دخل فصل الربيع، وقد فشا في الناس الموت بالطاعون، وأُحصيَ من ورد اسمُه الديوان ممن مات بالقاهرة في مدة شهر أوله عاشر المحرم، فكان ثلاثة آلاف إنسان، ثم تجاوز عدد من يرد اسمه الديوان من الأموات مائة نفس في اليوم، وهذا سوى من يموت بالمارستان، وفي عدة مواضع خارج المدينة، ويكون ذلك نحو الخمسين نفسًا، وكانت عدة من صُلِّي عليه من الأموات بمصلى باب النصر خاصة من أول النهار إلى آذان الظهر اثنين وتسعين ميتًا، وشنع ما يحكى من تواتر نزول الموت في الأماكن، بحيث مات في أسبوع واحد من درب واحد ثلاثون إنسانًا، وكثير من الدور يموت منها العشرة فصاعدًا، وقدم الخبر بكثرة الوباء أيضًا ببلاد الصعيد، وفي طرابلس الشام، وأُحصي من مات بها في مدة أيام، فكانت عدتهم عشرة آلاف إنسان، وكثر الوباء أيضًا بالوجه البحري من أراضي مصر، وقدم الخبر بأن معظم أهل مدينة من صعيد مصر قد ماتوا بالطاعون، وفي شهر ربيع الأول كثر الموتان بالقاهرة ومصر، وتجاوزت عدة من ورد اسمه الديوان من الموالي الثلاثمائة، وتوهم كل أحد أن الموت آتيه عن قريب؛ لسرعة موت من يُطعن، وكثرة من يموت في الدار الواحد، وتواتر انتشار الوباء في جميع أراضي مصر، وبلاد الشام، والمشرق، بحيث ذكر أنه بأصبهان مات غالب أهلها، حتى صار من يمشي بشوارعها لا يرى أحدًا يمر إلا في النادر، وأن مدينة فاس بالمغرب أحصى من مات بها في مدة ثلاثين يومًا ممن ورد الديوان فكانوا ستة وثلاثين ألفًا سوى الغرباء من المساكين، وأن المساكن عندهم صارت خالية ينزل بها من قدم إليها من الغرباء، وأن هذا عندهم في سنتي سبع عشرة وثماني عشرة، وبلغت عدة من يرد اسمه الديوان من الأموات في الثالث والعشرين ما ينيف على خمسمائة، بما فيهم من موتى المارستان والطرحاء، ومع ذلك والأخبار متواترة بأنه صلِّيَ في هذا اليوم بمصليات الجنائز على ما ينيف على ألف ميت، وأن الكُتَّاب يخفون كثيرًا ممن يرد اسمه إليهم، وانقضى هذا الشهر، وقل دار بالقاهرة ومصر وظواهرهما لم يكن بها حزن على ميت، وأقل ما قيل: إنه مات من عاشر المحرم إلى آخر هذا الشهر عشرون ألفًا، وفي شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: بلغت عدة من ورد اسمه الديوان من الأموات إلى مائة وعشرين سوى المارستان والطرحاء، وقدم الخبر من دمشق بتزايد الموتان عندهم، وأنه يموت في اليوم ستون إنسانًا، وأنه ابتدأ الوباء عندهم من أثناء ربيع الأول، عندما تناقص من ديار مصر.
حضر لمصر في هذه السنة جاك بن ملك قبرص بعد أن توفِّيَ والده ونصبوا على عرش قبرص أخته عوضًا عنه، قيل: لأنه ولَدُ زنا، وقيل غير ذلك، ثم بقي في مصرَ على أمل أن يوليه السلطان عرش قبرص, وحضر كذلك جماعة من قبرص نيابة عن أخته وهي تطلب كذلك أن تبقى هي الملكة, وفي يوم الثلاثاء سادس شعبان وقع في مصر أمرٌ شنيع بسبب هذا الأمر، وهو أن السلطان جمع أعيان الفرنج القبارصة في الملأ بالحوش السلطاني، وأراد بقاء الملكة صاحبة قبرص على عادتها، وخلَعَ على قصَّادها أعيان الفرنج، واستقَرَّ تغري بردي الطياري مُسفرها، وعلى يده تقليدُها وخِلعتُها، وكان الفرنجي جاك أخوها حاضر الموكب، وقد جلس تحت مقدمي الألوف، فعز عليه ولاية أخته وإبقاؤها على ملك الأفقسية من جزيرة قبرص مع وجوده، فقام على قدميه واستغاث وتكلَّم بكلام معناه أنه قد جاء إلى مصر، والتجأ إلى السلطان، ودخل تحت كنَفِه، وله عنده هذه المدة الطويلة، وأنه أحقُّ بالملك من أخته، وبكى، فلم يسمع السلطان له، وصمَّم على ولاية أخته، وأمره بالنزول إلى حيث هو سكَنُه، فما هو إلا أن قام جاك وخرج من باب الحوش الأوسط، ثم خرج بعده أخصامُه حواشي أخته، وعليهم الخِلَعُ السلطانية، فمَدَّت الأجلاب أيديها إلى أخصام جاك من الفرنج، وتناولوهم بالضربِ والإخراق، وتمزيق الخِلَع، واستغاثوا بكلمة واحدة: أنهم لا يريدون إلا تولية جاك هذا مكان والِدِه، وعظُمَت الغوغاء، فلم يسع السلطان إلا أن أذعن في الحال بعزلِ الملكة وتولية جاك، فتولى جاك على رغم السلطانِ، بعد أن أمعن المماليك الأجلاب في سبِّ الأمير بردبك الدوادار الثاني، وقالوا له: أنت إفرنجي وتحامي للفرنج، فاستغاث بردبك، ورمى وظيفة الدوادارية، وطلب الإقالة من المشي في الخدمة السلطانية، فلم يسمع له السلطان، وفي الحال خُلِعَ على جاك، ورسم بخروج تجريدة من الأمراء إلى غزو قبرص، تتوجَّهُ مع جاك إلى قبرص، ثم في يوم الثلاثاء السابع عشر شوال سافر المجاهدون في بحر النيل إلى ثغر دمياط ومعهم جاك هذا ليساعدوه على تولي الملك مكان أخته، ثم في يوم الجمعة الثالث والعشرين محرم من السنة التالية حضر البعض من هناك وأخبر أنهم ساروا على ظهر البحر الملح يريدون السواحل الإسلامية، فهبت ريح عظيمةٌ شتَّتَت شملهم، وتوجهوا إلى عدة جهات بغير إرادة، وترك بجزيرة جماعة من المماليك السلطانية ومماليك الأمراء قوة لجاك صاحب قبرص.
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للمُسلمين: «إنِّي أُريتُ دارَ هِجرتِكُم ذاتَ نَخلٍ بين لابَتَيْنِ». وهُما الحَرَّتانِ، فهاجر مَن هاجر قِبَلَ المدينةِ، ورجع عامَّةُ مَن كان هاجر بأرضِ الحَبشةِ إلى المدينةِ، وتَجهَّز أبو بكرٍ قِبَلَ المدينةِ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «على رِسْلِكَ، فإنِّي أرجو أن يُؤذنَ لي». فقال أبو بكرٍ: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم». فحبَس أبو بكرٍ نَفْسَهُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيصحبَهُ، وعلَف راحِلتينِ كانتا عنده وَرَقَ السَّمُرِ -وهو الخَبَطُ- أربعةَ أَشهُرٍ. قال ابنُ شهابٍ: قال عُروةُ: قالت عائشةُ: فبينما نحن يومًا جُلوسٌ في بيتِ أبي بكرٍ في نَحْرِ الظَّهيرةِ، قال قائلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُتقنِّعًا، في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكرٍ: فِداءٌ له أبي وأمِّي، والله ما جاء به في هذه السَّاعةِ إلَّا أَمْرٌ، قالت: فجاء رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاسْتأذَن، فأُذِنَ له فدخل، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ: «أَخْرِجْ مَن عندك». فقال أبو بكرٍ: إنَّما هُم أَهلُك، بأبي أنت يا رسولَ الله. قال: «فإنِّي قد أُذِنَ لي في الخُروجِ». فقال أبو بكرٍ: الصُّحبة بأبي أنت يا رسولَ الله؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نعم». قال أبو بكرٍ: فَخُذْ -بأبي أنت يا رسولَ الله- إحدى راحِلَتي هاتينِ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «بالثَّمنِ». قالت عائشةُ: فجَهَّزناهُما أَحَثَّ الجِهازِ، وصنعنا لهُما سُفْرَةً في جِرابٍ، فقطعتْ أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ قِطعةً مِن نِطاقِها فربطتْ به على فَمِ الجِرابِ، فبذلك سُمِّيت: ذاتَ النِّطاقينِ. قالت: ثمَّ لَحِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ بِغارٍ في جبلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فيه ثلاثَ ليالٍ، يَبيتُ عندهما عبدُ الله بنُ أبي بكرٍ، وهو غلامُ شابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ مِن عندهِما بِسَحَرٍ، فيُصبحُ مع قُريشٍ بمكَّةَ كَبائِتٍ، فلا يسمعُ أمرًا، يُكتادانِ به إلَّا وعاهُ، حتَّى يأتيَهُما بخبرِ ذلك حين يَختلِطُ الظَّلامُ، ويَرعى عليهِما عامرُ بنُ فُهيرةَ، مولى أبي بكرٍ مِنْحَةً مِن غَنَمٍ، فيُريحُها عليهِما حين تَذهبُ ساعةٌ مِنَ العِشاءِ، فيَبيتانِ في رِسْلٍ، وهو لبنُ مِنْحَتِهِما ورَضِيفِهِما، حتَّى يَنْعِقَ بها عامرُ بنُ فُهيرةَ بِغَلَسٍ، يفعلُ ذلك في كُلِّ ليلةٍ مِن تلك اللَّيالي الثَّلاثِ، واسْتأجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ رجلًا مِن بني الدِّيلِ، وهو مِن بني عبدِ بنِ عَدِيٍّ، هادِيًا خِرِّيتًا -والخِرِّيتُ الماهرُ بالهِدايةِ- قد غَمَسَ حِلْفًا في آلِ العاصِ بنِ وائلٍ السَّهميِّ، وهو على دينِ كُفَّارِ قُريشٍ، فأَمِناهُ فدَفعا إليه راحِلَتَيْهِما، وواعَداهُ غارَ ثَوْرٍ بعدَ ثلاثِ ليالٍ، بِراحِلَتيهِما صُبْحَ ثلاثٍ، وانطلق معهما عامرُ بنُ فُهيرةَ والدَّليلُ، فأخذ بهم طريقَ السَّواحلِ. قال: سُراقةُ بنُ جُعْشُمٍ: جاءنا رُسُلُ كُفَّارِ قُريشٍ، يجعلون في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ، دِيَةَ كُلِّ واحدٍ منهما، مَن قَتلهُ أو أَسَرهُ، فبينما أنا جالسٌ في مجلسٍ مِن مجالسِ قَومي بني مُدْلِجٍ، أقبل رجلٌ منهم حتَّى قام علينا ونحن جُلوسٌ، فقال يا سُراقةُ: إنِّي قد رأيتُ آنفًا أَسْوِدَةً بالسَّاحلِ، أُراها محمَّدًا وأصحابَه، قال سُراقةُ: فعرَفتُ أنَّهم هُم، فقلتُ له: إنَّهم لَيسوا بهِم، ولكنَّك رأيتَ فُلانًا وفُلانًا، انطلَقوا بِأَعْيُنِنا، ثمَّ لَبِثْتُ في المجلسِ ساعةً، ثمَّ قمتُ فدخلتُ فأمرتُ جاريتي أن تَخرُجَ بفَرسي، وهي مِن وراءِ أَكَمَةٍ، فتَحبِسَها عليَّ، وأخذتُ رُمحي، فخرجتُ به مِن ظَهرِ البيتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأرضَ، وخَفضتُ عالِيَهُ، حتَّى أتيتُ فَرسي فركِبتُها، فرفَعتُها تُقَرِّبُ بي، حتَّى دَنوتُ منهم، فعَثَرَتْ بي فَرسي، فخَررتُ عنها، فقمتُ فأَهويتُ يدي إلى كِنانتي، فاسْتخرجتُ منها الأَزلامَ فاسْتقسَمتُ بها: أَضرُّهُم أم لا، فخرج الذي أَكرهُ، فركِبتُ فَرسي، وعصيتُ الأَزلامَ، تُقَرِّبُ بي حتَّى إذا سمعتُ قِراءةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يَلتفتُ، وأبو بكرٍ يُكثِرُ الالتِفاتَ، ساختْ يَدا فَرسي في الأرضِ، حتَّى بَلغتا الرُّكبَتينِ، فخررتُ عنها، ثمَّ زجرتُها فنهَضتْ، فلم تكدْ تُخرِجُ يدَيها، فلمَّا استوت قائمةً إذا لِأثَرِ يدَيها عُثانٌ ساطعٌ في السَّماءِ مِثلُ الدُّخانِ، فاسْتقسَمتُ بالأَزلامِ، فخرج الذي أَكرهُ، فنادَيتُهم بالأَمانِ فوقفوا، فركِبتُ فَرسي حتَّى جِئتُهم، ووقع في نفسي حين لَقِيتُ ما لَقِيتُ مِنَ الحَبسِ عنهم أن سَيظهرُ أَمْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ له: إنَّ قومَك قد جعلوا فيك الدِّيةَ، وأخبرتُهم أخبارَ ما يُريدُ النَّاسُ بهِم، وعرضتُ عليهم الزَّادَ والمتاعَ، فلم يَرْزآني ولم يَسألاني، إلَّا أن قال: «أَخْفِ عَنَّا». فسألتُه أن يَكتُبَ لي كتابَ أَمْنٍ، فأمر عامرَ بنَ فُهيرةَ فكتب في رُقعةٍ مِن أَديمٍ، ثمَّ مَضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وعن عُروةَ بنِ الزُّبيرِ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَقِيَ الزُّبيرَ في رَكْبٍ مِنَ المسلمين، كانوا تُجَّارًا قافِلين مِن الشَّأْمِ، فكَسا الزُّبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ ثِيابَ بَياضٍ، وسمِع المسلمون بالمدينةِ مَخرجَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن مكَّةَ، فكانوا يَغدون كُلَّ غَداةٍ إلى الحَرَّةِ، فيَنتظِرونَهُ حتَّى يَرُدَّهُم حَرُّ الظَّهيرةِ، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارَهُم، فلمَّا أَوَوْا إلى بُيوتِهم، أَوفى رجلٌ مِن يَهودَ على أُطُمٍ مِن آطامِهِم، لِأَمْرٍ يَنظرُ إليه، فبصر برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه مُبَيَّضِين يَزولُ بهِم السَّرابُ، فلم يملِك اليَهوديُّ أن قال بأعلى صوتِه: يا مَعاشِرَ العربِ، هذا جَدُّكُم الذي تَنتظِرون، فثار المسلمون إلى السِّلاحِ، فتَلَقَّوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بظَهْرِ الحَرَّةِ، فعَدل بهِم ذاتَ اليمينِ، حتَّى نزل بهِم في بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، وذلك يومَ الاثنينِ مِن شهرِ ربيعٍ الأوَّلِ، فقام أبو بكرٍ للنَّاسِ، وجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صامتًا، فطَفِقَ مَن جاء مِنَ الأنصارِ -ممَّن لم يَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم- يُحَيِّي أبا بكرٍ، حتَّى أصابتِ الشَّمسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكرٍ حتَّى ظَلَّلَ عليه بِردائِه، فعرَف النَّاسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
هو أبو عبدِ الله أحمدُ بنُ مُحمَّد بن حنبل بن هلال بن أسَدٍ الشَّيباني المروزي، نزيل بغداد، أحدُ الأئمَّة الأربعة المشهورينَ في الفقهِ، ثِقةٌ حافِظٌ، فقيهٌ حُجَّةٌ، وهو رأسُ الطَّبقة العاشرة، خرجت أمُّه من مرو وهي حامِلٌ به، فولدته في بغداد، في شهرِ ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة، وقيل: إنَّه وُلِدَ بمَروٍ وحُمِلَ إلى بغداد وهو رضيعٌ. نشأ وتعلَّمَ ببغداد. كان مخضوبًا، طُوالًا، أسمرَ شديدَ السُّمرةِ. توفِّيَ والِدُه وهو شابٌّ, وتزوَّجَ بعد الأربعينَ. ورحل كثيرًا. وعُنِيَ بطلب الحديث، تفَقَّه على الشافعي، وكان له اجتهادٌ حتى صار إمامًا في الحديث والعِلَل، إمامًا في الفِقهِ، كلُّ ذلك مع وَرَعٍ وزُهدٍ وتقَشُّف، وإليه تُنسَبُ الحنابلة، هو الذي وقَفَ وقفَتَه المشهورةَ في مسألةِ خَلقِ القرآن فأبى أن يجيبَهم على بدعتِهم، فضُرِبَ بالسِّياطِ أيَّامَ المعتَصِم والواثِقِ، وبَقِيَ قبلها تحت العذابِ قُرابةَ الأربع سنينَ، وكلُّ ذلك هو ثابتٌ بتثبيت الله له، ثمَّ في عهد الواثقِ مُنِعَ من الفُتيا، وأُمِرَ بلُزومِ بَيتِه كإقامةٍ جَبريَّةٍ، ولم ينفرِجْ أمرُه حتى جاء المتوكِّلُ ورفع هذه المحنةَ، بقي قرابةَ الأربع عشرة سنةً في هذه المحنةِ بين ضَربٍ وحَبسٍ وإقامةٍ جَبريَّة، فكان من الذين قال اللهُ فيهم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، وكان الذين ثَبَتوا على الفتنةِ فلم يجيبوا بالكليَّة: خمسة: أحمدُ بن حنبل وهو رئيسهم، ومحمَّد بن نوح بن ميمون الجند النيسابوري- ومات في الطريقِ- ونُعَيم بن حماد الخزاعي- وقد مات في السِّجنِ- وأبو يعقوب البويطي- وقد مات في سِجنِ الواثقِ على القول بخلق القرآنِ، وكان مُثقلًا بالحديد- وأحمدُ بنُ نصر الخزاعي، قَتَلَه الواثق، قال يحيى بن معين: "كان في أحمدَ بنِ حَنبل خِصالٌ ما رأيتُها في عالم قَطُّ: كان مُحدِّثًا، وكان حافِظًا، وكان عالِمًا، وكان وَرِعًا، وكان زاهِدًا، وكان عاقِلًا" قال الشافعي: "خرجتُ من العراق فما تركت رجلًا أفضَلَ ولا أعلَمَ ولا أورَعَ ولا أتقى من أحمدَ بنِ حنبل" وقال المُزَني: أحمدُ بن حنبل يومَ المحنة، وأبو بكرٍ يومَ الرِّدَّة، وعُمَرُ يومَ السقيفة، وعُثمانُ يومَ الدار، وعليٌّ يومَ الجَمَلِ وصِفِّين"، وكان- رحمه الله- إمامًا في الحِفظِ، قال أبو زرعة: "كان أحمدُ بنُ حنبل يحفَظُ ألفَ ألف حديثٍ، فقيل: له وما يدريك، قال: ذاكرتُه فأخذت عليه الأبوابَ", وقيل لأبي زُرعةَ: من رأيتَ من المشايخ المحدِّثين أحفَظَ؟ فقال: أحمد بن حنبل، حَزَرتُ كُتُبَه اليومَ الذي مات فيه، فبلغت اثني عشر حِملًا وعِدلًا، ما كان على ظَهرِ كتابٍ منها حديثُ فلان، ولا في بطنِه حديثُ فلانٍ، وكلُّ ذلك كان يحفَظُه عن ظَهرِ قَلبِه", وقال إبراهيم الحربي: "رأيتُ أحمدَ بنَ حنبل كأنَّ اللهَ قد جمع له عِلمَ الأوَّلينَ والآخِرينَ مِن كلِّ صِنفٍ، يقولُ ما شاء، ويُمسِكُ ما شاء". له كتابُ المُسنَد المشهورُ، وله غيرُ ذلك في الجرحِ والتعديل والعِلَل، توفي في بغداد، وكانت جنازتُه مشهودةً, وقيل: لَمَّا مات الإمامُ أحمد صلَّى عليه ألفُ ألفٍ وسِتُّمائة ألف رجلٍ، وأسلم وراءَ نَعشِه أربعةُ آلافِ ذِمِّي مِن هَولِ ما رأَوا.، فرَحِمَه اللهُ تعالى، وجزاه الله خيرًا عن الإسلامِ والمسلمين.
كان صالح بن وصيف قائدًا من الأتراك صاحِبَ تسلُّطٍ شديد, وهو أحدُ المتآمرين على قتل المتوكِّل، ثم اختفى فطلَبه الأتراك بسببِ أموالٍ بينهم فأتوا المهتدي ليكشِفَ لهم أمرَ صالح. فقدم موسى بن بغا الكبير إلى سامرَّا بطلبٍ من الخليفة, فدخلها في جيشٍ هائل، فأتوا دار الخلافةِ التي فيها المهتدي جالسًا لكشف المظالم فاستأذنوا عليه فأبطأ الإذنَ ساعةً، وتأخَّرَ عنهم فظنُّوا في أنفسهم أنَّ الخليفةَ إنما طلبهم خديعةً منه ليسَلِّطَ عليهم صالحَ بن وصيف، فدخلوا عليه بالقوَّةِ, فأقاموه من مجلسِه وانتهبوا ما كان فيه، ثم أخذوه مهانًا إلى دار أخرى، فجعل يقول لموسى بن بغا: ما لك ويحَك؟ إنِّي إنما أرسلتُ إليك لأتقوَّى بك علي صالح بن وصيف. فقال له موسى: لا بأسَ عليك، احلِفْ لي أنَّك لا تريدُ بي خلاف ما أظهرتَ. فحلف له المهتدي، فطابت الأنفُسُ وبايعوه بيعةً ثانيةً مُشافَهةً، وأخذوا عليه العهود والمواثيق ألَّا يمالئ صالحًا عليهم، واصطلحوا على ذلك. ثم بعثوا إلى صالحِ بن وصيف ليحضُرَ لهم للمناظرة في أمر المعتزِّ، فوعدهم أن يأتيَهم، ثم اجتمع بجماعةٍ من الأمراء من أصحابِه وأخذ يتأهَّبُ لجمعِ الجيوش عليهم، ثم اختفى من ليلتِه لا يَدري أحدٌ أين ذهب في تلك الساعة، فبعثوا المناديةَ تنادي عليه في أرجاء البلد وتهدَّدوا من أخفاه، فلم يزل مختفيًا إلى آخر صفر, ولَمَّا أبطأ خبرُ صالح بن وصيف على موسى بن بغا وأصحابِه، قال بعضهم لبعض: اخلعوا هذا الرجُلَ- يعني الخليفة- فقال بعضهم: أتقتلون رجلًا صوَّامًا قوَّامًا لا يشربُ الخمر ولا يأتي الفواحش؟ واللهِ، إن هذا ليس كغيرِه من الخلفاء، ولا تُطاوِعُكم الناس عليه، وبلغ ذلك الخليفة فخرج إلى الناس وهو متقلِّدٌ سَيفًا، فجلس على السرير واستدعى بموسى بن بغا وأصحابِه، فقال: قد بلغني ما تمالأتُم عليه من أمري، وإني- والله- ما خرجتُ إليكم إلا وأنا متحنِّطٌ وقد أوصيت أخي بولدي، وهذا سيفي، والله لأضربَنَّ به ما استمسكَ قائِمُه بيدي، أمَا تستحيون؟ كم يكون هذا الإقدامُ على الخلفاءِ والجرأةُ على الله عزَّ وجلَّ، وأنتم لا تبصرون؟ سواءٌ عليكم من قصد الإبقاءَ عليكم والسيرةَ الصالحةَ فيكم، ومن كان يدعو بأرطالِ الشَّرابِ المُسكِر فيَشربُها بين أظهُرِكم وأنتم لا تُنكِرونَ ذلك، ثم يستأثِرُ بالأموال عنكم وعن الضُّعفاء! هذا منزلي فاذهبوا فانظروا فيه وفي منازلِ إخوتي ومن يتَّصِلُ بي، هل ترون فيها من آلاتِ الخلافة شيئًا، أو من فُرُشِها أو غير ذلك؟ وإنما في بيوتِنا ما في بيوت آحادِ النَّاسِ، وتقولون إني أعلمُ خبَرَ صالح بن وصيف، وهل هو إلَّا واحد منكم؟ فاذهبوا فاعلموا عِلمَه وأمَّا أنا فلستُ أعلمُ عِلمَه. قالوا: فاحلفْ لنا على ذلك، قال أمَّا اليمين فإنِّي أبذلها لكم، قال: فكأنَّهم لانوا لذلك قليلًا. ثم ظفروا بصالح بن وصيف فقُتِلَ وجيء برأسه إلى المهتدي باللهِ، وقد انفتل من صلاة المغربِ، فلم يزد على أن قال: وارُوه. ثم أخذَ في تسبيحه وذِكرِه. ولَمَّا أصبح الصباح رُفِعَ رأس صالح بن وصيف على رُمحٍ ونودي عليه في أرجاء البلد. هذا جزاء من قتل مولاه. وما زال الأمرُ مضطربًا متفاقمًا، وعظم الخطب حتى أفضى إلى خلعِ الخليفة المهتدي وقتلِه رحمه الله.
هو شاعِرُ الزَّمانِ المَشهورُ، أبو الطَّيِّب أحمَدُ بنُ حُسَين بن حسن الجعفي الكوفي, الأديبُ الشهيرُ بالمتنبي. ولد سنة 303 بالكوفة في مَحلَّةٍ تسمى كندة فنُسِبَ إليها، وليس هو من كِندَةَ القبيلة، بل هو جعفيٌّ. قَدِمَ الشامَ في صباه, ثم أقام بالبادية يقتَبِسُ اللغة والأخبار, واشتغل بفنونِ الأدب ومَهَر فيها، وكان من المُكثِرينَ مِن نقلِ اللغة والمطَّلِعينَ على غَريبِها وحواشيها، ولا يُسألُ عن شَيءٍ إلَّا واستشهد فيه بكلامِ العَرَبِ مِن النَّظمِ والنَّثرِ، وكان من أذكياءِ عَصرِه. بلغ الذِّروةَ في النَّظمِ، وأربى على المتقَدِّمين, وسار ديوانُه في الآفاق، واعتنى العُلَماءُ به فشرحوه في أكثَرَ مِن أربعينَ شرحًا ما بين مُطَوَّلات ومُختصَراتٍ، ولم يُفعَلْ هذا بديوانٍ غَيرِه. كما أنَّ له حِكمًا وأمثالًا ومعانيَ مُبتكَرةً, وإنَّما قيل له المتنبِّي؛ لأنَّه ادَّعى النبُوَّةَ في باديةِ السَّماوة، وافتَتَن به بعضُ ضِعافِ العُقولِ، وكَذَب عليهم أنَّه يُوحى إليه قرآنٌ يُؤَلِّفُه مِن نَفسِه وشَيطانِه، وكان لؤلؤ أميرُ حمص من قِبَل الإخشيد قبض عليه ثمَّ أطلقه بعدما استَتابه، وقيل: إنَّه قال: أنا أوَّلُ مَن تنبَّأ بالشِّعرِ. تنقَّلَ في البلاد يمدحُ الأمراءَ مقابِلَ المال، لازم سيفَ الدولةِ كثيرًا ومدح كافور متولِّيَ أعمالِ مِصرَ ثمَّ هجاه ومدح مُعِزَّ الدَّولة البويهي, وقد نال بالشِّعرِ مالًا جليلا, يقال: وصل إليه من ابنِ العميدِ ثلاثون ألف دينار، وناله مِن عَضُدِ الدولة مثلها. كان المتنبي يركَبُ الخيلَ بزِيِّ العَرَب، وله شارةٌ وغِلمانٌ وهَيئةٌ. مدح كافورَ وفي رجليه خُفَّان وفي وسَطِه سيفٌ ومِنطَقةٌ ويركَبُ بحاجبين من مماليكِه وهما بالسُّيوفِ والمناطق، ولَمَّا لم يُرضِه كافور هجَاه وفارَقَه ليلةَ عيدِ النَّحرِ سنة 350، ووجَّهَ كافور خَلْفَه رواحِلَ إلى جِهاتٍ شَتَّى فلم يُلحَقْ، وكان كافور وعده بولايةِ بعضِ أعمالِه، فلمَّا رأى تعاليَه في شِعرِه وسُمُوَّه بنَفسِه، خافه، وعوتِبَ فيه فقال كافور: يا قومِ، مَن ادَّعى النبوَّةَ بعدَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلم، أمَا يدَّعي المملكةَ مع كافور؟! فحَسْبُكم! والمتنبي هو القائِلُ: لولا المشقَّةُ ساد الناسُ كُلُّهم... الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قتَّالُ, وله عِدَّةُ أبياتٍ فائقة يُضرَبُ بها المثَلُ. وكان مُعجَبًا بنَفسِه, كثيرَ الفَخرِ والتَكبُّرِ, فمُقِتَ لذلك. يقال: إنَّ أبا المتنبِّي كان سَقَّاءً بالكوفةِ، وإلى هذا أشار بعضُ الشُّعَراءِ في هجو المتنبِّي، حيث قال: أيُّ فَضلٍ لشاعرٍ يطلُبُ الفضلَ مِن النَّاسِ بُكرةً وعَشِيَّا * عاش حينًا يبيعُ في الكوفةِ الماءَ، وحينًا يبيعُ ماءَ المُحَيَّا. وخبَرُ قَتْلِه أنَّ فاتِكَ الأسدي في جماعةٍ مِن الأعرابِ اعتَرَضوا المتنبِّي ومَن معه وكانوا متَّجِهينَ إلى بغدادَ قافلينَ مِن شيراز، عند النُّعمانيَّة مِن دير العاقول قُربَ النهروان. فقُتِلَ المتنبي ومعه ابنُه مُحَسَّد وغلامُه مُفلِح, وقيل: لَمَّا فَرَّ أبو الطيِّب حين رأى الغَلَبة، قال له غلامُه: لا يتحَدَّثُ النَّاسُ عنك بالفِرارِ أبدًا وأنت القائِلُ: فالخَيلُ واللَّيلُ والبَيداءُ تَعرِفُني... والحَربُ والضَّربُ والقِرطاسُ والقَلَمُ. فكَرَّ راجعًا حتى قُتِلَ، وكان هذا البيتُ سبَبَ قَتلِه.
تَجدَّدت الفِتنةُ ببغداد بين السُّنَّةِ والشِّيعَة، وعَظُمَت أضعافَ ما كانت عليه قديمًا، وكان سببُ هذه الفِتنَة أنَّ أهلَ الكَرخ عَمِلوا أَبراجًا كَتَبوا عليها بالذَّهَبِ: محمدٌ وعَلِيٌّ خَيرُ البَشَرِ. وأَنكرَ السُّنَّةُ ذلك، وادَّعوا أنَّ المكتوبَ: محمدٌ وعَلِيٌّ خَيرُ البَشَرِ، فمَن رَضِيَ فقد شَكَر، ومَن أَبَى فقد كَفَر. وأَنكَر أهلُ الكَرخ الزِّيادةَ وقالوا: ما تَجاوَزنا ما جَرَتْ به عادتُنا فيما نَكتُبه على مساجِدِنا. فأَرسَل الخليفةُ القائمُ بأَمرِ الله أبا تَمَّام، نَقِيبَ العبَّاسِيِّين ونَقِيبَ العَلَوِيِّين، وهو عَدنان بن الرَّضي، لِكَشفِ الحالِ وإنهائِه، فكَتَبا بِتَصديقِ قَولِ الكَرخِيِّين، فأَمَرَ حينئذ الخليفةُ ونُوَّابُ المَلِكِ الرَّحيم البويهي بِكَفِّ القِتالِ، فلم يَقبَلوا، فأَمسَك نُوَّابُ المَلِكِ الرَّحيم عن كَفِّهِم غَيْظًا من رَئيسِ الرُّؤساءِ لِمَيْلِه إلى الحَنابِلَة، وتَشَدَّدَ رَئيسُ الرُّؤساءِ على الشِّيعَةِ، فمَحَوْا: خَيرَ البَشَر. وكتبوا: عليهما السَّلامُ. فقالت السُّنَّةُ: لا نرضى إلا أن يُقلَع الآجُرُّ، وأن لا يُؤَذَّنَ: حَيَّ على خَيرِ العَمَل. وامتَنَع الشِّيعَةُ من ذلك، ودام القِتالُ إلى ثالِثِ ربيعٍ الأوَّل، وقُتِلَ فيه رَجلٌ هاشِمِيٌّ مِن السُّنَّةِ، فحَمَلهُ أَهلُه على نَعْشٍ، وطافوا به في الحربِيَّة، وبابِ البَصرَةِ، وسائرِ مَحالِّ السُّنَّةِ، واسْتَنْفَروا النَّاسَ للأَخْذِ بِثَأْرِهِ، ثم دَفنوهُ عند أحمد بن حَنبل، وقد اجتمع معهم خَلْقٌ كَثيرٌ أضعافَ ما تَقدَّم. فلمَّا رجعوا من دَفنِه قَصَدوا مَشهدَ بابِ التِّبْنِ فأُغْلِقَ بابُه، فنَقَبوا في سُورِهِ وتَهَدَّدوا البَوَّابَ، فخافَهُم وفَتحَ البابَ فدخلوا ونَهَبوا ما في المَشهَدِ من قَناديلَ ومَحارِيبَ ذَهَبٍ وفِضَّةٍ وسُتُورٍ وغيرِ ذلك، ونَهَبوا ما في التُّربِ والدُّورِ، وأَدرَكهم اللَّيلُ فعادوا، فلمَّا كان الغَدُ كَثُرَ الجَمْعُ، فقَصَدوا المَشهَد، وأحرقوا جميعَ التُّربِ والآزاجِ، واحتَرقَ ضَريحُ موسى، وضَريحُ ابنِ ابنِه محمدِ بن عَلِيٍّ، والجوار، والقُبَّتانِ السَّاج اللَّتانِ عليهما، واحتَرَق ما يُقابِلهما ويُجاوِرهما من قُبورِ مُلوكِ بني بُويه الشِّيعَة، مُعِزِّ الدَّولَة، وجَلالِ الدَّولَة، ومن قُبورِ الوُزراءِ والرُّؤساءِ، وقَبرُ جَعفرِ بن أبي جَعفرِ المنصور، وقَبرُ الأمير محمدِ بن الرَّشيد، وقَبرُ أُمِّهِ زُبيدَة، فلمَّا كان الغَدُ خامِس الشَّهر عادوا وحَفَروا قَبرَ موسى بن جَعفرِ ومحمدِ بن عَلِيٍّ لِيَنقُلوهما إلى مَقبرَة أحمد بن حَنبل، فحال الهَدْمُ بينهم وبين مَعرفَة القَبرِ، فجاء الحَفرُ إلى جانِبِه، وسَمِعَ أبو تَمَّام نَقيبُ العبَّاسِيِّين وغَيرُه من الهاشِمِيِّين السُّنَّة الخَبَرَ، فجاؤوا ومَنَعوا عن ذلك، وقَصَد أهلُ الكَرخِ الشِّيعَة إلى خان الفُقهاءِ الحَنفِيِّين فنَهَبوه، وقَتَلوا مُدَرِّسَ الحَنفِيَّة أبا سعد السَّرخسي، وأحرقوا الخانَ ودُورَ الفُقهاءِ، وتَعَدَّت الفِتنةُ إلى الجانبِ الشَّرقيِّ، فاقْتَتَلَ أهلُ بابِ الطَّاقِ وسُوق بَجٍّ، والأساكِفَةُ -صُنَّاع الأحذية- وغَيرُهم، ولمَّا انتهى خَبَرُ إحراقِ المَشهَد إلى نُورِ الدَّولة دُبَيْسِ بن مَزْيَد عَظُم عليه واشتَدَّ وبَلَغ منه كُلَّ مَبلَغ؛ لأنَّه وأهلَ بَيتِه وسائِرَ أَعمالِه من النيل وتلك الوِلايَة كُلُّهم شِيعَة، فقُطِعَت في أَعمالِه خُطبةُ الإمامِ القائمِ بِأَمرِ الله، فرُوسِلَ في ذلك وعُوتِبَ، فاعتَذرَ بأنَّ أهلَ وِلايتِه شِيعَة، واتَّفَقوا على ذلك، فلم يُمكِنهُ أن يَشُقَّ عليهم، كما أنَّ الخليفةَ لم يُمكِنهُ كَفُّ السُّفَهاء الذين فعلوا بالمَشهدِ ما فعلوا، وأعاد الخُطبةَ إلى حالِها، ثم تَجدَّدَت هذه الفِتنةُ في السَّنَةِ التَّاليةِ في ذي القعدة.
عَهِدَ الحافظ إلى ولده سليمان، وكان أسَنَّ أولاده وأحبَّهم إليه، وأقامه ليسُدَّ مكان الوزير، فمات بعد ولاية العهد بشهرين، ثم جعل ابنه حيدرة أبا تراب وليَّ عهده ونصبه للنظر في المظالم، فشَقَّ ذلك على أخيه أبي علي حسن؛ لأنه كان يروم ذلك؛ لكثرة أمواله وأولاده وحواشيه وموكبه، بحيث كان له ديوان مفرد. وما زالت عقارب العداوة تدب بينهما حتى وقعت الفتنة بين الطائفية الجيوشية أصحاب حسن، وكان مائلًا لنصرة أهل السنة، والطائفة الريحانية أصحاب حيدرة يميل لنصرة الإسماعيلية، وكانت شوكة الريحانية قوية والجند يشنؤونهم خوفًا منهم، فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين، والتقى العسكران؛ فقتل بينهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل. فكانت أول مصيبة نزلت بالدولة العبيدية بمصر من فَقْدِ رجالها ونقص عدد عساكرها، ولم يسلم من الريحانية إلا من ألقى نفسه في بحر النيل من ناحية المقس. واستظهر حسن وصار الأمر إليه، فانضم له أوباش العسكر وزعَّارهم، وفرَّق فيهم الزرد وسماهم صبيان الزرد، وصاروا لا يفارقونه ويحفون به إذا ركب، ويلازمون داره إذا نزل، فقامت قيامةُ الناس، وقبَضَ على ابن العساف وقَتَله واختفى منه الحافظ وحيدرة، وجَدَّ في طلب حيدرة. وهتك بالأوباش الذين اختارهم حرمة القصر وخرق ناموسه من كونه نغَّص على أبيه وأخيه، وصاروا يحسِّنون له كل رذيلة، ويحرِّضونه على أذى الناس، فأخذ الحافظ في تلافي الأمر مع حسن لينصلح؛ وعهد إليه بولاية العهد في يوم الخميس لأربع بقين من شهر رمضان، وأركبه بالشعار، ونُعِت بولي عهد المؤمنين. وكتب له بذلك سجلًّا قرئ على المنابر، فلم يزده ذلك إلا شرًّا وتعدِّيًا، فضيق على أبيه وبالغ في مضرته. فسير الحافظ وفيَّ الدولة إسحاق، أحد الأستاذين المحنكين، إلى الصعيد ليجمع ما قدر عليه من الريحانية، فمضى واستصرخ على حسن، وجمع من الأمم ما لا يعلمه إلا الله، وسار بهم، فبلغ ذلك حسنًا فجهز إليه عسكرًا عرمرمًا وخرج؛ فالتقى الجمعان، وهبت ريح سوداء في وجوه الواصلين، وركبهم عسكر حسن، فلم يفلت منهم إلا القليل، وغرق أكثرهم في البحر وقُتلوا، وأُخذ الأستاذ إسحاق وأُدخل إلى القاهرة على جمل برأسه طرطور لبد أحمر. فلما وصل بين القصرين رُمي بالنشاب حتى مات، ورُمي إليهم من القصر الغربي أستاذ آخر فقتلوه، وقُتِل الأمير شرف الأمراء، فاشتدت مصيبة الدولة بفقد من قُتل من الأمراء الذين كانوا أركان الدولة، وهم أصحاب الرأي والمعرفة، فوهت واختلت لقلة الرجال وعدم الكفاءة، ومن حينِ قَتلَ حسن الأمراءَ تخوَّفه باقي الجند ونفرت نفوسُهم منه؛ فإنه كان جريئًا عنيفًا بحاثًا عن الناس، يريد إقلاب الدولة وتغييرها لتقدُّم أصحابه، فأكثر من مصادرة الناس. أورد الذهبي في تاريخه خبر الخلاف بين الأخوين بقوله: "جاءت الأخبار من مصر بخلف ولدَيِ الحافظ لدين الله عبد المجيد، وهما: حيدرة، والحسن. وافترق الجند فرقتين؛ إحداهما مائلة إلى الإسماعيلية، والأخرى إلى مذهب السنة. فاستظهرت السنة، وقتلوا خلقًا من أولئك، واستحرَّ القتل بالسودان، واستقام أمر ولي العهد حسن، وتتبَّع من كان ينصر الإسماعيلية من المقدَّمين والدعاة، فأبادهم قتلًا وتشريدًا".
في نصف المحرَّمِ اتَّفَق أنَّه كان للنصارى مجتَمَعٌ بالكنيسة المعَلَّقة بمصر، واستعاروا من قناديلِ الجامِعِ العتيق جملةً، فقام في إنكارِ ذلك الشيخ نور الدين علي بن عبد الوارث البكري (وهو من أعداء شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّة الذين كانوا قد سَعَوا في أذاه، مع أنَّ شيخَ الإسلام شَفَع فيه أيضًا لما طُلب من جهته)، وجمَعَ مِن البكريَّة وغيرِهم خلائِقَ، وتوجَّه إلى المعلقة وهَجَم على النصارى وهم في مجتَمَعِهم وقناديلُهم وشموعُهم تُزهِرُ، فأخرقَ بهم وأطفأ الشموعَ وأنزل القناديلَ، وعاد البكريُّ إلى الجامع، وقصد القومةَ، وجمع البكريُّ الناسَ معه على ذلك، وقصد الإخراقَ بالخطيب، فاختفى منه وتوجَّه إلى الفخر ناظِرِ الجيش وعَرَّفه بما وقع، وأنَّ كريمَ الدين أكرم هو الذي أشار بعاريَّة القناديلِ، فلم يَسَعْه إلَّا موافقَتُه، فلمَّا كان الغَدُ عرَّفَ الفَخرُ السلطانَ بما كان، وعَلِمَ البكري أنَّ ذلك قد كان بإشارة كريم الدين، فسار بجَمعِه إلى القلعة واجتمع بالنائِبِ وأكابر الأمراء، وشَنَّع في القول وبالغَ في الإنكار، وطلب الاجتماعَ بالسلطان، فأحضر السُّلطانُ القضاة والفُقهاءَ وطلب البكريَّ، فذكر البكريُّ من الآيات والأحاديث التي تتضَمَّنُ معاداة النَّصارى، وأخذ يحُطُّ عليهم، ثم أشار إلى السلطانِ بكلامٍ فيه جفاءٌ وغِلظةٌ حتى غَضِبَ منه عند قولِه: أفضَلُ المعروفِ كَلِمةُ حَقٍّ عند سلطان جائر، وأنت وَلَّيت القبطَ المسالمةَ، وحَكَّمْتَهم في دولتك وفي المسلمين، وأضعْتَ أموال المسلمين في العمائِرِ والإطلاقاتِ التي لا تجوز، إلى غير ذلك، فقال السلطانُ له: ويلك! أنا جائِرٌ؟ فقال: نعم! أنت سَلَّطتَ الأقباط على المسلمين، وقَوَّيت دينَهم، فلم يتملَّكِ السلطانُ نفسَه عند ذلك، وأخذ السَّيفَ وهَمَّ بضربه، فأمسك الأميرُ طغاى يده، فالتَفَت السلطان إلى قاضي القضاة زين الدين بن مخلوف، وقال: هكذا يا قاضي يتجَرَّأُ عليَّ؟ أيش يجبُ أفعل به؟ قل لي!، وصاح به، فقال له ابن مخلوف: ما قال شيئًا يُنكَرُ عليه فيه، ولا يجِبُ عليه شيء، فإنه نقل حديثًا صحيحًا، فصرخ السلطانُ فيه وقال: قمْ عني!، فقام مِن فَورِه وخرج، فقال صدر الدين بن المرحل- وكان حاضرًا- لقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي: يا مولانا! هذا الرجل تجرَّأ على السلطانِ، وقد قال الله تعالى آمرًا لموسى وهارون حين بعَثَهما إلى فرعون {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فقال ابن جماعة للسلطان: قد تجرَّأَ ولم تبقَ إلَّا مَراحِمُ مولانا السُّلطان، فانزعج السلطانُ انزعاجًا عظيمًا، ونهض عن الكرسي، وقَصَد ضربَ البكريِّ بالسَّيف، فتقدَّم إليه طغاي وأرغون في بقية الأمراء، وما زالوا به حتى أمسك عنه، وأمر بقَطعِ لسانه، فأخرج البكريُّ إلى الرحبة، وطُرِحَ إلى الأرض، والأميرُ طغاي يشير إليه أن يستغيثَ، فصرخ البكريُّ وقال: أنا في جيرةِ رسول الله، وكررها مرارًا حتى رقَّ له الأمراء، فأشار إليهم طغاي بالشَّفاعة فيه، فنهضوا بأجمَعِهم وما زالوا بالسلطانِ حتى رسم بإطلاقِه وخروجِه مِن مصر، وأنكر الأميرُ أيدمر الخطيري كونَ البكري قوى نفسَه أولًا في مخاطبة السلطان، ثمَّ إنَّه ذل بعد ذلك، ونسب إلى أنَّه لم يكن قيامُه خالصًا لله.
خرج عن الطاعةِ قراجا بن دلغادر أمير ألبستان وكان ممن ساعد الأمير بيبغا روس نائب حلب على الخروج أولًا ثمَّ سَلَّمه بنفسِه، وكان نائب حلب الجديد أرغوان الكاملي قد حلف له أنَّه لا يقاتِلُه إن سَلَّم له بيبغا، فلما طلب من أرغون المسيرَ إلى قراجا للقضاء عليه لعصيانِه امتنع واعتذر بأنَّه حلف له ألَّا يُقاتِلَه، ثم ألزم الأمير أرغون الكاملي نائِبَ حلب حتى سار لحرب ابن دلغادر وأتاه نوابُ القلاع حتى صار في عشرة آلاف فارس، سوى الرَّجَّالة والتركمان، ونزل الأميرُ أرغون الكاملي على الأبلستين، فنهبها وهدمها، وتوجَّه إلى قراجا بن دلغادر، وقد امتنع بجبلٍ عالٍ، فقاتلوه عشرين يومًا، فقُتِلَ فيها وجُرِحَ عدد كثير من الفريقين، فلما طال الأمرُ نزل إليهم قراجا بن دلغادر، وقاتَلَهم صدرًا من النهار قتالًا شديدًا، فاستمَرَّ القتل في تركمانه، وانهزم إلى جهة الروم، فأُخِذَت أمواله ومواشيه، وصَعِدَ العسكر إلى جبل، فوجدوا فيه من الأغنام والأبقار ما لا يكاد ينحَصِرُ، فاحتووا عليها، بحيث ضاقت أيديهم عنها، وبِيعَ الرأسُ من البقر بعشرينَ إلى ثلاثين درهمًا، والرأسُ من الضأن بثلاثةِ دراهم، والإكديش- حصان غير أصيل، أبوه من جنسٍ وأمُّه من جنس- من أربعين إلى خمسين درهمًا، وسُبِيَت نساؤه ونِساءُ تركمانه وأولاده، وبِيعوا بحَلَب وغيرها بالهوان، فكانت خيارُ بناته تباع بخمسمائة درهم، وظَفِروا بدفائنَ فيها مال كبير، وكان ابن دلغادر لَمَّا انهزم تبعه العسكر، وأسروا ولَدَيه ونحو الأربعين من أصحابِه، ونجا بخاصَّة نفسه إلى ابن أرتنا، وقد سبق الكتابُ إليه بإعمال الحيلة في قبضِه، فأكرَمَه ابن أرتنا وأواه، ثم قبض عليه وحمله إلى حلب، فدخلها وسُجِنَ بقلعتها في ثاني عشر شعبان، فكتب السلطانُ إلى الأمير أرغون الكاملي نائب حلب بحَملِه إلى مصر، وأنعم عليه بخمسمائة ألف درهم، منها ثلاثمائة ألف من مالِ دمشق، وباقيه من مال حلب، وأعفيَ الأمير أرغون من تسيير القَوَد الذي جرت عادةُ نواب حلب بحَملِه إلى السلطان من الخَيلِ والجِمال البخاتي والهجن والعراب، ومن البغال والقماش والجواري والمماليك، وقيمتُه خمسمائة ألف درهم، فعَظُم بذلك شأن الأمير أرغون الكاملي نائبُ حلب، فإنَّه مع صِغَرِ سِنِّه كان له أربعة مماليك أمراء، وله ولد عمره ثلاث سنين أميرُ مائة مقَدَّم ألف، فلما مات هذا الولد أضيفت تقدمتُه إلى إقطاع النيابة، وكان لأربعة من أخوته القادمين من البلاد وأقاربه أربع إمرات، وفي يوم الخميس خامس عشر رمضان وصل مقدم التركمان الأمير قراجا بن دلغادر، وهو مقيَّدٌ في زنجير، فأقيم بين يدى السلطان، وعُدِّدَت ذنوبه، ثم أُخرِجَ إلى الحبس، فلم يَزَل به إلى أن قَدِمَ البريد من حلب بأن جبار بن مهنا استدعى أولادَ ابن دلغادر في طائفةٍ كبيرة من التركمان، ليُنجِدوه على سيف، وكان سيف قد التجأ إلى بني كلاب، فالتقى الجمعانِ على تعبئة، فانكسر التركمانُ وقُتِلَ منهم نحو سبعمائة رجل، وأُخِذَ منهم ستمائة إكديش، فكتب السلطان من سرياقوس-وكان بها- إلى النائب قبلاي بقتل ابن دلغادر، فأخرجه من السجنِ إلى تحت القلعة ووسَّطه-قتله- في يوم الاثنين رابع عشر ذي القعدة، بعد ما أقام مسجونًا ثمانية وأربعين يومًا.
ثار المسلمون في ليلة عيد ميلاد النصارى على الإسبان، واعتصموا في جبال البشرات لصدور أوامر ملكية تحرم عليهم التحدث بالعربية، وتمنعهم من ممارسة عبادتهم وتقاليدهم، وكانت هذه الثورة بقيادة محمد بن أمية، يُذكَر أن السلطان السعدي الغالب بالله بذل الوعود المعسولة لرسل الثوَّار البورشارات، ووعدهم بالنصر وتقديم كل ما يحتاجونه من عتاد وسلاح ورجال، لكن استمرَّ الغالب بالله محافظًا على روابطه الوديَّة مع فيليب الثاني، وعمل على خِذلان أهل الأندلس! تسارعت الأحداث في إسبانيا، وبلغ عدد المجاهدين في أوائل سنة 976 أكثر من مائة وخمسين ألفًا، وصادف تلك الثورة صعوباتٌ كبيرة بالنسبة للحكومة الإسبانية؛ إذ كانت غالبية الجيش متقدِّمة مع دوق البابا في الأراضي المنخفضة وأثبتت الدوريات البحرية أنها غير قادرة على حرمان الثوار المسلمين من الاتصال بالعثمانيين في الجزائر، فاستنجد المسلمون بالعثمانيين، فجمع قلج علي جيشًا عظيمًا قِوامُه أربعة عشر ألف رجل من رماة البنادق، وستين ألفًا من المجاهدين العثمانيين من مختلف أرجاء البلاد، وأرسلهم إلى مدينتي مستغانم ومازغران؛ استعدادًا للهجوم على وهران، ثم النزول في بلاد الأندلس، وكان يرافق ذلك الجيشَ عددٌ كبيرٌ من المدافع، وألف وأربعمائة بعير محمَّلة بالبارود الخاص بالمدافع والبنادق، ولكن وبسبب سوء تصرف أحد رجال الثورة الأندلسيين إذ انكشف أمره فداهمه الإسبان، وضبطوا ما كان يخفيه من سلاح بعد أن نجح قلج علي في إنزال الأسلحة والعتاد والمتطوعين على الساحل الإسباني، لم تقع الثورة في الموعد المحدَّد لها، لقد قام قلج علي في شعبان سنة 976 ببعث أسطول الجزائر لتأييد الثائرين في محاولتهم الأولى، وحاول إنزال الجند العثماني في الأماكن المتفق عليها، لكن الإسبان كانوا قد عرفوا ذلك بعد اكتشاف المخطَّط، فصدوا قلج علي عن النزول، وكانت الثورة في عنفوانها، وزوابع الشتاء قوية في البحر؛ فالأسطول الجزائري صار يقاوم الأعاصير من أجل الوصول إلى أماكن أخرى من الساحل يُنزل بها المدد المطلوب، إلا أن قوة الزوابع أغرقت 32 سفينة جزائرية تحمل الرجال والسلاح، وتمكَّنت ست سفن من إنزال شحنتِها فوق سواحل الأندلس، وكان فيها المدافع والبارود والمجاهدين، وكان القائد المجاهد قلج علي قد عزم على الذهاب بنفسه ليتولى قيادة الجهاد هناك، لكن ما شاع عن تجمع الأسطول الصليبي للقيام بمعركة حاسمة مع المسلمين وأمْر السلطان العثماني له بالاستعداد للمشاركة في هذه المعركة- جعله مضطرًّا للبقاء في الجزائر منتظرًا لأوامر إستانبول، وفي غمرة الثورة الأندلسية اتُّهم قائد الثورة ابن أمية بالتقاعس عن الجهاد، فهاجمه المتآمرون فقتلوه في منزله واختير مولاي عبد الله بن محمد بن عبو بدلًا منه، وبعث قلج علي تعزيزات له ونجح القائد الجديد في حملاته الأولى ضد النصارى الإسبان، وطوَّق جيشُه مدينة أرجيه، انزعجت الحكومة الإسبانية لهذا التطورات، وعينت دون جوان النمساوي على قيادة الأسطول الإسباني (وهو ابن غير شرعي للإمبراطور شارل) فباشر قمع الثورة في سنواتها 977-987 وأتى من الفظائع ما بخلت بأمثاله كتُبُ الوقائع، فذبح النساء والأطفال أمام عينيه، وأحرق المساكنَ ودمَّر البلاد، وكان شعاره لا هوادة، وانتهى الأمر بإذعان مسلمي الأندلس، لكنه إذعان مؤقت؛ إذ لم يلبث مولاي عبد الله أن عاد الكَرَّة، فاحتال الإسبان عليه حتى قتلوه غيلةً ونصبوا رأسه فوق أحد أبواب غرناطة زمنًا طويلًا.
هو الأميرُ عبدُ القادر ناصِرُ الدين بن محيي الدين الحسني المعروف بعبد القادر الجزائري, اشتهرَ بمناهضته للاحتلالِ الفرنسيِّ للجزائر. وُلِدَ في 23 رجب 1222هـ / مايو 1807م، بقرية "القيطنة" بوادي الحمام من منطقة معسكر "المغرب الأوسط" بالجزائر، ثم انتقل والِدُه إلى مدينة وهران. كان لوالِدِه محيي الدين صِدامٌ مع الحاكِمِ العثماني لمدينة "وهران"، وأدَّى هذا إلى تحديدِ إقامة الوالد في بيته، فاختار أن يخرُجَ من الجزائر كلها في رحلةٍ طويلة. وكان الإذنُ له بالخروج لفريضةِ الحَجِّ عام 1241هـ/ 1825م، فخرج مصطحبًا ابنَه عبدالقادر معه، وفي رحلتِهم للحجِّ تعَرَّفوا على الطريقة الشاذلية والقادرية، فالتَقَوا في دمشق وبغداد ببعض شيوخِ الطريقتين وقرؤوا كتُبَهم، ثمَّ عادوا إلى الجزائِرِ عام 1244هـ/ 1828م، فلمَّا تعَرَّضت الجزائرُ لحَملةٍ عسكرية فرنسية شرسة، وتمكَّنَت من احتلال العاصمة. بحث أهالي وعلماء "غريس" عن زعيمٍ يأخذ اللواء ويبايعونه على الجهادِ تحت قيادته، استقَرَّ الرأيُ على "محيي الدين الحسني" والدِ عبد القادر، وعَرَضوا عليه الأمر، ولكِنَّ الرجل اعتذر عن الإمارة وقَبِلَ قيادة الجهاد، فأرسلوا إلى صاحبِ المغرب الأقصى ليكونوا تحت إمارته، فقَبِلَ السلطان "عبد الرحمن بن هشام" سلطان المغرب، وأرسل ابنَ عمه "علي بن سليمان" ليكونَ أميرًا على وهران، وقبل أن تستقِرَّ الأمور تدخَّلَت فرنسا مهَدِّدةً سلطان المغرب بالحرب، فانسحَبَ السلطان واستدعى ابنَ عَمِّه فعاد، ولَمَّا كان محيي الدين قد رضِيَ بمسؤولية القيادة العسكرية، والتفَّتْ حوله الجموعُ مِن جديد، وخاصةً أنَّه حقَّق عدَّةَ انتصاراتٍ على العدوِّ، وكان عبد القادر على رأس الجيشِ في كثير من هذه الانتصارات، اقترح الوالِدُ أن يتقدم "عبد القادر" لهذا المنصِبِ، فقَبِلَ الحاضرون، وقبل الشابُّ ذلك، وتمت البيعةُ، ولقبه والده بـ "ناصر الدين" واقترحوا عليه أن يكون "سلطانًا" ولكنه اختار لقب "الأمير"، وبذلك خرج إلى الوجود "الأمير عبد القادر ناصر الدين بن محيي الدين الحسني"، وكان ذلك في 13 رجب 1248هـ الموافق 20 نوفمبر 1832. فلمَّا بايعه الجزائريون وولَّوه القيامَ بأمرِ الجهاد، نهَضَ بهم، وقاتَلَ الفرنسيين خمسةَ عشر عامًا، ضرب في أثنائها نقودًا سَمَّاها " المحمَّدية " وأنشأ معامِلَ للأسلحة والأدوات الحربية وملابِسِ الجند. وعَقَدت فرنسا اتفاقيةَ هدنة معه، وهي اتفاقية "دي ميشيل" في عام 1834، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأميرِ عبد القادر، وبذلك بدأ الأميرُ يتَّجِهُ إلى أحوال البلاد وتنظيم شؤونها. وقبل أن يمُرَّ عام على الاتفاقية نقضَ القائد الفرنسي الهدنةَ، وناصره في هذه المرة بعضُ القبائل في مواجهةِ الأمير عبد القادر، ونادى الأميرُ في قومِه بالجهادِ ونَظَّم الجميعُ صُفوفَ القتال، حتى نجح في إحراز النصر؛ مما أجبر الفرنسيين على عقد معاهدةِ هُدنةٍ جديدة عُرفت باسم "معاهد تافنة" في عام 1837م. وعاد الأميرُ لإصلاح حال بلاده وترميم ما أحدَثَته المعارك بالحصون والقلاع، وتنظيم شؤون البلاد، ثمَّ كرر الفرنسيون نقضَ المعاهدة في عام 1839م، ورأى بعد حينٍ أنَّ من الصواب الجنوحَ للسِّلمِ، وشاور أعيانَ المجاهِدينَ في ذلك، لكِنَّ الفرنسيين أسَرُوه سنة 1263هـ/1847م وأنهَوا دورَه القياديَّ، توفي رحمه الله ليلة 19 رجب عام 1300هـ، 1883م عن عمر يناهز 76 عامًا.
كان الأميرُ الناصر غزا إلى دار الحرب، وهي غزاة مويش، والحشودُ والعساكر تتلاحَقُ به من سائر أقطار الأندلس، وجميع جهاتها، ونزل على مدينةِ طُلَيطلة، وخرج إليه لبُّ بن الطربيشة صاحِبُها، مبادرًا إليه، وغازيًا معه، وكان يظهر طاعةً تحتها معصيةٌ، حتى نزل بمدينة الفرج، فنظر لأهلها، وخرج للجهاد أكثَرُهم، حتى احتَلَّ بثغر مدينة سالم، وأظهَرَ التوجه إلى الثغر الأقصى. وقَدِمَت المُقَدِّمة نحوه. ثم عرجَ بالجيوش إلى طريقِ آلية والقلاع، وطوى من نهارِه ثلاث مراحل، حتى احتَلَّ بوادي دوبر؛ فاضطربت العساكر فيه، وباتت عليه. ثم أخرج صباحَ تلك الليلة سعيد بن المنذر الوزير، في جرائد الخيل وسرعان الفرسان، إلى حصن وخشمة؛ فأغذَّ السيرَ حتى قَرُب من الحصن، وسرَّحَ الخيل المُغيرة يَمنة ويَسرة، والمشركون في سكونٍ وغفلة؛ إذ كان العِلجُ الذي يلي أمورَهم قد كاتبَ النَّاصِرَ مكايدًا له في إزاحته عن بلدِه بمواعيدَ وعدها من نفسه، فأظهر الناصر قَبولَ ذلك منهم، وأضمَرَ الكيد بهم، فغشيتهم الخيلُ المُغيرةُ على حينِ غَفلةٍ، وأصابوا نَعَمهم وسوامَهم ودوابَّهم مُسرحةً مُهملةً؛ فاكتسحوا جميع ذلك، وانصرفوا إلى العسكرِ سالمين غانمين. فلما كان في صباحِ يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، اندفعت الخيلُ إلى حصن وخشمة، ففر عنه الكفرة، وأخلوه، ولاذوا بالغياض الأشبة –المواضعُ التي يكثُرُ فيه الشجرُ ويلتفُّ-، والصخور المنقطعة. ودخل المسلمون الحِصنَ، وغنموا جميعَ ما فيه وأضرموه نارًا. ثم رحل عنها في اليومِ الثاني إلى حصن قاشتر مورش، وهي شنت أشتبين، بيضة المفرة وقاعدتُهم، فخرجوا هاربين عنه، فدخله المسلمون وغنموا جميعَ ما فيه، وخَرَّبوا حِصنَ القبيلة المجاور له، ولم يترك لأعداء اللهِ في تلك الجهة نعمةً يأوونَ إليها، واضطرب العسكرُ بشرقي حصن قاشتر مورش. وبات المسلمونَ ليلة الأحد بأسرِّ ليلة كانوا بها، والحمدُ لله. ثم انتقل الناصر في صبيحة اليوم الثاني من مكانِ المُضطَّرَب شرقيَّ الحصن إلى غربيِّه، ولم يكن بين الموضعين إلا قدرُ ميل، فكسر العسكرُ في ذلك المكانِ يوم الأحد متقصيًا لآثار الكفرة، ومستبيحًا لنَعَمِهم. ثم ارتحل إلى مدينةٍ لهم أولية تعرف بقلونية، وكانت من أمهَّات مُدُنِهم، فلم تمرَّ الجيوش إليها إلَّا على قرًى منتظمة وعمارة بسيطة، فغَنِمَت جميع ما كان بها، وقتلت من أدرَكَت فيها، حتى أوفت العساكِر على المدينة، فأُلقِيَت خالية، قد شُرِّدَ عنها أهلُها إلى الجبالِ المجاورة لهم، فغنم المسلمون جميعَ ما أصابوا فيها، وعَمِلَت الأيدي في تخريبِ ديارِها وكنائسها، وكسر الناصر عليها ثلاثةَ أيَّام، مطاولًا لنكايةِ المُشرِكين، وانتساف نَعَمِهم. ثم ارتحل من مدينة قلونية يوم السبت لخمس بقينَ من صفر إلى ثغر تطيلة، لغِياثِ صريخِ المسلمين به، إذ كان العِلجُ شانجه قد ضايقهم، وتردَّد بكَفَرته عليهم، ثم احتَلَّ الناصر حوز تطيلة ثم قدَّم الخيل مع محمَّد بن لبّ عاملها إلى حصن قلهرة الذي كان اتَّخذه شانجه على أهلها. فلما قصَدَته الخيلُ أخلاه مَن كان فيه، وضَبَطه المسلمون. ثم نهض الناصر إلى حِصن قلهرة. وكان شانجة قد اتخذه معقِلًا، وتبوَّأه مسكنًا. فلما فجَأته العساكِرُ أخلاه العِلجُ، وزال عنه؛ فغَنِمَه المسلمون بأسرِه، ثم رحل بالجيوشِ يوم الأحد لأربعٍ خَلَون من ربيع الأول إلى دي شره، وأجاز إليها وادي إبره، فخرج شائجة من حصن أرنيط في جموعه وكفَرَته، متعرضًا لمن كان في مُقدِّمة العسكر، فتبادر إليه شُجعان الرِّجال، تبادر رشق النبال، فانهزم الكفرة، وركِبَتْهم الخيلُ، تقتل وتجرَحُ، حتى توارَوا في الجبال، ولاذُوا بالشعاب وأيقنوا بالدمارِ والهلاك. وحِيزَ كثيرٌ من رؤوسِ المشركين؛ فتلقوا بها الناصر، ولا علم عنده بالمعركةِ التي دارت بينهم وبين أعداء الله. واضطرب العسكرُ بهذا الموضع، وبات المسلمون ظاهرينَ على عَدُوِّهم، ومنبسطين في قُراهم ومزارعهم، وورد الخبرُ على الناصر باجتماع العِلجَينِ أرذون وشانجة، واستمداد بعضِهما ببعض، طامعينِ في اعتراضِ المقَدِّمة، أو انتهاز فرصة في السَّاقة. فأمر الناصرُ بتعبئة العساكر، وضبْطِ أطرافِها، ثم نهض بها موغِلًا في بلاد الكَفَرة، فتطلَّلوا على كُدًى مشرفةٍ وجبالٍ منيعة؛ ثم تعرضوا من كان في أطرافِ الجيش، وجعلوا يتصايحون، ويولوِلون لِيُضعِفوا من قلوب المسلمين، فعهد الناصر بالنزولِ والاضطراب وإقامةِ الأبنية. ثم تبادر الناسُ إلى محاربة الكفرة، وقد أسهلوا من تلك الجبالِ، فواضعوهم القتالَ، واقتحم عليهم حتى انهزم المشركونَ، والمسلمون على آثارِهم، يقتلون من أدركوا منهم، حتى حجز الظَّلامُ بينهم، ولجأ عند الهزيمةِ ما يزيد على ألفٍ مِن العلوج إلى حصن مويش، ورجوا التمنُّع فيه. فأمر الناصرُ بتقديم المظل وأبنية العسكرِ إلى الحصن، فأحيط به من جميعِ جِهاتِه، وحُوربوا داخِلَه حتى تغلَّب عليه، واستخرج جميعَ العُلوج منه، وقُدِّموا إلى الناصر، فضُرِبَت رقابُ جميعهم بين يديه، وأصيب في الحصنِ والمحلة التي كانت للكَفَرة بقربه من الأمتعةِ والأبنية والحِليةِ المُتقَنة والآنية ما لا يحصى كثرةً، وأصيب لهم نحوُ ألف وثلاثمائة فرس، ثم انتقل الناصرُ يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول إلى حصنٍ كان اتَّخذه شانجة على أهل بقيرة فألقاه خاليًا، قد فرَّ عنه أهلُه، فعَهِدَ بهَدمِه، ولم يبرح الناصرُ مِن محلَّتِه هذه حتى نُقِلَ إلى حصنِ بقيرة من أطعمة الكَفَرة ألفُ مُدٍّ تقويةً لأهله. ثم انتقل إلى حصونِ المُسلمين يسكِّنُها وينظر في مصالحِ أهلها، فكلما ألفى بقربها مَعقلًا للمشركين، هدمه وأحرق بسيطَه، حتى اتصل الحريقُ في بلاد المشركين عشرةَ أميال في مثلها. واجتمع عند الناس من الأطعمةِ والخيرات ما عجزوا عن حَملِه، ولم يجدوا لها ثمنًا تباع به، وقفل الناصر يوم الثلاثاء. لثلاثٍ بقين من ربيع الأول، حتى انتهى إلى مدينة أنتيشة؛ وبعث إلى قرطبةَ مِن رؤوس الكَفَرة التي أصيبت في المعارك المذكورة أعدادًا عظيمة، حتى لقد عجَزَت الدواب عن استيفاءِ حَملِها. ودخل الناصرُ القصر بقرطبة يوم الخميس الثالث عشر من ربيع الآخر، وقد استكمل في غزاتِه هذه تسعين يومًا.
هو القائد البحري فاسكو دي جاما البرتغالي، ولد سنة 1460م في عائلة نبيلة، ودرس الملاحة البحرية، أوكل إليه ملك البرتغال مانويل الأول حملةً بحرية يصل فيها لبلاد الشرق دون المرور ببلاد المسلمين, فانطلق برحلته سنة 1497م من لشبونة ووصل بلاد الهند عبر طريق رأس الرجاء الصالح، وذلك بعد اعتماده على معلومات وخبرات البحَّار المسلم أحمد بن ماجد النجدي العماني، وكان من أثر هذه الرحلة زيادةُ أطماع البرتغال الاستعمارية، فبعث الملك مانويل الأول حملةً بحرية عسكرية من 13 سفينة إلى الهند، فصدَّها الهنود، وقتلوا عددًا كبيرًا منها, فأوكل الملك مانويل إلى فاسكو دي جاما رحلة من 15 سفينة سنة 1502م, فعبَرَت رأس الرجاء الصالح ثم المحيط الهندي، حتى وصلت إلى بحر العرب، فسيطروا على مركب تجاري للمسلمين عدد ركابها 380 راكبًا كانوا عائدين من الحجِّ, فأمر فاسكو دي جاما بقتلهم جميعًا, فأضرم بها النار, واستغرقت السفينة أربعة أيام لتغرق في البحر؛ مما أدى إلى مقتل جميع من فيها من رجال ونساء وأطفال؛ مما أدى إلى ثورة المسلمين ضدَّه فهرب دي جاما شرقًا حتى وصل إلى مدينة غوا، وقد عمِلَ فاسكو دي جاما على قرصنة سفن المسلمين، فحطم لهم أسطولًا كاملًا عدد سفنه تسع وعشرين سفينة. كما قام بشنق 38 صيادًا ثم قطع رؤوسهم وأطرافهم ورمى بالجثث والأشلاء في البحر لتطفوَ بالقرب من شاطئ مدينة كاليكوت ليُرهب المسلمين فيها, ثم عاد إلى البرتغال سنة 1503م فتنقل في عدَّة مناصب عسكرية وإدارية، ثم عُيِّن نائبًا عن ملك البرتغال في الهند، وبعد وصوله بلاد الهند عاجلته المنية فهلك في الهند، ثم نُقل رفاتُه إلى البرتغال.
وقعت مظاهرات عنيفة في باكستان ضد الرئيس بوتو سقط خلالها حوالي 350 قتيلًا، مع آلاف الجَرْحى من جرَّاء العُنف السياسي؛ فدعا الرئيس بوتو الجيش إلى التدخُّل لمواجهة أعمال العنف، وقَمْع المظاهرات، وتأييد نظامه، إلَّا أن بعض ضُبَّاط الجيش -خاصة القادمين من إقليم البنجاب- رفضوا قمع المظاهرات والاصطدام بالشَّعْب وإطلاق النار على المتظاهرين، وكانت تلك النواة التي هيَّأت لضياء الحق -الذي كان قائدًا عامًّا للجيش- فرصةَ القيام بانقلابٍ عسكريٍّ ضد الرئيس وأعلن ضياء الحق أنَّ الجيش قام لوضع حد لحالة التدهور التي تجتاحُ البلاد، والتي عجز الرئيس بوتو عن حلِّها، وخشيةً من إقحام بوتو للجيش في السياسة واستِخْدامه في عمليات القمع. أعلن ضياء الحق أن عودة الحُكم المَدَني لباكستان ستكون بأسرَعَ ما يمكِنُ، وأكَّد أن الجيش ليست له مطامِعُ سياسية، وأنه سيحتفظ بالسُّلطة لحين إجراء الانتخابات في أكتوبر القادم. وفرَضَ ضياء الحق الأحكام العُرفية في البلاد، وحلَّ الجمعية الوطنيَّة والمجالس التشريعيَّة الإقليميَّة، وأقال حكومات الأقاليم، وشكَّل مجلسًا عسكريًّا من قادة الأسلحة الثلاثة البَريَّة والبحريَّة والجويَّة تحت رئاسته، وعندما ثبَّت ضياء الحق أقدامه بعد انقلابه ضمَّ رئاسة الدولة إلى رئاسة الحكومة، وتسلَّمهما في شوال 1398هـ / سبتمبر 1978م، وقُدم الرئيس ذا الفقار علي بوتو إلى المحاكمة بتُهمة الأمر بقتل أحد المعارضين، وانتهى الأمر بإعدام بوتو في 7 جمادى الأولى 1399هـ / 4 إبريل 1979م رغم الاستياء العالمي الشديد خاصة "إيران الخميني"؛ لأن بوتو من عائلة شيعية، ولم تُفلح محاولات طهران للوساطة مع إسلام آباد للعفو عن بوتو.