وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة اللاذقية فيها التجار والأجناد والحُجَّاج، وغير ذلك، واستعان بهم صنجيل الفرنجي على حصار طرابلس، فحصروها معه برًّا وبحرًا، وضايقوها وقاتلوها أيامًا، فلم يروا فيها مطمعًا، فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل، فحصروها، وقاتلوا عليها قتالًا شديدًا. فلما رأى أهلُها عجزهم عن الفرنج أخذوا أمانًا وسلموا البلد إليهم، فلم يفِ الفرنج لهم بالأمان، وأخذوا أموالهم، واستنقذوها بالعقوباتِ وأنواع العذاب، فلما فرغوا من جبيل وساروا إلى مدينة عكا استنجدهم الملك بغدوين، ملك الفرنج، صاحب بيت المقدس على حصارها، فنازلوها وحصروها في البر والبحر، وكان الوالي بها اسمه بنا -ويعرف بزهر الدولة الجيوشي- نسبة إلى ملك الجيوش الأفضل، فقاتلهم أشد قتال، فزحفوا إليه غير مرة، فعجز عن حفظ البلد، فخرج منه وملك الفرنجُ البلد بالسيف قهرًا، وفعلوا بأهلِه الأفعال الشنيعة، وسار الوالي بها إلى دمشق، فأقام بها، ثم عاد إلى مصر واعتذر إلى الأفضل فقَبِلَ عُذرَه.
كان الصالحُ إسماعيل بن لؤلؤ صاحبُ الموصل من الذين ساروا مع المستنصِر الخليفة الجديد إلى بغداد، فلما حصلَ من الحرب ما حصَلَ هَرَب ورجع إلى بلادِه، فأرسل هولاكو طائفةً مِن جنده نحو عشرة آلاف وقائدهم صندغون وراءه فحاصروا الموصِلَ ونَصَبوا عليها خمسةً وعشرين منجنيقًا، وضاقت بها الأقواتُ، فأرسل الملك الصالحُ إسماعيل بن لؤلؤ إلى التركي يستنجِدُه فقَدِمَ عليه فهُزِمَت التتار ثم ثَبَتوا والتَقَوا معه، وإنما كان معه سبعُمائة مقاتل فهزموه وجرحوه وعاد إلى البيرةِ وفارقه أكثَرُ أصحابه فدخلوا الديارَ المصريَّة، وأما التتارُ فإنهم عادوا إلى الموصِل ولم يزالوا حتى استنزلوا صاحِبَها الملك الصالح إليهم ونادَوا في البلد بالأمان حتى اطمأن النَّاسُ ثم مالوا عليهم فقتلوهم تسعةَ أيام وقادوا الملِكَ الصالح إسماعيل وولده علاء الدين معهم إلى هولاكو ولكنَّهم قتلوه في الطريق، وخَرَّبوا أسوار البلد وتركوها بلاقِعَ، ثم كروا راجعين قبَّحهم الله، فكانت هذه نهايةَ دولة الأتابكة، وكان هذا الملك الصالح إسماعيل آخرَ ملوك الأتابكة.
هو المَلِكُ المعَظَّم شرفُ الدين عيسى بن الملك العادل كان عاليَ الهمة حازمًا شجاعًا مهيبًا فاضلًا جامعًا شَملَ أرباب الفضائل محبًّا لهم، كانت مملكتُه متسعة من حدود بلد حمص إلى العريش يدخل في ذلك بلاد الساحل الإسلامية منها، وبلاد الغور وفلسطين والقدس والكرك والشوبك وصرخد وغير ذلك. توفي يوم الجمعة آخر ذي القعدة، وكان مرضُه دوسنطاريا، وكان ملكُه لمدينة دمشق، من حين وفاة والده الملك العادل، عشر سنين وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يومًا، وكان في الفقه على مذهب أبي حنيفة متعصبًا لمذهبه، فإنه كان قد اشتغل به كثيرًا، وصار من المتميزين فيه، ولم يكن في بني أيوب حنفيٌّ سواه، وتبعه أولاده، وكان يحب الأدبَ كثيرًا واشتغل بعلم النحو اشتغالًا زائدًا، وصار فيه فاضلًا، وكذلك اللغة وغيرها، وقيل إنه كان قد شرط لكلِّ من يحفظ "المفصَّل" للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة، ورأيت بعضَهم بدمشق، والناس يقولون: إن سبب حفظهم له كان هذا، وقيل إنَّه لما توفي كان قد انتهى بعضُهم إلى أواخره وبعضُهم في أثنائه، وهم على قدر أوقاتِ شروعهم فيه، ولم يُسمَعْ بمثل هذه المنقبة لغيره. وكان يقولُ كثيرًا: إن اعتقادي في الأصول ما سطره أبو جعفر الطحاوي، ووصى عند موته بأن يكَفَّن في البياض، ولا يجعل في أكفانه ثوبٌ فيه ذهب، وأن يُدفَن في لحد، ولا يبنى عليه بناءٌ، بل يكون قبره في الصحراء تحت السماء، ولما توفي ولي بعده ابنُه داود وتلقب بالملك الناصر، وكان عمرُه قد قارب عشرين سنة.
هو المَلِكُ أحمد فؤاد الأوَّل بن الخديوي إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي ملك مصر. مولده ووفاته بالقاهرة. تعلَّمَ بها، ثم في جنيف، ثم في المدرسة الحربية بتورينو إيطاليا، وتخرَّج ضابطًا في الجيش الإيطالي، وأُلحِقَ بالبلاط الملكي برومة، ورحل إلى الأستانة فعُيِّنَ ياورا فخريًّا للسلطان عبد الحميد، فمُلحَقًا حربيًّا للسفارة العثمانية بعاصمة النمسا، وعاد إلى مصر سنة 1892 فعُيِّن (ياورا) للخديوي عباس الثاني، واستمَرَّ ثلاثة أعوام. وكان يُنتَدَب في بعض المهمات إلى أن دُعِىَ لتولي سلطنة مصر سنة 1335ه / 1917م بعد وفاة أخيه السلطان حسين كامل، والحماية البريطانية مضروبةٌ على مصر. وفي أيامه قامت مصر بحركتها الوطنية سنة 1918م بقيادة سعد زغلول، فرُفِعَت الحماية سنة 1922، وفي عام 1919 حدثت المظاهرةُ النسائية ضِدَّ الاحتلال الإنجليزي والتي خُلِعَ فيها الحجابُ في ميدان الإسماعيلية!! ووُضِعَ دستور للبلاد وقانون لتوارث العرش، وقانون لأمراء الأسرة الحاكمة، وتحوَّل لَقَبُه من سلطان إلى ملك, وفي أيامه أُنشئ مجمع اللغة العربية بمصر. وكان يُحسِنُ التحدث باللغة العربية وبالتركية والفرنسية والإيطالية ويفهم الإنجليزية. توفِّيَ بالقاهرة في السابع من صفر، وكان ولي عهده فاروق الذي كان يتابِعُ دراسته في إنجلترا، فعاد إلى مصر وتشَكَّل مجلس وصاية برئاسة الأمير محمد علي، وعضوية عبد العزيز عزت ومحمد شريف صبري، إلى أن بلغ الملك سن الرشدِ في تموز / 1938م / 1357هـ.
هو محمَّدُ الخامس بن يوسف بن الحسن بن محمد بن عبد الرحمن الحسني العلويّ، أبو الحسن المنصور باللَّه: ملك المغرب، ورمزُ نهضته الحديثة. وُلِدَ بفاس سنة 1329هـ وتعَلَّم بها وبالرباط، وكان بفاس يوم بُويِعَ له بعد وفاة والده سنة 1346ه 1927م، فانتقل إلى الرباط عاصمة المغرب في عهد أبيه. وكان الاحتلالُ الفرنسي المعبَّرُ عنه بالحماية هو المرجِعَ الأعلى في سياسة البلاد وإدارتها، وليس للملك الذي كان يُدعى بالسلطان ولا للقصر الملكي الذي يُسمَّى المخزَن إلَّا المظهرُ الديني في مواسِمِ الأعياد الإسلامية، ووَضْع الطابع الشريف -أي: الخاتم- على الأحكام الشرعية، وشؤون الأوقاف، أُعلِنَ استقلال المغرب يوم 3 مارس 1956 وزار أسبانيا فاتَّفَق مع حكومتِها على أن تعترف باستقلال المغرب ووَحدةِ ترابه، وأدخل المغربَ في الأُمَم المتحدة. وربَطَ بلادَه بعلاقات سياسية واقتصادية مع أكثر دول العالم. وكان يدورُ في سياسته حول دول الغرب (أمريكا ومن معها) فمَدَّت إليه الدول الاشتراكية يَدَها، فتعاون معها متحفِّظًا بحُسنِ صِلاتِه بالأولى. وكان لمدينة طنجة نظامٌ دولي يَفصِلُها عن المغرب، فألغى ذلك النِّظامَ وأدخل بلادَه في جامعة الدول العربية، ولَمَّا مَرِضَ الملك محمد الخامس سافر إلى سويسرا للعلاج، وعَيَّن ابنَه الحسن وليًّا للعهد، ثم توفي في 11 رمضان 1380هـ، فتسَلَّم المُلْكَ بعده ابنُه الحسن الثاني بعد خمسة أيام من وفاته.
في مُنتَصَف المحَرَّم، بلغ المَلِكَ العادِلَ أنَّ الفرنج قد نازلوا حِصنَ تبنين، فسَيَّرَ إليه عسكرًا يحمونَه ويَمنَعون عنه، ورحلَ الفرنج من صور، ونازلوا تبنين أوَّلَ صفر وقاتلوا من به، وجدُّوا في القتال، ونَقَبوه من جهاتهم، فلمَّا عَلِمَ العادل بذلك أرسل إلى العزيز عثمان بن صلاح الدين بمصرَ يطلُبُ منه أن يَحضُرَ هو بنفسه، فسار العزيزُ مُجِدًّا فيمن بَقِيَ معه من العساكر، وأمَّا مَن بحصنِ تبنين فإنَّهم لَمَّا رأوا النقوبَ قد خَرَّبَت تل القلعة، ولم يبقَ إلَّا أن يَملِكوها بالسَّيفِ، نزل بعضُ من فيها إلى الفرنجِ يَطلُبُ الأمانَ على أنفُسِهم وأموالِهم لِيُسَلِّموا القلعة، وكان المرجِعُ إلى القسيس الخنصلير من أصحابِ مَلِك الألمان، فقال لهؤلاء المسلمينَ بَعضُ الفرنج الذين مِن ساحِلِ الشامِ: إنْ سَلَّمتُم الحِصنَ استأسَرَكم هذا وقتَلَكم؛ فاحفَظوا نُفوسَكم، فعادوا كأنَّهم يُراجِعونَ مَن في القلعةِ لِيُسَلِّموا، فلما صَعِدوا إليها أصرُّوا على الامتناع، وقاتلوا قتالَ من يحمي نفسَه، فحَمَوها إلى أن وصل المَلِكُ العزيز إلى عسقلان في ربيع الأول، فلما سمع الفرنجُ بوصوله واجتماعِ المُسلِمين، وأنَّ الفرنجَ ليس لهم مَلِكٌ يَجمَعُهم، وأنَّ أمْرَهم إلى امرأة، وهي المَلِكة؛ اتفقوا وأرسلوا إلى مَلِك قبرص واسمُه هيمري، فأحضروه فزَوَّجوه بالمَلِكة زوجة الكند هري، فلمَّا مَلَكَهم لم يَعُدْ إلى الزَّحفِ على الحِصنِ، ولا قاتَلَه، واتَّفَق وصول العزيز أوَّل شهر ربيع الآخر، ورحل هو والعساكِرُ إلى جبل الخليل الذي يُعرَفُ بجبل عاملة، فأقاموا أيامًا، والأمطارُ متداركة، فبَقِيَ إلى ثالث عشر الشهر، ثم سار وقارب الفرنجَ، وأرسل رماةَ النشاب، فرموهم ساعةً وعادوا، ورَتَّب العساكر ليزحَفَ إلى الفرنج ويجِدَّ في قتالهم، فرحلوا إلى صور خامس عشر ربيع الآخر ليلًا، ثم رَحَلوا إلى عكَّا، فسار المسلمون فنزلوا اللجون، وتراسلوا في الصُّلحِ، وتطاول الأمرُ، فعاد العزيز إلى مصر قبل انفصالِ الحال، وبقي العادلُ وترَدَّدَت الرسلُ بينه وبين الفرنج في الصُّلحِ، فاصطَلَحوا على أن تبقى بيروت بِيَدِ الفرنج، وكان الصُّلحُ في شعبان، فلما انتَظَم الصلح عاد العادِلُ إلى دمشق، وسار منها إلى ماردين من أرضِ الجزيرة.
لمَّا غلَب مَرْوانُ بن الحكمِ على الشَّام وما حَولَها عَهِدَ بالخِلافَة لابْنَيْهِ عبدِ المَلِك ثمَّ مِن بعدِه عبدِ العزيزِ، فاسْتلَم عبدُ الملك زِمامَ الأُمورِ التي كانت بِيَدِ والدِه ولكن لم تَتِمَّ له الأمورُ كُلُّها؛ لأنَّ بعضَ المناطقِ ما زالت تَدينُ بالخِلافَة لابنِ الزُّبير.
هو المَلِكُ المؤيَّد هزبر الدين داودُ بن الملك المظفَّر يوسف بن عمر بن رسول التركماني الأصل اليمني المولِد والمنشأ والوفاة صاحِبُ ممالك اليمن، تسلطنَ بعد أخيه في المحرَّم سنة 696 فملَك نيفًا وعشرينَ سنة، وكان قبل سلطنته تفَقَّه وحَفِظَ كفايةَ المتحَفِّظ، ومُقَدِّمة ابن بابشاذ، وبحث التنبيه وطالعَ وفضل وسمع الحديث، وجمعَ الكتب النفيسةَ في سَلطنَتِه، حتى قيل إن خزانةَ كُتُبِه اشتملت على مائة ألف مجلَّد، وكان مشكور السيرة محبًّا لأهل الخير وكانت وفاتُه في ذي الحجة، وتولى بعده ابنه الملك المجاهد علي، واضطربت ممالِكُ اليمن بعد موتِه، وتولَّى عِدَّةُ سلاطينَ.
عندما اندلعت الحرب العظمى انسحب الأتراك من عسيرٍ، أصبح الأمير حسن آل عائض حاكمًا لعسير، لكِنَّ قبائل قحطان وزهران نفرت منه بسبب استبداده، فأرسلوا إلى الملك عبدالعزيز يستعينون به عليه، فأرسل لهم علماء يعلِّمون الناس العلم وينشرون التوحيد، لكنَّ ابن عائض لم يحسِنْ استقبالهم واستمَرَّ في سياسته، فأرسل الملك عبدالعزيز حملةً بقيادة ابن عمه عبد العزيز بن مساعد بن جلوي أمير حائل ومعه قحطان وزهران، فهزموا ابن عائض وابن عمه محمد آل عائض في معركة حجلا؛ فأُسِرَا وأرسلا إلى الرياض، ثم أفرج عنهما وعادا إلى عسير كعمَّال للملك عبدالعزيز.
بعد أن استولى الملك عبدالعزيز على حائل واجه ثلاثَ قوًى محيطةٍ به ومعاديةٍ له في الشمال والغرب، ولم يتِمَّ ترسيمُ الحدود بين العراق وشرق الأردن وحائل ونجد، ولم تُحَلَّ الخلافات القبلية بين العراق ونجد، وفي عام 1921م تم تعيينُ يوسف بن سعدون قائدًا لقوات عراقية من الفرسان، وكان على عَداءٍ مع شيخ الظفير حمود بن سويط الذي هرب إلى الرياض، وطلب نجدةَ الملك عبدالعزيز، والتحقت بحمود مجموعةٌ من الإخوان من مطير برئاسة فيصل الدويش، وهاجموا معسكرَ يوسف وقتلوا غالبيةَ جنوده، فأرسلت بريطانيا طائراتٍ لنجدة العراقيين، وتم إقالةُ يوسف بن سعدون، فهرب يوسف إلى الرياض للعمَلِ تحت إمرة الملك عبدالعزيز.
دعا المَلِك عبد العزيز بن سعود مَلِكُ الحجاز وسلطان نجد وملحقاتهما إلى عقدِ مؤتمر إسلامي عالميٍّ في مكة بعد أداء فريضة الحج؛ للبحث في شؤون المسلمين، واقتراح سُبُل توحيد كلمتهم، والنَّظَر في مختلف المشكلات والقضايا الإسلامية، ولم تكُن الخلافةُ مدرجةً في جدول أعمالِه، ولَبَّت الدعوةَ أقطارٌ إسلامية كثيرة، وبدأ المؤتمَرُ جلساته، وألقى الملك كَلِمتَه التي تعهَّد فيها بأنه سيرعى الأماكِنَ المقدَّسة، وسوف يهيئ الظروفَ الأفضل للحجاج، كما أكَّد أنَّه سَيِّد الحجاز ونجد، ولن يسمَحَ بتدخُّل أي جهة في شؤون الحجاز، ووافق أغلبية المشاركين على ما نادى به، وأكدت بريطانيا اعترافها به مَلِكًا على الحجاز وسلطانًا على نجد وملحقاتها.
استعاد المَلِكُ عبد العزيز الرياضَ من آل رشيد سنة 1319هـ، ثمَّ ضم إليها الخرجَ والأفلاج وبلاد نجد وما حولها، ثم ضم عنيزة وبريدة في معركة روضة مهنا، والأحساء وبقية المنطقة الشرقية، وانتزع حائل من آل رشيد، وضم عسير وقضى على آل عايض، وضم الحجاز وقضى على حُكم الأشراف نهائيًّا، وضم تهامة عسير المقاطعة الإدريسية، ثم في 21 جمادى الأولى من هذا العام 1351هـ الموافق 22 أيلول / سبتمبر 1932م صدر مرسومٌ مَلكيٌّ وحَّدَ أجزاء المملكة جميعًا، فأصبحت مملكةً واحدةً باسم (المملكة العربية السعودية) وأصبح لقب عبد العزيز مَلِكَ المملكة العربية السعودية.
كان محمد المتوكل على الله بعد هزيمته من عمِّه عبد الملك قد اتصل بمَلِك البرتغال سبستيان، واتَّفق معه على أن يُعينَه على طرد عمِّه من حكم المغرب، وأن يتنازلَ له مقابل ذلك عن جميع شواطئ المغرب، فقَبِلَ سبستيان ذلك العرض المغربي، انتقل المتوكِّل إلى سبتة، وأقام بها أربعة شهور، ومنها اتَّجه إلى طنجة في انتظار سبستيان على رأس القوات العسكرية، وفي أثناء استعدادات الدول الأوروبية- وخاصة البرتغال- للوثوب على المغرب، وإخضاعه بالكامل، حيث استطاع سبستيان أن يحشد من النصارى عشرات الألوف من الإسبان والبرتغاليين والطليان والألمان، وجهَّز هذه الألوف بكافة الأسلحة الممكِنة في زمنه، وجهَّز ألف مركب لتحمِلَ هؤلاء الجنود نحو المغرب، وأقلُّ ما قيل في عددهم ثمانون ألف مقاتل! بينما كان المغاربة بقيادة السلطان أبي مروان عبد الملك السعدي وتَعداد جيشه أربعون ألف مجاهد يملكون تفوقًا في الخيل، ومدافِعُهم أربعة وثلاثون مِدفعًا فقط، وكانت معنوياتهم مرتفعةً جدًّا, وقد أرسل العثمانيون لهم مُدرَّبين وأسلحة متنوعة، مشفوعة بفيلق عسكري, فقامت معركة بين الطرفين صباح الاثنين 30 جمادى الآخرة من هذه السنة تسمى معركة وادي المخازن، أو ما يعرف بمعركة الملوك الثلاثة، والتي تُسمَّى في كتب التاريخ معركة القصر الكبير، استمرت ما يزيد على الأربع ساعات، كتب الله فيها النصر للإسلام والمسلمين، وقد قُتِلَ في المعركة مَلِكُ السعديين عبد الملك أبو مروان، والملك المخلوع ابن أخيه محمد الثاني المتوكل على الله، والملك سبستيان ملك البرتغال، وقد وصَفَ بعض مؤرخي البرتغال نتائجَ المعركة بقوله: كان مخبوءًا لنا في مستقبل الأعصار العصرُ الذي لو وصفتُه لقلتُ: هو العصرُ النحسُ البالِغُ النحوسةِ، الذي انتهت فيه مدَّةُ الصولة والظفر والنجاح، وانقَضَت فيه أيامُ العناية من البرتغال، وانطفأ مصباحُهم بين الأجناس، وزال رونقُهم، وذهبت النخوةُ والقوة منهم، وخلفها الفشلُ الذريع، وانقطع الرجاء واضمحلَّ إبَّان الغنى والربح، وذلك هو العصر الذي هلك فيه سبستيان في القصر الكبير في بلاد المغرب, وكان من أهم أسباب هذه المعارك رغبةُ البرتغاليين أن يمحو عن أنفسهم العار والخزي الذي لحقهم بسبب ضربات المغاربة الموفَّقة، والتي جعلتهم ينسحبون من آسفي وأزمور وآصيلا وغيرها في زمن يوحنا الثالث (1521-1557م)، كما أراد مَلِكُ البرتغال الجديد سبستيان بن يوحنا أن يخوض حربًا مقدَّسة ضِدَّ المسلمين حتى يعلوَ شأنه بين ملوك أوروبا، وزاد من غروره ما حقَّقه البرتغاليون من اكتشافات جغرافية جديدة أراد أن يستفيد منها من أجل تطويق العالم الإسلامي، يدفعُه في ذلك حِقدُه على الإسلام وأهلِه عمومًا، وعلى المغرب خصوصًا، فجمع بين الحقدِ الصليبي والعقليَّة الاستعمارية التي ترى أنَّ يدها مُطلقةٌ في كل أرض مسلمة تعجِزُ عن حماية نفسِها من أي خطر خارجي.
كان فيصل بن الحسين ثالثُ الأبناء قد نُصبَ ملكًا على سوريا الجزءِ الأكبر من بلاد الشام، لكِنَّه لم يلبث أن طُرِدَ في العاشر من ذي القعدة 1338هـ / 25 تموز 1920م عندما دخل الفرنسيون إلى سوريا، وكانت إنجلترا بعد أن نكَثَت كلَّ العهود التي أعطتها للشريف حسين ظنَّت أنَّ فيصلًا أنسب أبنائه لحُكمِ العراق التي كانت تحت سيطرتها، فكتب وزيرُ الخارجية الإنجليزي كرزون إلى نائب الحاكِمِ الملكي في العراق يسألُه عن هذا الرأي، فرد النائب باقتراح أحدِ هؤلاء: هادي العمري، نقيب أشراف بغداد، عبد الرحمن الكيلاني، أحد أبناء الحسين بن علي، أحد أفراد الأسرة الخديوية في مصر. مع ترشيحِه هو لهادي العمري، كان تفضيل بريطانيا لفيصل ابن الشريف حسين ليكونَ ملكًا على العراق لعدَّةِ أسباب: منها تهدئة خواطر العرب الذين أُصيبوا بخيبةِ أملٍ بعد عزم دول الحُلَفاء بفرضِ سياسة الانتداب على البلاد العربية التي كانت تحت حُكمِ الدولة العثمانية، ووعد بلفور الذي يهدِّدُ مستقبل فلسطين، وكذلك اطمئنان الإنجليز من شِدَّةِ ولاء الشريف حسين وأبنائه للإنجليز واستعدادهم لتنفيذ سياساتها في المنطقة بكلِّ إخلاص. لذلك دعت الحكومةُ البريطانية فيصلًا لزيارة لندن، وقابل الملك جورج الخامس الذي عَرَض عليه مُلكَ العراق، لكن فيصل أبدى اعتراضًا، وهو أن أخاه عبد الله رشَّحه الشاميون لمُلك العراق، فقام لورنس بالتفاوض مع عبد الله على أن يكون هو ملكًا على شرق الأردن، ويترك مُلْك العراق لأخيه فيصل، فوافق، ثم قام برسي كوكس ممثِّل الحكومة البريطانية في العراق بتشكيل حكومةٍ وطنية، فكُوِّنت بمساعدة عبد الرحمن الكيلاني، وكُوِّن مجلس شورى، ثم قَبْلَ تنصيبِ الملك فيصل على العراق ساومه ونستون تشرشل على أن يكونَ بينهما معاهدة -يعني بين العراق وإنجلترا- تقوم مقامَ الانتداب وتؤدِّي غرضَه، يعني: في تحقيق مصالح إنجلترا في العراق، ثم ليبدوَ الأمر ليس مفروضًا على العراق؛ لأن المرشَّحين لمنصب الملك على العراق كُثُر، ومع أنه اقترح غير النظام المَلَكي، لكنَّ إنجلترا رأت أنَّ النظام الملكي حاليًّا أنسب لوضع العراق، ثم أخذت بإشاعةِ الخبر والدعاية لفيصل في العراق، ثم صرحت الحكومةُ البريطانية بموافقتها على ترشيحه، وبعد أن انتهت التمهيداتُ سافر فيصل إلى العراق على متنِ الباخرة البريطانية نورث بروك في ميناء البصرة في السابع عشر من شوال 1339هـ / 23 حزيران 1921م فاستُقبِلَ استقبالًا حارًّا، ثم سافر إلى بغداد، وكلما مرَّ على قرية عُمِلت له الاحتفالات، ووصل إلى بغداد في 23 شوال 1339هـ / 29 حزيران 1921م وبايعه مجلس الوزراء في الخامس من ذي القعدة من العام نفسه / 5 تموز، وأعدت وزارة الداخلية صورةً لمضبطه يُعلِنُ فيها الأهالي تأييدَهم، وتُوِّجَ مَلِكًا على العراق في يوم 18 ذي الحجة 1339هـ / 23 آب 1921م.
لَمَّا شرَعَ الملك الكامل بالتجهز لأخذ حلب، خافه المجاهِدُ أسد الدين شيركوه الصغيرُ صاحب حمص، وبعث ابنَه المنصورَ إبراهيم فتقَرَّر الأمرُ على أن يحمِلَ المجاهِدُ كُلَّ سنة للملك الكامل ألفي ألف درهم، فعفا عنه، وكان منذ دخلَ الكامِلُ إلى قلعة دمشق قد مَرِضَ وتوفِّي فيها.