توفِّي الملك علاء الدولة أبو سعد مسعود بن أبي المظفر إبراهيم بن أبي سعد مسعود بن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، في شوال، وملك بعده ابنه أرسلانشاه، فقبض على إخوته وسجنهم، وهرب أخ له اسمه بهرام إلى خراسان، فوصل إلى السلطان سنجر بن ملكشاه، فأرسل إلى أرسلانشاه في معناه، فلم يسمع منه، ولا أصغى إلى قوله، فتجهز سنجر للمسير إلى غزنة، وإقامة بهرامشاه في الملك، فأرسل أرسلانشاه إلى السلطان محمد يشكو من أخيه سنجر، فأرسل السلطان إلى أخيه سنجر يأمره بمصالحة أرسلانشاه، وترك التعرُّض له، وقال للرسول: إن رأيت أخي وقد قصدهم وسار نحوهم، أو قارب أن يسير، فلا تمنَعْه، ولا تبلغه الرسالة، فإن ذلك يَفُتُّ في عضده ويوهِنُه، ولا يعود، ولأن يملك أخي الدنيا أحبُّ إليَّ. فوصل الرسول إلى سنجر، وقد جهز العساكِرَ إلى غزنة، وجعل على مقدمته الأمير أنر، متقدم عسكره، ومعه الملك بهرامشاه، فساروا حتى بلغوا بست، وسمع أرسلانشاه الخبر، فسيَّرَ جيشًا كثيفًا، فهزماه ونهباه، وتجهز السلطان سنجر بعد أنر للمسير بنفسه، فأرسل إليه أرسلانشاه أخت الملك سنجر من السلطان بركيارق؛ لتشفع له عند سنجر، لكنها هونت أمره على سنجر، وأطمعته في البلاد، وسهَّلت الأمر عليه، فسار الملك سنجر، فلما وصل إلى بست أرسل خادمًا من خواصه إلى أرسلانشاه في رسالة، فقبض عليه في بعض القلاع، فسار حينئذ سنجر مجدًّا، فلما سمع بقربه منه أطلق الرسول، ووصل سنجر إلى غزنة، ووقع بينهما المصاف على فرسخ من غزنة بصحراء شهراباذ، فكانت الهزيمة على الغزنوية، ودخل السلطان سنجر غزنة في العشرين من شوال سنة عشر وخمسمائة، ومعه بهرامشاه. وكان قد تقرَّر بين بهرامشاه وبين سنجر أن يجلس بهرام على سرير جده محمود بن سبكتكين وَحْدَه، وأن تكون الخطبة بغزنة للخليفة وللسلطان محمد، وللملك سنجر، وبعدهم لبهرامشاه. فلما دخلوا غزنة كان سنجر راكبًا، وبهرامشاه بين يديه راجلًا، حتى جاء السرير، فصعد بهرامشاه فجلس عليه، ورجع سنجر، وكان يُخطَب له بالمُلك، ولبهرامشاه بالسلطان، على عادة آبائه.
في مُنتَصَف المحَرَّم، بلغ المَلِكَ العادِلَ أنَّ الفرنج قد نازلوا حِصنَ تبنين، فسَيَّرَ إليه عسكرًا يحمونَه ويَمنَعون عنه، ورحلَ الفرنج من صور، ونازلوا تبنين أوَّلَ صفر وقاتلوا من به، وجدُّوا في القتال، ونَقَبوه من جهاتهم، فلمَّا عَلِمَ العادل بذلك أرسل إلى العزيز عثمان بن صلاح الدين بمصرَ يطلُبُ منه أن يَحضُرَ هو بنفسه، فسار العزيزُ مُجِدًّا فيمن بَقِيَ معه من العساكر، وأمَّا مَن بحصنِ تبنين فإنَّهم لَمَّا رأوا النقوبَ قد خَرَّبَت تل القلعة، ولم يبقَ إلَّا أن يَملِكوها بالسَّيفِ، نزل بعضُ من فيها إلى الفرنجِ يَطلُبُ الأمانَ على أنفُسِهم وأموالِهم لِيُسَلِّموا القلعة، وكان المرجِعُ إلى القسيس الخنصلير من أصحابِ مَلِك الألمان، فقال لهؤلاء المسلمينَ بَعضُ الفرنج الذين مِن ساحِلِ الشامِ: إنْ سَلَّمتُم الحِصنَ استأسَرَكم هذا وقتَلَكم؛ فاحفَظوا نُفوسَكم، فعادوا كأنَّهم يُراجِعونَ مَن في القلعةِ لِيُسَلِّموا، فلما صَعِدوا إليها أصرُّوا على الامتناع، وقاتلوا قتالَ من يحمي نفسَه، فحَمَوها إلى أن وصل المَلِكُ العزيز إلى عسقلان في ربيع الأول، فلما سمع الفرنجُ بوصوله واجتماعِ المُسلِمين، وأنَّ الفرنجَ ليس لهم مَلِكٌ يَجمَعُهم، وأنَّ أمْرَهم إلى امرأة، وهي المَلِكة؛ اتفقوا وأرسلوا إلى مَلِك قبرص واسمُه هيمري، فأحضروه فزَوَّجوه بالمَلِكة زوجة الكند هري، فلمَّا مَلَكَهم لم يَعُدْ إلى الزَّحفِ على الحِصنِ، ولا قاتَلَه، واتَّفَق وصول العزيز أوَّل شهر ربيع الآخر، ورحل هو والعساكِرُ إلى جبل الخليل الذي يُعرَفُ بجبل عاملة، فأقاموا أيامًا، والأمطارُ متداركة، فبَقِيَ إلى ثالث عشر الشهر، ثم سار وقارب الفرنجَ، وأرسل رماةَ النشاب، فرموهم ساعةً وعادوا، ورَتَّب العساكر ليزحَفَ إلى الفرنج ويجِدَّ في قتالهم، فرحلوا إلى صور خامس عشر ربيع الآخر ليلًا، ثم رَحَلوا إلى عكَّا، فسار المسلمون فنزلوا اللجون، وتراسلوا في الصُّلحِ، وتطاول الأمرُ، فعاد العزيز إلى مصر قبل انفصالِ الحال، وبقي العادلُ وترَدَّدَت الرسلُ بينه وبين الفرنج في الصُّلحِ، فاصطَلَحوا على أن تبقى بيروت بِيَدِ الفرنج، وكان الصُّلحُ في شعبان، فلما انتَظَم الصلح عاد العادِلُ إلى دمشق، وسار منها إلى ماردين من أرضِ الجزيرة.
هو الشيخُ، الإمامُ، المُحَدِّثُ، المُفِيدُ، الكَبيرُ، المُصَنِّفُ، أبو القاسمِ عبدُ الرحمن بن الحافظِ الكَبيرِ أبي عبدِ الله محمدِ بن إسحاقَ بن محمدِ بن يحيى بن إبراهيمَ بن أبي عبدِ الله بن مَنده العَبدِيُّ الأصبهانيُّ. وُلِدَ سَنةَ 381هـ. سَمِعَ أَباهُ وابنَ مَرْدَوَيْهِ وخَلْقًا في أقاليمَ شَتَّى، سافَر إليها وجَمعَ شَيئًا كَثيرًا، وكان ذا وَقارٍ وسَمْتٍ حَسَنٍ، واتِّباعٍ للسُّنَّةِ وفَهْمٍ جَيِّدٍ، كَثيرَ الأَمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكرِ، لا يَخافُ في الله لَوْمَةَ لائِمٍ، وكان صاحِبَ خُلُقٍ وفُتُوَّةٍ وسَخاءٍ وبَهاءٍ، وكانت الإجازةُ عنده قَوِيَّةً، وكان يقول: "ما حَدَّثتُ بحَديثٍ إلَّا على سَبيلِ الإجازَةِ كَيْلَا أُوبَق". وله تَصانيفُ كَثيرةٌ، ورُدودٌ على المُبتَدِعَةِ وكان سعدُ الزنجانيُّ يقول: حَفِظَ الله الإسلامَ بهِ، وبعبدِ الله الأنصاريِّ الهَرويِّ"، كان عبدُ الرحمن بن مَندَه يقول: "قد عَجِبتُ من حالي، فإنِّي قد وَجدتُ أَكثرَ من لَقيتُه إنْ صَدَّقتُه فيما يقوله مُداراةً له؛ سَمَّاني مُوافِقًا، وإنْ وَقفتُ في حَرفٍ مِن قَولِه أو في شيءٍ مِن فِعلِه؛ سَمَّاني مُخالِفًا، وإنْ ذَكرتُ في واحدٍ منهما أنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ بخِلافِ ذلك سَمَّاني خارِجِيًّا، وإنْ قُرئَ عليَّ حَديثٌ في التَّوحيدِ؛ سَمَّاني مُشَبِّهًا، وإنْ كان في الرُّؤْيَةِ؛ سَمَّاني سالِمِيًّا..., وأنا مُتَمسِّكٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، مُتَبَرِّئٌ إلى الله مِن الشَّبَهِ والمِثْلِ والنِّدِّ والضِّدِّ والأعضاءِ والجِسْمِ والآلاتِ، ومِن كلِّ ما يَنسُبهُ النَّاسِبون إليَّ، ويَدَّعِيه المُدَّعونَ عليَّ من أنْ أَقولَ في الله تعالى شَيئًا من ذلك، أو قُلتهُ، أو أَراهُ، أو أَتَوَهَّمهُ، أو أَصِفهُ به" قال يحيى بن مَندَه: "كان عَمِّي سَيْفًا على أَهلِ البِدَعِ، وهو أَكبرُ من أن يُثنِي عليه مِثلي، كان والله آمِرًا بالمعروفِ، ناهِيًا عن المُنكرِ، كَثيرَ الذِّكْرِ، قاهرًا لِنَفسِه، عَظيمَ الحِلْمِ، كَثيرَ العِلمِ"، تُوفِّي بأصبهان عن سبعٍ وثمانين سَنةً، وحَضرَ جَنازتُه خَلْقٌ كَثيرٌ لا يَعلمُهم إلَّا الله عزَّ وجلَّ.
في السابِعِ والعشرين من جمادى الأولى ورَدَ الخبَرُ إلى دمشق بأن الفرنجَ استحوذوا على مدينة صفد، قدموا إليها في سبعة مراكب وقتلوا طائفةً مِن أهلها ونهبوا شيئًا كثيرًا وأسَرُوا أيضًا، وهجموا على الناس وقت الفجرِ يوم الجمعة، وقد قَتَل منهم المسلمون خلقًا كثيرًا وكَسَروا مركبًا من مراكبهم، وجاء الفرنجُ في عشية السبت قبل العصر، وقَدِمَ الوالي وهو جريحٌ مُثقَلٌ، وأمر نائِبَ السلطنة عند ذلك بتجهيز الجيش إلى تلك الناحية، فساروا تلك الليلة ولله الحمد، وتقَدَّمهم حاجب الحجاب وتحدَّر إليه نائب صفد الأمير شهاب الدين بن صبح، فسبق الجيشُ الدمشقيُّ، ووجد الفرنجَ قد برزوا بما غَنِموا من الأمتعة والأسارى إلى جزيرةٍ تِلقاءَ صيدا في البحر، وقد أسر المسلمونَ منهم في المعركة شيخًا وشابًّا من أبناء أشرافهم، وهو الذي عاقهم عن الذَّهاب، فراسلهم الجيشُ في انفكاك الأُسارى من أيديهم، فبادرهم عن كلِّ رأس بخمسمائة فأخذوا من ديوان الأسارى مبلغ ثلاثين ألفًا، ولم يبقَ معهم- ولله الحمد- أحَدٌ، واستمر الصبيُّ من الفرنج مع المسلمين، وأسلم ودفَعَ إليهم شيخ الجريح، وعطش الفرنج عطشًا شديدًا، وأرادوا أن يرووا من نهر هناك فبادرهم الجيش إليه، فمنعوهم أن ينالوا منه قطرة واحدةً، فرحلوا ليلة الثلاثاء منشمرينَ بما معهم من الغنائم، وبُعِثَت رؤوس جماعة من الفرنج ممَّن قتِلَ في المعركة فنُصِبَت على القلعة بدمشق، وجاء الخبَرُ في هذا الوقت بأن إيناس قد أحاط بها الفرنج، وقد أخذوا الربيضَ وهم محاصِرونَ القلعة، وفيها نائب البلد، وذكروا أنهم قتلوا خلقًا كثيرًا من أهلها وذهب صاحِبُ حلب في جيشٍ كثيف نحوَهم، وفي يوم السبت رابع جمادى الآخرة قَدمَ رؤوس من قتلى الفرنج على صيدا، وهي بضعٌ وثلاثون رأسًا، فنُصِبَت على شرافات القلعة، ففرح المسلمون بذلك، ولله الحمد.
كان لكلِّ رواقٍ في الأزهر مكتبةٌ خاصةٌ به، وكان بعضُ أهل الخير يَقِفون الكتُبَ فيها، ولكنها لم تكُنْ خاضِعةً لأيِّ نظامٍ، وكانت معظمُ الكتب في النحو، فاقترح الشيخُ محمد عبده عضوُ مجلس إدارة الأزهر في حينِها من ضِمنِ إصلاحاتِه أن يكون للأزهرِ مَكتبةٌ خاصَّةٌ متكامِلةٌ منظَّمةٌ، تجمَعُ شَتاتَ الكُتُبِ المتفَرِّقة في الأروقة التي ذهب كثيرٌ منها إلى أوربا عن طريقِ سماسرة الكتُبِ ومَن لا أمانة له من الذين كانوا يبيعون المخطوطاتِ، بل إنَّ بعض المكتبات التابعة للأزهر كانت في الحارات وبعضُها في الحوانيت، فتقَدَّم بفكرة المكتبة إلى مجلسِ إدارة الأزهرِ، فنالت القبولَ من أعضائه واختير المكانُ المناسب، وكُتِبَ لديوان الأوقاف الذي يتولى الإشرافَ على شؤون الأزهرِ، ثم نُفِّذَت الفكرةُ فعلًا في شعبان مِن هذا العام ولاقت في البدايةِ صُعوبةً في إقناع أهل الأروقةِ بفائدةِ المكتبة العامَّةِ وضَمِّ مكتباتِهم إليها، كما وُجِدَت صعوبات في ترميمِ الكتب، ولم يُكتَفَ بما جُمِعَ من الأروقة بل دُعِيَ العلماءُ والعظماء للمشاركة في تكوين المكتبة، فوَهَب بعضُ المشايخ مكتباتِهم الخاصةَ لها، مثل الشيخ حسونة النواوي رئيس مجلس إدارة الأزهر، وورثة سليمان باشا أباظة بمكتبةِ والِدِهم، وهي من أنفَسِ المكتبات الخاصة، وتشغَلُ المكتبة الأزهرية الآن ثلاثةَ أمكِنَة؛ اثنان منها داخِلَ الأزهر، وهما المدرسة الأقبغاوية، والمدرسة الطيبرسية، والثالث خارج الأزهر ملاصِق له وهو الطابِقُ الثاني من بناء أنشأته مشيخةُ الجامع الأزهر سنة 1936م كمُلحَق للإدارة العامة المجاورة للأزهرِ، وعدد الكتب التي بدأت بها المكتبة سنة 1897م هو 7703 كتابًا في سبعة وعشرين فنًّا، وبلغت سنة 1943م ثمانية وخمسين فنًّا وعدد الكتب 90075 مجلدًا، وفيها أكثر من اثنتي عشرة مكتبة خاصة، وتختَصُّ المكتبة بكثرة المخطوطات التي بلغت سنة 1943م 24000 مجلدٍ مخطوطٍ.
وقفت الدولةُ العثمانية في الحرب إلى جانب دول المحور، بينما أعلن الشريف حسين الثورةَ على الدولة العثمانية ووقف إلى جانب دول الحلفاء، وتمكنت قواتُ الشريف حسين مدعومةً من قوات الحلفاء -وخاصة بريطانيا- من السيطرة على معظم بلاد الحجاز عدا المدينة، فحوصرت حصارًا يعدُّ واحدًا من أطول الحصارات في التاريخ؛ حيث استمَرَّ الحصار لمدة سنتين وسبعة أشهر حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكان والي المدينة هو فخري باشا أحد قادة الاتحاديين نائب جمال باشا قائد الفيلق الرابع في الشام، كان يتبَعُ فخري باشا جيشٌ مجهَّز بالأسلحة الخفيفة والمدفعيَّة التقليدية، وأثناء حصار المدينة هجر معظم أهالي المدينة المنورة، فلحق بعضُهم بالبدو حول المدينة، أو بمدن حجازية كمكة وجدة وينبع، ومنهم من ارتحل إلى حائل، بينما لحِقَ بمصر والشام والعراق وتركيا والهند واليمن، ولعب قطار الحجاز دورًا كبيرًا في نقل المدنيين إلى بلدان آمنة، وبعد هزيمة الدولة العثمانية واستسلامها للحلفاء صدرت الأوامِرُ لفخري باشا من استانبول بتسليمِ المدينة فرفض الاستسلامَ، واستمَرَّ في المقاومة نحو خمسة أشهر إلا أنه اضطر بعدها للاستسلام بعد أن سلم قيادةَ المدينة إلى قائد الفوج العثماني في المدينة، والذي استسلم بدوره لقوات الثوار العرب، ثم خرج فخري باشا بقواته البالغ عددهم 8000 جندي إلى معسكر القوات المحاصرة خارج المدينة في بير درويش بالفريش، وسلَّم نفسه لهم فاستقبله الشريف عبد الله بن الحسين فأكرمه، ثم أرسله إلى مصر حيث اعتُقِلَ فيها، وبعد استسلام الحامية العثمانية في المدينة لقوات الأشراف عاد بعضُ من تم تهجيرُهم من أهل المدينة إلى المدينة، في حين أن بعضَهم فُقد أو مات في دار هجرتِه، أو فضَّل البقاء هناك، أو عجز عن العودة إلى المدينة، وفقد كثيرٌ من الأهالي أموالهم وبيوتهم.
لمَّا غلَب مَرْوانُ بن الحكمِ على الشَّام وما حَولَها عَهِدَ بالخِلافَة لابْنَيْهِ عبدِ المَلِك ثمَّ مِن بعدِه عبدِ العزيزِ، فاسْتلَم عبدُ الملك زِمامَ الأُمورِ التي كانت بِيَدِ والدِه ولكن لم تَتِمَّ له الأمورُ كُلُّها؛ لأنَّ بعضَ المناطقِ ما زالت تَدينُ بالخِلافَة لابنِ الزُّبير.
سار السُّلطانُ ألب أرسلان من الرَّيِّ إلى أذربيجان، فوَصلَ إلى مرند عازِمًا على قِتالِ الرُّومِ وغَزْوِهِم، فلمَّا فَرَغَ مِن جَمعِ العساكرِ والسُّفُنِ سار إلى بلادِ الكرج، وجَعلَ مَكانَه في عَسكرِه وَلَدَهُ ملكشاه، ونِظامَ المُلْكِ وَزيرَه، فسار ملكشاه ونِظامُ المُلْكِ إلى قَلعةٍ فيها جَمعٌ كَثيرٌ مِن الرُّومِ، فنَزلَ أَهلُها منها، وتَخَطَّفُوا من العَسكرِ، وقَتَلوا منهم فِئَةً كَثيرةً، فنَزلَ نِظامُ المُلْكِ وملكشاه، وقاتَلوا مَن بالقَلعةِ، وزَحَفوا إليهم، فقُتِلَ أَميرُ القَلعةِ ومَلَكَها المُسلِمون، وساروا منها إلى قَلعةِ سرماري، وهي قَلعةٌ فيها من المِياهِ الجاريةِ والبَساتين، فَقاتَلوها ومَلَكوها، وأَنزَلوا منها أَهلَها، وكان بالقُربِ منها قَلعةٌ أُخرى، ففَتَحَها ملكشاه، وأَرادَ تَخريبَها، فنَهاهُ نِظامُ المُلْكِ عن ذلك، وقال: هي ثَغْرٌ للمُسلِمين، وشَحَنَها بالرِّجالِ والذَّخائِر والأَموالِ والسِّلاحِ، وسَلَّمَ هذه القِلاعَ إلى أَميرِ نقجوان، وسار ملكشاه ونِظامُ المُلْكِ إلى مَدينةِ مريم نشين، وهي مَدينةٌ حَصينَةٌ، سُورُها مِن الأَحجارِ الكِبارِ الصَّلْبَةِ، المَشدُودةِ بالرَّصاصِ والحَديدِ، وعندَها نَهْرٌ كَبيرٌ، فأَعَدَّ نِظامُ المُلْكِ لِقِتالِها ما يَحتاجُ إليه من السُّفُنِ وغَيرِها، وقاتَلَها، فضَجِرَ الكُفَّارُ، وأَخذَهم الإعياءُ والكَلالُ، فوَصلَ المسلمون إلى سُورِها، ونَصَبوا عليه السَّلاليمَ، وصَعَدوا إلى أَعلاهُ، فلمَّا رأى أَهلُها المسلمين على السُّورِ فَتَّ ذلك في أَعضادِهِم، وسُقِطَ في أيديهِم، ودَخلَ ملكشاه البلدَ، ونِظامُ المُلْكِ، وأَحرَقوا البِيَعَ، وخَرَّبوها، وقَتَلوا كَثيرًا من أَهلِها، وأَسلمَ كَثيرٌ فنَجَوْا من القَتلِ، واستَدعَى ألب أرسلان إليه ابنَه، ونِظامَ المُلْكِ، وفَرِحَ بما يَسَّرَهُ الله من الفَتحِ على يَدِ وَلَدِه. وفَتَحَ ملكشاه في طَريقِه عِدَّةً من القِلاعِ والحُصونِ، وأَسَرَ من النَّصارَى ما لا يُحصَونَ كَثْرَةً. وساروا إلى سبيذ شهر، فجَرَى بين أَهلِها وبين المسلمين حُروبٌ شَديدةٌ استُشهِدَ فيها كَثيرٌ من المسلمين، ثم إنَّ الله تعالى يَسَّرَ فَتْحَها فمَلَكَها ألب أرسلان، وسار منها إلى مَدينةِ أعآل لآل، وهي حَصينةٌ، عاليةُ الأَسوارِ، شاهِقةُ البُنيانِ، وهي من جِهَةِ الشَّرقِ والغَربِ على جَبلٍ عالٍ، وعلى الجَبلِ عِدَّةٌ من الحُصونِ، ومن الجانِبينِ الآخرينِ نَهْرٌ كَبيرٌ لا يُخاض، فلمَّا رآها المسلمون عَلِموا عَجزَهم عن فَتْحِها والاستيلاءِ عليها، وكان مَلِكُها من الكرج، وعَقَدَ السُّلطانُ جِسْرًا على النَّهْرِ عَريضًا، واشتَدَّ القِتالُ، وعَظُمَ الخَطْبُ، فخَرَجَ من المدينةِ رَجُلانِ يَستَغيثانِ، ويَطلُبانِ الأَمانَ، والتَمَسا من السُّلطانِ أن يُرسِلَ معهما طائفةٌ من العَسكرِ، فسَيَّرَ جَمْعًا صالحًا، فلمَّا جاوَزُوا الفَصِيلَ أَحاطَ بهم الكرجُ من أَهلِ المدينةِ وقاتَلوهُم فأَكثَروا القَتْلَ فيهم، ولم يَتمَكَّن المسلمون من الهَزيمَةِ لِضِيقِ المَسْلَكِ، وخَرجَ الكَرجُ من البَلدِ وقَصَدوا العَسكرَ، واشتَدَّ القِتالُ، وكَبَّرَ المسلمون عليهم، فوَلَّوْا مُنهَزِمينَ، فدخلوا البلدَ والمسلمون معهم، ودَخلَها السُّلطانُ ومَلَكَها، واعتَصمَ جَماعةٌ من أَهلِها في بُرْجٍ من أَبراجِ المدينةِ، فقاتَلهُم المسلمون، فأَمَرَ السُّلطانُ بإلقاءِ الحَطَبِ حَولَ البُرجِ وإحراقِه، ففعل ذلك، وأَحرَق البُرجَ ومَن فيه، وعاد السُّلطانُ إلى خِيامِه، وغَنِمَ المسلمون من المدينةِ ما لا يُحَدُّ ولا يُحصَى، ولمَّا جَنَّ اللَّيلُ عَصَفَت رِيحٌ شَديدةٌ، وكان قد بَقِيَ من تلك النَّارِ التي أَحرَق بها البُرجَ بَقِيَّةٌ كَثيرةٌ، فأَطارَتها الرِّيحُ، فاحتَرقَت المَدينةُ بأَسْرِها، وذلك في رجب، ومَلَكَ السُّلطانُ قَلعةً حَصينةً كانت إلى جانبِ تلك المدينةِ، وأَخذَها، وسار منها إلى ناحيةِ قرس، ومدينة آني وبالقُربِ منها ناحيتان يُقال لهما: سيل ورده، ونورة، فخَرجَ أَهلُهما مُذعِنينَ بالإسلامِ، وخَرَّبوا البِيَعَ، وبَنوا المساجِدَ، وسار منها إلى مَدينةِ آني فوَصلَ إليها فرآها مَدينةً حَصينةً، شَديدةَ الامتِناعِ، لا تُرام، ثلاثةُ أَرباعِها على نَهرِ أرس، والرُّبعُ الآخرُ نَهْرٌ عَميقٌ شَديدُ الجَرْيَةِ، لو طُرِحَت فيه الحِجارةُ الكِبارُ لدَحاها وحَملَها، والطَّريقُ إليها على خَندقٍ عليه سُورٌ من الحِجارةِ الصُّمِّ، فحَصَرَها وضَيَّقَ عليها، إلا أنَّ المسلمين قد أَيِسُوا من فَتْحِها لِمَا رَأَوا من حَصانَتِها، فعَمِلَ السُّلطانُ بُرْجًا من خَشَبٍ، وشَحَنَهُ بالمُقاتِلَةِ، ورَماهُ بالنُّشَّابِ، ونَصَبَ عليه المِنْجَنيقَ، فكَشَفوا الرُّومَ عن السُّورِ، وتَقدَّم المسلمون إليه لِيَنقُبوهُ، فأَتاهُم مِن لُطْفِ الله ما لم يكُن في حِسابِهم، فانهَدَمت قِطعةٌ كَبيرةٌ من السُّورِ بغيرِ سَبَبٍ، فدَخَلوا المدينةَ وقَتَلوا من أَهلِها ما لا يُحصَى بحيث إنَّ كَثيرًا من المسلمين عَجَزوا عن دُخولِ البلدِ من كَثرةِ القَتلى، وأَسَروا نَحوًا مما قَتَلوا، وسارت البُشرَى بهذه الفُتوحِ في البلادِ، فسُرَّ المسلمون، وقُرِئ كِتابُ الفَتْحِ ببغداد في دارِ الخِلافةِ، ورَتَّبَ فيها السُّلطانُ أَميرًا في عَسكرٍ جَرَّارٍ، وعاد عنها، وقد راسَلهُ مَلِكُ الكرجِ في الهُدْنَةِ، فصالَحَهُ على أَداءِ الجِزْيَةِ كلَّ سَنَةٍ، فقَبِلَ ذلك.
عندما اندلعت الحرب العظمى انسحب الأتراك من عسيرٍ، أصبح الأمير حسن آل عائض حاكمًا لعسير، لكِنَّ قبائل قحطان وزهران نفرت منه بسبب استبداده، فأرسلوا إلى الملك عبدالعزيز يستعينون به عليه، فأرسل لهم علماء يعلِّمون الناس العلم وينشرون التوحيد، لكنَّ ابن عائض لم يحسِنْ استقبالهم واستمَرَّ في سياسته، فأرسل الملك عبدالعزيز حملةً بقيادة ابن عمه عبد العزيز بن مساعد بن جلوي أمير حائل ومعه قحطان وزهران، فهزموا ابن عائض وابن عمه محمد آل عائض في معركة حجلا؛ فأُسِرَا وأرسلا إلى الرياض، ثم أفرج عنهما وعادا إلى عسير كعمَّال للملك عبدالعزيز.
بعد أن استولى الملك عبدالعزيز على حائل واجه ثلاثَ قوًى محيطةٍ به ومعاديةٍ له في الشمال والغرب، ولم يتِمَّ ترسيمُ الحدود بين العراق وشرق الأردن وحائل ونجد، ولم تُحَلَّ الخلافات القبلية بين العراق ونجد، وفي عام 1921م تم تعيينُ يوسف بن سعدون قائدًا لقوات عراقية من الفرسان، وكان على عَداءٍ مع شيخ الظفير حمود بن سويط الذي هرب إلى الرياض، وطلب نجدةَ الملك عبدالعزيز، والتحقت بحمود مجموعةٌ من الإخوان من مطير برئاسة فيصل الدويش، وهاجموا معسكرَ يوسف وقتلوا غالبيةَ جنوده، فأرسلت بريطانيا طائراتٍ لنجدة العراقيين، وتم إقالةُ يوسف بن سعدون، فهرب يوسف إلى الرياض للعمَلِ تحت إمرة الملك عبدالعزيز.
دعا المَلِك عبد العزيز بن سعود مَلِكُ الحجاز وسلطان نجد وملحقاتهما إلى عقدِ مؤتمر إسلامي عالميٍّ في مكة بعد أداء فريضة الحج؛ للبحث في شؤون المسلمين، واقتراح سُبُل توحيد كلمتهم، والنَّظَر في مختلف المشكلات والقضايا الإسلامية، ولم تكُن الخلافةُ مدرجةً في جدول أعمالِه، ولَبَّت الدعوةَ أقطارٌ إسلامية كثيرة، وبدأ المؤتمَرُ جلساته، وألقى الملك كَلِمتَه التي تعهَّد فيها بأنه سيرعى الأماكِنَ المقدَّسة، وسوف يهيئ الظروفَ الأفضل للحجاج، كما أكَّد أنَّه سَيِّد الحجاز ونجد، ولن يسمَحَ بتدخُّل أي جهة في شؤون الحجاز، ووافق أغلبية المشاركين على ما نادى به، وأكدت بريطانيا اعترافها به مَلِكًا على الحجاز وسلطانًا على نجد وملحقاتها.
استعاد المَلِكُ عبد العزيز الرياضَ من آل رشيد سنة 1319هـ، ثمَّ ضم إليها الخرجَ والأفلاج وبلاد نجد وما حولها، ثم ضم عنيزة وبريدة في معركة روضة مهنا، والأحساء وبقية المنطقة الشرقية، وانتزع حائل من آل رشيد، وضم عسير وقضى على آل عايض، وضم الحجاز وقضى على حُكم الأشراف نهائيًّا، وضم تهامة عسير المقاطعة الإدريسية، ثم في 21 جمادى الأولى من هذا العام 1351هـ الموافق 22 أيلول / سبتمبر 1932م صدر مرسومٌ مَلكيٌّ وحَّدَ أجزاء المملكة جميعًا، فأصبحت مملكةً واحدةً باسم (المملكة العربية السعودية) وأصبح لقب عبد العزيز مَلِكَ المملكة العربية السعودية.
أول من بدأ بالعصيان على السلطان هو تغري برمش الذي استطاع أن يستحوذ على حلب وأعلن عصيانه، فقام السلطان بإنابة غيره على حلب، وبعث بعض الأمراء لتولية الأمراء النواب الجدد، وكانت الأخبار تَرِدُ أن نائب دمشق الأمير إينال الجكمي أيضًا يريد الخروج عن الطاعة، لكن أمره لم يتحقق إلى أن كان يوم الاثنين تاسع رمضان، كان جميع أمراء دمشق وسائر المباشرين بين يدي الأمير إينال، وقد اطمأنَّ كل أحد بأن ملك الأمراء مستمِرٌّ على الطاعة، فما هو إلا أن استقر في مجلسه أشار بالقبض على أعيان أمراء دمشق، فأغلق الباب وقبض على جميع الأمراء والمباشرين، فلما سمع السلطان هذا الخبر اضطرب وتشوش غاية التشويش، وجمع الأمراء واستشارهم في أمر إينال وتغري برمش، فأشار الجميع بسفره، وانفضَّ الموكبُ على أن السلطان يسافر لقتالهما، ثم في يوم الأربعاء ورد الخبر على السلطان أن الأمير قطج أتابك حلب وصل أيضًا إلى حماة، وأن تغري برمش أخذ مدينة عينتاب وقلعتها، وأن عدة من قَبَض عليه الأمير إينال الجكمي من أمراء دمشق تسعة عشر أميرًا، ثم ورد على السلطان كتابُ الأمير فارس نائب قلعة دمشق بأن الأمير إينال الجكمي أمر فنُوديَ بدمشق بالأمان والاطمئنان والدعاء للسلطان الملك العزيز يوسف، ثم في يوم الأربعاء الخامس والعشرين عيَّن السلطان للسفر من أمراء الألوف اثنين، ومن أمراء العشرات عشرة، ثم ورد الخبر على السلطان من الأمير طوغان العثماني نائب القدس بأن إينال الجكمي أطلق الأمراء الذين قبض عليهم قبل تاريخه، وحَلَّفهم للملك العزيز يوسف، ولكن نفرت القلوب بذلك عن إينال الجكمي، وأول من نفر عنه تغري برمش نائب حلب، وقال في نفسه عن إينال: هذا في الحقيقة ليس بخارج عن الطاعة، وإنما قصد بالإشاعة عنه أنه عاصٍ حتى أقدم عليه ويقبض عليَّ تقربًا لخاطر السلطان جقمق، ومن يومئذ أخذ أمر إينال الجكمي في الاضمحلال قليلًا، واستخَفَّ كُلُّ أحد عَقْلَه وتعجَّب من سوء تدبيره، وكاد أخوه سودون العجمي أن يموت قهرًا لَمَّا بلغه عن أخيه إينال ذلك، وهو يوم ذاك من جملة أمراء العشرات بالديار المصرية، ثم ورد الخبر بانكسار تغري برمش وهروبه من حلب إلى الرملة، ثم ورد الخبر على السلطان بأن إينال الجكمي برز بمخيَّمِه من مدينة دمشق إلى ظاهرها، فلما كان يوم الخميس ثالث شوال، عزم هو على الخروج من المدينة بنفسه إلى مخيمه؛ ليسير بمن معه إلى نحو الديار المصرية، فبينما هو في ذلك ركب عليه الأمير قاني باي الأبوبكري الناصري البهلوان أتابك دمشق، وكان ممن وافق الجكمي على العصيان وحسَّن له ذلك ثم تركه ومال إلى جهة السلطان، وركب معه الأمير برسباي الناصري حاجب الحجاب بدمشق، وجميع أمراء دمشق وعساكرها، ولم يبقَ مع إينال من أعيان أمراء دمشق إلا جماعة يسيرة، فلما بلغ إينال الجكمي ركوب هؤلاء عليه، مال عليهم وقاتلهم، فلم يثبتوا له وانهزموا أقبح هزيمة، ثم تراجعوا فحمل عليهم فانكسروا وتمزقوا شذر مذر، ثم إن العسكر المصري وصل إلى الشام وتصادم مع العسكر الشامي بقيادة إينال، وحصلت بينهم وقائع كانت بدايتها بانهزام العسكر المصري ثم تخلى عن إينال أصحابه ومدوا أيديهم إلى النهب في أطلاب النواب لما انهزموا أمام العسكر الشامي، وبقي إينال في أناس قليلة، فحطَّ بهم على العسكر المصري، فثبتوا له وقاتلوه ساعة، وقد تفرقت عنه أصحابه بسبب النهب، فلم يجد مساعدًا، فانهزم بعد أن قتِل من الفريقين جماعة كبيرة جدًّا، فلما أصبح العسكر يوم الخميس ثاني ذي القعدة ورد الخبر عليهم من دمشق بالقبض على إينال الجكمي من قرية حرستا من عمل دمشق ثم في يوم الأحد ثاني عشر ذي القعدة كُتِبَ بقتل إينال الجكمي بسَجنِه بقلعة دمشق، بعد تقريره على أمواله وذخائره، وبقتل جماعة من أصحابه ممن قُبِضَ عليه في الوقعة، وكان قتله بقلعة دمشق في ليلة الاثنين عشرين ذي القعدة، ثم قَدِمَ الخبر على السلطان بأن العساكر توجهت من دمشق في الحادي عشر ذي القعدة إلى حلب؛ لقتال تغري برمش، هذا وأهل حلب يد واحدة على قتاله، ثم إن العسكر المصري بمن معه من العسكر الشامي لما ساروا من دمشق إلى جهة حلب وافاهم الأمير قاني باي محمزاوي وغيره وصاروا جمعًا واحدًا، فلقيهم تغري برمش بجموعه التي كانت معه قريبًا من حماة، في يوم الجمعة السابع عشر ذي القعدة، وقد صفَّ عساكره من التركمان وغيرهم، حتى ملؤوا الفضاء، فلما وقع بصر عسكره على العساكر السلطانية أخذوا في الانهزام من غير مصافَّة، بل حدث بعض التناوش من صغار الطائفتين، فولوا الأدبارَ ومدت العساكر السلطانية أيديها إلى عساكر تغري برمش، فغنموا منهم غنائم لا تُحصى كثرة، ونُهِبَ جميع وطاق تغري برمش وماله، وانهزم هو في جماعة يسيرة من خواصه إلى جهة التركمان الصوجية، ثم قبضوا عليه بعد ذلك، وكُتِبَ بقتل تغري برمش بعد عقوبته ليقِرَّ على أمواله، فعوقِبَ، فأقر على شيء من ماله، نحو الخمسين ألف دينار؛ ثم أُنزِلَ ونودي عليه تحت قلعة حلب، ثم ضُرِبَت عنُقُه.
كان فيصل بن الحسين ثالثُ الأبناء قد نُصبَ ملكًا على سوريا الجزءِ الأكبر من بلاد الشام، لكِنَّه لم يلبث أن طُرِدَ في العاشر من ذي القعدة 1338هـ / 25 تموز 1920م عندما دخل الفرنسيون إلى سوريا، وكانت إنجلترا بعد أن نكَثَت كلَّ العهود التي أعطتها للشريف حسين ظنَّت أنَّ فيصلًا أنسب أبنائه لحُكمِ العراق التي كانت تحت سيطرتها، فكتب وزيرُ الخارجية الإنجليزي كرزون إلى نائب الحاكِمِ الملكي في العراق يسألُه عن هذا الرأي، فرد النائب باقتراح أحدِ هؤلاء: هادي العمري، نقيب أشراف بغداد، عبد الرحمن الكيلاني، أحد أبناء الحسين بن علي، أحد أفراد الأسرة الخديوية في مصر. مع ترشيحِه هو لهادي العمري، كان تفضيل بريطانيا لفيصل ابن الشريف حسين ليكونَ ملكًا على العراق لعدَّةِ أسباب: منها تهدئة خواطر العرب الذين أُصيبوا بخيبةِ أملٍ بعد عزم دول الحُلَفاء بفرضِ سياسة الانتداب على البلاد العربية التي كانت تحت حُكمِ الدولة العثمانية، ووعد بلفور الذي يهدِّدُ مستقبل فلسطين، وكذلك اطمئنان الإنجليز من شِدَّةِ ولاء الشريف حسين وأبنائه للإنجليز واستعدادهم لتنفيذ سياساتها في المنطقة بكلِّ إخلاص. لذلك دعت الحكومةُ البريطانية فيصلًا لزيارة لندن، وقابل الملك جورج الخامس الذي عَرَض عليه مُلكَ العراق، لكن فيصل أبدى اعتراضًا، وهو أن أخاه عبد الله رشَّحه الشاميون لمُلك العراق، فقام لورنس بالتفاوض مع عبد الله على أن يكون هو ملكًا على شرق الأردن، ويترك مُلْك العراق لأخيه فيصل، فوافق، ثم قام برسي كوكس ممثِّل الحكومة البريطانية في العراق بتشكيل حكومةٍ وطنية، فكُوِّنت بمساعدة عبد الرحمن الكيلاني، وكُوِّن مجلس شورى، ثم قَبْلَ تنصيبِ الملك فيصل على العراق ساومه ونستون تشرشل على أن يكونَ بينهما معاهدة -يعني بين العراق وإنجلترا- تقوم مقامَ الانتداب وتؤدِّي غرضَه، يعني: في تحقيق مصالح إنجلترا في العراق، ثم ليبدوَ الأمر ليس مفروضًا على العراق؛ لأن المرشَّحين لمنصب الملك على العراق كُثُر، ومع أنه اقترح غير النظام المَلَكي، لكنَّ إنجلترا رأت أنَّ النظام الملكي حاليًّا أنسب لوضع العراق، ثم أخذت بإشاعةِ الخبر والدعاية لفيصل في العراق، ثم صرحت الحكومةُ البريطانية بموافقتها على ترشيحه، وبعد أن انتهت التمهيداتُ سافر فيصل إلى العراق على متنِ الباخرة البريطانية نورث بروك في ميناء البصرة في السابع عشر من شوال 1339هـ / 23 حزيران 1921م فاستُقبِلَ استقبالًا حارًّا، ثم سافر إلى بغداد، وكلما مرَّ على قرية عُمِلت له الاحتفالات، ووصل إلى بغداد في 23 شوال 1339هـ / 29 حزيران 1921م وبايعه مجلس الوزراء في الخامس من ذي القعدة من العام نفسه / 5 تموز، وأعدت وزارة الداخلية صورةً لمضبطه يُعلِنُ فيها الأهالي تأييدَهم، وتُوِّجَ مَلِكًا على العراق في يوم 18 ذي الحجة 1339هـ / 23 آب 1921م.
سَيَّرَ المَلِكُ الرَّحيمُ ابن أبى كاليجار البويهي الشِّيعي أخاهُ الأميرَ أبا سعد في جَيشٍ إلى بلادِ فارس، وكان سببُ ذلك أنَّ المُقيمَ في قَلعةِ إصطخر، وهو أبو نصر بن خسرو، وكان له أَخَوان قَبَضَ عليهما هزارسبُ بن بنكير بِأَمْرِ الأَميرِ أبي منصور بن المَلِكِ أبي كاليجار، فكتَبَ إلى المَلِكِ الرَّحيم البويهي الشِّيعي يَبذُل له الطَّاعة والمُساعَدة، ويَطلُب أن يُسَيِّر إليه أخاهُ لِيُمَلِّكَهُ بلادَ فارس، فسَيَّرَ إليه أخاهُ أبا سعد في جَيشٍ، فوصَلَ إلى دولةِ أباذ، فأتاه كَثيرٌ مِن عَساكر فارس: الدَّيلمِ، والتُّرْكِ، والعَرَبِ، والأَكرادِ، وسار منها إلى قَلعةِ إصطخر، فنزل إليه صاحبُها أبو نصر، فلَقِيَهُ وأَصعدَهُ إلى القَلعةِ، وحمَلَ له وللعَساكر التي معه الإقامات والخِلَعِ وغيرها، ثم ساروا منها إلى قَلعةِ بهندر فحَصَروها، وأتاهُ كُتُبُ بعضِ مُستَحفِظي البلادِ الفارسيَّة بالطَّاعةِ، منها مُستَحفِظ درابجرد وغيرها، ثم سار إلى شيراز فمَلكَها في رمضان، فلمَّا سَمِعَ أخوهُ الأميرُ أبو منصور، وهزارسب، ومنصور بن الحسين الأسديُّ ذلك ساروا في عَسكرِهم إلى المَلِكِ الرَّحيم فهَزَموه، وفارَق الأهوازَ إلى واسط، ثم عَطَفوا من الأهوازِ إلى شِيراز لِإجلاءِ الأميرِ أبي سعدٍ عنها، فلمَّا قاربوها لَقِيَهم أبو سعدٍ وقاتَلَهم فهَزمَهم، فالتجَأُوا إلى جبلِ قَلعةِ بهندر، وتَكرَّرت الحروبُ بين الطائِفَتينِ إلى مُنتصفِ شَوَّال، فتَقدَّمت طائفةٌ من عَسكرِ أبي سعدٍ فاقتَتَلوا عامَّة النَّهارِ ثم عادوا، فلمَّا كان الغدُ التقى العَسكرانِ جميعًا واقتَتَلوا، فانهَزمَ عَسكرُ الأميرِ أبي منصور، وظَفَر أبو سعدٍ، وقَتَل منهم خَلْقًا كَثيرًا، واستَأمَن إليه كثيرٌ منهم، وصعد أبو منصور إلى قَلعةِ بهندر واحتَمَى بها، وأقام إلى أن عاد إلى مُلكِه، ولما فارَق الأميرُ أبو منصور الأهوازَ أُعيدَت الخطبة للمَلِكِ الرَّحيم، وأَرسلَ مَن بها مِن الجُندِ يَستدعونَه إليهم.