هو أبو سَعيدٍ جقر بنُ يعقوبَ الهَمَذانيُّ الملَقَّبُ نصير الدين، كان نائِبَ عمادِ الدين زنكي صاحِبِ الجزيرةِ الفُراتيَّة والمَوصِل والشَّام، استنابه عنه بالمَوصِل، وكان جَبَّارًا عَسُوفًا سَفَّاكًا للدَّماءِ مُستَحِلًّا للأموالِ، كان المَلِكُ فروخشاه بن السُّلطانِ مَحمود السلجوقي المعروف بالخفاجي يطمَعُ في السَّلطَنةِ بعد السُّلطانِ مَسعود, وكان فروخشاه بالموصِل هذه السَّنةَ ونَصيرُ الدين جقر يَنزِلُ إليه كُلَّ يَومٍ يَخدمُه ويَقِفُ عنده ساعةً ثمَّ يعودُ, وكان جقر يعارِضُه ويُعانِدُه في مقاصِدِه، فحَسَّنَ المُفسِدونَ للمَلِك فروخشاه قَتْلَه وقالوا له إنَّك إنْ قَتَلْتَه مَلَكْتَ المَوصِلَ وغَيرَها ويَعجِزُ أتابك أن يقيمَ بين يديك ولا يَجتَمِع معه فارسانِ عليك، فوقع هذا في نفسِه وظَنَّه صَحيحًا، فلمَّا دخل نصير الدين إليه على عادَتِه وثَبَ عليه جماعةٌ مِن غِلمانِه فقَتَلوه وألقَوا رأسَه إلى أصحابِه؛ ظَنًّا منهم أنَّ أصحابَه إذا رأَوْا رأسَه تفَرَّقوا ويَملِكُ الملك فروخشاه البلادَ, وكان الأمرُ بخِلافِ ما ظَنُّوا؛ فإنَّ أصحابَه وأصحابَ أتابك زنكي الذين معه لَمَّا رأوا رأسَه قاتَلُوا مَن بالدَّارِ مع المَلِك، واجتمَعَ معهم الخَلقُ الكثيرُ، وكانت دولةُ أتابك مملوءةً بالرِّجالِ الأجلادِ ذَوي الرَّأي والتَّجربةِ، فلم يتغيَّرْ عليه بهذا الفَتقِ شَيءٌ, وكان في جُملةِ مَن حضر القاضي تاج الدين يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري أخو كمالِ الدِّين، فدخَلَ إلى المَلِك فروخشاه وخَدَعَه حتى أصعَدَه إلى القَلعةِ وهو يُحسِّنُ له الصُّعودَ إليها وحينئذٍ يستَقِرُّ له مِلكُ البَلدِ، فلمَّا صَعِدَ القلعةَ سَجَنوه بها وقُتِلَ الغِلمانُ الذين قَتَلوا النصير وأرسَلوا إلى أتابك يُعَرِّفونَه الحالَ، فسَكَنَ جأشُه واطمأنَّ قَلْبَه وأرسل زينُ الدين على بن بكتكين واليًا على قلعةِ المَوصِل، وكان كثيرَ الثقةِ به والاعتمادِ عليه، فسَلَكَ بالنَّاسِ غَيرَ الطَّريقِ التي سلَكَها النصير، وسَهَّلَ الأمرَ، فاطمأنَّ النَّاسَ وأَمِنوا وازدادت البلادُ معه عمارةً.
هو السُّلطانُ الملك الصالح عماد الدين، أبو الخيش إسماعيل بن الملك العادل محمد بن نجم الدين أيوب بن شاذي صاحب دمشق. تمَلَّك بصرى وبعلَبَّك، وتنقَّلَت به الأحوال، واستولى على دمشقَ أعوامًا، فحارَبَه ابنُ أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر، وجرت له أمورٌ طويلة، ما بين ارتفاعٍ وانخفاضٍ، وكان بطلًا شُجاعًا، مَهيبًا شديدَ البطشِ، مليحَ الشَّكلِ، كان في خدمةِ أخيه الأشرفِ، فلما مات الأشرفُ، توثَّبَ على دمشق، وتملَّكَها، فجاء أخوه المَلِكُ الكامِلُ، وحاصَرَه، وأخذ منه دمشقَ، وردَّه إلى بعلبك, وكان فيه جَورٌ, واستقضى على النَّاسِ الرفيع الجيلي، وتضَرَّرَت الرعيةُ بدمشق أثناء حصارِ الخوارزمية في عَهدِه حتى بِيعَ رِطلُ الخبز بستة دراهم، والجُبن واللحم بنسبة ذلك، وأكلوا الميتةَ، ووقع فيهم وباءٌ شديد. وفي (معجم القوصي) في ترجمة الأشراف: "فأخوه الصالح إسماعيل نصر الكافرينَ، وسَلَّم إليهم القلاعَ، واستولى على دمشقَ سَرِقةً، وحَنَث في يمينه، وقتَلَ مِن الملوك والأمراء من كان ينفَعُ في الجهاد، وصادَرَ على يد قضاتِه العِبادَ، وخَرَّب الأملاك، وطَوَّل ذيلَ الظُّلم، وقَصَّر ذيل العدل، وظَنَّ أن المُلك له مُستمِرٌّ، فسقَطَ الدهرُ لغفلتِه، وأراه بلايا", ثم ذهبت منه بعلبك وبُصرى، وتلاشى أمره، فمضى إلى حَلَب، وافدًا على ابنِ أخته، وصار من أمرائه، فلما ساروا ليأخذوا مصر، فغُلب الشاميون، وأُسِرَ جماعة، منهم الملك الصالحُ إسماعيل، في سنة ثمانٍ وأربعين، فسُجِنَ بالقاهرة، ومرُّوا به على تربة السلطان نجم الدين أيوب، فصاحت البحريةُ: يا خوند- سيد أو أمير- أين عينك تنظر إلى عدوِّك؟! وفي آخر ذي القعدة من سنة ثمان أخرجوا الصالحَ ليلًا، ومضوا به إلى الجبَل، فقتلوه، وعُفِيَ أثره. وكانت أمُّه رومية، وكان رئيسَ النَّفسِ نبيلَ القَدرِ، مطاعًا له حُرمة وافرة، وفيه شجاعة.
في سادس ذي الحجة توجَّه الأميرُ عَلَم الدين سنجر المسروري المعروف بالخياط متولي القاهرة، والأميرُ عز الدين الكوراني، إلى غزوِ بلاد النوبة، وجرَّدَ السلطانُ قلاوون معهما طائفةً مِن أجناد الولايات بالوجهِ القبلي والقراغلامية، وكتب إلى الأمير عز الدين أيدمر السيفي السلاح دار متولِّي قوص أن يسيرَ معهما بعُدَّته ومن عنده من المماليك السلطانية المركزين بالأعمال القوصيَّة، وأجناد مركز قوص، وعُربان الإقليم: وهم أولاد أبي بكر وأولاد عمر، وأولاد شيبان وأولاد الكنز وبني هلال، وغيرهم، فسار الخياط في البَرِّ الغربي بنصف العسكرِ، وسار أيدمر بالنصفِ الثاني من البر الشرقي، وهو الجانبُ الذي فيه مدينُة دنقلة، فلما وصل العسكرُ أطرافَ بلاد النوبة أخلى ملك النوبةِ سمامون البلادَ، وكان صاحِبَ مكرٍ ودهاء، وعنده بأس، وأرسل سمامون إلى نائبه بجزائر ميكائيل وعمل الدو واسمه جريس، ويُعرف صاحب هذه الولاية عند النوبة بصاحب الجبل، يأمره بإخلاء البلادِ التي تحت يده أمامَ الجيش الزاحف، فكانوا يرحلونَ والعسكَرُ وراءهم منزلةً بمنزلة، حتى وصلوا إلى مَلِك النوبة بدنقلة، فخرجَ سمامون وقاتلَ الأمير عز الدين أيدمر قتالًا شديدًا، فانهزم ملكُ النوبة وقُتِلَ كثيرٌ ممن معه، واستشهد عدَّةٌ من المسلمين، فتبع العسكَرُ مَلِكَ النوبةِ مَسيرةَ خَمسةَ عَشَر يومًا من رواءِ دنقلة إلى أن أدركوا جريس وأسروه، وأسَرُوا أيضًا ابنَ خالة الملك، وكان من عظمائِهم، فرتَّبَ الأميرُ عِزُّ الدين في مملكة النوبةِ ابنَ أختِ الملك، وجعل جريس نائبًا عنه، وجرَّد معهما عسكرًا، وقرَّرَ عليهما قطعةً يَحمِلانها في كلِّ سَنةٍ، ورجع بغنائم كثيرة ما بين رقيق وخيول وجمال وأبقار وأكسية.
اضطُرَّت دولةُ الرُّومِ أمام ضَرَباتِ الرشيدِ المتلاحقةِ إلى طلبِ الهُدنة والمصالحة، فعقدت "إيريني" مَلِكةُ الرُّومِ صلحًا مع الرشيد، مقابِلَ دفعِ الجزية السَّنوية له في سنة 181هـ، وظلَّت المعاهدة ساريةً حتى نقَضَها إمبراطورُ الروم، الذي خلَفَ إيريني، وكتب إلى هارون: "مِن نقفور ملكِ الرُّومِ إلى ملِك العَرَب، أمَّا بعدُ؛ فإنَّ المَلِكة إيريني التي كانت قبلي أقامَتْك مقامَ الرُّخِّ، فحَمَلَت إليك مِن أموالها، لكِنَّ ذاك ضَعفُ النِّساءِ وحُمقُهنَّ، فإذا قرأتَ كتابي فاردُدْ ما حصَلَ قِبَلَك من أموالِها، وافتَدِ نَفسَك، وإلَّا فالحربُ بيننا وبينك". فلمَّا قرأ الرشيدُ الرسالةَ ثارت ثائِرتُه، وغضِبَ غضَبًا شديدًا، وكتبَ على ظهرِ رسالة الامبراطور: "مِن هارونَ أميرِ المؤمنينَ إلى نقفور كَلبِ الرُّومِ، قد قرأتُ كتابَك يا ابنَ الكافرةِ، والجوابُ ما تراه دونَ أن تسمَعَه، والسَّلامُ". فشَخَص مِن يَومِه، وسار حتى أناخ ببابِ هرقلة، ففتح وغَنِمَ، واصطفى وأفاد، وخَرَّب وحَرَّق واصطَلَم، فطلبَ نقفورُ الموادعةَ على خراجٍ يؤدِّيه في كلِّ سَنةٍ، فأجابه إلى ذلك.
خلع الخليفةُ الناصر لدين الله على النائبِ في الوزارة: مؤيدِ الدينِ أبي عبدِ اللهِ محمَّدِ بنِ علي- المعروف بابن القصَّاب- خِلَعَ الوَزارةِ، وحَكَم في الولايةِ، وبرز في رمضانَ، وسار إلى بلاد خوزستان، وولي الأعمالَ بها، وصار له فيها أصحابٌ وأصدقاء ومعارف، وعَرَف البلادَ ومِن أيِّ وَجهٍ يُمكِنُ الدخول إليها والاستيلاءُ عليها، فلمَّا وَلِيَ ببغدادَ نيابةَ الوزارة أشار على الخليفةِ بأن يُرسِلَه في عسكر إليها ليملِكَها له، وكان عَزمُه أنَّه إذا ملك البلادَ واستقَرَّ فيها أقام مُظهِرًا للطاعة، مستقِلًّا بالحكم فيها، ليأمَنَ على نفسه، فاتَّفَق أنَّ صاحِبَها ابن شملة توفِّيَ، واختَلَف أولادُه بَعدَه، فراسل بعضُهم مؤيِّدَ الدين يستنجِدُه لِمَا بينهم من الصُّحبة القديمة، فقَوِيَ الطمعُ في البلاد، فجُهِّزَت العساكِرُ وسُيِّرَت معه إلى خوزستان، فوصلها سنةَ إحدى وتسعين وجرى بينه وبين أصحابِ البلاد مراسَلاتٌ ومحاربةٌ عَجَزوا عنها، ومَلَك مدينةَ تستر في المحرم، ومَلَك غيرها من البلاد، ومَلَك القلاع، وأنفذ بني شملةَ أصحابَ بلادِ خوزستان إلى بغداد، فوصلوا في ربيع الأول.
استهلَّت هذه السنةُ والخليفةُ بمصرَ الحاكمُ بأمر الله أبو العباس العباسي، وسلطانُ البلادِ المَلِكُ الأشرف صلاحُ الدين خليل بن المنصور قلاوون، ونائبُه بمصر وأعمالها بدر الدين بيدرا، ووزيرُه ابن السلعوس الصاحِبُ شمس الدين، ونائبه بالشام حسامُ الدين لاجين السلحداري المنصوري، وصاحِبُ اليمن الملِكُ المظفَّر شمس الدين يوسف بن المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول، وصاحِبُ مكة نجم الدين أبو نمي محمد بن إدريس بن علي بن قتادة الحسيني، وصاحبُ المدينة عز الدين جماز بن شيحة الحسيني، وصاحب الرومِ غياثُ الدين كيخسرو، وهو ابنُ ركن الدين قلج أرسلان السلجوقي، وصاحِبُ حماة تقي الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمد، وسلطانُ بلاد العراق وخراسان وتلك النواحي أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولو بن جنيكزخان. وجلال الدين فيروز الخلجي في الهند.
الحاكِمُ بأمر الله أبو العباس أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد الهاشمي العباسي، كان بويِعَ بالخلافة بعد وفاةِ والده بقوص في العشرين من شعبان سنة 741، فلم يُمضِ له السُّلطانُ المَلِكُ الناصر محمد بن قلاوون ما عَهِدَه أبوه؛ لِما كان في نفسِه من والده المستكفي بالله مِن مَيلِه للمَلِكِ المظَفَّر بيبرس الجاشنكير، وأراد أن يولِّيَ الخلافة لبعض أقارِبِه، بل أحضَرَه وخَلَع عليه، ثمَّ مات المَلِكُ الناصر بعد ذلك بمُدَّة يسيرة، فتَمَّت بموتِه خلافةُ الحاكِمِ هذا إلى أن مات في هذه السَّنةِ بسَبَبِ الطاعونِ، والمتولِّي يومئذ لأمور الدِّيار المصرية الأميرُ شيخون والأمير طاز والأمير صرغتمش ونائب السلطنة الأمير قبلاي، والسُّلطان الملك الصالح، وكان الحاكِمُ مات ولم يَعهَدْ بالخلافة لأحد، فجَمَع الأمراءُ القُضاةَ، وطُلِب جماعةٌ من بني العباس، حتى وقع الاختيارُ على أبي بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان فبايعوه ولقَّبوه بالمُعتَضِد بالله، فكانت مُدَّةُ خلافة الحاكم بأمر الله قرابة العَشرِ سنوات ونصف.
بعد أن اتَّفَقَ فَريقُ عَلِيِّ بن أبي طالبٍ وفَريقُ مُعاويةَ على التَّحْكيمِ بعدَ القِتالِ الذي دارَ في صِفِّينَ وعاد كلُّ فَريقٍ إلى مَكانِه الأوَّلِ، فسار علِيُّ بن أبي طالبٍ عائِدًا إلى الكوفَةِ، وفي الطَّريقِ انْحازَت جَماعةٌ ممَّن لم يكونوا راضِينَ عن التَّحكيمِ وكانوا يَرَوْن أنَّ التَّحْكيمَ فقط لِكتابِ الله لا للرِّجالِ، فانصرفوا إلى حَرُوراءَ وبدأوا يَبُثُّون هذه الفِكرةَ، خارِجِينَ عن عَلِيٍّ مُنابِذِينَ له، فأرسَل إليهم عَلِيٌّ الرُّسُلَ يُناقِشونَهُم لَعلَّهُم يَثُوبون للحَقِّ، وكان مِن أولئك الرُّسُلِ ابنُ عبَّاسٍ، وعاد على يَديهِ قُرابةَ الألفي رجلٍ، ثمَّ سار عَلِيٌّ بِنَفسِه إليهم وحاجَجَهُم فرَجَعوا إلى الكوفةِ، ولكنَّهم بَقَوْا يَقولون: لا حُكْمَ إلَّا لله. وعَلِيٌّ يقولُ: كَلِمَةُ حَقِّ أُرِيدَ بها باطلٌ. ثمَّ لمَّا أراد عَلِيٌّ الخُروجَ للشَّامِ بعدَ فَشَلِ التَّحْكيم، بدأ الخَوارجُ يَتَسلَّلون مِن جَيشِه إلى النَّهْرَوان، فبدأوا بالفَسادِ فقَتَلوا عبدَ الله بن خَبَّابِ بن الأَرَتِّ مع نِسْوَةٍ آخَرين، فأرسَل عَلِيٌّ إليهم رسولًا فقَتلوهُ، ممَّا اضْطَرَّ عَلِيًّا للعَودةِ إليهم ومُقاتَلتِهم، فطلَب منهم تَسْليمَ قَتَلَةِ عبدِ الله فأَبَوْا وتَمَرَّدوا وبدأوا القِتالَ، فحارَبهُم عَلِيٌّ فأبادَهُم في النَّهْرَوان إلَّا اليَسيرَ الذين بَقوا بعدَ ذلك في الكوفةِ والبَصرَةِ يَنشُرون أفكارَهُم وهُم مُتَسَتِّرون.
كان أَمرُ الدَّعوة العَبَّاسِيَّة قد اسْتَفحَل خِلالَ السَّنوات الماضِيَة وقَوِيَ أَمرُها جِدًّا في خُراسان وما حولها، حتَّى بَدأَت البُعوثُ تَسيرُ إلى العِراق فخَرَج مَرْوان بن محمَّد بِجَيشٍ إليهم مِن حَرَّان حتَّى بلَغ الزَّاب وحَفَر خَندقًا وكان في عِشرين ومائة ألف، وسار أبو عَوْن وهو القادِمُ إلى العِراق للدَّعوة العَبَّاسِيَّة إلى الزَّاب، فوَجَّه أبو سَلمَة إلى أبي عَوْن عُيينَة بن موسى، والمِنْهالِ بن فَتَّان، وإسحاق بن طَلحَة، كُلُّ واحدٍ في ثلاثةِ آلاف، فعَبَر عُيينَة بن موسى في خَمسةِ آلاف، فانْتَهى إلى عَسكرِ مَرْوان، فقاتَلَهم حتَّى أَمْسَوا، ورَجَع إلى عبدِ الله بن عَلِيٍّ وأَصبحَ مَرْوان فعَقَد الجِسرَ وعَبَر عليه، فنَهاهُ وُزراؤهُ عن ذلك، فلم يَقبَل وسَيَّرَ ابنَه عبدَ الله، فنَزَل أَسفلَ مِن عَسكرِ عبدِ الله بن عَلِيٍّ، فبَعَث عبدُ الله بن عَلِيٍّ المُخارِقَ في أَربعةِ آلاف نحو عبدِ الله بن مَرْوان، فسَرَّح إليه ابنُ مَرْوان الوَليدَ بن مُعاوِيَة بن مَرْوان بن الحَكَم، فالْتَقَيا، فانْهزَم أصحابُ المُخارِق وثَبت هو فأُسِرَ هو وجَماعَة وسَيَّرَهم إلى مَرْوان مع رُؤوسِ القَتلى، وأَرسَل مَرْوان إلى عبدِ الله يَسأَله المُوادَعَة فلم يَقبَل ثمَّ حَصَل قِتالٌ بينهم كانت فيه هَزيمةُ مَرْوان ومَن معه وَفَرَّ مَرْوان إلى حَرَّان.
اجتمع الفِرنجُ وساروا إلى بلدِ دِمشقَ مع ملكهم، فأغاروا على أعمالِها فنهبوها وأسَروا وقَتَلوا وسَبَوا، فأرسل صلاحُ الدين فرخشاه، ولد أخيه، في جمعٍ من العسكر إليهم، وأمره إذا قاربهم يرسِلُ إليه يخبره على جناحِ طائر ليسير إليه، وتقدَّمَ إليه أن يأمُرَ أهل البلاد بالانتزاحِ مِن بين يدي الفرنج، فسار فرخشاه في عسكره يطلُبُهم، فلم يشعُرْ إلا والفرنجُ قد خالطوه، فاضطرَّ إلى القتال، فاقتتلوا أشدَّ قتال رآه الناسُ، وألقى فرخشاه نفسَه عليهم، وغَشِيَ الحربَ ولم يكلها إلى سواه، فانهزم الفرنجُ ونُصر المسلمون عليهم، وقُتِلَ مِن مُقَدَّمي الفرنج جماعةٌ، منهم همفري، كان يُضرَبُ به المثل في الشجاعة والرأي في الحرب، وكان بلاءً صَبَّه الله على المسلمين، فأراح اللهُ المسلمين مِن شَرِّه، وقُتِلَ غيرُه من أضرابِه، ولم يبلُغْ عسكر فرخشاه ألف فارس، وكذلك أغار البرنسُ صاحب أنطاكية واللاذقية على جشير المسلمين- جشير أو دشير: هي الخيلُ والبقر التي تلازِمُ المرعى ولا ترجِعُ إلى الحظيرة بالليل- بشيزر وأخذه، وأغار صاحِبُ طرابلس على جمعٍ كثيرٍ مِن التركمان، فاحتجَفَ أموالهم- استخلصها وحازها- وكان صلاحُ الدين على بانياس، فسيَّرَ ولد أخيه تقي الدين عمر إلى حماة، وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه إلى مصر، وأمَرَهما بحفظ البلاد، وحياطة أطرافِها من العدُوِّ.
كثُرَ سُقوطُ الثَّلجِ بدِمشقَ حتى خرج عن العادةِ، وأنفقوا على إزالته من الأسطحِ ما ينيفُ على ثمانين ألف درهم؛ فإنَّه أقام يسقط أسبوعين، وفي هذه السنة تواتَرَ سُقوطُ البرد بأرض مصرَ، مع ريحٍ سوداء، وشَعَث عظيمٍ، وبَرقٍ ورَعدٍ سهول، ثم أعقب ذلك عامٌ شديد الحر، بحيث تطاير منها شَرَرٌ أحرق رؤوسَ الأشجار، وزريعة الباذنجان وبعض الكتَّان، حتى اشتد خوف الناس، وضجُّوا إلى الله تعالى، وجاء مطرٌ غزير، ثم بَرْدٌ فيه يبس لم يُعهَدْ مِثلُه، فكانت أراضي النواحي تُصبِحُ بيضاءَ من كثرة الجليد، وهَلَك من شدَّة البرد جماعةٌ من بلاد الصعيد وغيرها، وأمطرت السماءُ خمسةَ أيام متواليةً حتى ارتفع الماءُ في مزارعِ القصب قَدْرَ ذراعٍ، وعَمَّ ذلك أرض مصر قَبليَّها وبحريَّها، ففسدت بالريحِ والمطر مواضِعُ كثيرة، وقلَّت أسماكُ بحيرة نستراوة وبحيرة دمياط، والخلجان وبركة الفيل وغيرها؛ لِمَوتها من البرد، فتَلِفَت في هذه السنة بعامَّةِ أرض مصر وجميع بلاد الشام- بالأمطار والثلوج والبرد، وهبوب السمائم وشدة البرد- من الزُّروعِ والأشجار، والبائهم والأنعام والدور؛ ما لا يدخُلُ تحتَ حَصرٍ، مع ما ابتليَ به أهل الشام من تجريد عساكِرِها وتسخيرِ أهلِ الضياع وتسَلُّط العربان والعشير، وقِلَّة حُرمة السلطنة مصرًا وشامًا، وقطع الأرزاق وظُلم الرعيَّة.
افتُتِحت "قناة السويس" -التي تربط بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر- أمامَ الملاحة الدولية، وقد بدأت أعمالُ الحفر في هذه القناة في 24 من إبريل 1859م، وشارك فيها 60 ألف فلاحٍ مصري، وبلغ طول القناة 162.5 كم, وقد دعا الخديوي إسماعيل حاكِمُ مصر أباطرةَ وملوك العالم وقريناتِهم لحضور حفلِ افتتاح قناة السويس، والذى تم في 16 نوفمبر 1869، وقد كان حفلًا أسطوريًّا، روعِيَ فيه الاهتمام بنظافة المدينة، وتمَّ حَثُّ التجار على توريد الخضرواتِ واللحوم والأسماك كبيرة الحجم لبورسعيد لمواجهةِ الطلبات المتزايدة، كما رُوعِيَ إحضار الثلج من القاهرة، كذلك جُهِّزَ عددٌ من السفن لإحضار المدعوين من الإسكندرية لبورسعيد. وكان الخديوي قد طلب من مديري الأقاليمِ أن يُحضُروا عددًا من الأهالي بنسائهم وأطفالهم لحضورِ حَفلِ الافتتاح، فانتشروا على خط القناة من فلاحين ونوبيين وعُربان بملابسهم التقليدية ومما زاد الأمر أبَّهةً اصطفاف الجيشِ والأسطول المصري في ميناء بورسعيد بالإضافة لفيالقه على ضفاف القناة، وأقيمت 3 منصَّات خضراء مكسوَّة بالحرير، خصِّصَت الكبرى للملوك والأمراء، والثانية يمين للعُلَماء والمشايخ، والثالثة يسار خُصِّصَت لرجال الدين النصارى، وقد بلغ عددُ المدعوين من الوجهاء زُهاءَ ستة آلاف مدعو.
دخلت روسيا إلى أفغانستان بصورة عسكريَّةٍ احتلاليَّة في صفر 1400هـ / ديسمبر 1979م، وبدأ التعسُّف، والتدميرُ، والتشريدُ، وبرَزت منظَّمة تحرير شعب أفغانستانَ (ساما) بقيادة ماجد كلاكاني، وظهرت جبهة التحرير الوطنية برئاسة أحمد الجيلاني، ثم تشكَّلت جَبهة المقاوَمة الجديدة من ستِّ مجموعاتٍ، معَ وجود بعض الخلافات التي كانت بين مدٍّ وجزرٍ؛ وذلك لأنَّ المنظِّمات الشِّيعية متعدِّدةٌ، وتتركَّز في طِهْرانَ، وتأخذ مَنْحًى يختلِف عن المَنْحى الذي تَسيرُ عليه منظَّمات الجهاد، وتسير حسَبَ السياسة الإيرانية، بالإضافة إلى أن بعضَ هذه المنظَّمات وطنيَّةٌ أكثر منها إسلاميَّة، وقد كانت المنظَّمات الكُبرى الإسلامية - كالحزب الإسلامي، والاتحاد الإسلامي، والجمعية الإسلامية- هي صاحبةُ القوَّة والتأييد الشعبي، ومعَ ذلك، فإن الخلاف والانقسام بينها لا يكاد ينتهي، وذهب بسببه ضحايا، ومع ذلك فقد كان المجاهِدون يُكبِّدونَ الروسَ من الخسائر ما لم يتوقَّعوه أبدًا، ولم تستطِعْ روسيا أنْ تُحقِّق ما كانت تأمُله، وفشِلَت في تحقيق أهدافها، بل خسِرَت وفقَدَت أكثرَ من ثلاثة عشَرَ ألفَ جنديٍّ، وأضعافَهم من الجَرحى، بالإضافة إلى العَتاد، رغم استعمالهم للإبادة الكاملة للقُرى، واستخدامهم الأسلحةَ المحرمَّةَ دوليًّا من غازاتٍ سامَّةٍ، وقنابلَ مُحرقةٍ، وأسلحةٍ فتَّاكةٍ، وفي 29 رمضان 1408هـ / عام 1988م تمَّ توقيعُ اتِّفاقيَّة بَدء الانسحاب الروسي، وانتَهى في 10 رجب 1409هـ.
قامت القواتُ والميليشيات الصربيةُ والكُرواتيةُ بعمليات وَحشيةٍ ضدَّ مُسلِمي البوسنة والهرسك وكوسوفو، باسم التطهير العِرقي، حيث اجتاحَ الصربُ أراضيَ البوسنة ومدنَها؛ لتنفيذ خُطتهم، للاستيلاء على أراضي هذه الجمهورية، وطرد المسلِمينَ منها، حتى تكون خالصةً فقطْ للصربِ، ومن أجْل ذلك ارتكَبَ الصربيونَ صُنوفًا من أبشعِ الجرائمِ التي لم يشهَدْ لها تاريخُ أوروبا مثيلًا منَ القتلِ والظلم، والدمار، والاغتصاب، فقَتَلوا أكثَرَ من 300 ألفِ شخصٍ من مسلِمي البوسنة، وطَرَدوا وشرَّدوا أكثَرَ من ثلاثةِ ملايينِ مسلمٍ، هَرَبوا إلى دول مجاوِرةٍ في النمسا، والمجر، وكرواتيا، وسلوفينيا، وألمانيا، تاركينَ أراضيَهم وأموالَهم وأهاليَهم، كما هَدَموا بالمدافع والطائرات الكثيرَ من مدنِ المسلمين وقُراهم، مُستهدِفين إزالةَ كلِّ الآثار والمعالم التاريخية، التي تُثبِتُ الهُويَّةَ الإسلامية لهذه البلاد وأهلها عبرَ التاريخ، فهَدَموا المساجدَ، وحَرَقوا عددًا من المكتبات، منها مكتبةُ سيراييفو التي كانت تضمُّ مخطوطاتٍ تاريخيةٍ ترجِعُ إلى العهد العثماني، ومكتبة خسرو بك، والتي تحوي أكثر من 9000 مخطوطةٍ إسلاميةٍ، إضافةً إلى 3000 وثيقةٍ تركيةٍ، وأكثَرَ من 10.000 كتابٍ.
وفوقَ كلِّ ذلك مارست الحكومةُ الكرواتيةُ ضُغوطًا على مئاتِ الآلاف من اللاجِئين المسلِمين، لكي يُهاجِروا منها إلى بُلدانٍ إسلاميةٍ مثلِ باكستانَ وماليزيا، كما منَعَ الصِّربُ قوافلَ الإغاثة من دُخولها، ومن دخول كوسوفو.
اقتتل العسكرُ الأيوبي مع عسكرِ مِصرَ وانهزم عسكرُ الأيوبيِّينَ، ودمشق بيدِ الناصر صلاحِ الدين فعاد المَلِكُ الناصرُ إلى دمشق وقَدِمَت عساكر المصريين فحَكَموا بلاد السواحل حيث استولى الأميرُ فارس الدين أقطاي على الساحِلِ ونابلس إلى نهر الشريعة، فجهَّز لهم الملك الناصِرُ جَيشًا طردهم حتى رَدَّهم إلى الدِّيارِ المصرية، وقَصَرَهم إلى حَدِّ نهر الشريعة، وسَيَّرَ الملكُ الناصرُ عَسكرًا من دمشقَ إلى غزة ليكونَ بها، فأقاموا على تلِّ العجول، فخرَجَ المعزُّ عز الدين أيبك، ومعه الأشرفُ موسى والفارس أقطاي وسائر البحرية، ونزل بالصالحيَّة، فأقام العسكرُ المصري بأرض السانح قريبًا من العبَّاسة، والعسكر الشامي قريبًا من سنتينِ، وتردَّدَت بينهما الرسُلُ.