في سنة 387ه عقَدَ باديسُ بنُ منصورِ بنِ بلكينَ صاحِبُ إفريقيَّةَ الوِلايةَ لِعَمِّه حمَّادِ بنِ بلكين على أشيرَ، فاتَّسَعَت ولايةُ حمَّاد وعَظُم وجمَعَ العساكرَ والأموال. وفي سنة 405ه أظهر حمَّادٌ الخلافَ على ابنِ أخيه باديس وخلَعَه واقتتلا في أوَّلِ جمُادى سنة 406ه، فانهزم حَمَّادٌ هزيمةً شَنيعةً بعد قتالٍ شديدٍ بين الفريقين والتجأ إلى قلعة مغلية، ثمَّ نَهَب دكمة ونقَلَ منها الزَّادَ إلى مغيلة وتحصَّنَ بها وباديس بقُربِه مُحاصِرٌ له إلى أن توفِّيَ باديس فجأةً في ذي القعدة سنة 406. وتولَّى المُعِزُّ بن باديس، واستمَرَّ حمَّادٌ على الخُلفِ معه حتى اقتتلا في سنة 408 عند نيني، موضعٍ، فانهزم حمَّادٌ فلم يعُدْ إلى قتالٍ بعدها، واصطلح مع المعِزِّ على أن يقتَصِرَ حمَّادٌ على ما بيده، وهو عَمَلُ ابنِ عليٍّ وما وراءَه مِن أشير وتاهرت، واستقَرَّ للقائد ابنِ حَمَّاد المسيلة، وطبنة، ومرسى الدجاج، وزواوة، ومقرة، ودكمة وغيرها، وبقي حمَّادٌ وابنُه كذلك حتى مات حمَّاد منتصف سنة 419. واستقَرَّ في المُلكِ بعده ابنُه القائد حتى توفِّي سنة 446. فمَلَك بعده ابنُه محسن بن القائد فأساء وخبطَ وقَتَل في أعمامِه، فقاتله ابنُ عَمِّه بلكين ومَلَك مَوضِعَه في ربيع الأول سنة 447 وبقِيَ حتى غدر ببلكينَ النَّاصِرُ بنُ علناس بن حمَّاد وأخذ منه المُلكَ في رجب سنة 454. واستقَرَّ النَّاصِرُ بن علناس حتى توفِّي سنة 481. ومَلَك بعده ابنُه المنصور بن الناصر إلى أن توفِّي سنة 498. وملَكَ بعده ابنُه باديس بن المنصور يسيرًا وتوفِّيَ.
تراسل السلطان محمود والخليفة بشأن السلطان سنجر، وأن يكونا عليه، فلما علم بذلك سنجر كتب إلى ابن أخيه محمود ينهاه ويستميلُه إليه، ويحذِّره من الخليفة، وأنه لا تُؤمَنُ غائلتُه، وأنه متى فرغ مني دار إليك فأخَذَك، فأصغى إلى قول عمِّه ورجع عن عزمه، وأقبل ليدخل بغداد عامَه ذلك، فكتب إليه الخليفةُ ينهاه عن ذلك لقلةِ الأقوات بها، فلم يَقبَل منه، وأقبل إليه، فلما أزِفَ قدومُه خرج الخليفة من داره وتجهَّز إلى الجانب الغربي فشَقَّ عليه ذلك وعلى الناس، ودخل عيد الأضحى فخطب الخليفة الناسَ بنفسه خطبةً عظيمة بليغة فصيحة جدًّا، وكبَّر وراءه خطباء الجوامع، وكان يومًا مشهودًا، ولما نزل الخليفة عن المنبر ذبح البدنة بيده، ودخل السرادِقَ وتباكى الناس ودعوا للخليفة بالتوفيقِ والنصر، ثم دخل السلطان محمود إلى بغداد يوم الثلاثاء الثامن عشر من ذي الحجة، فنزلوا في بيوت الناس وحصل للناس منهم أذًى كثير في حريمهم، ثم إنَّ السلطان راسل الخليفة في الصلح فأبى ذلك الخليفة، وركب في جيشه وقاتل الأتراك ومعه شرذمةٌ قليلة من المقاتلة، ولكن العامةَ كلهم معه، وقتَلَ من الأتراك خلقًا، ثم جاء عماد الدين زنكي في جيشٍ كثيف من واسط في سفن إلى السلطان نجدةً، فلما استشعر الخليفةُ ذلك دعا إلى الصلح، فوقع الصلحُ بين السلطان والخليفة، وأخذ السلطان محمود يستبشر بذلك جدًّا، ويعتذر إلى الخليفة المسترشد بالله مما وقع، ثم خرج في أول السنة الآتية إلى همذان لمرضٍ حصل له.
لما وصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ذي الحجة، ونزل بباب الشماسية، ودخل بعضُ عسكره إلى بغداد، ونزلوا في دُورِ الناس، شكا الناسُ ذلك إلى السلطان، فأمر بإخراجِهم، وبَقِيَ فيها مَن له دار، وبقي السلطانُ يراسل الخليفة بالعود، ويطلب الصلحَ، وهو يمتنِعُ، وكان يجري بين العسكرين مناوشة، والعامة من الجانب الغربي يسبون السلطانَ أفحش سَبٍّ. ثم إن جماعة من عسكر السلطان دخلوا دار الخلافة، ونهبوا التاج، وحُجَر الخليفة، أول المحرم، وضجَّ أهل بغداد من ذلك، فاجتمعوا ونادوا الغزاة، فأقبلوا من كلِّ ناحية، ولما رآهم الخليفة خرج من السرادق والشمسة على رأسه، والوزير بين يديه، وأمر بضربِ الكوسات والبوقات، ونادى بأعلى صوته: يا آلَ هاشم! وأمر بتقديم السفن، ونَصْب الجسر وعبرَ الناسُ دفعةً واحدة، وكان له في الدار ألفُ رجل مختفين في السراديب، فظهروا، وعسكرُ السلطانِ مُشتَغِلون بالنهب، فأسر منهم جماعة من الأمراء، ثم عبر الخليفةُ إلى الجانب الشرقي، ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد، وأمر بحفر الخنادق، فحُفِرت بالليل، وحفظوا بغداد من عسكر السلطان، ووقع الغلاءُ عند العسكر، واشتدَّ الأمر عليهم، وكان القتالُ كلَّ يوم عليهم عند أبواب البلدِ وعلى شاطئ دجلة، وعزم عسكر الخليفة على أن يكبِسوا عسكر السلطان، فغدر بهم الأميرُ أبو الهيجاء الكردي، صاحب إربل، وخرج كأنَّه يريد القتال، فالتحق هو وعسكرُه بالسلطان. وقَدِمَ عماد الدين زنكي بقواتٍ ضخمة نجدةً للسلطان فأجاب المسترشد بالله للصُّلحِ.
هبةُ اللهِ بن علي بن هبة الله بن محمد بن الحسن مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب أستاذ دار المستضيء بأمر الله، انتهت إليه الرئاسةُ في زمانِه، ووليَ حجابةَ الباب في أيام المستنجدِ، وبلغ رتبةَ الوزراءِ، وولَّى وعَزَل وماج الرفض في أيامِه، وشمخت المبتدعةُ، ولَمَّا بويع الناصِرُ قَرَّبَه وحكَّمَه في الأمور، ثم إنَّ بعض النَّاسِ سعى به فاستدعيَ إلى دار الخلافة وقُتِلَ بها ثمَّ عُلِّقَ رأسُه على بابِ دارِه، وكان سيئَ الطريقة يرتكب المعاصيَ، بخيلًا خسيس النفس، ساقطَ المروءةِ، مذمومَ الأفعالِ، كان إذا رجع من متصَيَّده وقد صَحِبَه شيءٌ من لحوم الصيد، قطع راتبَه من اللَّحمِ واجتزأ بلحمِ الصَّيدِ عنه ولم يقدِرْ أحدٌ على أن يأكل له لقمةً ولا ينتَفِعَ مِن ماله بشيءٍ، ولما هلك خلَّفَ من الأموال شيئًا كثيرًا، وكان رافضيًّا محترقًا شديد التعَصُّب لهواه، معلِنًا بغُلَوائِه، ظهر بسببه سبُّ الصحابة رضي الله عنهم على ألسنة الفَسَقة الرَّافضة في الأسواق وفي المشاهد والمزارات، ولم يجسر أحدٌ من أهل السنة على إنكار ذلك، لا بِيَدِه ولا بلسانِه؛ خَوفًا من بطشِه وبأسِه! وحُكي أنه رئِيَ في المنام في الليلة التي قُتِلَ في صبيحتها كأنه يشبر عنُقَه ويقَدِّرُها بيده، فأصبح وقُصَّ منامُه على رجلٍ ضريرٍ كان يعبِّرُ الرؤيا ولم يقُلْ له إنَّه رآه بنَفسِه، فقال له: إن هذا الرائي لهذا المنام يُقتَلُ وتحَزُّ رَقَبتُه؛ لأنَّ الله تعالى يقولُ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}.
وصل الخبَرُ إلى جلال الدين أن نائبه بكرمان، وهو أميرٌ كبير اسمه بلاق حاجب، قد عصى عليه، وطَمِعَ في أن يتملَّك البلاد ويستبِدَّ بها لبُعدِ جلال الدين عنها، واشتغاله بالكرج وغيرهم، وأنه أرسل إلى التتر يعَرِّفُهم قوة جلال الدين ومُلكَه كثيرًا من البلاد، وإن أخذ الباقي عَظُمَت مملكته، وكثُرَت عساكره، وأخذَ ما بأيديكم من البلاد. فلما سمع جلال الدين ذلك كان قد سار يريد خلاط، فتركها وسار إلى كرمان يطوي المراحِلَ، وأرسل بين يديه رسولًا إلى صاحِبِ كرمان، ومعه الخِلَع ليطمَئِنَّ ويأتيه وهو غيرُ محتاط ولا مستعِدٍّ للامتناع منه، فلما وصل الرسول عَلِمَ أن ذلك مكيدةٌ عليه لِما يَعرِفُه من عادته، فأخذ ما يعِزُّ عليه، وصعد إلى قلعةٍ منيعةٍ فتحَصَّن بها، وجعل من يثقُ به من أصحابه في الحصونِ يمتَنِعون بها، وأرسل إلى جلال الدين يقول: إنَّني أنا العبد والمملوك، ولما سمعت بمسيرك إلى هذه البلاد أخليتُها لك؛ لأنَّها بلادك، ولو علمتُ أنَّك تبقي علي لحضرتُ بابك، ولكنِّي أخاف هذا جميعَه، والرسولُ يحلف له أنَّ جلال الدين بتفليس، وهو لا يلتَفِتُ إلى قوله، فعاد الرسول، فعلم جلالُ الدين أنه لا يمكِنُه أخذ ما بيده من الحصونِ؛ لأنه يحتاج أن يحصُرَها مدة طويلة، فوقف بالقُربِ من أصفهان، وأرسل إليه الخِلَع، وأقرَّه على ولايته, فبينما الرسل تتردد إذ وصل رسولٌ مِن وزير جلالِ الدين إليه من تفليس يعَرِّفُه أن عسكر الملك الأشرفِ الذي بخلاط قد هَزَموا بعض عسكره وأوقعوا بهم، ويحثُّه على العود إلى تفليس فعاد إليهم مُسرعًا.
هو السُّلطانُ المَلِكُ المنصور علي ابن الأشرف شعبان بن حسين الناصر بن المنصور قلاوون. مَرِضَ السلطان المنصور ولزم الفراش، حتى مات بين الظُّهرِ والعصر من يوم الأحد الثالث والعشرين صفر، ودفن من ليلته بعد عشاء الآخرة في تربةِ جَدَّتِه لأبيه خوند بركة بالقُبَّة التي بمدرستها بالتبانة، وكان الذي تولَّى تجهيزه وتغسيلَه ودَفْنَه الأميرَ قطلوبغا الكوكائي، وكانت مُدَّة سلطنته على ديار مصر خمس سنين وثلاثة أشهر وعشرين يومًا، ومات وعُمُرُه اثنتا عشرة سنة، ولم يكن في سلطنته سوى مجرَّد الاسم فقط، وإنما كان أمرُ المملكة في أيام سلطنته إلى قرطاي أولًا ثم إلى برقوق آخِرًا، وهو كالآلة معهم لصِغَرِ سنه ولغَلَبَتِهم عليه، وتسَلْطَنَ مِن بعده أخوه أمير حاج ابن الملك الأشرف شعبان بن حسين، ولم يَقدِرْ برقوق- مع ما كان عليه من العظمة- أن يتسلطَنَ، وتلَقَّبَ بالمَلِك الصالح، ولما تمَّ أمرُ الملك الصالح هذ،ا ألبسوه خِلعةَ السلطنة، وركب من باب الستارة بأُبَّهة الملك، وبرقوقٌ والأمراءُ مُشاةٌ بين يديه، إلى أن نزل إلى الإيوان بقلعة الجبل، وجلس على كرسيِّ المُلك، وقَبَّلَت الأمراءُ الأرض بين يديه، ثم مُدَّ السِّماطُ وأكَلَت الأمراء، ثم قام السلطانُ الملك الصالح ودخل القصر، وخلع على الخليفةِ المتوكِّلِ على اللهِ خِلعةً جميلة، ونودي بالقاهرةِ ومصر بالأمانِ والدعاء للملك الصالح حاجي، وخلع السُّلطانُ على الأتابك برقوق، واستقر على عادته أتابكَ العساكِرِ ومُدَبِّرَ الممالك؛ لصغر سن السلطان، وكان سن السلطان يوم تسلطن نحو تسع سنين تخمينًا.
كانت السودانُ خاضعةً لحكم محمد علي باشا من عام 1237هـ /1821 م. فقامت الحركةُ المهدية في الفترة من 1299 - 1317هـ /1881 - 1899 م؛ لتخليص السودانِ مِن ظلم الحكومة المصرية الواقِعِ على السودانيين؛ حيث أعلن محمد أحمد بن عبد الله أنَّه المهدي المنتَظَر لبعث الأمَّة، فتبعه كثيرون وسيطَرَ على أغلب البلاد، وكان محمد المهدي في سنة 1298 هـ (1881 م) تلقَّب بالمهديِّ المنتظَر، وكتب إلى فقهاء السودان يدعوهم لنصرته. وانبَثَّ أتباعه (ويُعرَفون بالأنصار أو الدراويش) بين القبائل يحضُّون على الجهاد. وسمع بالمهدي رؤوف باشا المصري (حاكم السودان العام) فاستدعاه إلى الخرطوم، فامتنع, فأرسل رؤوف قوَّةً تأتيه به فانقض عليها أتباعُه في الطريق وفتَكُوا بها. وساقت الحكومةُ المصرية جيشًا لقتاله بقيادةِ جيقلر باشا البافاري، فهاجمه نحو 50 ألف سوداني وهزموه. واستولى المهديُّ على مدينة (الأبيض) سنة 1300 هـ وهاجمه جيش مصري ثالث بقيادة هيكس باشا فأُبيدَ. وهاجم بعضُ أتباعه (الخرطوم) وفيها غوردون باشا فقَتَلوه وحملوا رأسَه على حربة سنة 1302 هـ وانقاد السودان كلُّه للمهدي، وكان فَطِنًا فصيحًا قَوِيَّ الحُجَّة، إذا خطَب خَلَب الأسماع, وأقام يجمَعُ الجموع ويجَنِّد الجنود لأجل التغلب على القواتِ المصرية، وأرسل إلى الخديوي والسلطان عبد الحميد وملكة إنكلترا يشعرهم بدولته ومقرِّ سلطنته، وضَرَب النقودَ, ولكِنَّه لم يلبث أن مات بالجدري، وظلَّت حركة المهدية إلى أن قُضي عليها بجيش مصري تحت قيادة إنجليزية سنة 1317 هـ/1899م.
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للمُسلمين: «إنِّي أُريتُ دارَ هِجرتِكُم ذاتَ نَخلٍ بين لابَتَيْنِ». وهُما الحَرَّتانِ، فهاجر مَن هاجر قِبَلَ المدينةِ، ورجع عامَّةُ مَن كان هاجر بأرضِ الحَبشةِ إلى المدينةِ، وتَجهَّز أبو بكرٍ قِبَلَ المدينةِ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «على رِسْلِكَ، فإنِّي أرجو أن يُؤذنَ لي». فقال أبو بكرٍ: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم». فحبَس أبو بكرٍ نَفْسَهُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيصحبَهُ، وعلَف راحِلتينِ كانتا عنده وَرَقَ السَّمُرِ -وهو الخَبَطُ- أربعةَ أَشهُرٍ. قال ابنُ شهابٍ: قال عُروةُ: قالت عائشةُ: فبينما نحن يومًا جُلوسٌ في بيتِ أبي بكرٍ في نَحْرِ الظَّهيرةِ، قال قائلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُتقنِّعًا، في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكرٍ: فِداءٌ له أبي وأمِّي، والله ما جاء به في هذه السَّاعةِ إلَّا أَمْرٌ، قالت: فجاء رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاسْتأذَن، فأُذِنَ له فدخل، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ: «أَخْرِجْ مَن عندك». فقال أبو بكرٍ: إنَّما هُم أَهلُك، بأبي أنت يا رسولَ الله. قال: «فإنِّي قد أُذِنَ لي في الخُروجِ». فقال أبو بكرٍ: الصُّحبة بأبي أنت يا رسولَ الله؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نعم». قال أبو بكرٍ: فَخُذْ -بأبي أنت يا رسولَ الله- إحدى راحِلَتي هاتينِ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «بالثَّمنِ». قالت عائشةُ: فجَهَّزناهُما أَحَثَّ الجِهازِ، وصنعنا لهُما سُفْرَةً في جِرابٍ، فقطعتْ أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ قِطعةً مِن نِطاقِها فربطتْ به على فَمِ الجِرابِ، فبذلك سُمِّيت: ذاتَ النِّطاقينِ. قالت: ثمَّ لَحِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ بِغارٍ في جبلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فيه ثلاثَ ليالٍ، يَبيتُ عندهما عبدُ الله بنُ أبي بكرٍ، وهو غلامُ شابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ مِن عندهِما بِسَحَرٍ، فيُصبحُ مع قُريشٍ بمكَّةَ كَبائِتٍ، فلا يسمعُ أمرًا، يُكتادانِ به إلَّا وعاهُ، حتَّى يأتيَهُما بخبرِ ذلك حين يَختلِطُ الظَّلامُ، ويَرعى عليهِما عامرُ بنُ فُهيرةَ، مولى أبي بكرٍ مِنْحَةً مِن غَنَمٍ، فيُريحُها عليهِما حين تَذهبُ ساعةٌ مِنَ العِشاءِ، فيَبيتانِ في رِسْلٍ، وهو لبنُ مِنْحَتِهِما ورَضِيفِهِما، حتَّى يَنْعِقَ بها عامرُ بنُ فُهيرةَ بِغَلَسٍ، يفعلُ ذلك في كُلِّ ليلةٍ مِن تلك اللَّيالي الثَّلاثِ، واسْتأجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ رجلًا مِن بني الدِّيلِ، وهو مِن بني عبدِ بنِ عَدِيٍّ، هادِيًا خِرِّيتًا -والخِرِّيتُ الماهرُ بالهِدايةِ- قد غَمَسَ حِلْفًا في آلِ العاصِ بنِ وائلٍ السَّهميِّ، وهو على دينِ كُفَّارِ قُريشٍ، فأَمِناهُ فدَفعا إليه راحِلَتَيْهِما، وواعَداهُ غارَ ثَوْرٍ بعدَ ثلاثِ ليالٍ، بِراحِلَتيهِما صُبْحَ ثلاثٍ، وانطلق معهما عامرُ بنُ فُهيرةَ والدَّليلُ، فأخذ بهم طريقَ السَّواحلِ. قال: سُراقةُ بنُ جُعْشُمٍ: جاءنا رُسُلُ كُفَّارِ قُريشٍ، يجعلون في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ، دِيَةَ كُلِّ واحدٍ منهما، مَن قَتلهُ أو أَسَرهُ، فبينما أنا جالسٌ في مجلسٍ مِن مجالسِ قَومي بني مُدْلِجٍ، أقبل رجلٌ منهم حتَّى قام علينا ونحن جُلوسٌ، فقال يا سُراقةُ: إنِّي قد رأيتُ آنفًا أَسْوِدَةً بالسَّاحلِ، أُراها محمَّدًا وأصحابَه، قال سُراقةُ: فعرَفتُ أنَّهم هُم، فقلتُ له: إنَّهم لَيسوا بهِم، ولكنَّك رأيتَ فُلانًا وفُلانًا، انطلَقوا بِأَعْيُنِنا، ثمَّ لَبِثْتُ في المجلسِ ساعةً، ثمَّ قمتُ فدخلتُ فأمرتُ جاريتي أن تَخرُجَ بفَرسي، وهي مِن وراءِ أَكَمَةٍ، فتَحبِسَها عليَّ، وأخذتُ رُمحي، فخرجتُ به مِن ظَهرِ البيتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأرضَ، وخَفضتُ عالِيَهُ، حتَّى أتيتُ فَرسي فركِبتُها، فرفَعتُها تُقَرِّبُ بي، حتَّى دَنوتُ منهم، فعَثَرَتْ بي فَرسي، فخَررتُ عنها، فقمتُ فأَهويتُ يدي إلى كِنانتي، فاسْتخرجتُ منها الأَزلامَ فاسْتقسَمتُ بها: أَضرُّهُم أم لا، فخرج الذي أَكرهُ، فركِبتُ فَرسي، وعصيتُ الأَزلامَ، تُقَرِّبُ بي حتَّى إذا سمعتُ قِراءةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يَلتفتُ، وأبو بكرٍ يُكثِرُ الالتِفاتَ، ساختْ يَدا فَرسي في الأرضِ، حتَّى بَلغتا الرُّكبَتينِ، فخررتُ عنها، ثمَّ زجرتُها فنهَضتْ، فلم تكدْ تُخرِجُ يدَيها، فلمَّا استوت قائمةً إذا لِأثَرِ يدَيها عُثانٌ ساطعٌ في السَّماءِ مِثلُ الدُّخانِ، فاسْتقسَمتُ بالأَزلامِ، فخرج الذي أَكرهُ، فنادَيتُهم بالأَمانِ فوقفوا، فركِبتُ فَرسي حتَّى جِئتُهم، ووقع في نفسي حين لَقِيتُ ما لَقِيتُ مِنَ الحَبسِ عنهم أن سَيظهرُ أَمْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ له: إنَّ قومَك قد جعلوا فيك الدِّيةَ، وأخبرتُهم أخبارَ ما يُريدُ النَّاسُ بهِم، وعرضتُ عليهم الزَّادَ والمتاعَ، فلم يَرْزآني ولم يَسألاني، إلَّا أن قال: «أَخْفِ عَنَّا». فسألتُه أن يَكتُبَ لي كتابَ أَمْنٍ، فأمر عامرَ بنَ فُهيرةَ فكتب في رُقعةٍ مِن أَديمٍ، ثمَّ مَضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وعن عُروةَ بنِ الزُّبيرِ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَقِيَ الزُّبيرَ في رَكْبٍ مِنَ المسلمين، كانوا تُجَّارًا قافِلين مِن الشَّأْمِ، فكَسا الزُّبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ ثِيابَ بَياضٍ، وسمِع المسلمون بالمدينةِ مَخرجَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن مكَّةَ، فكانوا يَغدون كُلَّ غَداةٍ إلى الحَرَّةِ، فيَنتظِرونَهُ حتَّى يَرُدَّهُم حَرُّ الظَّهيرةِ، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارَهُم، فلمَّا أَوَوْا إلى بُيوتِهم، أَوفى رجلٌ مِن يَهودَ على أُطُمٍ مِن آطامِهِم، لِأَمْرٍ يَنظرُ إليه، فبصر برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه مُبَيَّضِين يَزولُ بهِم السَّرابُ، فلم يملِك اليَهوديُّ أن قال بأعلى صوتِه: يا مَعاشِرَ العربِ، هذا جَدُّكُم الذي تَنتظِرون، فثار المسلمون إلى السِّلاحِ، فتَلَقَّوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بظَهْرِ الحَرَّةِ، فعَدل بهِم ذاتَ اليمينِ، حتَّى نزل بهِم في بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، وذلك يومَ الاثنينِ مِن شهرِ ربيعٍ الأوَّلِ، فقام أبو بكرٍ للنَّاسِ، وجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صامتًا، فطَفِقَ مَن جاء مِنَ الأنصارِ -ممَّن لم يَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم- يُحَيِّي أبا بكرٍ، حتَّى أصابتِ الشَّمسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكرٍ حتَّى ظَلَّلَ عليه بِردائِه، فعرَف النَّاسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
سار مَلِكُ الألمانِ مِن بلادِه في خَلقٍ كَثيرٍ وجَمْعٍ عَظيمٍ مِن الفرنج، عازمًا على قَصدِ بلادِ الإسلامِ، وهو لا يَشُكُّ في مِلكِها بأيسَرِ قِتالٍ؛ لكَثرةِ جُموعِه، وتوفُّرِ أموالِه وعُدَدِه، فلمَّا وَصَل إلى الشَّامِ قَصَده مَن به من الفرنجِ وخَدَموه، وامتَثَلوا أمْرَه ونَهْيَه، فأمَرَهم بالمسيرِ معهم إلى دمشقَ لِيَحصُرَها، فساروا معه ونازلوها وحَصَروها، وكان صاحِبُها مجير الدين أبق بن نوري بن طغتكين، وليس له من الأمر شيءٌ، وإنَّما الحُكمُ في البلد لِمُعين الدين أنر مملوكِ جَدِّه طغتكين، فجَمَعَ العساكِرَ وحَفِظَ البَلَدَ، وأقام الفرنجُ يُحاصِرونَهم، ثمَّ إنَّهم زَحَفوا سادِسَ ربيع الأوَّل بفارِسِهم وراجِلِهم، فخرج إليهم أهلُ البَلَدِ والعَسكَرُ فقاتَلوهم، وصَبَروا لهم، وقاتَلوا الفِرنجَ حتى قُتِلَ مُعين الدين عند النيرب نحوَ نِصفِ فرسَخٍ عن دِمشقَ وقَوِيَ الفرنجُ وضَعُفَ المُسلِمونَ، فتقَدَّمَ مَلِكُ الألمان حتى نزل بالميدانِ الأخضَرِ، فأيقَنَ النَّاسُ بأنَّه يَملِكُ البَلَدَ، وكان مُعينُ الدينِ قد أرسل إلى سيفِ الدين غازي بن أتابك صاحِبِ حَلَب يدعوه إلى نُصرةِ المُسلِمينَ وكَفِّ العدُوِّ عنهم، فجمع عساكِرَه وسار إلى الشَّامِ، واستصحَبَ معه أخاه نورَ الدين محمود من حَلَب، فنزلوا بمدينةِ حِمص، وأرسل إلى مُعين الدين يقول له: "قد حَضَرتُ ومعي كلُّ مَن يَحمِلُ السلاحَ من بلادي، فأريد أن يكونَ نُوَّابي بمدينة دمشق لأحضُرَ وألقى الفِرنجَ، فإن انهَزمتُ دخَلْتُ أنا وعسكري البَلَدَ، واحتمَينا به، وإن ظَفِرتُ فالبَلَدُ لكم لا أنازِعُكم فيه"، ثم أرسل إلى الفِرنجِ يتهَدَّدُهم إن لم يَرحَلوا عن البلَدِ، فكفَّ الفرنجُ عن القتال خوفًا من كثرةِ الجِراحِ، وربما اضطُروا إلى قتالِ سيف الدين، فأبقَوا على نُفوسِهم، فقَوِيَ أهلُ البلَدِ على حِفظِه، واستراحوا من لزومِ الحَربِ، وأرسل مُعينُ الدين إلى الفرنج الغُرَباء: "إنَّ مَلِكَ المَشرِق قد حضر، فإنْ رَحَلتُم، وإلَّا سَلَّمتُ البلدَ إليه، وحينئذٍ تَندَمونَ، وأرسل إلى فرنجِ الشام يقول لهم: بأيِّ عَقلٍ تُساعِدونَ هؤلاء علينا، وأنتم تعلمونَ أنهم إن مَلَكوا دمشقَ أخَذوا ما بأيديكم من البلادِ الساحليَّة، وأمَّا أنا فإن رأيتُ الضَّعفَ عن حِفظِ البلد سَلَّمتُه إلى سيف الدين، وأنتم تعلمونَ أنَّه إن ملك دِمشقَ لا يبقى لكم معه مُقامٌ في الشام"، فأجابوه إلى التَّخلي عن مَلِك الألمانِ، وبذل لهم تَسليمَ حِصنِ بانياس إليهم، واجتمَعَ السَّاحليَّة بمَلِك الألمان، وخَوَّفوه مِن سَيفِ الدين وكَثرةِ عَساكِرِه وتتابُعِ الأمداد إليه، وأنَّه ربما أخذ دمشقَ وتَضعُفُ عن مُقاومِته، ولم يزالوا به حتى رحَلَ عن البَلَدِ، وتسَلَّموا قلعة بانياس، وعاد الفرنجُ الألمانيَّةُ إلى بلادهم وهي من وراء القُسطنطينيَّة، وكفى اللهُ المؤمنينَ شَرَّهم. ذكر ابنُ كثيرٍ هذا الحِصارَ لدمشق فقال: "حاصَرَ الفِرنجُ دِمشقَ وهم سبعون ألفًا، ومعهم مَلِكُ الألمانُ في خَلقٍ لا يَعلَمُهم إلَّا اللهُ عَزَّ وجل، وعليها مُجير الدين أرتق وأتابكه مُعين الدين أنر، وهو مُدَبِّرُ المملكة، وذلك يومَ السبت سادس ربيع الأول، فخرج إليهم أهلُها في مئة ألف وثلاثين ألفًا، فاقتتلوا معهم قتالًا شَديدًا، قُتِلَ مِن المُسلِمينَ في أوَّلِ يَومٍ نحوٌ مِن مِئتَي رجُلٍ، ومن الفرنجِ خَلقٌ كَثيرٌ لا يُحصَونَ، واستمَرَّت الحَربُ مُدَّةً، واجتمَعَ النَّاسُ وسطَ صحْنِ الجامِعِ يدعونَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ، والنِّساء والأطفال مُكشفي الرؤوس يدعون ويتباكَون، فاستغاث أرتق بنور الدينِ محمود صاحِبِ حلب وبأخيه سيفِ الدين غازي صاحِبِ المَوصِل، فقصداه سريعًا في نحوٍ مِن سبعينَ ألفًا بمن انضاف إليهم من الملوكِ وغَيرِهم، فلمَّا سَمِعَت الفرنج بقدوم الجيشِ تحولوا عن البلد، فلَحِقَهم الجيشُ فقَتَلوا منهم خلقًا كثيرًا، وجَمًّا غفيرًا، وقتلوا قِسِّيسًا معهم اسمُه إلياس، وهو الذي أغراهم بدِمشقَ، وذلك أنَّه افترى منامًا عن المسيح أنَّه وعده فَتحَ دِمشقَ، فقُتِلَ- لعنه الله- وقد كادوا يأخُذونَ البَلَدَ، ولكِنَّ الله سَلَّمَ، وحماها بحَولِه وقُوَّتِه. قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] ومدينةُ دِمشقَ لا سبيلَ للأعداء من الكَفَرةِ عليها؛ لأنَّها المحَلَّةُ التي أخبَرَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنها أنَّها مَعقِلُ الإسلامِ عند الملاحِمِ والفِتَنِ، وبها يَنزِلُ عيسى بنُ مريم، وقد قَتَل الفرنجُ خَلقًا كَثيرًا مِن أهلِ دِمشقَ".
في خامِس عشر ربيع الآخر قَدِمَت رسل ريدافرنس في طَلَبِ القُدسِ وبلادِ الساحل، وعِدَّتُهم مائة وعشرون رجلًا، فأنكَرَ السلطانُ الناصِرُ محمد بن قلاوون عليهم وعلى مُرسِلِهم وأهانَهم، ثمَّ رسم بِعَودِهم إلى بلادهم، وقال لهم: لولا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقتَلُ لقَتَلْتُكم جميعًا.
هو الوَزيرُ الكَبيرُ، نِظامُ المُلْكِ، قِوامُ الدِّينِ، أبو عليٍّ الحَسنُ بن عليِّ بن إسحاقَ الطُّوسيُّ، وَزيرُ السُّلطانِ ملكشاه السلجوقي، عاقِلٌ، سائِسٌ، خَبيرٌ، سَعيدٌ، مُتَدَيِّنٌ، مُحتَشِمٌ، عامِرُ المَجلِس بالقُرَّاءِ والفُقَهاءِ. أَنشأَ المَدرسةَ النِّظامِيَّة الكُبرى ببغداد، ثم أَنشأَ مَدارسَ أُخرى في عَددٍ من البُلدانِ, ورَغَّبَ في العِلمِ، وأَدَرَّ على الطَّلَبَةِ الصِّلاتِ، وأَملَى الحَديثَ، وبَعُدَ صِيتُه. وُلِدَ سَنةَ 408هـ بنوقان، إحدى مَدينَتي طُوس، وكان من أَولادِ الدَّهَّاقِين بناحِيَةِ بيهق، وكان فَقيرًا مَشغولًا بسَماعِ الحَديثِ والفِقْهِ، وقَرأَ النَّحْوَ، خَتَمَ القُرآنَ وله إحدى عشرة سَنَةً، وعَمِلَ بالكِتابَةِ والدِّيوانِ، وخَدَمَ بغزنةَ، ثم بعدَ حينٍ اتَّصَلَ بداود بن ميكائيل السلجوقيِّ فظَهَرَ له منه النُّصْحُ والمَحَبَّةُ،، فأَخذَهُ بِيَدِهِ وسَلَّمَهُ إلى وَلَدِه ألب أرسلان، وقال له: يا محمد، هذا حَسَنٌ الطُّوسيُّ اتَّخِذهُ والِدًا ولا تُخالِفهُ. فلمَّا وَصَلَ المُلْكُ إلى ألب أرسلان استَوزَرَهُ، فدَبَّرَ مُلكَه عشر سنين. ولمَّا ماتَ ألب أرسلان، ازدَحَم أَولادُه على المُلْكِ، فقام بأَمْرِ ملكشاه حتّى تَمَّ أَمرُه ومَلَكَ السَّلطَنَةَ. كان نِظامُ المُلْكِ عاليَ الهِمَّةِ، وافِرَ العَقلِ، عارِفًا بتَدبيرِ الأُمورِ، وخَفَّفَ المَظالِمَ، ورَفَقَ بالرَّعايا، وبَنَى الوُقوفَ، وهاجَرَت الكِبارُ إلى جَنابِه، وازدادَت رِفعَتُه. قال الذهبيُّ: "كان شافِعيًّا أَشعَريًّا. سار إلى غزنة، فصار كاتِبًا نَجيبًا، إليه المُنتَهى في الحِسابِ، وبَرَعَ في الإنشاءِ، وكان ذَكِيًّا، لَبيبًا، يَقِظًا، كامِلَ السُّؤدَدِ. قيل: إنه ما جَلَسَ إلا على وُضوءٍ، وما تَوضَّأ إلا تَنَفَّلَ، ويَصومُ الاثنين والخميس، جَدَّدَ عِمارةَ خوارزم، ومَشهدَ طوس، وعَمِلَ بيمارستانا، وبَنَى مَدارِسَ بمَرو، وهراة، وبلخ، والبَصرَة، وأصبهان، وكان حَلِيمًا رَزينًا جَوادًا، صاحِبَ فُتُوَّةٍ واحتِمالٍ ومَعروفٍ كَثيرٍ إلى الغايَةِ، ويُبالِغ في الخُضوعِ للصَّالِحين". قال ابنُ عَقيلٍ: "بَهَرَ العُقولَ سِيرَةُ النِّظامِ جُودًا وكَرمًا وعَدلًا، وإحياءً لِمَعالِمِ الدِّين، كانت أيامُه دَولةَ أَهلِ العِلمِ، ثم خُتِمَ له بالقَتلِ وهو مارٌّ إلى الحَجِّ، في رمضان، فماتَ مَلِكًا في الدنيا، مَلِكًا في الآخرة" في عاشر رمضان قُتِلَ نِظامُ المُلْكِ أبو عليٍّ الحَسنُ بن عليِّ بن إسحاقَ الوَزيرُ بالقُرْبِ من نهاوند، وكان هو والسُّلطانُ في أصبهان، وقد عاد إلى بغداد، فلمَّا كان بهذا المكان، بعد أن فَرَغَ من إفطارِه، وخَرجَ في مَحِفَّتِه إلى خَيمةِ حَرَمِه، أَتاهُ صَبِيٌّ دَيلميٌّ من الباطِنيَّةِ، في صورة مُستَميحٍ، أو مُستَغيثٍ، فضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ كانت معه، فقَضَى عليه وهَرَبَ، فعَثَرَ بطُنُبِ خَيمَةٍ، فأَدرَكوهُ فقَتَلوهُ، فسَكَنَ عَسكرُه وأَصحابُه، وقيل: إن قَتْلَهُ كان بتَدبيرِ السُّلطانِ، فلم يُمهَل بعدَه إلا نحوَ شَهرٍ، وبقي كانت وِزارتُه لبَنِي سلجوق أربعًا وثلاثين سَنةً- وقيل: أربعين سَنةً- تُوفِّي عن سِتٍّ وسبعين سَنةً.
كان الأميرُ علي بن يحيى صاحب إفريقية لما استوحش من رجار صاحب صقلية، جدَّد الأسطول الذي له، فكثَّر عَدده وعُدده، وكاتب أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بمراكش بالاجتماع معه على قصد جزيرة صقلية، فلما علم رجار ذلك كفَّ عن بعض ما كان يفعله، فاتفق أن عليًّا مات سنة 515، وولي ابنه الحسن، فلما دخلت سنة 516 سيَّرَ أمير المسلمين أسطولًا، ففتح نقوطرة بساحل بلاد قلورية، فلم يشكَّ رجار أن عليًّا كان سبب ذلك، فجدَّ في تعمير الشواني والمراكب، وحشد فأكثر، ومُنِع من السفر إلى إفريقية وغيرها من بلاد الغرب، فاجتمع له من ذلك ما لم يُعهَد مثله، قيل: كان ثلاثمائة قطعة، فلما انقطعت الطريق عن إفريقية توقَّع الأمير الحسن بن علي خروج العدو إلى المهدية، فأمر باتخاذ العُدد، وتجديد الأسوار، وجَمْع المقاتِلة، فأتاه من أهل البلاد ومن العرب جمع كثير، فلما كان جمادى الآخرة سنة 517 سار الأسطول الفرنجي في ثلاثمائة قطعة، فيها ألف فارس وفرس واحد، إلا أنهم لما ساروا من مرسى علي فرَّقتهم الريح، وغرق منهم مراكب كثيرة، ونازل من سَلِمَ منهم جزيرة قوصرة ففتحوها، وقتلوا من بها، وسَبَوا وغنموا، وساروا عنها، فوصلوا إلى إفريقية، ونازلوا الحصن المعروف بالديماس أواخر جمادى الآخرة، فقاتلهم طائفة من العرب كانوا هناك، والديماس حِصن منيع في وسطه حصن آخر، وهو مُشرِف على البحر، وسيَّر الحسن من عنده من الجموع إلى الفرنج، وأقام هو بالمهدية في جمع آخر يحفظها، وأخذ الفرنج حصن الديماس، وجنود المسلمين محيطة بهم، فلما كان بعد ليال اشتدَّ القتال على الحصن الداخل، فلما كان الليل صاح المسلمون صيحة عظيمة ارتجَّت لها الأرض، وكبَّروا، فوقع الرعبُ في قلوب الفرنج، فلم يشكُّوا أن المسلمين يهجمون عليهم، فبادروا إلى شوانيهم، وقتلوا بأيديهم كثيرًا من خيولهم، وغنم المسلمون منها أربعمائة فرس، ولم يسلم معهم غير فرس واحد، وغنم المسلمون جميع ما تخلَّف عن الفرنج، وقتلوا كلَّ من عجز عن الطلوعِ إلى المراكِبِ، فلما صعد الفرنج إلى مراكِبِهم أقاموا بها ثمانية أيام لا يقدِرون على النزول إلى الأرض، فلما أيسوا من خلاص أصحابهم الذين في الديماس ساروا والمسلمون يكبِّرون عليهم ويَصيحون بهم، وأقامت عساكِرُ المسلمين على حصن الديماس في أُمم لا يُحصَون كثرةً، فحَصَروه، فلم يُمكِنْهم فتحُه لحصانته وقوته، فلما عدم الماء على من به من الفرنج، وضجروا من مواصلة القتال ليلًا ونهارًا، فتحوا باب الحصن وخرجوا، فقُتِلوا عن آخِرِهم، وذلك يوم الأربعاء منتصف جمادى الآخرة من السنة، وكانت مدة إقامتهم في الحصن ستة عشر يومًا، ولما رجع الفرنج مقهورين أرسل الأمير الحسن البشري إلى سائر البلاد.
هو الخليفةُ، المستنجد بالله، أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بن المقتدي العباسي. أمُّه كرجية اسمُها طاووس. عقد له أبوه بولاية العهد في سنة سبع وأربعين، وعمره يومئذ تسع وعشرون سنة. فلما احتُضِر المقتفي، رام طائفة عزل المستنجد، وبعثت حَظِيَّة المقتفي أم علي إلى الأمراء تعدهم وتمنيهم؛ ليبايعوا ابنَها علي بن المقتفي. قالوا: كيف هذا مع وجود ولي العهدِ يوسف؟ فقالت أنا أكفيكموه، فدبرت مؤامرة للتخلص من يوسف الذي اكتشف الأمر فاعتقلها وابنها علي، وثَبَت الأمرُ له، وتلقب بالمستنجد بالله. كان يقولُ الشعر، ونقش على خاتمه: من أحَبَّ نفسه عَمِلَ لها. كانت خلافته إحدى عشرة سنة وشهرًا وستة أيام، وصُلِّي عليه يوم الأحد قبل الظهر، ودُفن بدار الخلافة، ثمَّ نُقِل إلى التربة من الرصافة، وكان سببُ موته أنه مرض واشتد مرضه، وكان قد خافه أستاذ الدار عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، وقطب الدين قايماز المقتفوي، وهو حينئذ أكبَرُ أمير ببغداد، فلما اشتد مرض الخليفة اتفقا، ووضعا الطبيبَ على أن يصِفَ له ما يؤذيه، فوصف له دخولَ الحمام، فامتنع لضَعفِه، ثم إنه دخل وأغلق الباب عليه فمات، وقيل إنَّ الخليفة كتب إلى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمُرُه بالقبض على أستاذ الدار وقطب الدين وصَلْبِهما، فاجتمع ابن صفية بأستاذ الدار، وأعطاه خط الخليفة، فقال له: تعود وتقول إنني أوصلت الخطَّ إلى الوزير، ففعل ذلك، وأحضر أستاذ الدار قطب الدين ويزدن وأخاه تنامش، وعرض الخط عليهم، فاتفقوا على قتل الخليفة، فدخل إليه يزدن وقايماز الحميدي، فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث وألقياه، وأغلقا الباب عليه وهو يصيح إلى أن مات، ثم بعد وفاة المستنجد، أحضرَ هو وقطب الدين ابنه أبا محمد الحسن، وبايعاه بالخلافة، ولقباه المستضيء بأمر الله، وشرطا عليه شروطًا: أن يكون عضدُ الدين وزيرًا، وابنُه كمال الدين أستاذ الدار، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك، ولم يتول الخلافة من اسمُه الحسنُ إلَّا الحسن بن علي بن أبي طالب، والمستضيء بأمر الله، فبايعه أهلُ بيته البيعةَ الخاصة يوم توفي أبوه، وبايعه الناسُ في الغد في التاج بيعةً عامة، ويُذكَرُ أن الخليفة المستنجد بالله كان من أحسن الخلفاء سيرةً مع الرعية، عادلًا فيهم، كثير الرفق بهم، وأطلق كثيرًا من المكوس، ولم يترك بالعراق منها شيئًا، وكان شديدًا على أهل العيثِ والفسادِ والسعاية بالناس.
تحرَّكَت بقيَّةُ الزنج في أرض البصرة ونادَوا: يا انكلاي يا منصور، وانكلاي هو ابنُ صاحب الزنج، وسليمانُ بن جامع وأبان بن علي المهلبي، وجماعةٌ من وجوههم كانوا في جيش الموفَّق, فبعث إليهم الموفَّق فقُتِلوا وحُمِلَت رؤوسُهم إليه، وصُلِبَت أبدانُهم ببغداد، وسَكَنَت شرورُهم.
تدفقت بعض القبائل المغربية وخاصة قبائل لمطة إلى الضفة اليسرى لنهر النيجر عند مدينة دندي، وسيطرت هذه القبائل على الزرَّاع من أهل صنغي الذين رحَّبوا بهم ليحموهم من الصيادين الذين كانوا يعتدون عليهم، ونجح هؤلاء الوافدون الجدد في تكوين أسرة حاكمة استفادت من علاقاتها التجارية مع غانة وشمال أفريقيا، وكان لهذه العلاقة أثر بعيد في تحويل ملوك صنغي إلى الإسلام وانتشاره في غربي قارة أفريقيا. كانت صنغاي في بداية أمرها دويلة صغيرة تحت حكم مالي غرب نهر النيجر في المنطقة الواقعة شمال بنين وغربي نيجيريا، ثم انتقلت مع نهر النيجر إلى الشمال وانتقلت معها عاصمتها، فكانت في البداية في دندي ثم كوكيا ثم رأى ملوك الصنغاي أن ينقلوا حاضرة ملكهم إلى جاو لتكون على مقربة من طرق القوافل الرئيسية, ولما كانت الصنغاي تحت حكم مالي قد قدمت رهائن لضمان بقاء خضوعها، ولكن لم يلبث الرهائن وهما ولدا الملك صنغاي زايا سبيًا- وولداه هما علي كولن وسليمان نار- وكانا طفلين يوم أخذا كرهائن، ثم لما كَبِرا استطاعا الفرار من مالي ووصلا إلى جاو وأنقذا مدينتهما من الحامية المالية، وأسَّسا مملكة جديدة أخذت تتوسع على حساب مملكة مالي التي بدأ الضعف يدب فيها، وكان علي كولن أول ملوك الدولة الجديدة، لكنه مات فخلفه أخوه سليمان نار، ثم عادت مملكة صنغاي تتبع اسميًّا لمالي، ولكن ما زال أمر الصنغاي يقوى، وقام ملكهم محمد دوغو بحملة ضد مالي واستطاع أن يتخلص من سيطرة الماليين عليهم، ثم خلفه ابنه سني علي الذي يعد مؤسس مملكة صنغاي المنفصلة؛ حيث احتل مدينة تومبكتو وطرد الطوارق منها، كما أخضع منطقة النيجر كلها مستوليًا على مدينة جني باسطًا نفوذه على منطقة ياتنغا مقر قبائل الموش، فكان هذا العمل إعلان قيام مملكة صنغاي المنفصلة.