هو المَلِكُ الظاهر هزبر الدين عبد الله بن الأشرف إسماعيل بن علي بن داود بن يوسف بن عمر بن علي بن رسول ملك اليمن. ضعفت مملكة اليمن في أيامه؛ لقلة مجابي أموالها، واستيلاء العربان على أعمالها. مات يوم الخميس آخر شهر رجب، وله في الملك نحو اثنتي عشرة سنة، وأقيم بعده ابنه الأشرف إسماعيل، وله من العمر نحو العشرين سنة، فأكثر من سفك الدماء، وأخْذ الأموال، وغير ذلك من أنواع الفساد!
هو الخليفة العباسي المستكفي بالله أبو الربيع سليمان ابن الخليفة المتوكِّل على الله أبي عبد الله محمد، توفي بالقاهرة يوم الجمعة الثاني محرم، ونزل السلطانُ الملك الظاهر جقمق للصلاة عليه بمصلاة المؤمني، ومشى في جنازته إلى أن شَهِد دفنَه، وربما أراد حملَ نعشِه في طريقه، ومات المستكفي وهو في عشر الستين، بعد أن أقام في الخلافة تسعَ سنين ونحو عشرة أشهر، وتولى الخلافةَ بعده أخوه أبو البقاء حمزة بغير عهدٍ منه، ولقِّبَ بالقائم بأمر الله.
غزا الإمام سعود غزوة المزيريب وآل خليفة في الاعتقال، فلما رجع طلب منه آلُ خليفة أن يفكَّ أسرَهم ووعدوه السَّمعَ والطاعة ويَنزلوا الزبارة، وأن يجتمعوا فيها ببنيهم وأقربائهم، فإن أراد بنوهم الامتناعَ فإنهم يرجعون إلى الدرعية، وبايعوا سعودًا على ذلك, وأعطوه عهدًا وميثاقًا، فارتحلوا من الدرعية وبعث معهم سعودٌ شوكة من الجيش، فلما وصلوا إلى ناحيتهم طلبوا منهم الموافقةَ على ما بايعوا عليه سعود، فأبوا عليهم فرجعوا إلى الدرعية وأقاموا فيها حتى رجع سعود من الحج، وأطلقوا ابنَ عفيصان ومَن معه.
تمرَّد بعضُ رؤساء عشائر قبيلة مطير على الملك عبدالعزيز، وتحالفوا مع أمير بريدة محمد بن عبد الله أبا الخيل، على أن يكونوا من أنصار ابن رشيد ضِدَّ الملك عبدالعزيز الذي تحالف مع قبيلة عتيبة خصوم مطير وشمر، فنشبت قربَ مدينة المجمعة في سدير معركةٌ بين قبيلة مطير بقيادة فيصل الدويش وقوات الملك عبدالعزيز المكَوَّنة بالأساس من قبيلة عتيبة. وهُزمت مطيرٌ، وأصيب فيصل الدويش بجراحٍ في هذه المعركة، فطلب الصلح وأعرب عن خضوعِه للملك عبدالعزيز.
الأميرُ ممدوح هو الابنُ التَّاسِعُ والعِشرون للمَلِكِ المؤَسِّسِ عبدِ العزيزِ رحمه اللهُ. وقد شَغَل عدَّةَ مناصِبَ سياسيَّةٍ، منها أميرُ مِنطَقةِ تَبوكَ، ورئيسُ مركزِ الدِّراساتِ الإستراتيجيَّةِ.
حَصَل على شهادةِ ماجستير في التَّاريخِ من جامعةِ الملِكِ عبدِ العزيزِ بجُدَّةَ، ثمَّ شهادةِ الدُّكتواره من جامعةِ الإسكندريَّةِ في الدِّراساتِ الدَّوليَّةِ، وكان الرَّئيسَ الفَخريَّ لمعهدِ الدِّراساتِ القرآنيَّةِ للبناتِ بمكَّةَ المكرَّمةِ.
تُوفِّي رحمه اللهُ عن عُمرٍ ناهز 84 عامًا، وصُلِّيَ عليه بعدَ صلاةِ العَصرِ في المسجِدِ الحرامِ بمكَّةَ المكَرَّمةِ.
في هذه السَّنَةِ استَولَى الفِرنجُ على مَدينةِ طُليطِلة من بِلادِ الأندلس، وأَخذُوها من المسلمين، وهي من أَكبرِ البلادِ وأَحصَنِها. وسببُ ذلك أن الأذفونش، (ألفونسو السادس) مَلِكَ قشتالة، كان قد قَوِيَ شَأنُه، وعَظُمَ مُلكُه، وكَثُرت عَساكِرُه، مُذ تَفرَّقَت بِلادُ الأندلس، وصار كلُّ بَلدٍ بِيَدِ مَلِكٍ، كما دَبَّ النِّزاعُ بينهم واستَعانوا بالفِرنجَةِ على بَعضٍ، فحينئذٍ طَمِعَ الفِرنجُ فيهم، وأَخَذوا كَثيرًا من ثُغورِهم. وكان ألفونسو خَدَمَ صاحِبَ طُليطلة القادرَ بالله بنَ المأمونِ بن يحيى بن ذي النونِ، وعاش في طُليطلة سَنواتٍ، فعَرِفَ مِن أين يُؤتَى البلدُ، وكيف الطريقُ إلى مُلْكِها, ولم يكن أحدٌ من مُلوكِ الطَّوائفِ قادِرًا على نَجْدَتِها، حتى إنَّ المُعتَمِدَ بن عبَّاد صاحِبَ أشبيلية وهو أَقوَى مُلوكِ الطَّوائفِ لمَّا رَأى استِفحالَ أَمرِ ألفونسو وقُوَّتَه رَأى أن يَعقِدَ مُهادَنةً وصُلْحًا معه يَأمَن بها على أَراضِيه، فبَعَثَ وَزيرَهُ ابنَ عمَّارٍ لِيَتفاوَضَ مع ألفونسو، وتَمَّت المُعاهدَةُ والاتِّفاقُ على بُنودٍ منها: أن يُؤَدِّي المُعتَمِدُ الجِزيةَ سَنويًّا, ويُسمَح للمُعتَمِد بِغَزْوِ أراضي طُليطلة الجنوبية على أن يُسَلِّم منها إلى ألفونسو الأراضي الواقعةَ شمالي طليطلة, و لا يَعتَرِض المُعتَمِد على استِيلاءِ ألفونسو على طُليطلة, وفي شَوَّال سَنةَ 474هـ ضَربَ ألفونسو الحِصارَ على طُليطلة، وشَدَّدَ غاراتَه عليها، وظلَّ على ذلك أَربعَ سَنواتٍ كاملةً؛ يُخَرِّب في الزُّروعِ والأراضي والقُرى، وعاشَ الناسُ في ضِيقٍ وكَربٍ، وليس بين المسلمين مُجِيرٌ، قال ابنُ بسام: "دَخلَ على الأذفونش يومئذٍ جَماعةٌ فوَجَدوه يَمسَح الكرى من عَينيهِ، ثائرَ الرَّأسِ، خَبيثَ النَّفْسِ، فأَقبلَ عليهم بوَجهٍ كَريهٍ، وقال لهم: إلى متى تَتَخادَعون، وبأيِّ شَيءٍ تَطمعون؟ قالوا: بِنا بُغيَةٌ، ولنا في فُلانٍ وفُلانٍ أُمنِيَّةٌ، وسَمُّوا له بَعضَ مُلوكِ الطَّوائفِ، فصَفَّقَ بِيَديهِ، وتَهافَت حتى فَحَصَ برِجلَيهِ، ثم قال: أين رُسُلُ ابنِ عبَّادٍ؟ فجِيءَ بهم يَرفُلون في ثِيابِ الخَناعَةِ، وينبسون بأَلسِنَةِ السَّمعِ والطَّاعةِ. فقال لهم: مُذ كم تَحُومون عليَّ، وتَرومون الوصولَ إليَّ؟ ومتى عَهْدِكم بفُلانٍ؟ وأين ما جِئتُم به ولا كُنتم ولا كان؟ فجاءوا بجُملَةِ مِيرَةٍ، وأَحضَروها, ثم ما زادَ على أن رَكَلَ ذلك برِجلِه، وأَمَرَ بانتِهابِه كُلِّهِ؛ ولم يَبقَ مَلِكٌ من مُلوكِ الطَّوائفِ إلا أَحضرَ يَومئذٍ رُسُلَه، وكانت حالُه حالَ مَن كان قَبلَه. وجَعلَ أَعلاجَه يَدفَعون في ظُهورِهم، وأَهلُ طُليطلة يَعجَبون مِن ذُلِّ مَقامِهم ومَصيرِهم، فخَرجَ مَشيَختُها من عندِه وقد سُقِطَ في أَيدِيهم. وطَمِعَ كلُّ شيءٍ فيهم. وخَلُّوا بينه وبين البلدِ، ودَخلَ طُليطلة على حُكمِه، وأَثبَتَ في عَرصَتِها قَدَمَ ظُلمِه، حُكْمٌ مِن الله سَبَقَ به القَدَرُ، وخَرجَ ابنُ ذي النون خائبًا مما تَمَنَّاهُ، حدَّثنِي مَن رَآهُ يَومئذٍ بتلك الحالِ وبِيَدِه اصطرلاب يَرصُد فيه أيَّ وَقتٍ يَرحَل، وعلى أيِّ شَيءٍ يُعَوِّل، وأيَّ سَبيلٍ يَتَمَثَّل، وقد أَطافَ به النَّصارَى والمسلمون، أولئك يَضحَكون مِن فِعْلِه، وهؤلاء يَتَعجَّبون مِن جَهلِه. وعَتَا الطاغِيةُ الأذفونش -قَصَمَهُ الله- لحين استِقرارِه بطُليطلة واستَكبَر، وأَخَلَّ بمُلوكِ الطَّوائفِ في الجَزيرَةِ وقَصَّرَ، وأَخذَ يَتَجنَّى ويَتَعتَّب، وطَفِقَ يَتَشَوَّف إلى انتِزاعِ سُلطانِهم والفَراغِ مِن شانِهم" في الوقتِ الذي كانت قُوَّاتُ ألفونسو تُحاصِر فيه طُليطلة كان مُلوكُ الطَّوائفِ يُقَدِّمُون مِيثاقَ الوَلاءِ والمَحَبَّةِ له؛ مُمَثَّلَةً في الجِزيَةِ والإتاوَةِ، ولم يَجرُؤ أَحدٌ منهم على الاعتِراضِ عليه في ذلك إلاَّ المُتَوكِّل بن الأَفطَس الذي أُخْرِج من طُليطلة قُبيلَ دُخولِ الطَّاغيةِ، وفي الوقتِ نَفسِه الذي تُحَاصَر فيه طُليطلة كانت مَمالكُ الطَّوائفِ الأُخرى تَتَنازَع فيما بينها، أو تَرُدُّ غاراتِ النَّصارَى المُتواصِلَة عليها. ثم قام ألفونسو باتِّخاذِ طُليطلة عاصِمةً له وحَوَّلَ مَسجِدَها إلى كَنيسةً.
هو عبدُ الله بن وَهْبٍ الهَمْدانيُّ السَّبَئِيُّ، وقِيلَ: الحِمْيَريُّ. أصلُه مِن يَهودِ صَنْعاءَ, وقِيلَ: مِن يَهودِ الحِيرَةِ، مَعروفٌ بابنِ السَّوداءِ لأنَّ أُمَّهُ حَبَشيَّةٌ، أَظهرَ الإسلامَ في زَمَنِ عُثمانَ بن عفَّانَ, وقِيلَ: إنَّه رُوميٌّ أَظهرَ الإسلامَ هو وجماعتُه السَّبئيَّةُ بغَرَضِ تَقويضِ الدَّولةِ الإسلاميَّة لصالحِ الدَّولةِ البِيزنْطيَّة. وهو يَختلِفُ عن عبدِ الله بن وَهْبٍ الرَّاسبيِّ رأسِ الخَوارجِ الذي خرَج على عَلِيٍّ, رحَل ابنُ سَبَإٍ إلى الحِجازِ ثمَّ البَصرَةِ ثمَّ الكوفةِ ثمَّ الشَّامِ ثمَّ اسْتَقَرَّ في مِصْرَ، كلّ ذلك يَنشُر بِدعَتَهُ، وجهَر بها وتَقَوَّى في مِصْرَ، كان يقولُ بِرَجْعَةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كرَجْعَةِ عيسى في آخرِ الزَّمانِ، ثمَّ دَعا إلى عَلِيٍّ وأثار الفِتنَةَ على عُثمانَ، ثمَّ غَلا في عَلِيٍّ وأَظهرَ أنَّه الخليفةُ بعدَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالوِصايَةِ، ثمَّ قال: إنَّ في عَلِيٍّ جُزْءًا لاهوتِيًّا، وأنَّ هذا الجُزءَ يَتَناسَخ في الأئمَّةِ مِن بعدِ عَلِيٍّ، ثمَّ زعَم أنَّ عَلِيًّا أيضًا يَرْجِع، وأَفْشَلَ مع اتْباعِه المفاوضات بين عَلِيٍّ والصَّحابةِ في الجَملِ وصِفِّينَ، وتَسبَّبوا في نُشوبِ الحَربِ بينهم. يُقال: إنَّ عَلِيًّا نَفاهُ إلى المدائنِ. وذلك أنَّ عَلِيَّ بن أبي طالبٍ لمَّا بَلغَهُ أنَّ ابنَ السَّوداءِ يَنْتَقِصُ أبا بكرٍ وعُمَر دَعا به، ودَعا بالسَّيْفِ وهَمَّ بِقَتلِه، فشفَع فيه أُناسٌ، فقال: والله لا يُساكِنُني في بلدٍ أنا فيه، فسَيَّرَهُ إلى المدائنِ، وقِيلَ: حَرَقَهُ بالنَّارِ فيمَن حرَقَهُم, وقِيلَ: إنَّه اخْتَفى ولم يُعْلَمْ بِخاتِمَتِه.
هو أميرُ المؤمنينَ، أبو العاصِ الحَكَمُ بنُ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن المستنصر بالله الأموي، صاحبُ الأندلس، وُلِدَ سنة 302, وبويع بعد أبيه، في رمضان، سنة 350. وكان حسَنَ السيرة، جامعًا للعلم، مُكرِمًا للأفاضل، كبيرَ القَدرِ، ذا نَهمةٍ مُفرِطةٍ في العلم والفضائل، عاكفًا على المطالعة. جمع من الكتُبِ ما لم يجمَعْه أحدٌ من الملوك، لا قَبله ولا بعدَه، وتطَلَّبَها وبذَلَ في أثمانِها الأموالَ، واشُتِرَيت له من البلاد البعيدةِ بأغلى الأثمان، مع صفاءِ السَّريرةِ، والعقلِ والكرم، وتقريبِ العُلَماء. ضاقت خزائنُه بالكتب إلى أن صارت إليه، وآثَرَها على لذَّاتِ الملوك، فغَزُرَ عِلمُه، ودَقَّ نَظَرُه، وكان له يدٌ بيضاء في معرفة الرجال والأنساب والأخبار، وقلما تجدُ له كتابًا إلَّا وله فيه قراءةٌ أو نظَرٌ، من أيِّ فَنٍ كان، ويكتُبُ فيه نسبَ المؤلِّف، ومولِدَه ووفاته، ويأتي من ذلك بغرائِبَ لا تكاد تُوجدُ. ومن محاسنه أنَّه شَدَّدَ في مملكته في إبطالِ الخُمورِ تشديدًا عظيمًا. قال اليسع بن حزم: "كان الحَكَمُ عالِمًا، راويةً للحديثِ، فَطِنَا وَرِعًا ". وكان أخوه الأمير عبد الله المعروف بالولد، على أنموذَجِه في محبَّة العلم، فقُتِلَ في أيام أبيه. همَّت الروم بأخذ مواضِعَ مِن الثغور، فقَوَّاها الحكمُ بالمال والجيوش، وغزا بنَفسِه، وزاد في القطيعةِ على الرومِ وأذَلَّهم. وكان موتُه بالفالج، كانت إمارتُه خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، ولَمَّا توفِّيَ ولِيَ بعدَه ابنُه هشامٍ بعهد أبيه، وله عشرُ سنين، ولقِّبَ بالمؤيَّد بالله. فأقيم في الخلافةِ بتدبير الوزيرِ ابنِ أبي عامر القحطانيِّ.
كانت بلادُ الغورِ تُجاوِرُ غزنةَ، وكان الغور يقطعونَ الطَّريقَ، ويُخيفونَ السَّبيلَ، وبلادُهم جِبالٌ وَعرةٌ، ومضايقُ غَلقةٌ، وكانوا يحتَمون بها، ويعتَصِمون بصعوبةِ مَسلَكِها، فلمَّا كَثُرَ ذلك منهم أنِفَ يمينُ الدَّولة محمودُ بنُ سبكتكين أن يكونَ مثل أولئك المُفسدينَ جِيرانَه، وهم على هذه الحالِ مِن الفَسادِ والكُفرِ، فجمَعَ العساكِرَ وسار إليهم، وعلى مُقَدِّمتِه التونتاش الحاجِبُ، صاحِبُ هراة، وأرسلان الجاذبُ صاحِبُ طوس، وهما أكبَرُ أُمرائه، فسارا فيمَن معهما حتى انتَهَوا إلى مَضيقٍ قد شُحِنَ بالمُقاتلةِ، فتناوشوا الحَربَ، وصبَرَ الفريقانِ، فسَمِعَ يمينُ الدَّولة الحالَ، فجَدَّ في السيرِ إليهم، ومَلَك عليهم مَسالِكَهم، فتفَرَّقوا، وساروا إلى عظيمِ الغوريَّة المعروف بابن سوري، فانتهوا إلى مدينتِه التي تُدعى اهنكران، فبَرَز مِن المدينةِ في عشرةِ آلافِ مُقاتلٍ، فقاتَلَهم المُسلِمونَ إلى أن انتَصَف النهار، فرأوا أشجَعَ النَّاسِ وأقواهم على القِتالِ، فأمَرَ يمينُ الدَّولة أن يُولُّوهم الأدبارَ على سبيلِ الاستدراجِ، ففعلوا، فلمَّا رأى الغوريَّةُ ذلك ظَنُّوه هزيمةً، فاتَّبَعوهم حتى أبعَدوا عن مدينتِهم، فحينئذ عطفَ المُسلِمونَ عليهم ووَضَعوا السُّيوفَ فيهم فأبادوهم قَتلًا وأسْرًا، وكان في الأسرى كبيرُهم وزعيمُهم ابنُ سوري، ودخل المُسلِمونَ المدينةَ ومَلَكوها، وغَنِموا ما فيها، وفَتَحوا تلك القِلاعَ والحُصونَ التي لهم جميعَها، فلمَّا عايَنَ ابنُ سوري ما فعل المسلمونَ بهم شَرِبَ سُمًّا كان معه، فمات وأظهَرَ يمينُ الدَّولة في تلك الأعمالِ شِعارَ الإسلامِ، وجعل عندهم مَن يُعَلِّمُهم شَرائِعَه، ثمَّ عاد إلى غزنة.
كان خان خانان الصيني ملك الخطا قد فوَّض ولاية سمرقند وبخارى إلى الخان جغري خان بن حين تكين، واستعمله عليها، وهو مِن بيت الملك، قديم الأبوة، فبقي فيها مدبِّرًا لأمورها، فلما كان الآن أرسل إليه ملك الخطا بإجلاء الأتراك القارغلية من أعمال بخارى وسمرقند إلى كاشغر، وأن يتركوا حمل السلاح ويشتغلوا بالزراعة وغيرها من الأعمال، فتقدم جغري خان إليهم بذلك، فامتنعوا، فألزمهم وألحَّ عليهم بالانتقال، فاجتمعوا وصارت كلمتُهم واحدة، فكثُروا وساروا إلى بخارى، فأرسل الفقيهُ محمد بن عمر بن برهان الدين عبد العزيز بن مازة، رئيس بخارى، إلى جغري خان يعلمه ذلك ويحثه على الوصول إليهم بعساكره قبل أن يَعظُم شَرُّهم، وينهبوا البلاد، وأرسل إليهم ابن مازة يقول لهم: إن الكُفَّار بالأمس لما طَرَقوا هذه البلاد امتنعوا عن النهب والقتل، وأنتم مسلمون غزاة، يَقبُح منكم مدُّ الأيدي إلى الأموال والدماء، وأنا أبذلُ لكم من الأموال ما تَرضَون به لتكفوا عن النَّهبِ والغارة؛ فترددت الرسلُ بينهم في تقرير القاعدة، وابن مازة يطاوِلُ بهم ويمادي الأيام إلى أن وصل جغري خان، فلم يشعُر الأتراك القارغلية إلا وقد دهمَهم جغري خان في جيوشه وجموعه بَغتةً ووضع السيف فيهم، فانهزموا وتفَرَّقوا، وكثر القتلُ فيهم والنهب، واختفى طائفةٌ منهم في الغياض والآجام، ثم ظفر بهم أصحابُ جغري خان فقَطَعوا دابرهم، ودفعوا عن بخارى وضواحيها ضَرَرَهم، وخَلَت تلك الأرضُ منهم.
هو الأميرُ شِهابُ الدين، أبو الفوارِسِ سَعدُ بن محمد بن سعد بن صيفي التميمي الأديب الفقيه الشافعي، المعروف بالحيص بيص, ومعنى الحيص بيص: الشِّدَّةُ والاختلاطُ, قيل: إنَّه رأى الناسَ في شدَّة وحركةٍ، فقال: ما للنَّاسِ في حيصَ بَيصَ؟ فلزِمَه ذلك. وكان من فضلاءِ العالَم. كان قد سمع الحديثَ، ومدح الخلفاءَ والسلاطين والأكابر، وشِعرُه مشهورٌ، وله (ديوان) وترَسُّل. كان فصيحًا حسَن الشعر, بليغًا وافِرَ الأدَبِ، عظيمَ المنزلةِ في الدولتين العباسيَّة والسلجوقية. كان بديعَ المعاني، مليحَ الرسائِلِ، ذا خبرةٍ تامةٍ باللغة والبلاغة والأدب، وله يدٌ في المناظرة, وكان يناظِرُ على رأي الجمهور. كان لا يخاطِبُ أحدًا إلا بالكلام العربي. تفقَّه في مذهب الشافعي بالريِّ، وتكلَّم في مسائل الخلاف. ذكره ابن السمعاني في «ذيله» فقال: "له باعٌ في اللغة، وحِفظٌ كثيرٌ للشعرِ، وكان إمامًا في الرأي، حَسَن العقيدة". قال عبد الباقي بن زريق الحلبي الزاهد: "رأيتُه واجتمعتُ به، فكان صدرًا في كل علم، عظيمَ النفس، حسَنَ الشارة، يركَبُ الخيل العربية الأصيلة، ويتقلَّدُ بسيفين، ويحمِلُ حلقة الرمح، ويأخذ نفسَه بمآخِذِ الأمراء، ويتبادى في لفظِه، ويعقِدُ القاف, وكان أفصَحَ مَن رأيت". قال ابن كثير: "لم يكُنْ له في المراسلات بديلٌ، كان يتقعَّرُ فيها ويتفاصح جدًّا، فلا تواتيه إلا وهي مُعجرفة، وكان يزعم أنه من بني تميم، فسُئِل أبوه عن ذلك فقال ما سمعتُه إلَّا منه". توفي يوم الثلاثاء خامس شهر شعبان من هذه السنة، وله ثنتان وثمانون سنة، وصلِّي عليه بالنظامية، ودُفن بباب التبن، ولم يُعْقِب.
هو الإمام العلَّامة، الحافظُ الكبيرُ الثِّقة، شيخُ المحَدِّثين، أبو موسى محمد بن المقرئ أبي بكر عمر بن أحمد بن عمر بن محمد بن أحمد بن أبي عيسى المديني، الأصبهاني، الشافعي، صاحِبُ التصانيف، أحد حفَّاظ الدنيا الرَّحَّالين الجوَّالين، له مصنفات عديدة، وشرح أحاديث كثيرة، كان من علماء الحديث المشهورين، ولد في ذي القعدة سنة 501, ومولد أبيه المقرئ أبي بكر سنة 465. حرص عليه أبوه، وسَمَّعه حضورًا، ثم سماعًا كثيرًا من أصحاب أبي نعيم الحافظ، وطبقتهم. وعمل موسى لنفسه (معجمًا)، روى فيه عن أكثَرَ من ثلاثمائة شيخ. قال ابن الدبيثي: "عاش أبو موسى حتى صار أوحد وقته، وشيخ زمانه إسنادًا وحفظًا" وقال الحافظ عبد القادر الرهاوي: "حصل أبو موسى من المسموعاتِ بأصبهان ما لم يحصُلْ لأحدٍ في زمانه، وانضَمَّ إلى ذلك الحِفظ والإتقان، وله التصانيف التي أربى فيها على المتقدمين، مع الثقة والعفة، كان له شيءٌ يسير يتربَّحُ به ويُنفِقُ منه، ولا يَقبَلُ مِن أحد شيئًا قَطُّ، أوصى إليه غيرُ واحد بمال، فيَرُدُّه، فكان يقال له: فَرِّقْه على من ترى، فيمتَنِعُ، وكان فيه من التواضُعِ بحيث أنه يقرئ الصغير والكبير، ويرشِدُ المبتدئ، رأيته يُحَفِّظُ الصبيان القرآنَ في الألواح، وكان يمنَعُ من يمشي معه، فعلتُ ذلك مرة، فزجَرَني، وتردَّدتُ إليه نحوًا من سنة ونصف، فما رأيتُ منه ولا سمعتُ عنه سقطةً تعاب عليه." قال الذهبي: " سمعتُ شيخنا العلامة أبا العباس بن عبد الحليم بن تيمية يُثني على حفظ أبي موسى، ويُقَدِّمُه على الحافظ ابن عساكر، باعتبار تصانيفِه ونَفْعِها".
في ثالث عشر ربيع الآخر قُتِلَ المركيس الفرنجي، صاحِبُ صور، وهو أكبَرُ شياطينِ الفرنج، وقيل في سبب قتله: إن صلاح الدين راسل مُقَدِّمَ الإسماعيلية، وهو سنان، وبذَلَ له أن يُرسِلَ مَن يقتُلُ مَلِك الإنكليز، وإن قَتَل المركيسَ فله عشرةُ آلاف دينار، فلم يمكِنْهم قتلُ ملك الإنكليز، ولم يَرَه سنان مصلحةً لهم؛ لئلَّا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنجِ ويتفَرَّغ لهم، وطَمِعَ في أخذ المال، فعَدَل إلى قتل المركيس، فأرسل رجلينِ في زي الرُّهبان، واتَّصَلا بصاحب صيدا وابن بارزان، صاحِبِ الرملة، وكانا مع المركيس بصور، فأقاما معهما ستة أشهُرٍ يُظهِرانِ العبادة، فأنِسَ بهما المركيس، ووَثِقَ بهما، ثمَّ عَمِلَ الأسقف بصور دعوةً للمركيس فحَضَرَها، وأكل طعامَه، وشَرِبَ مُدامَه، وخرج من عنده، فوَثَب عليه الباطنيَّان, فجَرَحاه جراحًا وثيقةً، وهرب أحدُهما، ودخل كنيسةً يختفي فيها، فاتَّفَق أن المركيس حمل إليها ليشدَّ جراحه، فوثب عليه ذلك الباطنيُّ فقتله، وقُتِلَ الباطنيَّان بعده، وقيل: بل قتله ملك الإنكليز وضع له هذان الرجلانِ فقتلاه لينفرد بمُلْك الساحل الشامي، فلما قُتِلَ المركيس وَلِيَ بعده مدينة صور كند- قائد- من الفرنج، من داخل البحر، يقال له الكند هري، وتزوج بالملكة في ليلته، ودخل بها وهي حامل، وليس الحَملُ عندهم ممَّا يمنع النكاح، وهذا الكند هري هو ابنُ أخت ملك الإنكليز من أمِّه، ومَلَكَ الكند هري هذا بلاد الفرنج بالساحل بعد عودة ريتشارد ملك الإنكليز.
هو السُّلطانُ الملك الأفضل علي بن يوسف بن أيوب بن شاذي. ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين، ولد يوم عيد الفطر سنة 565 بالقاهرة، وقيل: سنة ست وستين. وسمع من عبد الله بن بري النحوي، وأبي الطاهر إسماعيل بن عوف الزهري، وأجاز له جماعة. وله شِعر حسن، وترسُّل، وخط مليح. وكان أسنَّ إخوانه، وإليه كانت ولاية عهد أبيه. ولما مات أبوه، كان معه بدمشق، فاستقل بسلطنتها، واستقل أخوه الملك العزيز بمصر، وأخوهما الظاهر بحلب. ثم جرت للأفضل والعزيز فتن وحروب، ثم اتفق العزيز وعمه الملك العادل على الأفضل، وقصدا دمشق، وحاصراه، وأخذاها منه، فالتجأ إلى صرخد، وأقام بها قليلًا، فمات العزيز بمصر، وقام ولده المنصور محمد وهو صبي، فطلبوا له الملك الأفضل ليكون أتابكه، فقدم مصر، ومشى في ركاب الصبي. ثم إن العادل عَمِلَ على الأفضل، وقَدِمَ مصر وأخذها، ودفع إلى الأفضل ثلاثة مدائن بالشرق، فسار إليها، فلم يحصل له سوى سميساط، فأقام بها ولم يزَلْ بها إلى أن توفي بها، وكان خيرًا، وما أحسن ما قال القاضي الفاضل: "أمَّا هذا البيت، فإن الآباء منه اتَّفقوا فمَلَكوا، والأبناء منه اختلفوا فهلكوا". قال الذهبي: "كان فيه تشيُّع". وقد قال ابن الأثير " إنَّه ما ملك الأفضل شيئًا من البلاد إلا وأخذه عمُّه منه، بل ذكر أنه رأى عمودًا من الرخام الفاخر في بيت المقدس فقيل له إنه كان للأفضل، ثم أخذه منه عمه العادل"، ولما مات الأفضل اختلف أولاده وعمهم قطب الدين موسى، ولم يقوَ أحد منهم على الباقين ليستبدَّ بالأمر.
هو العلامةُ ضياءُ الدين أبو محمَّد عبد الله بن أحمد المالقي النباتي المعروفُ بابن البيطار، الطبيبُ، ولد في مالقةَ بالأندلس، كان عالمًا بالنبات وصفاتِه ومنافِعِه وأماكِنِه، سافر في البلادِ إلى اليونان والمغرب ومصر وبلاد الشام، وكان كلَّ ذلك يدرس علمَ النبات ويجمع العيِّنات، كان ثقةً فيما ينقُلُه حُجَّةً, وإليه انتهت معرفة النباتِ وتحقيقه وصفاته وأسمائه وأماكنه. كان لا يجارَى في ذلك. سافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم. وأخذ فنَّ النبات عن جماعة، وكان ذكيًّا فَطِنًا. قال الموفق أحمد بن أبي أصيبعة: "شاهدت معه كثيرًا من النبات في أماكِنِه بظاهر دمشق. وقرأت عليه تفسيرَه لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس، فكنت أجِدُ من غزارة علمه ودرايته وفهمه شيئًا كثيرًا جِدًّا. ثم ذكر الموفَّقُ فَصلًا في براعته في النبات والحشائش، ثم قال: وأعجَبُ من ذلك أنه كان ما يذكرُ دواء إلا ويُعَيِّن في أي مقالة هو في كتاب ديسقوريدس وجالينوس، وفي أي عدد هو من جملة الأدوية المذكورة في تلك المقالة". وكان في خدمة الملكِ الكامِلِ، وكان يَعتَمِدُ عليه في الأدوية المفردة والحشائِش، ثم خَدَمَ بعده ابنَه الملك الصالح. وكان متقدِّمًا في أيامه، حظيًّا عنده. عُيِّنَ في مصر رئيسًا للعشَّابين وأصحاب البسطات, ثم رحل إلى دمشق، ومن أشهر مصنَّفاته: الجامع لمفردات الأدوية والأغذية،كتاب الأدوية المفردة الذي لم يصنف مثله. وصَفَ فيه لألف وأربعمائة نوع من أنواع النبات والعقاقير بتراكيبها الكيميائية مع ملاحظات دقيقة على طرق الاستخدام في العلاج، وله المغني في الأدوية المفردة والأغذية، وله ميزان الطبيب، وكتاب الأفعال الغريبة والخواص العجيبة، فكان ابنُ البيطار يعتبَرُ من أشهر أطباء الأعشاب في عصره، توفِّيَ في دمشق.