ بَنُو خَفاجَةَ انهَزَموا، فأَدرَكَهم العَسكرُ، فقُتِلَ منهم خَلْقٌ كَثيرٌ، ونُهِبَت أَموالُهم، وضَعُفَت خَفاجَةُ بعدَ هذه الوَقعَةِ.
لم يكتَفِ بيبرسُ الجاشنكيري بمُلكِ مِصرَ، بل ذهب يطلُبُ مِن الملك الناصِرِ المخلوعِ ما بيَدِه في الكرك، وذلك بتحريضِ وتخويفِ الأمراء له من الناصِرِ، فأصبح يريدُ أن يجرِّدَ النَّاصِرَ مِن كُلِّ شَيءٍ، فكان هذا من أسبابِ عَودةِ النَّاصِرِ لطَلَبِ المُلك، حيث حَبَس الناصِرُ مغلطاي رسولَ المظَفَّر بيبرس الذي جاء لأخذِ باقي أموالِ ومماليك الناصِرِ من الكرك، فخاف المظَفَّر بيبرس من ذلك، واشتهر بالدِّيارِ المِصريَّة حركةُ الملك الناصر محمَّد وخروجه من الكرك، فماجت النَّاسُ، وتحرك الأميرُ نوغاي القبجاقي، وكان شجاعًا مِقدامًا حادَّ المزاجِ قَوِيَّ النفس، وكان من ألزامِ الأمير سلار النائب، وتواعَدَ مع جماعةٍ مِن المماليك السلطانية أن يَهجُمَ بهم على السُّلطانِ الملك المظَفَّر إذا رَكِبَ ويَقتُلَه، فلما ركبَ المظَفَّر ونزل إلى بركةِ الجُبِّ استجمع نوغاي بمن وافقه يريدون الفَتكَ بالمظَفَّر في عودِه من البركة، وتقرب نوغاي من السلطانِ المظَفَّر بيبرس قليلًا قليلًا، وقد تغيَّرَ وجهُه وظهر فيه أماراتُ الشَّرِّ، ففطن به خواصُّ المظفر وتحَلَّقوا حول المظفر، فلم يجِدْ نوغاي سبيلًا إلى ما عزم عليه، وعاد المَلِكُ المظفر إلى القلعة فعَرَّفه ألزامه ما فَهِموه من نوغاي، وحَسَّنوا له القبضَ عليه وتقريرَه على من معه، فاستدعى المَلِكُ المظفَّر الأميرَ سلار وعرَّفه الخبَرَ، وكان نوغاي قد باطَنَ سلار بذلك، فحَذَّر سلار المَلِكَ المظَفَّر وخَوَّفَه عاقبةَ القَبضِ على نوغاي، وأن فيه فسادَ قلوب جميع الأمراء، وليس الرأيُ إلَّا الإغضاء فقط، وقام سلار عنه، فأخذ البرجيَّة بالإغراء بسلار وأنه باطَنَ نوغاي، ومتى لم يقبِضْ عليه فسد الحالُ، وبلغ نوغاي الحديثُ، فواعد أصحابَه على اللَّحاقِ بالملك الناصر، وخرج هو والأميرُ مغلطاي القازاني الساقي ونحو ستين مملوكًا وقت المغرب عند غَلقِ باب القلعة في ليلةِ الخميس خامس عشر جمادى الآخرة من هذه السنة، وقيلَ في أمر نوغاي وهروبِه وجهٌ آخَرُ، ثم أرسل خَلفَهم المَلِكُ المظَفَّر بيبرس مَن يعيدُهم، ولكن لم يَقدِروا عليهم وعادوا إلى مصر، أمَّا هؤلاء لَمَّا وصلوا إلى الناصر محمد وأعلموه بالأمرِ قَوِيَ في نفسه الرجوعُ للمُلكِ، فكاتب النوابَ فأجابوه بالسَّمعِ والطَّاعةِ، وأخذ المَلِكُ النَّاصِرُ في تدبيرِ أمرِه، وبينما المظَفَّر في ذلك ورد عليه الخبَرُ من الأفرم بخروجِ المَلِك الناصِرِ مِن الكرك، فقَلِقَ المظَفَّر من ذلك وزاد توَهُّمه؛ ونفَرَت قلوبُ جماعةٍ مِن الأمراء والمماليك منه، وخَشُوا على أنفُسِهم، واجتمع كثيرٌ من المنصوريَّة والأشرفيَّة والأويراتية وتواعدوا على الحَربِ، وأمَّا الملك المظَفَّر بيبرس هذا فإنَّه أخذ في تجهيزِ العساكِرِ إلى قتال المَلِك الناصِرِ محمد بن قلاوون حتى تمَّ أمرُهم وخرجوا مِن الدِّيارِ المِصريَّة في يوم السَّبتِ تاسِعَ شهر رجب وعليهم خمسةُ أمراء من مُقَدَّمي الألوفِ، فلم يكُنْ إلَّا أيامٌ وورد الخبر ثانيًا بمسير الملك الناصِرِ محمد من الكرك إلى نحو دمشق، فتجهَّزَت عسكر المظَفَّر بيبرس في أربعة آلاف فارس وخرجوا من القاهرة في العشرين من شعبان إلى العبَّاسة، ثمَّ إنَّ المظَفَّر أخذَ عَهدًا من الخليفة العباسي بمصر أنَّه هو السلطانُ، ولكن قَدِمَ عليه الخبَرُ في خامس عشرين شعبان باستيلاء الملك الناصر على دِمشقَ بغيرِ قِتالٍ، فعَظُمَ ذلك على المَلِك المظفَّر وأظهر الذِّلَّة، وخرجت عساكِرُ مِصرَ شيئًا بعد شيءٍ تريد المَلِكَ الناصِرَ حتى لم يبقَ عنده بالدِّيارِ المصريَّة سوى خواصِّه من الأمراء والأجناد، فلما كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان استدعى الملِكُ المظَفَّر الأمراءَ كُلَّهم واستشارهم فيما يفعل، فأشار الأمير بيبرس الدوادار المؤرخ والأمير بهادر آص بنزوله عن المُلكِ والإشهادِ عليه بذلك كما فعله المَلِكُ الناصر، وتسير إلى الملك الناصر بذلك وتَستَعطِفُه، وتخرُجُ إلى إطفيح بمن تثِقُ به، وتقيمُ هناك حتى يَرِدَ جوابُ الملك الناصِرِ عليك فأعجبه ذلك، وقام ليجَهِّزَ أمْرَه، وبعث بالأميرِ بيبرس الدوادار إلى المَلِك الناصر محمد يُعَرِّفه بما وقع، وقيل إنه كتب إلى الملك الناصر يقولُ: " والذي أعَرِّفُك به أني قد رجعت أقلِّدُك بغيك؛ فإن حبستَني عددتُ ذلك خلوةً، وإن نفيتَني عددتُ ذلك سياحةً، وإن قتلتَني كان ذلك لي شهادةً" فلما سمع الملك الناصر ذلك، عَيَّنَ له صهيون ثمَّ اضطربت أحوالُ المظَفَّر بيبرس وتحَيَّرَ، وقام ودخل الخزائِنَ، وأخذ من المال والخيل ما أحَبَّ، وخرج من يومِه مِن باب الإسطبل في مماليكِه وعِدَّتُهم سبعُمائة مملوك، ومعه من الأمراءِ عِدَّةٌ، وعَلِمَت العوام بذلك فأخذوا باللَّحاقِ بهم وضَرْبِهم، وفي يوم الجمعة تاسع عَشَرِه خُطِبَ على منابر القاهرة ومِصرَ باسمِ الملك الناصر، وأُسقِطَ اسمُ الملك المظفر بيبرس هذا وزال مُلكُه، ولما فارق القلعةَ أقام بإطفيح يومين؛ ثم اتَّفَق رأيه ورأي أيدمر الخطيري وبكتوت الفتاح إلى المسير إلى بُرقة، وقيل بل إلى أسوان، ثم أمر الناصِرُ بإحضاره.
وقعَ غَلاءٌ وفَناءٌ عَظيمان ببغداد وغَيرِها مِن البلادِ، بحيث خَلَتْ أَكثرُ الدُّورِ وَسُدَّتْ على أَهلِها أَبوابُها بما فيها، وأَهلُها مَوتى فيها، ثم صار المارُ في الطَّريقِ لا يَلقى الواحدَ بعدَ الواحدِ، وأكلَ النَّاسُ الجِيَفَ والنَّتَنَ مِن قِلَّةِ الطَّعامِ، ووُجِدَ مع امرأةٍ فَخِذُ كَلْبٍ قد اخْضَرَّ, وشَوَى رَجلٌ صَبِيَّةً في الأَتُونِ وأَكَلَها، وسَقطَ طائرٌ مَيِّتٌ مِن حائطٍ فاحْتَوَشَتْهُ خمسُ أَنفُسٍ فاقتَسموهُ وأَكلوهُ. قال ابنُ الجوزي يَصِفُ خبرَ هذا الوباءِ: " في جُمادى الآخِرة: وَردَ كِتابٌ مِن تُجَّارِ ما وَراءَ النَّهرِ قد وقع في هذه الدِّيارِ وَباءٌ عَظيمٌ مُسرِفٌ زَائِدٌ عن الحَدِّ، حتى أنَّه خَرجَ من هذا الإقليمِ في يَومٍ واحدٍ ثمانية عشر ألف جِنازةٍ، وأحصى مَن مات إلى أن كُتِبَ هذا الكِتاب فكانوا ألف ألف وستمائة ألف وخمسين ألفًا، والنَّاسُ يَمُرُّون في هذه البلادِ فلا يَرونَ إلَّا أسواقًا فارغةً، وطُرقاتٍ خاليةً، وأبوابًا مُغلقةً، حتى إنَّ البَقرَ نَفَقَت. وجاء الخَبرُ من أذربيجان وتلك البلادِ بالوباءِ العظيمِ، وأنَّه لم يَسْلَم من تلك البلادِ إلا العَددُ اليَسيرُ جدًّا. وَقعَ وباءٌ بالأهواز وبواط وأَعمالِها وغَيرِها، حتى طَبَقَ البلادَ، وكان أكثرَ سَببِ ذلك الجوعُ، كان الفقراءُ يَشوون الكِلابَ، ويَنبُشون القُبورَ، ويَشوون المَوتى ويَأكلُونهم، وليس للناسِ شُغلٌ في اللَّيلِ والنَّهارِ إلا غَسلُ الأمواتِ وتَجهيزُهُم ودَفنُهُم، فكان يُحفَر الحُفَير فيُدفَن فيه العشرون والثلاثون، وكان الإنسانُ بينما هو جالس إذ انشَقَّ قَلبُه عن دَمِ المُهْجَةِ، فيَخرُج منه إلى الفَمِ قَطرةٌ فيموتُ الإنسانُ مِن وَقتِه، وتاب النَّاسُ، وتَصدَّقوا بأَكثرِ أَموالِهم فلم يَجِدوا أحدًا يَقبَل منهم، وكان الفَقيرُ تُعرَض عليه الدَّنانيرُ الكَثيرة والدَّراهِم والثِّياب فيقول: أنا أُريدُ كَسرةً، أُريدُ ما يَسُدُّ جُوعي. فلا يجد ذلك، وأَراقَ النَّاسُ الخُمورَ وكَسَروا آلات اللَّهوِ، ولَزِموا المساجِدَ للعِبادةِ وقِراءةِ القُرآن, وفي يومِ الأربعاءِ لِسَبعٍ بَقِينَ مِن جُمادى الآخرة احتَرقَت قَطِيعةُ عيسى، وسُوقُ الطَّعامِ، والكَنِيسُ، وأَصحابُ السَّقْطِ، وبابُ الشَّعيرِ، وسُوقُ العَطَّارين، وسُوقُ العَروسِ، والأَنماطِيِّين، والخَشَّابين، والجَزَّارين، والتَّمَّارين، والقَطيعَةُ، وسُوقُ مُخَوَّل، ونَهرُ الزُّجاجِ، وسُوَيْقَةُ غالبٍ، والصَّفَّارين، والصَّبَّاغين، وغَيرُ ذلك مِن المواضع، وهذه مُصيبةٌ أُخرى إلى ما بالنَّاسِ مِن الجُوعِ والغَلاءِ والفَناءِ، فضَعُفَ النَّاسُ حتى طَغَت النَّارُ فعَمِلَت أَعمَالَها، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون".
كان بين المعظم والأشرف خلافٌ سَبَبُه أنَّه لَمَّا توفِّيَ الملك العادل أبو بكر بن أيوب، اتفق أولاده الملوك بعده اتفاقًا حسنًا، وهم: الملك الكامل محمد، صاحب مصر، والملك المعظم عيسى، صاحب دمشق، والملك الأشرف موسى، صاحب ديار الجزيرة وخلاط، واجتمعت كلمتُهم على دفع الفرنج عن الديار المصريَّة، ولما رحل الكامل عن دمياط لما كان الفرنج يحصُرونَها، صادفه أخوه المعظَّم من الغد، وقَوِيَت نفسه، وثَبَتت قدمه، ولولا ذلك لكان الأمر عظيمًا، ثم إنَ المعظم لما عاد من مصر سار إلى أخيه الأشرف ببلاد الجزيرة مرَّتين يستنجده على الفرنج، ويحثُّه على مساعدة أخيهما الكامل، ولم يزل به حتى أخذه وسارا إلى مصر، وأزالوا الفرنجَ، فلما فارق الفرنجُ مصرَ وعاد كل من الملوك أولاد العادل إلى بلده بَقُوا كذلك يسيرًا، ثم سار الأشرفُ إلى أخيه الكامل بمصر، فاجتاز بأخيه المعظَّم بدمشق، فلم يستصحِبْه معه، وأطال المقامَ بمصر، فساء المعظَّم ذلك، ثم إن المعظَّم سار إلى مدينة حماة وحصرها، فأرسل إليه أخوه من مصرَ ورحَّلاه عنها كارهًا، فازداد نفورًا، وقيل: إنَّه نقل إليه عنهما أنهما اتفقا عليه، والله أعلم بذلك، ثم انضاف إلى ذلك أن الخليفة الناصر لدين الله، كان قد استوحش من الكامِلِ؛ لِما فعله ولده صاحِبُ اليمن من الاستهانة بأمير الحاج العراقي، فأعرض عنه وعن أخيه الأشرف لاتفاقِهما، وقاطعهما وراسل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي، صاحب إربل، يعلِمُه بانحرافه عن الأشرف، واستمالَه واتفقا على مراسلة المعظَّم وتعظيم الأمر عليه، فمال إليهما وانحرف عن إخوته، ثم اتفَقَ ظهور جلال الدين وكثرةُ ملكه، فاشتد الأمرُ على الأشرف بمجاورة جلال الدين خوارزم شاه ولاية خلاط، ولأنَّ المعظم بدمشق يمنع عنه عساكرَ مصر أن تصِلَ إليه، وكذلك عساكر حلب وغيرها من الشام، فرأى الأشرفُ أن يسير إلى أخيه المعظَّم بدمشق، فسار إليه في شوال واستماله واصطلح معه، فلما سمع الكامل بذلك عظم عليه، ثم إنهما راسلاه وأعلماه بنزول جلال الدين على خلاط، وعظَّما الأمر عليه، وأعلماه أن هذه الحال تقتضي الاتفاق لعمارة البيت العادلي، وانقضت السنةُ والأشرف بدمشق والناس على مواضِعِهم ينتظرون خروجَ الشتاء ما يكون من الخوارزميين.
أرسل الشريفُ غالِبُ بن مساعد شريفُ مكةَ إلى الإمام عبد العزيز بن محمد كتابًا يطلُبُ فيه أن يرسِلَ إنسانًا عارِفًا حتى يعرِّفَه بحقيقة ما يدعو إليه وما هم عليه, فأرسل إليه القاضي عبد العزيز بن عبد الله الحصين، وكتب معه الشيخ محمد بن عبد الوهاب كتابًا ورد فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام، نصر الله بهم دينَ سيِّد الأنام، وعليه أفضل الصلاة والسلام، وتابعي الأئمة الأعلام، سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.. جرى علينا من الفتنةِ ما بلغكم وبلغ غيَركم، وسبَبُه هدم بنيان في أرضِنا على قبور الصالحين، ومع هذا نهيناهم عن دعوةِ الصالحين وأمَرْناهم بإخلاص الدعاء لله, فلمَّا أظهَرْنا هذه المسألةَ مع ما ذكَرْنا من هدمِ البنيانِ على القبورِ، كبُرَ على العامة, وعاضَدَهم بعضُ من يدعي العلم؛ لأسباب لا تخفى على مثلكم، أعظمُها اتِّباع الهوى مع أسباب أخرى, فأشاعوا عنا أنَّا نسُبُّ الصالحين، وأنا لسنا على جادَّة العلماء, ورفعوا الأمرَ إلى المشرق والمغرب فأشاعوا عنَّا أشياء يُستحيا مِن ذِكرِها, وإنا أخبرناكم بما نحن عليه بسبَبِ أنَّ مِثلَكم ما يروج عليه الكذب، فنحن وله الحمد متَّبعون لا مبتدعون، وعلى مذهب الإمام أحمد,.. وفي ولاية الشريف أحمد بن سعيد وصل إليكم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين، وأشرفتُم على ما عندنا بعد ما أحضروا كتُبَ الحنابلة التي عندنا عمدة، كالتحفة والنهاية عند الشافعية, فلما طلب منا الشريفُ غالب أعزَّه الله ونصره، امتثلنا وهو إليكم واصل، فإن كانت المسألة إجماعًا فلا كلام، وإن كانت مسألةً اجتهادية فمعلومكم أنَّه لا إنكارَ في مسائل الاجتهادِ، فمن عَمِلَ بمذهبه في محلِّ ولايتِه لا يُنكَرُ عليه, وأنا أُشهد الله وملائكتَه وأُشهِدُكم أنِّي متَّبِعٌ لأهل العلم، والسلام عيكم ورحمة الله وبركاته" فقدم عبد العزيز الحصين مكَّةَ فأكرمه الشريف غالب، واجتمع به مراتٍ، وعرض عليه رسالة الشيخ، فعرف ما بها من الحقِّ فأذعن وأقر بذلك، وطلب من عبد العزيز حضورَ العلماء للمناظرة في التوحيدِ، فأبوا وقالوا: هؤلاء يريدون أن يقطعوا جوايزك.. التي من أجدادِك ويملكون بلادَك، فارتعش قلبه وطار.
كانت وَقعةً للزنج انهزموا فيها، وكان سببَها أنَّ محمد بن عبيد الله كتب إلى عليِّ بن أبان بعدَ الصُّلحِ يَسألُه المعونةَ على الأكرادِ الدارنان، على أن يجعلَ له ولأصحابه غنائِمَهم، فكتب عليٌّ إلى صاحبه يستأذِنُه، فكتب إليه أن وجِّهْ إليه جيشًا وأقِمْ أنت، ولا تُنفِذ أحدًا حتى تستوثِقَ منه بالرهائنِ، ولا يأمن غزوه والطلب بثأره. فكتب عليٌّ إلى محمد يطلبُ منه اليمين والرهائن، فبذَلَ له اليمينَ، ومَطَله بالرهائِنِ، ولِحرصِ عليٍّ على الغنائم أنفذ إليه جيشًا، فسيَّرَ محمد معهم طائفةً من أصحابه إلى الأكراد، فخرج إليهم الأكرادُ فقاتلوهم، ونشبت الحرب، فتخلَّى أصحاب محمد عن الزنج، فانهزموا وقَتَلت الأكرادُ منهم خلقًا كثيرًا، وكان محمَّدٌ قد أعدَّ لهم من يتعَرَّضُهم إذا انهزموا، فصادفوهم وأوقعوا بهم، وسَلَبوهم وأخذوا دوابَّهم، ورجعوا بأسوأ حالٍ، فأظهر الخبيثُ الغضَبَ على ابنِ أبان، فأرسل محمَّد إلى بهبود، ومحمد بن يحيى الكرماني، وكانا أقربَ الناسِ إلى علي، فضَمِنَ لهما مالًا إن أصلحا له عليًّا وصاحِبَه، ففعلا ذلك، فأجابهما الخبيثُ إلى الرضا عن محمد على أن يخطُبَ له على منابِرِ بلاده، وأعلما محمدًا بذلك، فأجابهما إلى كلِّ ما طلبا، وجعل يراوِغُ في الدعاءِ له على المنابر، ثم إنَّ عليًّا استعدَّ لمتوث- وهي بلدة بين قرقوب وكور الاهواز- فسار إليها فلم يظفَرْ بها فرَجَع، وعمِلَ السلاليم والآلات التي يصعَدُ بها إلى السور، واستعَدَّ لقَصدِها، فعرف ذلك مسرور البلخي، وهو يومئذٍ بكور الأهواز، فلما سار عليٌّ إليها سار إليه مسرورٌ، فوافاه قبل المغربِ وهو نازلٌ عليها، فلما عاين الزنج أوائِلَ خيل مسرور انهزموا أقبحَ هزيمة، وترَكوا جميعَ ما كانوا أعدُّوه، وقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، وانصرف عليٌّ مهزومًا، فلم يلبثْ إلا يسيرًا حتى أتته الأخبارُ بإقبال الموفق، ولم يكن لعليٍّ بعد متوث وقعة، فكتب إليه صاحِبُه يأمره بالعودِ إليه، ويستحِثُّه حثًّا شديدًا.
في العشرين من شعبان عُقِدَت بين المسلمين والفرنج هدنةٌ لِمُدَّة ثلاث سنين وثمانية أشهر، ويوافِقُ أوَّلَ أيلول 1192م، وكان سبب الصلح أن ملك الإنكليز المعروف بريتشارد قلب الأسد لَمَّا رأى اجتماع العساكر، وأنَّه لا يُمكِنُه مفارقةُ ساحِلِ البحر، وليس بالساحِلِ للمسلمين بلدٌ يَطمَعُ فيه، وقد طالت غيبتُه عن بلاده، راسل صلاح الدين في الصُّلحِ، وأظهر من ذلك ضِدَّ ما كان يطلبُ منه المصاف والحرب، فأعاد الفرنجيُّ رُسُلَه مَرَّةً بعد مرَّة، ونزل عن تَتِمَّة عمارة عسقلان وعن غزة والداروم والرملة، وأرسل إلى الملك العادل في تقريرِ هذه القاعدة، فأشار هو وجماعةُ الأمراء على صلاح الدين بالإجابة إلى الصُّلح، وعرفوه ما عند العسكَرِ مِن الضَّجَرِ والملل، وما قد هلك من أسلحتِهم ودوابِّهم، ونَفِدَ مِن نفقاتهم، وقالوا: إنَّ هذا الفرنجي إنما طلب الصلحَ ليركَبَ البَحرَ ويعود إلى بلاده، فإن تأخَّرَتْ إجابته إلى أن يجيءَ الشتاء وينقَطِع الركوبُ في البحر، نحتاج للبقاء هاهنا سنةً أخرى، وحينئذٍ يَعظُمُ الضَّررُ على المسلمين، وأكثَروا القول له في هذا المعنى، فأجاب السلطانُ صلاح الدين حينئذٍ إلى الصلح، فحضر رسلُ الفرنج وعقدوا الهدنة، وتحالفوا على هذه القاعدةِ، وبعد أن تمت الهدنة سار صلاح الدين إلى بيت المقدس، وأمَرَ بإحكام سوره، وعَمِلَ المدرسة والرباط والبيمارستان وغير ذلك من مصالح المسلمين، ووقف عليها الوقوفَ، وصام رمضان بالقُدسِ، وعزم على الحَجِّ والإحرام منه، فلم يُمكِنْه ذلك، فسار عنه خامِسَ شوال نحو دمشق، واستناب بالقُدسِ الأمير عز الدين جورديك، وهو من المماليك النورية، ولَمَّا سار عنه جعل طريقَه على الثغور الإسلامية، كنابلس وطبرية وصفد وتبنين، وقصد بيروت، وتعهد هذه البلادَ، وأمر بإحكامها، فدخل دمشقَ في الخامس والعشرين من شوال، وكان يومُ دُخولِه إليها يومًا مشهودًا، وفَرِحَ النَّاسِ به فرحًا عظيمًا لطول غيبتِه، وذَهابِ العَدُوِّ عن بلاد الإسلامِ.
في هذه السنة عزل سليمان باشا صاحَبَ العراقِ حمودَ بن ثامر عن ولاية المنتفق، وولَّى عليهم ثويني بن عبد الله، وكان ثويني قد قصد البصرةَ ونزل سفوان الماء المعروف قربَ البصرة، فاجتمع إليه قبائِلُ من عُربان المنتفق, فسار إليه حمود بن ثامر بمن تَبِعه من المنتفق وأهل الزبير وغيرهم, فنازله وحصل بينهما قتالٌ شديد انهزم ثويني فأخذ حمود ومن تبعه محلَّه ومتاعه وخيامه، وقُتِل من رجالِه عِدَّةُ قتلى, فهرب ثويني بعدها إلى الدورق بلاد كعب، وذلك في سنة 1204هـ, ثم خرج من الدورق وقصد بني خالد واستنصرهم واستنجدهم، وكان رئيسُهم يومئذ زيدَ بن عريعر، فلم يجِدْ فيهم نفعًا، فسار الى الدرعيَّة وألفى عبد العزيز فأكرمَه غاية الإكرام وأعطاه خيلًا وإبلًا ودراهمَ، ثم رجع إلى الكويت، وقصد العراقَ فرمى بنفسِه على سلمان باشا فعفا عنه، وأقام عنده مدَّةً يحاولُه أن يوليه على المنتفق، ويسير إلى نجد ليخربَها ويقتُل أهلها، فوقع ذلك في ظنِّ صاحب العراق، وسعى في ذلك كثيرُ الجالين من أهل نجد في الزبير والبحرين والكويت وغيره، وكاتبوا باشا بغداد وحرَّضوه وزيَّنوا له ذلك, وكاتبه كثيرٌ من الرؤساء والعلماء لا سيَّما محمد بن فيروز؛ فإنه الذي يحكم ذلك ويبذُلُ جُهدَه، وذكروا لباشا بغداد أنَّه لا ينجع في هذا الأمر الخطير والخطب الكبير إلا ثويني، وكتبوا له كثيرًا من الكَذِب والزور والبهتان في أتباعِ الدَّعوةِ، ولم يدْرِ الباشا أنَّ هذا التدبير لقصدِ أنفُسِهم، وقال له ثويني: أنا الذي أخربُ ديارهم، وأسلبُ أعمارَهم، فأمره الباشا بالمسير وسار معه عساكِرُ كثيرة من عسكر الباشا، ومِن عقَيل بغداد وآل بعيج والزقاريط وغيرهم، وجعله واليًا على المنتفق، وعزل حمودَ بنَ ثامر.
نبَغَ في أهلِ عُمانَ رجُلٌ يقالُ له: ذو التَّاجِ؛ لقيطُ بنُ مالكٍ الأزديُّ، وكان يسَمَّى في الجاهليَّةِ الجلنديَّ، فادَّعى النبُوَّةَ، وتابعه الجَهَلةُ مِن أهلِ عُمانَ، فتغَلَّب عليها وقَهَر جيفرًا وعبادًا وألجأَهما إلى أطرافِها من نواحي الجبالِ والبَحرِ، فبعث جيفرٌ إلى الصِّدِّيقِ فأخبَرَه الخَبَر واستجاشَه، فبعث إليه الصِّدِّيقُ بأميرينِ، وهما حُذَيفةُ بنُ محصنٍ الحِمْيَريَّ، وعَرْفجةُ البارقيُّ من الأزْدِ، حذيفةُ إلى عمانَ، وعَرْفجةُ إلى مهرةَ، وأمرهما أن يجتَمِعَا ويتَّفِقا ويبتَدِئا بعمانَ، وحذيفةُ هو الأميرُ، فإذا ساروا إلى بلادِ مهرةَ فعَرْفجةُ الأميرُ. ثم كتب الصِّدِّيقُ لخالدِ بن ِالوليدِ بعد أنْ قَهَر مُسَيلِمةَ: لا أرَيَنَّكَ ولا أسمعَنَّ بك إلَّا بعدَ بلاءٍ، وأمَرَه أن يَلحَقَ بحُذَيفةَ وعَرفجةَ إلى عمانَ، وكُلٌّ منكم أميرٌ على جَيْشِه، وحُذَيفةُ ما دمتُم بعمانَ فهو أميرُ النَّاسِ، فإذا فرغتُم فاذهَبوا إلى مهرةَ، فإذا فرغتُم منها فاذهَبْ إلى اليَمَنِ وحَضرَموتَ، فكُنْ مع المهاجرِ بنِ أبي أُمَيَّةَ، ومَن لَقِيتَه مِن المرتدَّةِ بين عمانَ إلى حَضرَموتَ واليَمَنِ، فنَكِّلْ به، فلمَّا وصلوا إليهم كان الفَتحُ والنَّصرُ، فولى المُشرِكون مُدبِرينَ، وركِبَ المسلِمون ظُهورَهم، فقَتَلوا منهم عَشرةَ آلافِ مقاتلٍ وسَبَوا الذَّراريَّ، وأخذوا الأموالَ والسوقَ بحذافيرِها، وبَعَثوا بالخُمُسِ إلى الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عنه.
ملك مدينة بخارى شهابُ الدولة هارون بن سليمان إيلك المعروفُ ببغراخان التركي، وكان له كاشغر وبلاساغون إلى حدِّ الصين، وكان سبَبُ ذلك أنَّ أبا الحسن بنَ سيمجور لَمَّا مات ووليَ ابنُه أبو عليٍّ خُراسانَ بعده، فسار نحو بخارى، وقصَدَ بلادَ السامانيَّة، فاستولى عليها شيئًا بعد شيءٍ، فسيَّرَ إليه نوح جيشًا كبيرًا، واستعمل عليهم قائدًا كبيرًا من قوَّادِه اسمه انج، فلَقِيَهم بغراخان، فهَزَمهم وأسرَ انج وجماعةً مِن القُوَّادِ، فلمَّا ظَفِرَ بهم قَوِيَ طَمَعُه في البلاد وسار بغراخان نحو بخارى، فلَقِيَه فائِقٌ، واختَصَّ به، وصار في جملته، ونازلوا بخارى، فاختفى الأميرُ نوح ومَلَكَها بغراخانُ، ولَمَّا نزل بغراخان بُخارى وأقام بها استوخَمَها، فلَحِقَه مَرَضٌ ثقيل، فانتقل عنها نحوَ بلاد الترك، فلما فارقها ثارَ أهلُها بعَسكَرِه ففَتَكوا بهم وغَنِموا أموالهم، ووافَقَهم الأتراكُ الغزية على النَّهبِ والقَتلِ لعَسكرِ بغراخان، فلما سار بغراخان عن بُخارى أدركه أجَلُه فمات، ولَمَّا سَمِعَ الأمير نوح بمسيرِه عن بخارى بادر إليها فيمن معه من أصحابه، فدخلها وعاد إلى دارِ مُلكِه ومُلكِ آبائه، وفَرِحَ أهلُها به وتباشَروا بقُدومِه.
هو الظاهِرُ لإعزازِ دينِ الله أبو الحَسَن عليُّ بن أبي علي المنصور الحاكم الفاطمي العُبيدي الإسماعيليُّ الباطنيُّ, أمُّه أم ولد تدعى رقية، وُلِدَ بالقاهرة سنة 395، وبويع بالحُكمِ بعد أبيه في يوم عيد الأضحى سنة 411، وله من العمرِ 16 سنة و3 أشهر، وكان له مِصرُ، والشام، والخطبة له بإفريقيَّة، وكان جميلَ السِّيرةِ، حَسَن السياسةِ، مُنصِفًا للرعية، إلَّا أنَّه مُشتَغِلٌ بلذَّاته محِبٌّ للدَّعَة والراحة، قد فوَّض الأمورَ إلى وزيره أبي القاسِمِ عليِّ بنِ أحمد الجرجرائي- وكان مقطوعَ اليدينِ مِن المِرفَقينِ- لِمَعرفته بكفايته وأمانته، في سنة ثماني عشرة، فاستمَرَّ في الوزارة مدةَ ولايةِ الظاهر، ثمَّ لوَلَده المُستنصِر، توفِّي الظاهِرُ في منتصف شعبان بمصر وكان عمُره ثلاثًا وثلاثين سنة، وكانت مُدَّة حُكمِه خَمسَ عشرة سنة وتسعةَ أشهر وسبعة عشر يومًا، ولَمَّا مات الظاهِرُ ولِيَ بعده ابنُه تميم معد، ولقب المستنصر بالله، وتكَفَّل بأعباء المملكة بين يديه الأفضَلُ أميرُ الجيوش، واسمُه بدر بن عبد الله الجمالي، وكان عمرُ المستنصرِ يومَ نُصِّبَ حاكِمًا سبعَ سنينَ وعِدَّة أشهر، وبقي حاكمًا أكثَرَ مِن ستين سنةً.
حكى ابنُ الجَوزيِّ عن أبي بكرٍ الصوليِّ أنَّه قال: "النَّاسُ يقولونَ: كُلُّ سادسٍ يقومُ بأمرِ النَّاسِ مِن أوَّلِ الإسلامِ لا بُدَّ أن يُخلَعَ، قال ابنُ الجوزيِّ: فتأمَّلتُ ذلك فرأيتُه عَجَبًا: قيامُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمَّ أبِي بكر ثمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثمانَ ثمَّ عليٍّ ثمَّ الحَسَن فتنازلَ بالخلافةِ لِمُعاوية! ثمَّ يزيدُ ومُعاويةُ بنُ يزيد ومروانُ وعبدُ المَلِك ثمَّ عبدُ الله بنُ الزُّبيرِ، فخُلِعَ وقُتِلَ! ثمَّ الوليدُ ثمَّ سُليمانُ ثمَّ عُمَرُ بنُ عبد العزيز ثمَّ يزيدُ ثُمَّ هِشامٌ ثُمَّ الوليدُ بنُ يزيد، فخُلِعَ وقُتِلَ! ولم يَنتَظِمْ لبني أميَّةَ بَعدَه أمرٌ حتى قام السَّفَّاحُ العباسيُّ ثمَّ أخوه المنصورُ ثُمَّ المهديُّ ثُمَّ الهادي ثمَّ الرَّشيدُ ثُمَّ الأمين، فخُلِعَ وقُتِلَ! ثُمَّ المأمونُ والمُعتَصِم والواثِقُ والمتوكِّلُ والمُنتَصِرُ ثمَّ المُستعينُ، فخُلِعَ ثمَّ قُتِلَ، ثمَّ المُعتَزُّ والمهتدي والمُعتَمِد والمُعتَضِد والمُكتفي ثمَّ المُقتَدِر، فخُلِعَ ثمَّ أعيدَ فقُتِلَ! ثمَّ القاهِرُ والراضي والمتَّقي والمُكتفي والمُطيع ثمَّ الطائِعُ فخُلِعَ، ثمَّ القادِرُ والقائِمُ والمُقتدي والمُستَظهِر والمُستَرشِد ثُمَّ الرَّاشِدُ، فخُلِعَ وقُتِلَ!.