لَمَّا توفِّيَ أبو الحَبشِ إسحاقُ بنُ إبراهيمَ حاكِمُ دَولةِ بني زيادٍ في اليَمَنِ سَنَةَ 371، وقد طالت مُدَّةُ حُكمِه وأسَنَّ؛ خَلَفَه طِفلٌ قيلَ اسمُه زيادُ بنُ أبي الحبش، وتولت أختُه هندُ بنت أبي الحبش، وتولى معها في تصريفِ شُؤونِ الدَّولةِ رشد، وهو عبدٌ لأبي الحبَشِ، وبقي رشدٌ على ولايتِه حتى مات، فتَولَّى عبدٌ لرشدٍ اسمُه حُسَينُ بن سلامة إدارةَ الدَّولةِ، وسلامة هي أمُّ حسين، ونشأ حسينٌ حازِمًا عفيفًا، وصار وزيرًا لهند ولأخيها زيادٍ حتى ماتا، ثم انتقل مُلكُ اليَمَنِ إلى طفلٍ من آلِ زيادٍ، وقامت بأمرِه عَمَّتُه وعبدٌ لحُسَينِ بنِ سلامة اسمُه مرجان، وكان لمرجان عبدانِ قد تغَلَّبا على أمورِه قَيسٌ ونجاح، ونجاحٌ جَدُّ ملوك زبيد، فتنافَسَ قيسٌ ونجاحٌ على الوَزارةِ، وكان قيسٌ عَسُوفًا ونجاحٌ رَؤوفًا، وسَيِّدهما مرجان يميلُ مع قيسٍ على نَجاحٍ، وعَمَّة الطفل تميلُ إلى نجاح، فشكا ذلك قيسٌ إلى مولاه مرجان، فقبض مرجان على المَلِك واسمُه إبراهيم- وقيل: عبد الله- وعلى عَمَّتِه، وسلَّمَهما إلى قيسٍ، فبنى عليهما جدارًا وخَتَمه حتى ماتا، وإبراهيمُ آخِرُ مُلوكِ اليمَنِ من بني زياد، ومُدَّةُ مُلكِ بني زياد اليَمَن مائتان وأربع سنين، وانتقل مُلكُهم إلى عَبيدِ عَبيدِ (بني زياد)؛ لأنَّ المُلكَ صار لنَجاحٍ.
لَمَّا توفِّي المَلِكُ جلال الدَّولة، راسل الجندُ، الملكَ أبا كاليجار مرزبان بنَ سلطان الدَّولة البويهي وخَطَبوا له. فلمَّا استَقَرَّت القواعِدُ بينه وبينهم أرسل أموالًا فُرِّقَت على الجُندِ ببغداد، وعلى أولادهم، وأرسل عشرةَ آلاف دينار للخليفةِ ومعها هدايا كثيرة، فخطبَ به ببغداد في صفر، وخَطَب له أيضًا أبو الشوك في بلادِه، ودبيس بن مزيد ببلادِه، ونصر الدَّولة بن مروان بديار بكرٍ، ولَقَّبَه الخليفةُ محيي الدِّينِ، وسار إلى بغدادَ في مِئَة فارسٍ مِن أصحابه لئلَّا تخافَه الأتراكُ، فلمَّا وصل إلى النُّعمانية لَقِيَه دبيس بن مزيد، ودخل إلى بغدادَ في شهرِ رمضان. ومعه وزيرُه ذو السَّعادات أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن فسانجس، ووعده الخليفةُ القائِمُ بأمر الله أن يستقبِلَه، فاستعفى من ذلك، وأخرج عميدَ الدَّولة أبا سعدِ بن عبد الرحيم وأخاه كمالَ الملك وزيرَي جلال الدَّولة من بغداد، فمضى أبو سعدٍ إلى تكريت، وزُيِّنَت بغداد لقدومه، وأمَرَ فخُلِعَ على أصحاب الجيوش، وهم: البساسيري، والنشاوري، والهمام أبو اللقاء، وجرى من ولاةِ العَرضِ تقديمٌ لبعض الجند وتأخير، فشَغَّب بعضهم، وقتلوا واحدًا من ولاة العرضِ بمرأًى من الملك أبي كاليجار، فنزل في سميرية- نوع من السفن- بكنكور، وانحدر خوفًا من انخراقِ الهَيبةِ.
كانت حربٌ بمدينة فاس من بلاد المغرب بين أبي زيان محمد بن أبي طريق بن أبي عنان, وقد قام بأمر الحرب الشيخ يعقوب الحلفاوي الثائر على الوزير الحاجب عبد العزيز اللباني لقتله السلطان أبا سعيد عثمان بن أبي العباس أحمد وثلاثة عشر أميرًا من إخوته وأولاده وبني إخوته, وكان اللباني قد استنصر بالشاوية، وبعث إليهم بمال كبير، فأتوه، فلم يطق الحلفاوي مقاومتهم، فأُدخل اللباني مدينة فاس بجموعه، وألويته منشورة على رأسه، وأنزله دار الحرة آمنة بنت السلطان أبي العباس أحمد، فرحل الشاوية عن المدينة، ثم قُبِضَ على اللباني، وأُسلِمَ إلى الحلفاوي، فدخل السلطان أبو زيان فاس الجديد في ربيع الآخر، وبعث بالسلطان أبي عبد الله محمد بن أبي سعيد إلى الأندلس، فما كان سوى شهر حتى ثار بنو مرين على أبي زيان، وحصروه، وطلبوا الوزير أبا البقاء صالح بن صالح أن يحمل أبا عبد الله محمد المتوكل ابن السلطان أبي سعيد، فقدم الوزير به، واستمرت الحرب أربعة أشهر إلى أن فر أبو زيان ووزيره فارح، وأخذ بنو مرين البلد الجديد، وطلبوا من ابن الأحمر أن يبعث بالسلطان الكبير أبي عبد الله محمد المستنصر بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن، فبعثه إليهم، فملكوه وأطاعوه.
لَمَّا تولى براك بن عبد المحسن أمرَ بني خالد نهض بجميعِ بني خالد للغزوِ، فورد اللصافة الماء المعروف، فأغار على عُربان سبيع وغيرهم, وأخذ منهم إبلًا كثيرة، فلما بلغ الأمير سعود خبَرُ بني خالد استشار من معه في النفير أو الحضير، فأشار عليه العُربان بالنفير طمعًا في الغنيمة، فتكلم حجيلان بن حمد فقال: هؤلاء مقصِدُهم الغنيمة ونحن مقصِدُنا عزُّ الإسلام والمسلمين، فانهض بالمسلمين في ساقةِ هذه الشَّوكةِ، فإن أظفرك اللهُ بهم لم يقُمْ لبني خالد قائمةٌ حتى الحسا بيدك، وأعطاك الله من الأموال ما هو خير ممَّا في محلتهم، وهؤلاء الجنود رؤساءُ بني خالد ورجالُ شوكتهم, فنهض سعود بجيشِه وورد ماء اللصافة، فوجد آثار بني خالد صادِرة منها، فبعث العيون يقتفون آثارهم حتى أقبلوا كأنَّها قِطَع الليل، فنهض لهم سعود بجيشِه فرسانًا ورُكبانًا، فلم يثبتوا لهم ساعةً واحدةً حتى انهزموا لا يلوي أحدٌ على أحدٍ، ولا والدٌ على ولد, فتبعهم جيشُ سعود في ساقَتِهم يقتلون ويغنَمون، واستأصلوا تلك الجموعَ قتلًا ونهبًا، وانهزم براك ومعه شرذمة قليلة إلى المنتفق, وهلك من بني خالد في هذه الوقعة بين القَتلِ والظمأ خلق كثير، قيل إنهم أكثر من ألف رجل, وأخذ سعودٌ جميع ركابهم وخيلهم وأذوادهم وأمتاعهم، وجميع ما معهم، ولم يقم بعد هذه الواقعة لبني خالد قائمةٌ.
هو الإمامُ عبد الله بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، ثالث حكَّام الدولة السعودية الثانية، بويع بالرِّياضِ بعد وفاةِ والده سنة 1282هـ وخالفه أخوه سعود، فنشبت بينهما معارِكُ استولى سعودٌ في آخرها سنة 1287هـ على الرياض. وخُلِعَ عبد الله، فلجأ إلى التركِ في الأحساءِ فلم يطمئنُّوا إليه، فابتعد عنهم، وجمع بعضَ القبائِلِ وأعاد الكَرَّة على أخيه سعود. فاقتتلا في وقعةِ الجزعة من أراضي نجد، وفشل عبد الله، فقَصِدَ عتيبة مبتعدًا عن الرياض. ومات سعود سنة 1291 هـ وولِيَ بعدَه أخوهما عبد الرحمن، فزحف إليه عبدُ الله، فنزل له عبد الرحمن عن الإمامةِ. ودخل الرياضَ فكان حُكمُه الثاني من 1291 - 1301 هـ / 1874 - 1884 م، فثار عليه أبناءُ أخيه سعود وهاجموا الرياض، فظَفِروا به وحبسوه فيها. ودبَّت الفوضى، فقَوِيَت شوكة محمد ابن الرَّشِيد صاحِبِ حائل فهاجم الرياض، وفرَّ أبناء سعود إلى الخرج، وأفرج ابنُ رشيد عن عبد الله واصطحبه معه إلى حائل، فأقام عنده إلى سنة 1307هـ، وأذن له ابنُ الرَّشيدِ بالعودة إلى بلَدِه الرياض مع أخيه عبد الرحمن، فلم يستقِرَّ غيرَ يوم واحد ووافته منيَّتُه فيها، فتولى عبد الرحمن بن فيصل الحُكمَ بعده.
سار عبدُ الرحمن الداخل إلى سرقسطة، بعد أن كان قد سيَّرَ إليها ثعلبةَ بنَ عُبيد في عسكرٍ كثيف، وكان سليمانُ بن يقظان، والحسينُ بن يحيى قد اجتمعا على خلعِ طاعةِ عبد الرحمن، وهما بها، فقاتَلَهما ثعلبةُ قِتالًا شديدًا، وفي بعض الأيامِ عاد إلى مخَيَّمِه، فاغتنم سليمانُ غِرَّتَه، فخرج إليه، وقبَضَ عليه وأخَذَه، وتفَرَّق عسكَرُه، واستدعى سليمان بن يقظان قارله ملك الإفرنج، ووعَدَه بتسليمِ البلد وثعلبةَ إليه، فلما وصل إليه لم يُصبِحْ بيده غيرُ ثعلبة، فأخذه وعاد إلى بلادِه، وهو يظنُّ أنَّه يأخذُ به عظيمَ الفداء، فأهمله عبدُ الرحمن مدَّةً، فلما كان هذه السنة سار عبدُ الرحمن إلى سرقسطة، وفرَّقَ أولادَه في الجهات ليدفَعوا كلَّ مخالفٍ، ثم يجتَمِعوا بسرقسطة، فسبقهم عبدُ الرحمن إليها، وكان الحسينُ بن يحيى قد قتلَ سليمان بن يقظان، وانفرد بسرقسطة، فوافاه عبدُ الرحمن على أثَرِ ذلك، فضَيَّقَ على أهلها تضييقًا شديدًا. وأتاه أولادُه من النواحي، ومعهم كلُّ من كان خالفهم، وأخبَروه عن طاعةِ غَيرِهم، فرَغِبَ الحسين بن يحيى في الصُّلح، وأذعن للطاعةِ، فأجابه عبدُ الرحمن، وصالَحَه، وأخذ ابنَه سعيدًا رهينةً، ورجع عنه
هو الأميرُ أحمدُ بنُ إسماعيلَ بنِ أحمد بن أسد السامانيُّ مولى بني العباس، أبو نصرٍ صاحِبُ خراسان وما وراء النهر، مِن ولَدِ أسَدِ بنِ سامان، وهم بيت لهم إمرةٌ وحِشمةٌ، وكان أبو نصرٍ حسَنَ السِّيرةِ عظيمَ الحُرمة, وكان مولعًا بالصيدِ، فخرج إلى فربر متصيِّدًا، فلمَّا انصرف أمرَ بإحراقِ ما اشتمل عليه عسكَرُه، وانصرف فورد عليه كتابُ نائبه بطبرستان، وهو أبو العبَّاس صعلوك، وكان يليها بعد وفاةِ ابنِ نوحٍ بها، يخبِرُه بظهور الحسن بن عليٍّ العلويِّ الأطروش بها، وتغلُّبِه عليها، وأنَّه أخرجه عنها، فغَمَّ ذلك أحمد، وعاد إلى معسكره الذي أحرَقَه فنزل عليه فتطيَّرَ الناس من ذلك، وكان له أسدٌ يربطُه كلَّ ليلةٍ على باب مبيته، فلا يجسرُ أحدٌ أن يقربه، فأغفلوا إحضارَ الأسد تلك الليلة، فدخل إليه جماعةٌ من غلمانه، فذبحوه على سريرِه وهربوا، فحُمِلَ إلى بخارى فدُفِنَ بها، ولُقِّبَ حينئذ بالشهيد، وطُلِبَ أولئك الغلمان، فأُخِذَ بعضُهم فقُتل، ووليَ الأمرَ بعده ولدُه أبو الحسَنِ نصرُ بن أحمد، وهو ابنُ ثماني سنين، وكانت ولايةُ نَصرٍ ثلاثين سنة وثلاثة وثلاثين يومًا، ثم اضطرب الأمرُ كثيرًا في سجستان بعد نصرٍ.
هو أبو فِراسٍ الحارِثُ بنُ سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني ابنُ عَمِّ ناصر الدولة وسيف الدولة ابني حمدان، كان رأسًا في الفروسية والجُود, وبراعةِ الأدب وكان شاعِرًا وأميرًا, قال الصاحِبُ بن عبَّاد: " بُدئَ الشِّعرُ بمَلِك وهو امرؤُ القَيسِ, وخُتِمَ بمَلِك وهو أبو فراسٍ". فكان عامِلَ منبج لسيفِ الدَّولة الحمداني، وله وقائِعُ كثيرة. أُسِرَ مِن قِبَلِ الرومِ، وبقي أربع سنين في أسْرِهم، تناوَلَ في شِعرِه تَشَيُّعَه لآل البيت. أمَّا سبَبُ قَتلِه فأنَّه كان مقيمًا بحمص، فجرى بينه وبين أبي المعالي بن سيفِ الدولة بن حمدان وحشةٌ، فطلبه أبو المعالي، فانحاز أبو فِراسٍ إلى صدد، وهي قرية في طرفِ البرية عند حمص، فجمع أبو المعالي الأعرابَ مِن بني كلاب وغيرهم، وسَيَّرَهم في طلبه مع قرعويه، فأدركه بصدد، فكَبَسوه، فاستأمن أصحابُه، واختلط هو بمن استأمَنَ منهم، فقال قرعويه لغلامٍ له: اقتُلْه، فقَتَله وأخَذَ رأسَه، وتُرِكَت جُثَّتُه في البرية، حتى دفنها بعضُ الأعراب. له ديوانٌ مشهور. قُتِلَ وكان عمُرُه سبعًا وثلاثين سنة.
هو الصاحبُ، الوَزيرُ، العَلَّامَةُ، أبو الوَليدِ أحمدُ بن عبدِ الله بن أحمدَ بن غالبِ بن زَيدونَ المَخزُومِيُّ، القُرشيُّ، الأندَلُسيُّ، القُرطُبيُّ، الشاعرُ الماهرُ، حاملُ لِواءِ الشِّعْرِ في عَصرِه. اتَّصلَ بالأَميرِ المُعتَمِدِ بن عبَّادٍ، صاحبِ إشبيلية، فحَظِيَ عنده وصار مُشاوِرًا في مَنزِلَةِ الوَزيرِ، كان بارِعًا أَديبًا شاعرًا مُجيدًا، كان يُشعِر لِنَفسِه لا للتَّكَسُّبِ، أُفْعِمَ بِحُبِّ وَلَّادَة بِنتِ المُستَكْفِي المرواني أَميرِ الأندَلُس، سُجِنَ بِتُهمَةِ مَيْلِه لِبَني أُمَيَّةَ، قال ابنُ بَسَّام: " كان أبو الوَليدِ غايةَ مَنثورٍ ومَنظومٍ، وخاتِمةَ شُعراءِ بني مَخزومٍ، أَحدُ مَن جَرَّ الأيامَ جَرًّا، وفاتَ الأنامَ طُرًّا، وصَرَّفَ السُّلطانَ نَفْعًا وضُرًّا، ووَسَّعَ البيانَ نَظْمًا ونَثْرًا؛ إلى أَدبٍ ليس للبَحرِ تَدَفُّقُهُ، ولا للبَدرِ تَأَلُّقُهُ، وشِعْرٍ ليس للسِّحْرِ بَيانُه، وللنُّجومِ الزُّهْرِ اقتِرانُه. وحَظٍّ مِن النَّثْرِ غَريبِ المَباني، شِعريِّ الألفاظِ والمعاني", وكان من أَبناءِ وُجوهِ الفُقَهاءِ بقُرطُبة، فانتَقلَ منها إلى عند صاحبِ إشبيلية المُعتَضِدِ بن عبَّادٍ، بعد الأربعين وأربع مائة، فجَعَلَهُ مِن خَواصِّه، وبَقِيَ معه في صُورةِ وَزيرٍ. تُوفِّي في إشبيلية ثم نُقِلَ إلى قُرطُبة ودُفِنَ فيها.
وصل المَلِكُ العزيزُ عُثمانُ بن صلاح الدين، وهو صاحِبُ مصر، إلى مدينةِ دِمشقَ، فحَصَرَها وبها أخوه الأكبَرُ الملك الأفضل عليُّ بن صلاح الدين، فنزل بنواحي ميدان الحصى، فأرسل الأفضَلُ إلى عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وهو صاحِبُ الديار الجزرية، يستنجِدُه، فسار الملك العادِلُ إلى دمشق هو والمَلِك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحِبُ حلب، وناصِرُ الدين محمد بن تقي الدين، صاحِبُ حماة، وأسدُ الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه، صاحِبُ حمص، وعسكَرُ الموصل وغيرها، كُلُّ هؤلاء اجتمعوا بدمشق، واتَّفَقوا على حفظها، علمًا منهم أنَّ العزيزَ إن مَلَكَها أخذ بلادَهم، فلما رأى العزيزُ اجتماعَهم عَلِمَ أنَّه لا قدرة له على البلد، فترَدَّدَت الرسل حينئذ في الصلح، فاستقَرَّت القاعدة على أن يكون بيتُ المقدس وما جاوره من أعمالِ فلسطين للعزيز، وتبقى دمشق وطبرية وأعمالها والغور للأفضَلِ، على ما كانت عليه، وأن يعطيَ الأفضَلُ أخاه المَلِك الظاهر جبلة واللاذقية بالساحل الشامي، وأن يكون للعادِلِ بمصر إقطاعُه الأول، واتفقوا على ذلك، وعاد العزيزُ إلى مصر، ورجع كُلُّ واحدٍ من الملوكِ إلى بلده.
لَمَّا استدعى المقتَدِرُ يوسفَ بنَ أبي الساج إلى واسط كتبَ إلى السعيدِ نصرِ بنِ أحمد السامانيِّ بولاية الرَّيِّ، وأمَرَه بقَصدِها، وأخذها من فاتك، غلامِ يوسُف، فسار نصر بن أحمد إليها، أوائِلَ هذا العام، فوصل إلى جبلِ قارن، فمنعه أبو نصرٍ الطبريُّ من العبورِ، فأقام هناك، فراسله وبذل له ثلاثين ألف دينارٍ حتَّى مكَّنَه من العبور، فسار حتَّى قارب الرَّيَّ، فخرج فاتك عنها، واستولى نصر بن أحمد عليها في جمادى الآخرة، وأقام بها شهرَينِ، وولَّى عليها سيمجور الدواتيَّ وعاد عنها. ثمَّ استعمل عليها محمَّد بن عليٍّ صعلوك، وسار نصر إلى بُخارى، ودخل صعلوك الرَّيَّ، فأقام بها إلى أوائِلِ شعبان سنة ست عشرة وثلاثمائة فمَرِضَ، فكاتب الحسنَ الدَّاعي، وماكان بن كالي في القدومِ عليه ليسلِّمَ الريَّ إليهما، فقَدِما عليه، فسلَّم َالريَّ إليهما وسار عنها، فلمَّا بلغ الدامغان مات.
هو السلطان أبو سعيد عثمان بن السلطان أبي العباس أحمد ابن السلطان أبي سالم إبراهيم ابن السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني الفاسي ملك الغرب وصاحب فاس. توفي قتيلًا في ليلة الثالث عشر شوال، قتله وزيره عبد العزيز اللباني، وكانت مدته ثلاثًا وعشرين سنة وثلاثة أشهر، وأقيم ولده عبد الحق خلفًا له مع أنه ما يزال صبيًّا، وكان الوصيُّ عليه الوزير أبا زكريا يحيى الوطاسي، فكان هو الحاكم، ويعتبر أبو سعيد آخر ملوك بني مرين؛ ففي ذي الحجة سار أبو زيان محمد بن أبي طريق محمد ابن السلطان أبي عنان من تازي، وكان ابن الأحمر قد بعث به من الأندلس لأخذ فاس، فنزل عليها وبايعه الشيخ يعقوب الحلفاوي الثائر بمدينة فاس، بمن اجتمع معه من أهل البلد، وقاتلوا اللباني أربعة أشهر.
سار سعودُ بن عبد العزيز وقَصْدُه بريدة، ومعه آل عليان الذين خرجوا منها سنة 1188 عندما أخذها عريعر بن دجين عنوةً, وفرض عليها حصارًا وبنى تجاهها حِصنًا جعل فيه عدَّةَ رجال عبد الله بن حسن أميرًا عليهم يواصِلُ منه الحصارَ على بريدة، فلما اشتد الأمر بأهل بريدة أرسل أمير البلد راشد الدريبي إلى عبد الله بن حسن الأمانَ لنفسه وأن يخرجَ لوحده فأعطاه الأمان وخرج إليه راشد، ثم دخل عبد الله ومن معه البلد وملكوها، وقُتل في ذلك الحصار 50 رجلًا من قوم الدريبي، واستولى عبد الله على ما فيها من الأموالِ، وبعد هذه الواقعة انقاد أهلُ القصيم وبايعوا على السَّمعِ والطاعة، ووفد عبد الله ومعه رجالٌ من رؤساء القصيم على الشيخِ والإمام عبد العزيز فبايعوهما على السمع والطاعة، واسُتعمل عبد الله بن حسن أميرًا على جميع بلدانِ القصيم.
كان العلاءُ بن الحَضْرَميِّ رضِي الله عنه واليَ البَحْرين، وكان يُسابِق سعدَ بن أبي وَقَّاص في الفَتحِ، فلمَّا كتَب الله النَّصرَ في القادِسيَّة، وكان له الصَّدى الواسعُ أَحَبَّ العَلاءُ أن يكونَ له النَّصرُ على فارِسَ مِن جِهَتِهِ، فنَدَبَ النَّاسَ إلى الجِهادِ، فاجتمَع الجيشُ وعَبَروا البحرَ إلى فارِسَ، ولكن كلّ ذلك دون إذْنِ عُمَر بن الخطَّاب، واتَّجه العَلاءُ إلى إصْطَخْر -مدينة جنوب إيران- وقاتلوا حتَّى انتصروا وفتحوها، ولكنَّ الفُرْسَ قطَعَت طَريقَهُم إلى سُفُنِهم فبَقَوْا مُحاصَرين ممَّا أَدَّى إلى عَزْلِ العَلاءِ، وطلَب منه الالتحاقَ بسعدِ بن أبي وَقَّاص وطلَب مِن عُتبةَ بن غَزْوانَ أن يُنْجِدَ العَلاءَ، فانْتَصَر المسلمون ثمَّ عادوا إلى البَصْرَةِ.
هو أبو أَيُّوب سُليمانُ بن يَسارٍ، وُلِدَ في خِلافَة عُثمان سَنة أربع وثلاثين, مَوْلَى أُمِّ المؤمنين مَيْمونَة بِنتِ الحارِث، أَحَدُ الفُقَهاء السَّبْعَة بالمَدينَة، كان عالِمًا ثِقَةً عابِدًا وَرِعًا حُجَّةً، كَثيرَ الصِّيام، فَقيهًا كَبيرًا، أَبوهُ فارِسِيٌّ، رَوَى عن مَولاتِه مَيْمونَة، وعن عائِشَة، وأبي هُريرةَ، وغَيرِهم مِن الصَّحابَة، كان مِن أَوْعِيَة العِلْم بحيث إنَّ بَعضَهم قد فَضَّلَه على سَعيدِ بن المُسَيِّب، وكان سَعيدُ بن المُسيب يُحِيلُ عليه المُسْتَفْتِين, ويقول عنه: "إنَّه أَعلَم مَن بَقِيَ اليومَ"، يقول الإمامُ مالِكٌ عنه: "كان سُليمان بن يَسار مِن عُلَماء النَّاسِ بعدَ سَعيدِ بن المُسَيِّب، وكان كَثيرًا ما يُوافِقُه"، وتُوفِّي في المَدينَة.