قَدِمَ الخبر بأن إسكندر بن قرا يوسف نزل قريبًا من مدينة تبريز، فبرز إليه أخوه جهان شاه، المقيم بها من قِبَل القان معين الدين شاه رخ بن تيمورلنك المغولي ملك المشرق، فكانت بينهما وقعة انهزم فيها إسكندر إلى قلعة يلنجا من عمل تبريز، فنازله جهان شاه وحصره بها، وأن الأمير حمزة بن قرا يلك متملك ماردين وأرزنكان أخرج أخاه ناصر الدين علي باك من مدينة آمد، وملكها منه، فقلق السلطان من ذلك، وعزم على أن يسافر بنفسه إلى بلاد الشام، وكتب بتجهيز الإقامات بالشام، ثم أبطل ذلك، ثم رسم بخروج تجريدة إلى بلاد الشام، وعيَّن من الأمراء المقدمين ثمانية، وكتب لنائب الشام الأمير أينال الجكمى أن يتوجه بمن معه صحبة الأمراء إلى حلب، ويستدعوا حمزة باك بن قرا يلك صاحب ماردين وأرزنكان، فإن قدم إليهم خلع عليه بنيابة السلطة فيما يليه، وإلا مشوا بأجمعهم عليه وقاتلوه وأخذوه، ثم رحل الأمراء المجرَّدون من أبلستين، ومعهم نواب الشام وعساكرها من غزة إلى الفرات، وجميع تركمان الطاعة، وتوجهوا في جمع كبير يريدون مدينة آقشهر، حتى نزلوا عليها وحصروها، وكان من خبرهم أن العسكر المجرد لما قصد مدينة آقشهر تلقَّاهم سلطان أحمد بن قليج أرسلان صاحب تلى صار وقد رغب في الطاعة السلطانية، وسار معهم حتى نازلوا مدينة أقشهر في أول ذي الحجة، فهرب متملكها حسن الأيتاقى في ليلة الثلاثاء ثانيه إلى قلعة برداش، فملك العسكر المدينة وقلعتها، وقبضوا على عدة من أعيانها، وبعثوا بسلطان أحمد بن قليج أرسلان على عسكر، فملك قلعتي فارس وتمشلي، فأقروه على نيابة السلطة بهما، وساروا لمحاصرة حسن بقلعة برداش ففر منها إلى قلعة بزطلش، فنزل من العسكر عليها حتى أخذها في الثامن عشر الأمير قرقماس أمير سلاح، بعد أن قاتل أهلها بضعة عشر يومًا، ثم هدمها حتى سوَّى بها الأرض، وقد فرَّ منها حسن أيتاقي، ثم سار الأمير قرقماس بمن معه مع بقية العساكر يريدون أرزنكان، فقدم عليهم الأمير مرزا بن الأمير يعقوب ابن الأمير قرا يلك رسولًا من أبيه يعقوب صاحب أرزنكان وكماخ، وقد خرج عن أرزنكان ونزل كماخ، وقدم مع مرزا زوجة أبيه وعدة من القضاة والأعيان بأرزنكان، يسألون العفو عن الأمير يعقوب وإعفاءه من قدومه إليهم، وأن يُجهَّز لنيابة السلطنة بأرزنكان الأمير جهان كير ابن الأمير ناصر الدين علي باك بن قرا يلك، فأُجيبوا إلى ذلك كله، وخُلِع على الأمير مرزا، ودُفِع إليه خِلعة لأبيه الأمير يعقوب، وأُعيد وصحبته الأمير جهان كير، وقد خُلِع عليه بنيابة أرزنكان، وساروا وقد جهز إلى أرزنكان بالأمير سودون النوروزى دوادار نائب حلب، ومعه نائب دوركى ونائب بهنسنى، فتسلموا أرزنكان بلا مانع، وأقاموا بها، ثم توجه القاضي معين الدين عبد اللطيف ابن القاضي شمس الدين الأشقر كاتب السر بحلب، حتى حلف أهل أرزنكان بالإقامة على طاعة السلطان، ثم سارت العساكر من أقشهر في الثاني والعشرين حتى نزلت على أرزنكان، وعسكروا هناك، فخرج إليهم أهلها، وباعوا عليهم ما أرادوا منهم، وفُتِحت أبواب المدينة، والعساكر يدخل منها المدينة من أراد ذلك، من غير ضرر ولا نهب، واستمروا على ذلك إلى آخر الشهر.
بعد أن تسلطن الظاهر جقمق أصبح الأمير قرقماس هو أتابك العساكر وهو الأمير الكبير، ثم في ربيع الآخر ثارت عدة من المماليك القرانصة الذين قاموا مع السلطان العزيز يوسف بن برسباي قبل ذلك على الأشرفية، وطلبوا الآن من السلطان الزيادة في مرتباتهم، فنزل إليهم الأمير قرقماس ووعدهم بأن يكلم السلطان بذلك، ولكنهم أبوا إلَّا أن يقاتلوا السلطان واستطاعوا أن يقنعوا الأمير قرقماس بأن يكون معهم ضِدَّ السلطان، فلبسوا سلاحهم ولبس هو الآخر أيضًا، وأتاه كثير من الأشرفية، وساروا به حتى وقف بالرميلة تجاه باب السلسلة، وهم في اجتماعهم مختلفة آراؤهم، وعندما وقف تجاه باب السلسلة من القلعة سار بعض أتباعه ونادى في القاهرة على لسانه بمجيء المماليك إلى الأمير قرقماس، وأنه ينفق فيهم مائتي دينار لكل واحد، وبمجيء الزعر إليه وأنه يعطي كل واحد منهم عشرين دينارًا، فعَظُم جمعُه، بحيث توهَّم كثير من الناس أن الأمر له، وكان السلطان عند ذلك في نفر قليل، فبادر بنزوله من القصر إلى المقعد الذي بجانب باب السلسلة، ومعه المال، وبعث بجماعة للقتال، فوقعت الحربُ بين الفريقين مرارًا، والجراح فاشية فيهم، وقد قُتِل جماعة وتعَيَّن الغلب لقرقماس ومن معه، إلا أن عدة من الأمراء فرُّوا عنه، وصعدوا من باب السلسلة إلى السلطان، فسُرَّ بهم، ثم أقبل أيضًا من جهة الصليبة عدة أمراء، ووقفوا تجاه قرقماس في هيئة أنهم جاؤوا ليقاتلوا معه، ثم ساقوا خيولهم بمن معهم، ودخلوا باب السلسلة، وصاروا مع السلطان، فازداد بهم قوة، هذا وقد دُقَّت الكوسات -قطعتان من نحاس يدق بإحداهما على الأخرى بإيقاع مخصوص- السلطانية حربيًّا بالطبلخاناه من القلعة، وقامت ثلاثة مشاعلية على سور القلعة تنادي من كان في طاعة السلطان فليحضُرْ وله من النفقة كذا وكذا، ونثر مع ذلك السلطان من المقعد على العامة ذهبًا كثيرًا، وصار يَقِفُ على قدميه ويحَرِّض أصحابه على القتال، فأقبلت الفرسان نحوه شيئًا بعد شيء داخلة في طاعته، وتركت قرقماس، والحرب مع هذا كله قائمة بين الفريقين ضربًا بالسيوف، وطعنًا بالرماح، إلا أن الرمي من القلعة على قرقماس ومن معه بالنشاب كثيرٌ جدًّا، مع رمى العامة لهم بالحجارة في المقاليع؛ لبغضها في قرقماس وفي الأشرفية، فتناقص جمعهم، وتزايد جمع السلطان إلى قبيل العصر، فتوجه بعض الأشرفية وأخذوا في إحراق باب مدرسة السلطان حسن؛ ليتمكنوا من الرمي على القلعة من أعلاها، فلم يثبت قرقماس، وفَرَّ وقد جُرِح، فثبتت الأشرفية وقاتلت ساعة، حتى غُلِبت بالكثرة عليها، فانهزمت بعدما قُتِل من الفرسان والرجالة جماعة، وجُرح الكثير، فممن جُرح من السلطانية الأمير تغري بردي المعروف بالمؤذي حاجب الحجاب من طعنة برمح في شدقه، والأمير أسنبغا الطيارى الحاجب في آخرين، فكانت هذه الوقعة من الحروب القوية بحسب الوقت، إلا أن قرقماس جرى فيها على عادته في العجلة والتهور، ففاته الحزم، وأخطأه التدبير من وجوه عدة؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} وعندما انهزم القوم ندب السلطان الأمير أقبغا التمرازي أمير سلاح في جماعة؛ لطلب المنهزمين، فتوجه نحو سرياقوس خشية أن يمضوا إلى الشام، فكانوا أعجز من ذلك، ولم يجد أحدًا فعاد، ثم قُبِض على الأمير قرقماس، ثم سُجِن بالإسكندرية، ثم قُتِل بعد عدة أشهر.
لما ملك شاه رخ ابن الطاغية تيمورلنك، واستقلَّ بممالك العجَم وعراقة، وعظُمَ أمرُه وهابَتْه الملوك، وحُمِدَت سيرته، وشُكِرت أفعالُه، وقَدِمَت رسله إلى البلاد المصرية مرارًا عديدة, وراسلته ملوكُ مصر، إلى أن تسلطن الملك الأشرف برسباي، طلب شاه رخ أن يكسو البيت الشريف، فأبى الأشرفُ برسباي وخشَّن له الجواب. وترددت الرسلُ بينهما مرارًا، واحتجَّ شاه رخ أنَّه نذر أن يكسو البيت الشريف، فلم يلتفت الأشرف برسباي إلى كلامه، ورد قُصَّاده إليه بالخيبة. ثم أرسل بعد ذلك شاه رخ بجماعة أُخرى وزعم أنهم أشراف، وعلى يدِهم خلعة للملك الأشرف برسباي، فجلس الأشرف مجلسًا عامًّا للحكم بالإصطبل السلطاني على عادة الملوك، ثم طلب القصَّاد رسل شاه رخ، فحضروا ومعهم الخِلعة، فأمر بها الأشرف فمُزِّقت الخلعة شذَرَ مذَرَ، ثم أمر بضرب حامِلِها عظيم القصَّاد، فضُرِبَ بين يديه ضربًا مُبَرِّحًا أشرف منه على الهلاك، ثم ضَرَب الباقين، ثم أمر بهم فأُلقوا في فسقية ماء بالإصطبل السلطاني منكوسين، رؤوسُهم إلى أسفل وأرجلهم إلى فوق، والأوجاقية تمسِكُهم بأرجلهم، واستمرُّوا يغمسِونَهم في الماء حتى أشرفوا على الهلاكِ، ولا يستجرئُ أحد من الأمراء يشفَعُ فيهم ولا يتكلَّم؛ لشدة غضب السلطان في أمرِهم بكلمةٍ واحدة، والسلطان يسبُّ شاه رخ جهارًا، ويحطُّ من قَدْره، على أنه كان قليلَ الفحش والسبِّ لآحاد الناس، وصار لونُه يتغير لعِظَمِ حَنَقِه، ثم طلب القصَّادَ بين يديه، وحدَّثَهم بكلام طويل، محصولُه أنه قال لهم: قولوا لشاه رخ: الكلامُ الكثيرُ ما يصلحُ إلا من النساء، وأما الرجالُ فإن كلامهم فعلٌ، لا سيما الملوك، فإن كان له مادة وقوَّة فيتقَدَّم ويسير نحوي، وأنا ألقاه حيث شاء، وإن كان بعد ذلك ما ينتجُ منه أمرٌ فكلامُه كله فشارٌ، وهو أفشَرُ من كلامه، وكتب له بأشياءَ من هذا المعنى، وانفَضَّ الموكب، فتحققَّ كل واحد بمجيء شاه رخ إلى البلاد الشاميَّةِ، وقاسوا على أنَّه ما أرسل هذه الخِلعةَ إلا وهو قد تهيأ للقتال، وقد أفحش الأشرفُ أيضًا وأمعن في الجوابِ. فلما بلغ القان شاه رخ ما فعل الأشرف بقصَّاده، ما زاده ذلك إلا رعبًا، وسكت عن كسوةِ الكعبة، ولم يذكُرْها بعد ذلك إلى أن مات الملِكُ الأشرف، وآل المُلكُ إلى الملك الظاهر جقمق، فبعث شاه رخ رسُلَه إلى الملك الظاهر بهدايا وتُحَف، وأظهر السرورَ الزائد بسلطنته، وأنَّه لما بلغه سلطنة الملك الظاهر جقمق دُقَّت البشائر بهراة، وزُيِّنت له أيامًا، فأكرم الملك الظاهر جقمق قصَّاده وأنعم عليهم، ثم بعث السلطان إليه في الرسلية الأمير ششك بغا دوادار السلطان بدمشق، فتوجَّه إليه وعاد إلى السلطان الملك الظاهر جقمق بأجوبة مرضية. ثم بعد ذلك في سنة 846، أرسل شاه رخ يستأذِنُ في إرسال ما نذر قديمًا أنه يكسو الكعبة، فأذِنَ له السلطان الملك الظاهر جقمق في ذلك، فأرسل شاه رخ بعد ذلك كسوةً للكعبة. فصعب ذلك على الأمراء وعلى أعيان الديار المصريةِ، فلم يلتفِت السلطانُ لكلامهم، وأمر أن يأخُذَها ناظِرُ الكسوة بالقاهرة، ويبعَثَها كي تلبسَ من داخل البيت، وتكون كسوةُ السلطان من خارج البيت على العادةِ، قال ابن تغري بردي: "رأيتُ أنا الكسوةَ المذكورة، وما أظنُّها تساوي ألف دينار".
هو أبو المظفر إسماعيل شاه بن حيدر بن جنيد بن إبراهيم بن خواجة علي بن صدر الدين موسى بن الشيخ صفي الدين إسحاق بن جبريل الأردبيلي، المشهور بإسماعيل شاه الصفوي، وجدُّه إبراهيم هو شيخ الطريقة الصفوية التي أسَّسها أصلًا صفي الدين إسحاق, وقيل: إن أول من تشيَّع فيهم صفيُّ الدين أو ابنه موسى صدر الدين. ولد إسماعيل بأردبيل سنة 892هـ وأمه بنت الحسن الطويل، وكانت أمها كاترينا ابنة كارلو يوحنا ملك مملكة طرابزون اليونانية النصرانية، ولما قُتِل أبوه الشيخ حيدر في المعركة أُسِرَ إسماعيل مع إخوته وهو طفل وحُبس في قلعة إصطخر إلى أن توفِّيَ خاله السلطان يعقوب بن أوزن حسن الطويل سنة 892 وتفرقت الكلمة بين أولاده، فهرب أولاد الشيخ حيدر إلى لاهجان ودخل إسماعيل في بيت صائغ يقال له نجم زركر، وبها كثيرٌ من الروافض، فتعلم منهم إسماعيل في صغره مذهب الرفض، ثم كثُرَ أتباعه فخرج من لاهجان بأنه يريد أخْذ ثأر والده في أواخر سنة 905هـ، فغلب شروان شاه الذي قُتِل في المعركة وهرب ولدُه شيخ شاه إلى كيلان, وكان ذلك أول فتوحات إسماعيل الصفوي، ثم قاتل الأمير الوزير المستولي على أذربيجان بنخجوان، فهزمه أيضًا واستولى على خزائنه، وسار إلى تبريز فدخلها سنة 907هـ وبويع له بالسلطنة، فأظهر مذهب الإلحاد والرَّفض، وغيَّرَ اعتقاد أهل العجم, وخطب الخطباء باسمه على مذهب الإمامية، ثم هَزَمَ مراد بك ابن السلطان يعقوب بن أوزن حسن الطويل وأخذ خزائنه، ثم صار لا يتوجَّه إلى بلاد إلا يفتحُها ويقتل جميعَ من فيها وينهبُ أموالهم، إلى أن ملك أذربيجان وعراق العرب والعجم وخراسان، وكاد أن يدَّعي الرُّبوبية وكان يسجد له عسكرُه! وقتل خلقًا لا يحصَون بحيث لم يُبقِ أحدًا من علماء أهل السُنَّة، وأحرق جميع كتبِهم ومصاحِفِهم، وأخرج عظامَهم من القبور وأحرقَها، إلى أن كسره السلطانُ العثماني سليم الأول سنة 920هـ في معركة جالديران, وكانت مدة ملكه أربعًا وعشرين سنة، وكان سفَّاكًا غدَّارًا، ينظم بالتركي والفارسي نظمًا وسطًا. قال علي دده بن مصطفى الموستاري، المتوفى سنة 1007 في (محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر): "أولُ من تجبَّر وطغى، ورفضَ أحكام الشريعة وغوى، وخان الملَّة الإسلامية خيانةً لم يُسمَع بمثلها من الفراعنة، وقهر ملوك العراقينِ، وأبطل الخطبةَ من الجوامع كلِّها: الملك الشقيُّ الغَويُّ الشهير إسماعيل بن حيدر بن جنيد بن إبراهيم بن الشيخ خواجة علي بن صدر الدين ابن الشيخ الصفي الأردبيلي، قطَعَ الله أعراقَهم من العِراق وجميع ممالك الآفاق مع أشياعهم الشِّيعة النَّجِسة المنجوسة المجوسيَّة الدَّهرية، بل إنَّهم أخبثُ الفِرَق الضَّالَّة المضلَّة، أهلك الله أسرارَهم، ومحا من وجهِ الأرض آثارَهم بسيوف الملوك العثمانية السُّنِّية المؤيَّدة بالقوة القدسيَّة، لا زالت سيوفُهم مسلولةً عليهم وعلى أمثالهم من أعداء الدين" هلك إسماعيل شاه عن 78 عامًا وخلفه ابنه طهماسب وهو في العاشرة من العمر.
لم تكن الفتنةُ بين عبد الله وسعود أبناء فيصل بن تركي وليدةَ الساعة بعد وفاة والدهما، بل كانت روحُ التنافس موجودة بينهما من أيام والدهما؛ ولذلك جعل فيصل سعودًا أميرًا على الخَرجِ والأفلاج ومناطق جنوب بلاد العارض، وما أن توفي فيصل حتى ثار سعودٌ على أخيه عبد الله ينازعه في الحكمِ، واتجه إلى عسير ونزل على حكامِها آل عايض يطلب العونَ والمساعدة في حربِه على أخيه بحجَّةِ أنه كان يهينُه ولم يَرْعَ حَقَّه، وحاول عبد الله أن يثني سعودًا عن غرضه، ووعده بأن يلبي له طلبه إذا عاد إلى الرياض، لكِنَّ سعودًا لم ينثنِ عن عزمِه، ولَمَّا لم يجد العون من آل عايض اتجه إلى نجران يستنصِرُ بصاحبها، وهو في الأصل عدو لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك عدو لبيت آل سعود، فوعده بالنصرة، كما وقف مع سعود بن فيصل ضِدَّ أخيه عددٌ من القبائل، منهم العجمان، ويعض قبائل بدو الدواسر، وبنو مرة، وبدو نجران وأميرها الذي ساعده بالمال. وقد حَذَّر علماءُ أئمة الدعوة من هذه الفتنةِ، وأصدروا الفتاوى وبيَّنوا للعامَّةِ والخاصة بغيَ سعود على أخيه عبد الله، ومنها ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوانِ، سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تفهمون أنَّ الجماعةَ فرضٌ على أهل الإسلام، وعلى من دان بالإسلامِ، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ولا تحصل الجماعةُ إلا بالسمع والطاعة لِمَن ولاه الله أمرَ المسلمين، وفي الحديث الصحيح عن العِرباضِ بن ساريةَ، قال: وعَظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وَجِلَت منها القلوب، وذَرَفت منها العيونُ،.... الحديث، وقد جمع الله أوائِلَ الأمة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك بسبب الجهاد، وكذلك الخلفاء، رد الله بهم إلى الجماعةِ مَن خرج، وفتح الله لهم الفتوحَ، وجمع الله الناسَ عليهم، وتفهمون أنَّ الله سبحانه وتعالى جمعكم على إمامِكم عبد الله بن فيصل بعد وفاة والده فيصل، فالذي بايع بايعَ وهم الأكثرون، والذين لم يبايعوا بايعَ لهم كبارُهم، واجتمع عليه أهلُ نجدٍ باديهم وحاضِرُهم، وسمعوا وأطاعوا، ولا اختلف عليه أحدٌ منهم، حتى سعود بن فيصل، بايع أخاه وهو ما صار له مدخال في أمرِ المسلمين، لا في حياة والده ولا بعده، ولا التفت له أحدٌ من المسلمين. ونقَضَ البيعة، وتبيَّنَ لكم أمرُه أنه ساعٍ في شَقِّ العصا، واختلافِ المسلمين على إمامهم، وساعٍ في نقض بيعةِ الإمام، وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 91،92] وسعى سعودٌ في ثلاثة أمور كُلُّها مُنكَرة: نَقَض البيعةَ بنفسِه، وفارق الجماعةَ، ودعا الناس إلى نقضِ بيعة الإمام، فعلى هذا يجِبُ قتالُه وقِتالُ من أعانه".
هو الأميرُ عبدُ القادر ناصِرُ الدين بن محيي الدين الحسني المعروف بعبد القادر الجزائري, اشتهرَ بمناهضته للاحتلالِ الفرنسيِّ للجزائر. وُلِدَ في 23 رجب 1222هـ / مايو 1807م، بقرية "القيطنة" بوادي الحمام من منطقة معسكر "المغرب الأوسط" بالجزائر، ثم انتقل والِدُه إلى مدينة وهران. كان لوالِدِه محيي الدين صِدامٌ مع الحاكِمِ العثماني لمدينة "وهران"، وأدَّى هذا إلى تحديدِ إقامة الوالد في بيته، فاختار أن يخرُجَ من الجزائر كلها في رحلةٍ طويلة. وكان الإذنُ له بالخروج لفريضةِ الحَجِّ عام 1241هـ/ 1825م، فخرج مصطحبًا ابنَه عبدالقادر معه، وفي رحلتِهم للحجِّ تعَرَّفوا على الطريقة الشاذلية والقادرية، فالتَقَوا في دمشق وبغداد ببعض شيوخِ الطريقتين وقرؤوا كتُبَهم، ثمَّ عادوا إلى الجزائِرِ عام 1244هـ/ 1828م، فلمَّا تعَرَّضت الجزائرُ لحَملةٍ عسكرية فرنسية شرسة، وتمكَّنَت من احتلال العاصمة. بحث أهالي وعلماء "غريس" عن زعيمٍ يأخذ اللواء ويبايعونه على الجهادِ تحت قيادته، استقَرَّ الرأيُ على "محيي الدين الحسني" والدِ عبد القادر، وعَرَضوا عليه الأمر، ولكِنَّ الرجل اعتذر عن الإمارة وقَبِلَ قيادة الجهاد، فأرسلوا إلى صاحبِ المغرب الأقصى ليكونوا تحت إمارته، فقَبِلَ السلطان "عبد الرحمن بن هشام" سلطان المغرب، وأرسل ابنَ عمه "علي بن سليمان" ليكونَ أميرًا على وهران، وقبل أن تستقِرَّ الأمور تدخَّلَت فرنسا مهَدِّدةً سلطان المغرب بالحرب، فانسحَبَ السلطان واستدعى ابنَ عَمِّه فعاد، ولَمَّا كان محيي الدين قد رضِيَ بمسؤولية القيادة العسكرية، والتفَّتْ حوله الجموعُ مِن جديد، وخاصةً أنَّه حقَّق عدَّةَ انتصاراتٍ على العدوِّ، وكان عبد القادر على رأس الجيشِ في كثير من هذه الانتصارات، اقترح الوالِدُ أن يتقدم "عبد القادر" لهذا المنصِبِ، فقَبِلَ الحاضرون، وقبل الشابُّ ذلك، وتمت البيعةُ، ولقبه والده بـ "ناصر الدين" واقترحوا عليه أن يكون "سلطانًا" ولكنه اختار لقب "الأمير"، وبذلك خرج إلى الوجود "الأمير عبد القادر ناصر الدين بن محيي الدين الحسني"، وكان ذلك في 13 رجب 1248هـ الموافق 20 نوفمبر 1832. فلمَّا بايعه الجزائريون وولَّوه القيامَ بأمرِ الجهاد، نهَضَ بهم، وقاتَلَ الفرنسيين خمسةَ عشر عامًا، ضرب في أثنائها نقودًا سَمَّاها " المحمَّدية " وأنشأ معامِلَ للأسلحة والأدوات الحربية وملابِسِ الجند. وعَقَدت فرنسا اتفاقيةَ هدنة معه، وهي اتفاقية "دي ميشيل" في عام 1834، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأميرِ عبد القادر، وبذلك بدأ الأميرُ يتَّجِهُ إلى أحوال البلاد وتنظيم شؤونها. وقبل أن يمُرَّ عام على الاتفاقية نقضَ القائد الفرنسي الهدنةَ، وناصره في هذه المرة بعضُ القبائل في مواجهةِ الأمير عبد القادر، ونادى الأميرُ في قومِه بالجهادِ ونَظَّم الجميعُ صُفوفَ القتال، حتى نجح في إحراز النصر؛ مما أجبر الفرنسيين على عقد معاهدةِ هُدنةٍ جديدة عُرفت باسم "معاهد تافنة" في عام 1837م. وعاد الأميرُ لإصلاح حال بلاده وترميم ما أحدَثَته المعارك بالحصون والقلاع، وتنظيم شؤون البلاد، ثمَّ كرر الفرنسيون نقضَ المعاهدة في عام 1839م، ورأى بعد حينٍ أنَّ من الصواب الجنوحَ للسِّلمِ، وشاور أعيانَ المجاهِدينَ في ذلك، لكِنَّ الفرنسيين أسَرُوه سنة 1263هـ/1847م وأنهَوا دورَه القياديَّ، توفي رحمه الله ليلة 19 رجب عام 1300هـ، 1883م عن عمر يناهز 76 عامًا.
هو جَمال عبد الناصرِ بن حُسين بن خَليل بن سُلْطان عبْد الناصر، رئيسُ الجُمهورية العربيَّة المتحِدة، وقائدُ ثَورة يُوليو 52 العسكرية (ثَورة الضُّباط الأحرار). وُلِدَ في قَرية بني مُر بمحافظةِ أسيوطَ سنة 1336هـ / 1918م، وانتقَلَ إلى القاهرةِ وعُمره ثمانِ سنواتٍ، فعاش مع عمٍّ له اسمه خَليل. وتعلَّم بها ثم بالإسكندريةِ، وحصَل على البكالوريوسِ سنةَ 1936، وشارَك في المظاهَرات المعاديةِ للإنجليزِ، وجُرِح مرَّتين سنةَ 1933 و1935، وتخرَّج من الكُلِّية الحربية سنةَ 1938، ودرَّس بها. وتخرَّج بكُلِّية أركانِ الحرب، وشارَك في حرْب فِلَسطين 48، وجُرِح وشُفِي، وعاد وحُوصِر في الفالوجة بفِلَسطين 4 أشهر، وخرَجَ مع زُملائه من الفالوجةِ ناقمينَ على الحُكْم في مصرَ، فقاموا سنةَ 1952م بثَورة الضُّباط الأحرار على الملِكِ فاروق آخِرِ مُلوك مصرَ، فنزَل عن العرشِ لابنه أحمدَ فؤاد، ثم لم يَلبَثوا أن خَلَعوه وأعْلَنوا الجُمهورية، وسمَّوا لرئاستِها أحدَ كبارِ الضُّباط محمَّد نجيب، وتولَّى جمالٌ رئاسةَ الوزراء. وأُذِيعَ أنَّ نَجيب يُريد إبعادَ الجيش عن الحُكْم وإعادتَه إلى المدنيينَ، فحجَزه جمالٌ في بَيته وتسلَّم زِمامَ السُّلطة عامَ 1954م، وفي 1956م انتُخِب عبد الناصر رئيسًا للجُمْهورية العربيَّة المتحِدة، وفي عهْدِه تمَّت اتِّفاقية جَلاء الإنجليزِ مِن الأراضي المصرية، وأمَّمَ شَركة قناة السُّويس، وترتَّب على ذلك العُدوان الثُّلاثي على مصرَ؛ حيث قامت بِريطانيا وفرنسا وإسرائيلُ بالاعتداءِ على مصرَ 1956م، فاحتلَّت إسرائيلُ أجزاءً من مصرَ وسُورية والأردنَّ، وأعلَنَ الوَحدةُ المصرية السُّورية 1958م، ثم انفصَلَت في عام 1961م، وحوَّل مصرَ إلى النِّظام الاشتراكيِّ 1961م، وبنى السَّدَّ العالي 1959 – 1970م، وخاض حرْبَ اليمنِ الأهليةِ بيْن عاميْ 1963 - 1968م عندما دعَم ثَورة العقيدِ عبد الله السلالِ ضِدَّ الملكيِّين المدعومينَ من السُّعودية، وفي حُزَيران 1967م قاد الأمَّةَ العربيَّة إلى نَكسة حُزيران بسِياساته المتعجرفةِ الإعلاميةِ أمام إسرائيلَ، بدَأت عَلاقة عبدِ الناصر بالمخابراتِ الأمريكية منذُ آذار / مارس 1952م، أي: قبْل قِيام الثورة بأربعةِ أشهرٍ، كما اعترَف بذلك أحدُ رِفاقه، وهو خالد مُحيي الدِّين، وتحدَّث اللِّواء محمَّد نجيب أولُ رئيسٍ لمصرَ بعد الثَّورة عن هذه العَلاقة في مُذكِّراته، وأنهم همُ الذين كانوا يَرسُمون له الخُطط الأمْنيةَ، ويَدعُمون حرَسَه بالسياراتِ والأسلحةِ الجديدةِ. نشَأَت في عهْدِه الناصريةُ، وهي حركةٌ قوميةٌ عربيةٌ استمرَّت بعدَ وفاتِه، واشتُقَّت اسمُها من اسمِه، وتبنَّت الأفكارَ التي كان يُنادي بها، وهي: الحرِّية، والاشتراكيةُ، والوَحدة، وهي نفْس أفكار الأحزابِ القومية اليَساريةِ العربيَّة الأخرى. أما عن وَفاته ففي أثناءِ تَوديعِه لرُؤساء الدُّول العربيَّة بعدَ مؤتمرِ القِمة العربيَّة الطارئِ الذي عُقِد في القاهرة، وأثناءَ تَوديعه لآخِرِ المسافرين أميرِ الكويتِ في يوم الاثنين 28 رجب 29 سبتمبر؛ تُوفِّي جمالُ عبد الناصر بعدَ أن دامَت رِئاسته أكثرَ من أربعةَ عشَرَ عامًا، وتسلَّم أنور السادات النائبُ الأولُ لرئيس الجُمهورية منصِبَ الرِّئاسةِ بالنِّيابة حتى تتَّفق الهيئاتُ العليا على رئيس جديدٍ، ثم رشَّح الساداتُ نفْسَه مِن قِبَل الاتِّحاد الاشتراكيِّ لتولي المنصبِ، وتمَّ الاستفتاءُ في شعبان / 15 تشرين الأول 1970م، وانتُخِب الساداتُ رئيسًا لمصرَ.
هو الحاجُّ محمد أمين بنُ محمد طاهر بن مصطفى الحُسيني مفتي القدس. وُلد في القدسِ سنة 1897م، تربَّى في بيت والدِه الشيخِ طاهر الحسينيِّ مفتي القدس، عُرِف بالحاج أمين الحسينيِّ بعد أن حجَّ برفقة والدتِه. تلقَّى علومه الابتدائيَّة والثانوية في مدارسِ القدسِ، ثم التحق بكلية الفرير بالقدس لتعلُّم اللغةِ الفرنسية، بعدها التحق بجامعة الأزهر، وكان يتردَّد على (دار الدعوة والإرشاد) التي أنشأها الشيخُ محمد رشيد رضا حيث تأثَّر به وبفكره الإصلاحيِّ، ومن خلال معرفته به عرف الكثير عنِ الصهيونية وأطماعِها في فلسطين، وبعدَ نُشوب الحرب العالمية الأولى التحق بكلية الأستانةِ العسكرية وتخرَّج منها ضابطًا، والتحق بالجيش العثماني في ولاية أزمير، وعمل فيه حتى نهاية الحرب؛ مما أكسبه خبرة جيِّدة كان لها الأثرُ الأكبر في شخصيتِه وحياتِه. بعدَ نهاية الحرب عاد الحسينيُّ إلى القدس وهو برتبة ضابطٍ، ملِمًّا بالفكر الإسلاميِّ، والعلوم المفيدةِ، والخبرة العسكريةِ، ويعرفُ منَ اللغات الأجنبية التركيةَ والفرنسيةَ، بالإضافة إلى ذلك كلِّه كان بحكم انتمائه إلى أسرة آل الحسيني مهيَّأً ليكون زعيمًا وداعيةً مسموع الكلمةِ. عندما احتلَّ الإنجليز فلسطين انصرف الحُسينيُّ إلى تنظيم الفلسطينيين في حركة وطنية شاملة ضدَّ الاستعمار والصهيونية، فكوَّنوا في القدس أوَّل منظمة سياسيَّة عرفتها فلسطين هو (النادي العربي)، وانتُخب الحسينيُّ رئيسًا له، وكان لهذا النادي أثر كبير في انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية، وقيام المظاهرات ضد الاحتلالِ. تسلَّم الحسينيُّ منصبَ الإفتاء رسميًّا، فأعاد تنظيم المحاكم الشرعية، واختار لها القضاة، ونظَّم الأوقاف، وأخذ يعمل على تقوية المدارس الإسلامية وتنظيم أمورها، كما شارك في تأسيس مجلس شرعي إسلامي لفلسطين تألَّف من مجموعة من العلماء، وعُين الحسيني رئيسًا لهذا المجلس الذي سُمي (المجلس الإسلامي الأعلى) الذي أصبح على مرِّ الأيام أقوى قوة وطنية إسلامية فلسطينية. كان الحاج أمين القوة الدافعة للحركة الوطنية، ومركز الثقل في المقاومة الفلسطينية؛ مما حفَّز الإنجليز واليهود إلى مقاومته والتخلُّص منه، فخرج الحاجُّ من فلسطين إلى لبنانَ بعد رفضه لقرار التقسيم 1937م وتحريضه للفلسطينيين ضدَّ الاحتلالِ، ومكث في لبنان عامين، ثم فرَّ منها إلى العراق، ولما سمع الحاج بالمآسي التي حلَّت بالشعب البوسني المسلم اجتمع بزعماءِ البوسنة والهرسك في ألمانيا؛ للعمل على منع وقوع المذابحِ فيهم، فحصَل على موافقةِ الحكومة الألمانية على تجنيدِ الشبَّان منهم وتسليحِهم للدفاع عن أنفسهِم وعائلاتهم، وكذلك اتَّفق مع السلطات الألمانية على إنشاء معهد للأئمة؛ لتوزيعِهم على وَحدات الفرق البوسنيَّة الذين زاد عددُهم عن 100 ألف مقاتل مع دول المحورِ، ولما زحف الحلفاء على ألمانيا عام 1945م انتقل الحاج أمين إلى باريس، ومنها إلى مصر، وفي مصر شكَّل الهيئة العربية العليا لفلسطين برئاسته؛ حيثُ نظَّم الحركة الوطنية الفلسطينية تنظيمًا حديثًا، بل ومدَّ نشاطه إلى الدائرة الإسلامية؛ حيث كان يرأس مؤتمرات إسلامية في مكة نشأت عنها مؤسسة دائمة باسم (مؤتمر العالم الإسلامي) برئاسته، وظل يشغل هذا المنصب طيلة حياته إلى أن تُوفي رحمه الله في بيروت ودُفن في مقبرة الشهداء بالحرج.
وُلِد أنور خوجا في بلدةِ "أرجيرو كاسترو" سنة (1326هـ = 1908م)، ونشأ في وسطِ عائلةٍ مُسلمةٍ، اشتغلت بالتِّجارةِ، وعُرفت بالثَّراءِ، وتلقَّى دراستَهُ الأولى في مدرسةٍ فَرَنسيَّةٍ في "كوريتسا"، وهناك انخرط في صُفوفِ الحِزبِ الشُّيوعي الفَرَنسيِّ، وبعد أن أنْهى دراستَهُ سافَرَ إلى "بلجيكا"؛ حيث عَمِلَ سكرتيرًا للسفارة الألبانية، ثم عاد إلى بلادِهِ سنة (1355هـ = 1936م)، واشتغَلَ بالتَّدريس. ولمَّا تعرَّضت بلادُهُ للغَزوِ الإيطاليِّ سنة (1358هـ = 1939م) انقطَعَ عن التدريسِ، وانخرَطَ في صُفوفِ المقاومينَ للاحتِلالِ الإيطاليِّ بعدَ فِرار أحمد زوغو ملك ألبانيا تاركًا بلادَهُ فريسةً للاحتلال الإيطاليِّ، اشتعلتْ حَرَكةُ المقاومةِ ضدَّ الغُزاة، وكان أنور خوجا واحدًا من قادةِ المُقاومةِ، وحُكِمَ عليه بالقتل غيابيًّا في سنة (1360هـ = 1941م)، ثم شارَكَ في تأسيسِ جَبهةِ التحرير القوميَّةِ التي تزعَّمت حركةَ مُقاومةِ الطليان والألمان، وكان الشُّيوعيُّونَ يتزعَّمون هذه الجَبْهة، ثم تولَّى قيادة المقاومةِ، ورئاسةَ اللَّجْنةِ الألبانيَّةِ المُناهِضةِ للفاشيَّةِ في (جُمادى الآخرة 1363هـ = مايو 1944م)، وفي أثناء هذه الفترة شارَكَ في تأسيسِ الحِزبِ الشُّيوعي الألباني وتولَّى أمانتَهُ؛ فلمَّا انتهتِ الحربُ العالميةُ الثانيةُ، وخرج الألمان من ألبانيا؛ تولَّى "أنور خوجا" رئاسةَ الحكومة الألبانية في (1365هـ = 1945م).ثم أُعلنت ألبانيا جمهوريةً شعبيَّةً، وأُلغيت الملكيَّةُ رسميًّا، وما إن أمسك بمقاليدِ الأُمور حتى بادَرَ إلى قطعِ العَلاقاتِ مع كُلٍّ من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.كان أنور خوجا من المُعجَبينَ بـ"ستالين" دكتاتورِ الاتِّحادِ السُّوفيتي، فوقف إلى جانبه حين نشَبَ خِلافٌ سنة (1367هـ = 1948) بينه وبين "تيتو" الرئيسِ اليُّوغسلافي، على الرَّغمِ من مُساندة الحِزبِ الشُّيوعي اليوغسلافي للشُّيوعيِّينَ الألبانِ أثناءَ الاحتلالِ الإيطالي لبلادِهِم، غيرَ أنَّ هذا التأييدَ الذي أبْداه أنور خوجا للسياسة السُّوفيتيَّةِ توقَّف بعد وفاةِ ستالين سنة (1373هـ = 1953م)، وانتهاج خُلَفائه سياسةً مُغايرةً؛ فتحوَّل التأييدُ إلى عداءٍ مُستحكمٍ، انتهى بقَطعِ العَلاقاتِ بين البلدَينِ في سنة (1381هـ = 1961م)، وكان من الأسبابِ التي أدَّت إلى هذه النتيجةِ وقوفُ "خوجا" إلى جانب الصِّينِ في صِراعها الأيديولوجيِّ المذهبيِّ ضدَّ الاتِّحادِ السُّوفيتي، ثم أعقب ذلك انسحابُ ألبانيا من حِلفِ "وارسو" سنة (1388هـ = 1968م)، والتوقُّف عن المُشاركةِ في "الكوميكون"، وهو المجلسُ المُشتَرَكُ لِمُساعدة دولةِ الكُتلة الشرقيَّةِ. أدَّت هذه السياسةُ التي اتَّبعها أنور خوجا إلى انعزالِ ألبانيا عن أوروبا، والعالم الخارجي، ولم يعُدْ لها من حليفٍ سوى الصين، لكنَّ الصينَ نفسَها انتهجت بعدَ وفاةِ "ماو تسي تونج" سياسةً مَرِنةً ومُهادِنةً للولايات المُتَّحِدة الأمريكية؛ الأمرَ الذي جعل أنور خوجا يُعيد النَّظَر والتفكيرَ ويقلبُ الرأي، فأعاد العَلاقاتِ الدُّبلوماسيَّةَ مع يوغوسلافيا واليونان؛ للتغلُّب على شيءٍ من العُزلة التي فرَضَها على بلاده، وفي الوقتِ نفسِهِ ساءت عَلاقاتُهُ مع الصينِ، وانتهى بها الحالُ إلى قَطعِ مُساعداتِها له. أحكم أنور خوجا قبضتَهُ على البلاد، وأمسَكَ مقاليدَ الأمور بيدٍ من حديدٍ، وتخلَّصَ من جميعِ مُنافسيهِ في الحِزب الشُّيوعي، وامتدَّت يدُهُ إلى المعارضين؛ فأسكَتَ أصواتَهم، ولم يعُدْ هناك مَن يُواجهُهُ، أو يقفُ في وجهِهِ ويُعارِض سياستَهُ. ظلَّ أنور خوجا يحكُمُ ألبانيا إحدى وأربعين سنةً، حتى تُوَفِّيَ في (20 من رجب سنة 1405هـ = 11 من إبريل 1985م) عن عُمرٍ يُناهِزُ السَّابعةَ والسَّبعينَ، وخَلَفَهُ "رامز عليا".
سُئِلَ شَيخُ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ عن المَشهَدِ المَنسوبِ إلى الحُسينِ رضي الله عنه بمَدينةِ القاهرةِ:هل هو صَحيحٌ أم لا؟ وهل حُمِلَ رَأسُ الحُسينِ إلى دِمشقَ، ثم إلى مصر، أم حُمِلَ إلى المَدينَةِ من جِهَةِ العِراقِ؟ وهل لِمَا يَذكُرهُ بعضُ الناسِ مِن جِهَةِ المَشهَدِ الذي كان بعَسقلان صِحَّةٌ أم لا؟ ومَن ذَكَرَ أَمرَ رَأسِ الحُسينِ، ونَقْلِه إلى المَدينةِ النَّبويَّةِ دون الشامِ ومصر؟ ومَن جَزَمَ مِن العُلماءِ المُتقدِّمينَ والمُتأخِّرينَ بأن مَشهدَ عَسقلانَ ومَشهدَ القاهرةِ مَكذوبٌ، وليس بصَحيحٍ؟ وليَبسُطوا القَولَ في ذلك لأَجلِ مَسِيسِ الضَّرورَةِ والحاجةِ إليه، مُثابِينَ مَأجُورِينَ. فأجاب: "الحمدُ لله، بل المَشهدُ المَنسوبُ إلى الحُسينِ بنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما الذي بالقاهرةِ كَذِبٌ مُختَلقٌ، بلا نِزاعٍ بين العُلماءِ المَعروفِينَ عند أَهلِ العِلمِ، الذين يَرجِع إليهم المسلمون في مِثلِ ذلك لِعِلْمِهِم وصِدْقِهم. ولا يُعرَف عن عالِمٍ مُسَمَّى مُعروفٌ بعِلْمٍ وصِدْقٍ أنه قال: إن هذا المَشهدَ صَحيحٌ. وإنما يَذكرُه بعضُ الناسِ قَوْلًا عمَّن لا يُعرَف، على عادةِ مَن يَحكِي مَقالاتِ الرَّافِضَةِ وأَمثالِهم مِن أَهلِ الكَذِب. فإنهم يَنقُلونَ أَحاديثَ وحِكاياتٍ، ويَذكُرون مَذاهِبَ ومَقالاتٍ. وإذا طالَبتَهُم بمَن قال ذلك ونَقَلَهُ، لم يكُن لهم عِصمَةٌ يَرجِعُون إليها. ولم يُسَمُّوا أَحَدًا مَعروفًا بالصِّدقِ في نَقلِه، ولا بالعِلمِ في قَولِه، بل غايةُ ما يَعتَمِدون عليه أن يقولوا: أَجمَعَت الطائِفَةُ الحَقَّةُ. وهُم عند أَنفُسِهم الطائِفةُ الحَقَّة، الذين هم عند أَنفُسِهم المؤمنين، وسائرُ الأُمَّةِ سِواهُم كُفَّارٌ. وهكذا كلُّ ما يَنقُلونَه من هذا البابِ. يَنقُلون سِيَرًا أو حِكاياتٍ وأَحاديثَ، إذا ما طالَبتَهُم بإسنادِها لم يُحيلُوكَ على رَجُلٍ مَعروفٍ بالصِّدقِ، بل حَسْبُ أَحَدِهم أن يكون سَمِعَ ذلك مِن آخرَ مِثلِه، أو قَرأَهُ في كِتابٍ ليس فيه إسنادٌ مَعروفٌ، وإن سَمُّوا أَحَدًا، كان من المَشهُورِين بالكَذِبِ والبُهتان. لا يُتَصَوَّر قَطُّ أن يَنقُلوا شيئًا مما لا يُعرَف عند عُلماءِ السُّنَّةِ إلا وهو عن مَجهولٍ لا يُعرَف، أو عن مَعروفٍ بالكَذِب. ومن هذا البابِ نَقْلُ الناقلِ: أن هذا القَبرَ الذي بالقاهرةِ مَشهدُ الحُسينِ رضي الله عنه؛ بل وكذلك مَشاهدُ غيرُ هذا مُضافَةٌ إلى قَبرِ الحُسينِ رضي الله عنه، فإنه مَعلومٌ باتِّفاقِ الناسِ: أن هذا المَشهدَ بُنِيَ عامَ بِضعٍ وأربعين وخمسمائة، وأنه نُقِلَ مِن مَشهدٍ بعَسقلانَ، وأن ذلك المَشهدَ بعَسقلانَ كان قد أُحدِثَ بعدَ التِّسعين والأربعمائة. فأَصلُ هذا المَشهدِ القاهريِّ: هو ذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ. وذلك العَسقلانيُّ مُحْدَثٌ بعدَ مَقتلِ الحُسينِ بأَكثرَ من أربعمائة وثلاثين سَنَةً، وهذا القاهريُّ مُحْدَثٌ بعدَ مَقتَلِه بقَريبٍ من خمسمائة سَنَةٍ. وهذا مما لم يُتنازَع فيه اثنان ممَّن تَكلَّم في هذا البابِ من أَهلِ العِلمِ، على اختِلافِ أَصنافِهم، كأَهلِ الحَديثِ، ومُصَنِّفِي أَخبارِ القاهرةِ، ومُصَنِّفِي التَّواريخِ. وما نَقَلَهُ أَهلُ العِلمِ طَبقَةٌ عن طَبقَةٍ. فمِثلُ هذا مُستَفيضٌ عندهم. وهذا بينهم مَشهورٌ مُتَواتِرٌ، سَواءٌ قِيلَ: إن إضافَتَهُ إلى الحُسينِ صِدقٌ أو كَذِبٌ، لم يَتَنازَعوا أنه نُقِلَ من عَسقلانَ في أواخرِ الدولةِ العُبيديَّةِ. وإذا كان أَصلُ هذا المَشهدِ القاهريِّ مَنقولٌ عن ذلك المَشهدِ العَسقلانيِّ باتِّفاقِ الناسِ وبالنَّقْلِ المُتَواتِر؛ فمن المَعلومِ أن قَولَ القائلِ: إن ذلك الذي بعَسقلانَ هو مَبْنِيٌّ على رَأسِ الحُسينِ رضي الله عنه قَوْلٌ بلا حُجَّةٍ أَصلًا. فإن هذا لم يَنقُلهُ أَحَدٌ من أَهلِ العِلمِ الذين مِن شَأنِهم نَقلُ هذا. لا من أَهلِ الحَديثِ، ولا من عُلماءِ الأَخبارِ والتَّواريخِ، ولا من العُلماءِ المُصَنِّفين في النَّسَبِ؛ نَسَبِ قُريشٍ، أو نَسَبِ بَنِي هاشِمٍ ونَحوِه. وذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ، أُحدِثَ في آخِرِ المائةِ الخامسةِ، لم يكُن قَديمًا، ولا كان هناك مَكانٌ قَبلَه أو نَحوَه مُضافٌ إلى الحُسينِ، ولا حَجَرٌ مَنقوشٌ ولا نَحوُه ممَّا يُقالُ: إنه عَلامةٌ على ذلك. فتَبَيَّنَ بذلك أن إِضافةَ مِثلِ هذا إلى الحُسينِ قَوْلٌ بلا عِلمٍ أصلًا. وليس مِن قائِلٍ ذلك ما يَصلُح أن يكون مُعتَمَدًا، لا نَقْلٌ صَحيحٌ ولا ضَعيفٌ، بل لا فَرقَ بين ذلك وبين أن يَجيءَ الرَّجلُ إلى بَعضِ القُبورِ التي بأَحَدِ أَمصارِ المسلمين، فيَدَّعِي أن في واحدٍ منها رَأسَ الحُسينِ، أو يَدَّعِي أن هذا قَبرُ نَبِيٍّ من الأَنبياءِ، أو نحوَ ذلك ممَّا يَدَّعِيهِ كَثيرٌ من أَهلِ الكَذِبِ والضَّلالِ. وإذا كان ذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ قد قال طائفةٌ: إنه قَبرُ بَعضِ النَّصارَى، أو بَعضِ الحَواريِّينَ –وليس مَعَنَا ما يَدُلُّ على أنه قَبرُ مُسلِمٍ، فَضلًا عن أن يكون قَبرًا لرَأسِ الحُسينِ- كان قَولُ مَن قال: إنه قَبرُ مُسلِمٍ –الحُسينِ أو غَيرِه- قَوْلًا زُورًا وكَذِبًا مَردودًا على قائلِه. فهذا كافٍ في المَنْعِ مِن أن يُقال: هذا مَشهدُ الحُسينِ. ثم نقول: بل نحن نَعلَم ونَجزِم بأنه ليس فيه رَأسُ الحُسينِ، ولا كان ذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ مَشهَدًا للحُسينِ، من وُجُوهٍ مُتعدِّدَةٍ: منها: أنه لو كان رَأسُ الحُسينِ هناك لم يَتأَخَّر كَشْفُه وإِظهارُه إلى ما بعدَ مَقتَلِ الحُسينِ بأكثرَ من أربعمائة سَنَةٍ. ودَولةُ بَنِي أُمَيَّة انقَرَضَت قبلَ ظُهورِ ذلك بأَكثرَ من ثلاثمائة وبِضعٍ وخمسين سَنَةً. وقد جاءت خِلافَةُ بني العبَّاسِ وظَهَرَ في أَثنائِها من المَشاهِدِ بالعِراقِ وغَيرِ العِراقِ ما كان كَثيرٌ منها كَذِبًا. وكانوا عند مَقتَلِ الحُسينِ بكَربَلاء قد بَنوا هناك مَشهدًا. وكان يَنتابُه أُمراءُ عُظماءُ، حتى أَنكرَ ذلك عليهم الأئمَّةُ. وحتى إن المُتوَكِّل لمَّا تَقدَّموا له بأَشياءَ يُقال: إنه بالَغَ في إِنكارِ ذلك وزادَ على الواجبِ. دَعْ خِلافةَ بَنِي العبَّاسِ في أَوائلِها، وفي حالِ استِقامَتِها، فإنهم حينئذٍ لم يكونوا يُعَظِّمونَ المَشاهِدَ، سَواءٌ منها ما كان صِدقًا أو كَذِبًا، كما حَدَثَ فيما بعدُ؛ لأن الإسلامَ كان حينئذٍ ما يَزالُ في قُوَّتِه وعُنفُوانِه. ولم يكُن على عَهدِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وتابِعيهم من ذلك شيءٌ في بِلادِ الإسلامِ، لا في الحِجازِ، ولا اليَمنِ، ولا الشامِ، ولا العِراقِ، ولا مصر، ولا خُراسان، ولا المَغربِ، ولم يكُن قد أُحدِثَ مَشهدٌ، لا على قَبرِ نَبِيٍّ، ولا صاحِبٍ، ولا أَحَدٍ من أَهلِ البيتِ، ولا صالِحٍ أَصلًا، بل عامَّةُ هذه المَشاهِدِ مُحْدَثَةٌ بعدَ ذلك. وكان ظُهورُها وانتِشارُها حينَ ضَعُفَت خِلافةُ بني العبَّاسِ، وتَفَرَّقَت الأُمَّةُ، وكَثُرَ فيهم الزَّنادِقَةُ المُلَبِّسُونَ على المسلمين، وفَشَت فيهم كَلِمةُ أَهلِ البِدَعِ، وذلك في دَولةِ المُقتَدِر في أَواخرِ المائَةِ الثالثةِ، فإنه إذ ذاك ظَهَرَت القَرامِطَةُ العُبيدِيَّةُ القَدَّاحِيَّة بأَرضِ المَغربِ. ثم جاؤوا بعدَ ذلك إلى أَرضِ مصر. فإذا كان مع كلِّ هذا لم يَظهَر حتى مَشهدٌ للحُسينِ بعَسقلانَ، مع العِلمِ بأنه لو كان رَأسُه بعَسقلانَ لكان المُتقَدِّمون من هؤلاءِ أَعلمَ بذلك من المُتأخِّرين، فإذا كان مع تَوَفُّرِ الهِمَمِ والدَّواعِي والتَّمَكُّنِ والقُدرَةِ لم يَظهَر ذلك، عُلِمَ أنه باطِلٌ مَكذوبٌ، مِثلُ ما يَدَّعِي أنه شَريفٌ عَلَوِيٌّ. وقد عُلِمَ أنه لم يَدَّعِ هذا أَحَدٌ من أَجدادِه، مع حِرصِهِم على ذلك لو كان صَحيحًا، فإنه بهذا يُعلَم كَذِبُ هذا المُدَّعِي، الوجهُ الثاني: أن الذين جَمَعوا أَخبارَ الحُسينِ ومَقتَلِهِ مِثلُ أبي بكرِ بن أبي الدنيا، وأبي القاسمِ البَغَويِّ وغَيرِهما لم يَذكُر أَحَدٌ منهم أن الرَّأسَ حُمِلَ إلى عَسقلانَ ولا إلى القاهرةِ. وقد ذَكَرَ نحوَ ذلك أبو الخَطَّابِ بنُ دُحيةَ في كِتابِه المُلَقَّب بـ ((العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور)) ذَكَرَ أن الذين صَنَّفُوا في مَقتَلِ الحُسينِ أَجمَعوا أن الرَّأسَ لم يَغتَرِب، وذَكَرَ هذا بعدَ أن ذَكَرَ أن المَشهَدَ الذي بالقاهرةِ كَذِبٌ مُختَلَق، وأنه لا أَصلَ له، وبَسَطَ القَولَ في ذلك، كما ذَكَرَ في يومِ عاشُوراءَ ما يَتَعلَّق بذلك. الوجهُ الثالث: أن الذي ذَكَرَهُ مَن يُعتَمَد عليه مِن العُلماءِ والمُؤرِّخين: أن الرَّأسَ حُمِلَ إلى المَدينةِ، ودُفِنَ عند أَخيهِ الحَسَنِ. ومن الَمعلوم: أن الزُّبيرَ بنَ بَكَّارٍ، صاحِبَ كتابِ ((الأنساب)) ومحمدَ بنَ سَعدٍ كاتِبَ الواقِديِّ صاحِبَ ((الطبقات))، ونَحوَهُما مِن المَعروفين بالعِلمِ والثِّقَةِ والاطِّلاعِ، أَعلمُ بهذا البابِ، وأَصدَقُ فيما يَنقُلونَه من الجاهِلين والكَذَّابين، ومِن بَعضِ أَهلِ التَّواريخِ الذين لا يُوثَق بِعِلْمِهِم ولا صِدْقِهِم، بل قد يكون الرَّجلُ صادِقًا، ولكن لا خِبرةَ له بالأَسانيدِ حتى يُمَيِّزَ بين المَقبولِ والمَردودِ، أو يكون سَيِّءَ الحِفْظِ أو مُتَّهَمًا بالكَذِبِ أو بالتَّزَيُّدِ في الرِّوايَةِ، كحالِ كَثيرٍ من الإخبارِيِّين والمُؤَرِّخين، لا سيما إذا كان مِثلَ أبي مِخنَفٍ لُوطِ بنِ يحيى وأَمثالِه. ومَعلومٌ أن الواقِديَّ نَفسَهُ خَيرٌ عند الناسِ من مِثلِ هِشامِ بنِ الكلبيِّ، وأَبيهِ محمدِ بنِ السائبِ وأَمثالِهِما، وقد عُلِمَ كَلامُ الناسِ في الواقديِّ، فإن ما يَذكُرهُ هو وأَمثالُه إنما يُعتَضَدُ به، ويُستَأنسُ به، وأما الاعتِمادُ عليه بمُجرَّدِهِ في العِلمِ فهذا لا يَصلُح. فإذا كان المُعتَمد عليهم يَذكُرون أن رأسَ الحُسينِ دُفِنَ بالمَدينةِ، وقد ذَكَرَ غَيرُهم أنه إما أن يكون قد عادَ إلى البَدَنِ، فدُفِنَ معه بكَربَلاء، وإما أنه دُفِنَ بحَلَب، أو بدِمشق أو نحوَ ذلك من الأَقوالِ التي لا أَصلَ لها، ولم يَذكُر أَحَدٌ ممَّن يُعتَمَد عليه أنه بعَسقلانَ – عُلِمَ أن ذلك باطِلٌ، إذ يُمتَنَع أن يكون أَهلُ العِلمِ والصِّدقِ على الباطلِ، وأَهلُ الجَهلِ والكَذِبِ على الحَقِّ في الأُمورِ النَّقلِيَّةِ، التي إنما تُؤخَذ عن أَهلِ العِلمِ والصِّدقِ، لا عن أَهلِ الجَهلِ والكَذِبِ. الوجهُ الرابع: أن الذي ثَبَتَ في صَحيحِ البُخاريِّ: أن الرَّأسَ حُمِلَ إلى قُدَّامِ عُبيدِ الله بن زِيادٍ، وجَعَلَ يَنكُت بالقَضيبِ على ثَناياهُ بحَضرَةِ أَنسِ بنِ مالكٍ، وفي المُسنَدِ: أن ذلك كان بحَضرَةِ يَزيدَ بنِ مُعاوِيةَ. وهذا باطِلٌ. فإن أبا بَرزَةَ، وأَنسَ بنَ مالكٍ كانا بالعِراقِ، لم يكُونَا بالشامِ، ويَزيدُ بن مُعاوِيةَ كان بالشامِ، لم يكُن بالعِراقِ حِينَ مَقتلِ الحُسينِ، فمَن نَقَلَ أنه نَكَتَ بالقَضيبِ ثَناياهُ بحَضرَةِ أَنسٍ وأبي بَرزَةَ قُدَّامَ يَزيدَ فهو كاذِبٌ قَطْعًا، كَذِبًا مَعلومًا بالنَّقلِ المُتواتِرِ. ومَعلومٌ بالنَّقلِ المُتَواتِرِ: أن عُبيدَ الله بنَ زيادٍ كان هو أَميرُ العِراقِ حين مَقتلِ الحُسينِ، وقد ثَبَتَ بالنَّقلِ الصَّحيحِ: أنه هو الذي أَرسلَ عُمرَ بنَ سعدِ بن أبي وَقَّاصٍ مُقَدَّمًا على الطائفَةِ التي قاتَلَت الحُسينَ، وكان عُمَرُ قد امتَنَع من ذلك، فأَرغَبَهُ ابنُ زيادٍ وأَرهَبَهُ حتى فَعَلَ ما فَعَلَ. والمَقصودُ هنا أن نَقْلَ رَأسِ الحُسينِ إلى الشامِ لا أَصلَ له زَمَنَ يَزيدَ. فكيف بِنَقْلِه بعدَ زَمَنِ يَزيدَ؟ وإنما الثابتُ هو نَقْلُه من كَربَلاء إلى أَميرِ العِراقِ عُبيدِ الله بن زيادٍ بالكُوفةِ. والذي ذَكَرَ العُلماءُ: أنه دُفِنَ بالمَدينَةِ. الوجهُ الخامس: أنه لو قُدِّرَ أنه حُمِلَ إلى يَزيدَ، فأيُّ غَرَضٍ كان لهم في دَفنِه بعَسقلانَ، وكانت إذ ذاكَ ثَغْرَةً يُقيمُ به المُرابِطون؟ فإن كان قَصْدُهُم تَعْفِيَةَ خَبَرِهِ فمِثلُ عَسقلانَ تُظهِرُهُ لكَثرَةِ مَن يَنتابُها للرِّباطِ. وإن كان قَصْدُهُم بَركَةَ البُقعَةِ فكيف يَقصِدُ هذا مَن يُقال: إنه عَدُوٌّ له، مُسْتَحِلٌّ لِدَمِهِ، ساعٍ في قَتْلِه؟! ثم مِن المَعلومِ: أن دَفْنَهُ قَريبًا عندَ أُمِّهِ وأَخيهِ بالبَقيعِ أَفضلُ له. الوجهُ السادس: أن دَفْنَهُ بالبَقيعِ هو الذي تَشهَدُ له عادَةُ القَومِ. فإنهم كانوا في الفِتَنِ، إذا قَتَلوا الرَّجُلَ -لم يكُن منهم- سَلَّمُوا رَأسَهُ وبَدَنَهُ إلى أَهلِه، الوجهُ السابع: أنه لم يُعرَف قَطُّ أن أَحَدًا، لا مِن أَهلِ السُّنَّةِ، ولا من الشِّيعَةِ، كان يَنتابُ ناحِيةَ عَسقلانَ لأَجلِ رَأسِ الحُسينِ، ولا يَزورونَهُ ولا يَأتونَهُ. كما أن الناسَ لم يكونوا يَنتابون الأَماكِنَ التي تُضافُ إلى الرَّأسِ في هذا الوَقتِ، كمَوضِعٍ بحَلَب. فإذا كانت تلك البِقاعُ لم يكُن الناسُ يَنتابونَها ولا يَقصِدونَها، وإنما كانوا يَنتابون كَربَلاء؛ لأن البَدَنَ هناك، كان هذا دَليلًا على أن الناسَ فيما مضى لم يكونوا يَعرِفون أن الرَّأسَ في شَيءٍ من هذه البِقاعِ، ولكن الذي عَرَفوهُ واعتَقَدوهُ هو وُجودُ البَدَنِ بكَربَلاء، حتى كانوا يَنتابونَهُ في زَمنِ أَحمدَ وغَيرِه، حتى إن في مَسائِلِه، مَسائلَ فيما يُفعَل عند قَبرِه، ذَكَرَها أبو بكرٍ الخَلَّالُ في جامِعِه الكَبيرِ في زِيارَةِ المَشاهِدِ. ولم يَذكُر أَحَدٌ من العُلماءِ أنهم كانوا يَرون مَوضِعَ الرَّأسِ في شيءٍ من هذه البِقاعِ غيرَ المَدينةِ. فعُلِمَ أن ذلك لو كان حَقًّا لكان المُتقَدِّمون به أَعلمَ. ولو اعتَقَدوا ذلك لعَمِلُوا ما جَرَت عادَتُهم بعَمَلِه، ولأَظهَروا ذلك وتَكَلَّموا به، كما تَكَلَّموا في نَظائِرِهِ. فلمَّا لم يَظهَر عن المُتقَدِّمين –بقَوْلٍ ولا فِعْلٍ- ما يَدُلُّ على أن الرَّأسَ في هذه البِقاعِ عُلِمَ أن ذلك باطِلٌ، والله أعلم. الوجهُ الثامن: أن يُقال: ما زال أَهلُ العِلمِ في كلِّ وَقتٍ وزَمانٍ يَذكرون في هذا المَشهَدِ القاهريِّ المَنسوبِ إلى الحُسينِ: أنه كَذِبٌ مُبِينٌ، كما يَذكرون ذلك في أَمثالِه من المَشاهِدِ المَكذوبَةِ؛ فقد ذَكَرَ أبو الخَطَّابِ بن دُحيةَ في كِتابِه ((العِلم المشهور)) في هذا المَشهَدِ فَصْلًا مع ما ذَكَرَهُ في مَقتلِ الحُسينِ مِن أَخبارٍ ثابتَةٍ وغيرِ ثابتَةٍ، ومع هذا فقد ذَكَرَ أن المَشهَدَ كَذِبٌ بالإجماعِ، وبَيَّنَ أنه نُقِلَ من عَسقلانَ في آخرِ الدُّوَلِ العُبيديَّةِ، وأنه وُضِعَ لأَغراضٍ فاسِدَةٍ، وأنه بعدَ ذلك بقَليلٍ أَزالَ الله تلك الدَّولةَ وعاقَبَها بنَقيضِ قَصْدِها. وما زال ذلك مَشهورًا بين أَهلِ العِلمِ حتى أَهلِ عَصْرِنا، مِن ساكِنِي الدِّيارِ المِصريَّةِ، القاهرَةِ وما حَولَها والله أعلم. ".
بعد أن خرج الظاهِرُ برقوق السلطانُ المخلوعُ مِن سجن الكرك واجتمَعَ له أهلُ الكرك ونصروه، وما زال أمرُه في ظهور حتى العُربان اجتمعت عليه، وأخلاطُ أهل مدينة الكرك، فخرج من الكرك يريد الشَّامَ فأقام بالثنية خارج الكرك يومين، ورحل في الثامِنِ والعشرين من شوال، وسار بهم يريد دمشقَ، وبها الأمير جَنتمُر أخو طاز، متولِّي نيابتها وقد وصل إليه الأمير ألطنبغا الحلبي الدوادار من مصر نائبًا على حلب بحُكم عصيان كمشبغا الحموي، فاستعَدَّا لقتال الظاهر، وتوجَّه إليهما الأميرُ حسام الدين حسين بن باكيش نائب غزة بعساكرها وعشيرها، وأقبل الظاهِرُ بمن معه، فخرجوا إليه وقاتلوه بشقحب قريبًا من دمشق قتالًا شديدًا، كسَروه فيه غيرَ مرة، وهو يعودُ إليهم ويقاتِلُهم، إلى أن كسرهم وانهزموا منه إلى دمشق، وقَتَل منهم ما ينيفُ على الألف، فيهم خمسةَ عشر أميرًا، وقُتِلَ من أصحابه نحو الستين، ومن أمرائِه سَبعةٌ، وركب أقفيةَ المنهزمين، فامتنع جَنتمر بالقلعة، وتوجَّه بالقلعة وتوجَّهَ من أمراء دمشق ستة وثلاثون أميرًا، ومعهم نحو الثلاثمائة وخمسين فارسًا، قد أُثخِنوا بالجراحات، وأخَذوا نائِبَ صفد، وقَصَدوا ديار مصر، فلم يمضِ غيرُ يوم واحد حتى وصل ابنُ باكيش بجمائعه، فقاتله الظاهِرُ وهَزَمَه، وأخذ جميعَ ما كان معه، فقَوِيَ به قوة كبيرة، وأتاه عِدَّةٌ من مماليكه، ومن أمراء الشام، فصار في عسكرٍ كبير، وأقبل إليه الأميرُ جبرائيل حاجِبُ الحجاب بدمشق، وأمير علي بن أسندمر الزيني، وجَقمَق، ومقبل الرومي، طائعين له، فصاروا في جملته، ونزل السلطان برقوق على قبة يلبغا ظاهر دمشق، وقد امتنع أهلُها بها، وبالغوا في تحصينِها، فحصرها وأحرق القبيبات وخربها، وأهلك في الحريق خلقًا كثيرًا، وجَدَّ أهل المدينة في قتالِه، وأفحشوا في سَبِّه، وهو لا يفتُرُ عن قتالهم، فأمَدَّه الأمير كمشبغا من حلب بثمانين فارسًا من المماليك الظاهريَّة، فأخرج إليهم الأمير جَنتمر خمسمائة فارس من دمشق، ليَحُولوا بينهم وبين الظاهر، فقاتلوهم فكسَرَهم الظاهرية، واستولوا على جميعِ ما معهم، وأتَوا إلى الظاهر فأقبل الأمير نعير بعُربانه يريدُ محاربته، فحاربه وكَسَرَه فانهزم عنه، وتقوى ممَّا صار إليه في هذه الوقائع، واستمَرَّ الظاهرُ برقوق على حصار دمشق وقتال أهلها، فورد الخبَرُ بذلك إلى منطاش في خامس عشر ذي القعدة، فتقَدَّم في السابع عشر منه إلى الصاحب موفق الدين أبي الفرج بتجهيز المَلِك المنصور حاجي للسَّفَر، فلم يجِدْ في الخزائن ما يجَهِّزُه به، فأخذ أموال اليتامى التي في الخزائِنِ وأخذ كذلك من اليهود والنصارى أموالًا، واستصدر فتوى بحلِّ قَتلِ الظَّاهِرِ برقوق بسَبَبِ ما قام به من خَلعِ الخليفة والسلطان السابق وغيرها من الأمور، ثمَّ جُهِّزَت العساكر من مصر للسير لقتال الظاهر برقوق، ففي ثاني محرم من سنة 792 وصل السلطانُ الملك المنصور إلى مدينة غزَّةَ بعساكرِ مِصرَ، وبلغ ذلك المَلِكَ الظاهر فترك قتالَ أهل دمشق، وأقبل نحوَهم، فنزل العسكَرُ المصري على قرية المليحة، وهي تبعد عن شقحب بنحو بريدٍ، وأقاموا بها يومَهم، وبعثوا كشافَتَهم، فوجدوا الظاهِرَ برقوق على شقحب، فكان اللقاءُ يوم الأحد الرابع عشر، وقد وافاهم الظاهِرُ برقوق، فوقف الأمير منطاش في الميمنةِ وحمل على ميسرة الظاهر، فحمل أصحابُ ميمنة الظاهر على ميسرة المنصور، وبذل كلٌّ من الفريقين جُهدَه، وكانت حروبًا شديدة، انهزمت فيها ميمنةُ الظاهر وميسرتُه، وتَبِعَهم منطاش بمن معه، وثبت الظاهرُ في القلب، وقد انقطع عنه خبَرُ أصحابه، وأيقَنَ بالهلاك، ثم حمل على المنصورِ بمن بقي معه، فأخذ المنصورَ والخليفةَ المتوكِّلَ والقُضاة والخزائِنَ، ومالت الطائفةُ التي ثبتت معه على الأثقال، فأخَذَتْها عن آخرها، وكانت شيئًا يخرُجُ عن الحَدِّ في الكثرة، ووقع الأميرُ قجماس ابن عم الظاهر في قبضةِ منطاش، ومَرَّ في أثر المنهزمين حتى وصل إلى دمشق، وأما الظاهر وأصحابه، فإن الأمير كمشبغا نائب حلب كان ممن انهزم على شَقْحب، فتَمَّ في الهزيمة إلى حلب، وتَبِعَه الأمير حسام الدين حسن الكجكني نائب الكرك، ومن بَقِي من عساكر حلب، فاستولى عليها، وانهزم أهلُ الكرك إليها، فلم يَصِلوا حتى مرَّت بهم شدائد، ولم يتأخَّرْ مع الظاهر إلا نحو الثلاثين، وقد تمَزَّقت عساكره وعساكِرُ مصر، فلم يقصِدْ إلا المنصور، فأخذه بمن معه فصار السلطانُ حاجي والخليفةُ المتوكل في قبضة الظاهر، ثم في يوم الاثنين أقبل منطاش في عالمٍ كبير من عوام دمشقَ وعساكرها ومن كان معه، فدارت بينه وبين الظاهِرِ في هذا اليوم منذ شروق الشمسِ إلى آخره حروبٌ لم يُعهَدْ بمصر والشام في هذه الأعصُرِ مِثلُها، وبعث الله ريحًا ومطرًا في وجهِ منطاش ومن معه، فكانت من أكبَرِ أسبابِ خِذلانه، ولم تغرُب الشمس حتى فَنِيَ من الفريقين خلقٌ كثير من الفرسان والعامة، وانهزم منطاش إلى دمشق، وعاد الظاهِرُ إلى منزلته فأقام بها سبعة أيام، وعَزَّت عنده الأقواتُ، وفي أثناء إقامته أمر الظاهر فجَمَع كُلَّ من معه من الأعيان، وأشهد على المنصور حاجي أنَّه خلع نفسه، وحَكم بذلك القضاة، ثم بويع الظاهِرُ، وأثبت القضاةُ بَيعَتَه، فولَّى الظَّاهِرُ الأميرَ فخر الدين إياس الجرجاوي نيابة صفد، والأمير سيف الدين قديد القَمطاي الكرك، والأمير علاء الدين أقبغا الصغير غزة، ورحل الظاهِرُ فأتاه عند رحيله منطاش بعَسكرِ الشام، ووقف على بُعدٍ فاستعد الظاهر إلى لقائه، فولى عنه وعاد إلى دمشق، وسار الملك الظاهِرُ ومن معه يريدُ ديار مصر، وبعث إلى غزة يأمرُ منصور الحاجب بالقبضِ على حسام الدين حسن بن باكيش، فقُبِض عليه واستولى على غزة، وبعث بابن باكيش إلى السلطان الظاهر برقوق فضربه بالمقارع وهو بالرملة، وسار الظاهر إلى غزة فضربه بها ضربًا مبَرِّحًا يوم دخلها مستهَلَّ صفر، ثم في بكرة نهار يوم الثلاثاء رابع عشر صفر نزل الملك الظاهر بالريدانية خارج القاهرة، فخرج إلى لقائِه الأشرفُ مع السيد علي نقيب الأشراف، وخرجت طوائِفُ الفقراء بصناجِقِها، وخرجت العساكِرُ بلبوسِها الحربية، وكانت العساكِرُ منذ خرج بطا وأصحابه لابسةً السلاح ليلًا ونهارًا، وخرجت اليهودُ بالتوراة، والنصارى بالإنجيل، ومعهم شموعٌ كثيرةٌ مُشعَلة، وخرج من عامةِ الناس رجالُهم ونساؤهم ما لا يحصيه إلا الله، وعندهم من الفَرَحِ والسرور شيءٌ زائد، وهم يضجُّون بالدعاء للسلطان، حتى لَقُوه وأحاطوا به، وقد فُرِشَت الشُّقَق الحريرُ من الترب إلى باب السلسة، فلما وصل إليها تنحى بفَرَسِه عنها، وقَدَّمَ المَلِكَ المنصور حاجي بن الأشرف حتى مشى بفَرَسِه عليها، ومشى بجانِبِه، فصار كأنَّ الموكِبَ للمنصور، فوقع هذا من الناسِ مَوقعًا عظيمًا، ورفعوا أصواتَهم بالدعاء والابتهال له؛ لتواضعه مع المنصور في حال غَلَبتِه وقَهْرِه له، وأنَّه معه أسيرٌ! وعُدَّ هذا من فضائله، واستَدعى الخليفةَ وشيخَ الإسلام وقضاة القضاة وأهل الدولة، وهو بالإسطبل، وجدد عقد السلطنة وتجديد التفويض الخليفتية، فشهد بذلك القضاةُ على الخليفة ثانيًا، وأُفيضَت التشاريف الخليفتيَّة على السلطان، ثم أُفيضَت التشاريف السلطانية على الخليفة، وركب السلطانُ مِن الإسطبل وصَعِدَ القلعة، وتسَلَّمَ قُصوره، وقد عاد إليها حَرَمُه وجواريه، فحقت البشائرُ.
هو محمد جمال الدين بن صفدر -وتكتب صفتر- الحسيني الأفغاني الأسد آبادي، كان فيلسوفًا سياسيًّا، وكاتبًا وخطيبًا وصحفيًّا، ولد في شعبان 1254هـ / أكتوبر 1838م بأسد آباد بالقربِ من همذان من أعمال فارس، وقيل إنه ولد بأسد آباد الأفغانية؛ ولذا اختُلِفَ في أصل نسب أسرتِه، هل هو فارسي إيراني أم أفغاني, وقيل إنه من أسرة أفغانية عريقة ينتهي نسَبُها إلى الحسين بن علي رضي الله عنه, نشأ الأفغاني في كابول عاصمة الأفغان. وتعلَّم فيها بدايةَ تلقيه العلمَ اللغتينِ العربيةَ والفارسية، ودرَس القرآن وشيئًا من العلومِ الإسلامية، وفي سِنِّ الثامنة لفت أنظارَ من حوله بذكائه الشديد، مما جعل والِدَه يحفِّزُه إلى التعلم، وفي أوائل سنة 1266هـ / 1849م وقد بلغ الثانية عشرة من عمره انتقل به والده إلى طهران، وفي طهران سأل جمال الدين عن أكبَرِ علمائها في ذلك الوقت، فقيل له: إنه "أقاسيد صادق" فتوجَّه مباشرةً إلى مجلسه، ودار حوارٌ بينهما في مسألةٍ علميةٍ، فأُعجِبَ الشيخ من علمه وجرأتِه مع صِغَرِ سنه، فأقبل عليه وضمَّه إلى صدره وقبَّلَه، ثم أرسَلَ إلى والده يستدعيه، وأمره أن يشتريَ له عباءةً وعمامة، ثم قام الشيخُ بلَفِّ العمامة ووضَعَها بيده فوقَ رأسه تكريمًا له، واعتزازًا بعلمِه. ثم ترك جمال الدين طهران، وسافر مع والدِه -إلى مركز الشيعية العلمي- في النَّجفِ بالعراق في نفس العام، ومكث فيها أربعَ سنوات درس فيها العلومَ الإسلامية وغيرها؛ فدرس التفسير والحديث، والفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وأصول الفقه، والرياضة، والطب والتشريح، والنجوم. وقرأ في اللغةِ والأدبِ، والتاريخ والتصوف، والشريعة، وظهر حُبُّه الشديد للمناقشة في المسائل الدينية، أتقن الأفغانيُّ الحديث باللغة العربية والأفغانية والفارسية والسنسكريتية والتركية، وتعلم الفرنسية والإنجليزية والروسية، وإذا تكَلَّم بالعربية فلغتُه فصحى، وهو واسِعُ الاطِّلاع على العلومِ القديمة والحديثة، كريمُ الأخلاقِ كبيرُ العقل، وعندما بلغ الثامنة عشرة أتمَّ دراستَه للعلوم، وظلَّ الأفغاني طوال حياته حريصًا على العلمِ والتعلُّم، وبرزت فيه هوايةُ التَّرحالِ والأسفار. فسافر إلى الهندِ لدراسة بعض العلوم العصرية، ثم عاد إلى أفغانستان. كان الأفغانيُّ يُظهِرُ في عمله السياسي مناهَضةَ استبداد الحكَّام ومناوأة الاستعمار عمومًا والإنجليزيِّ خصوصًا في كلِّ مكانٍ ينزِلُ فيه. حينما وقع خلافٌ بين الأمراء الأفغان انحاز جمال الدين إلى محمد أعظم خان الذي كان له بمثابةِ وزيرِ دولة، وحدث صدامٌ بين جمال الدين وبين الإنجليز، فرحل عن أفغانستان أو طرَدَه الإنجليزُ منها سنة 1285ه ـ/ 1868م، ومر بالهندِ في طريقِه فكان الإنجليز يمنعون العُلَماءَ وطلبة العلم الجلوسَ معه، فخرج منها إلى مصر حيث أقام بها مدةً قصيرة تردَّد في أثنائها على الأزهرِ، وكان بيته مزارًا لكثيرٍ مِن الطلاب والدارسين خاصةً السوريين. ثم دعاه السُّلطانُ العثماني عبد العزيز إلى زيارةِ الدولة العثمانية فأجاب الدعوة، وسافر إلى الأستانة في عهدِ الصدر عالي باشا، فعَظُم أمرُه بها، وذاعت شهرتُه وارتفعت منزلته، ثم عُيِّن جمالُ الدين وهو في الأستانة عضوًا في مجلس المعارِفِ الأعلى، وهناك لقِيَ معارضة وهجومًا من بعضِ علماء الأستانة وخطباءِ المساجد الذين لم يرُقْهم كثير من آرائِه وأقواله، وخاصة من شيخِ الإسلام حسين فهمي أفندي، فطُلب من الأفغاني أن يرحَلَ، فخرج من الأستانة عائدًا إلى مصر، فأقام فيها بضعَ سنوات خاض فيها غِمارَ السياسة المصرية، ودعا المصريِّين إلى ضرورةِ تنظيم أمورِ الحُكمِ، وتأثَّرَ به في مصر عددٌ من رموز الحركة الأدبيَّةِ والسياسية، منهم: محمد عبده، ومحمود سامي البارودي، وغيرهما، فقد أُعجِبوا بفكره وجرأتِه في مناهضة الاستبداد والاستعمار، ويُذكرُ أن للأفغان دورًا في إعطاء دفعةٍ قويةٍ للنَّهضةِ الأدبيَّةِ الحديثة بمصر، فلمَّا تولى الخديوي توفيق باشا حُكمَ البلاد أمَرَ بإخراجه مِن مِصرَ، فأُخرِجَ بطريقة عنيفةٍ بأمرٍ مِن الخديوي بعد أن أقام في مِصرَ نحوَ ثماني سنوات. انتقل إلى الهند سنة 1296هـ / 1879م، ثمَّ طُرِدَ من الهند بأمرٍ مِن الإنجليز، فاتَّجَه إلى أوروبا واختار أن يبدأ بلندن، ومنها انتَقَل إلى باريس، فشرع في تعلُّم الفرنسية فيها، وبذل كثيرًا من الجُهدِ والتصميمِ حتى خطا خطواتٍ جيدةً في تعلُّمِها، ثم اتصل بتلميذِه الشيخ محمد عبده المنفيِّ حينَها في بيروت، ودعاه إلى الحُضورِ إلى باريس، وأصدرا معًا جريدة "العُروة الوثقى"، ولكِنَّها ما لَبِثَت أن توقَّفَت عن الصدور بعد أن أُوصِدَت أمامَها أبوابُ كُلٍّ مِن مصر والسودان والهند، بأمرٍ مِن الحكومةِ الإنجليزيةِ, ثمَّ دعاه شاه إيران "ناصر الدين" للحُضورِ إلى طهران، واحتفى به وقَرَّبه، وهناك نال الأفغانيُّ تقدير الإيرانيين وحَظِيَ بحُبِّهم، ومالوا إلى تعاليمِه وأفكارِه، ثمَّ ذهب إلى روسيا فأقام فيها ثلاثَ سنواتٍ تنَقَّل بين موسكو وعاصمتِها بطرسبرج آنذاك، وزار كييف، والتقى بقيصرِها ألكسندر الثالث، ثمَّ أمر القيصَرُ بطَردِه من روسيا، فعاد مرةً أخرى لإيران بطلَبٍ من الشاه ناصر الدين، ثم انقَلَب عليه فطَرَده من إيران، فرحل إلى البصرة، ومنها إلى لندن للمرَّة الثانية؛ حيث اتخذ من جريدة "ضياء الخافقين" منبرًا للهُجومِ على الشاه ناصر الدين، وكشف ما آلت إليه أحوالُ إيران في عَهدِه، انتظم جمالُ الدين في سِلكِ الماسونيَّةِ بطَلبٍ منه؛ زعم أنَّ ذلك يُفسِحُ له المجالَ أمامَ أعماله السياسيَّةِ، وقد انتُخِبَ رئيسًا لمحفل "كوكب الشرق" سنة 1295هـ / 1878م، وقيل إنه استقال منه فيما بعدُ. يُعتَبَرُ الأفغانيُّ في نظرِ مُريديه وطنيًّا كبيرًا، بينما يَنظُرُ إليه خصومُه على أنَّه مهَيِّجٌ خطير، فقد كان له أثَرٌ كبير في الحركاتِ الحُرَّة والحركات الدستورية التي قامت في الدُّوَلِ العربية والإسلامية، وكان يَرمي من إثارة الخواطِرِ إلى تحريرِ هذه الدُّوَلِ من النفوذ الأوربي واستغلالِ الأوروبيِّين، ثم بعد ذلك النهوض بها نهوضًا ذاتيًّا من الداخل متوسِّلًا في ذلك بإدخالِ النظُمِ الحُرَّة إليها، كما كان يهدفُ إلى جمع كَلِمةِ الدول الإسلامية بما فيها فارس الشيعيَّة تحت راية خلافةٍ واحدةٍ، وإقامةِ إمبراطوريةٍ إسلاميةٍ قويةٍ تستطيعُ الوقوفَ في وجهِ التدَخُّلِ الأوربي؛ ولذلك دعاه السلطانُ عبد الحميد الثاني في عهدِه وقَرَّبه إليه وتعاون معه في تسويقِ فكرة الجامعة الإسلامية، ثم انقلب عليه السلطانُ عبد الحميد الثاني لَمَّا شك في علاقتِه بالإنجليز. لم يُكثِرِ الأفغاني من التصنيف اعتمادًا على ما كان يبُثُّه في نفوس العاملين، وانصرافًا إلى الدعوة بالسِّرِّ والعلن. له تاريخ الأفغان، ورسالة الرد على الدهريين، ترجمها إلى العربية تلميذه الشيخ محمد عبده, وجمع محمد باشا المخزومي كثيرًا من آرائه في كتاب خاطرات جمال الدين الأفغاني، ولمحمد سلام مدكور كتاب جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية في الشرق. توفِّيَ الأفغاني في الأستانة بعد أن أُصيب بمرَضِ السرطان في فَكِّه، عن عمرٍ بلغ نحو ستين عامًا، وقد ثار الجدَلُ حول وفاته، وشكَّك البعضُ في أسبابها، وأشار آخرون إلى أنه اغتيلَ بالسمِّ. وكانت وفاته في 5 من شوال 1314هـ / 10 من مارس 1897م. قال عنه الفيلسوفُ إرنست رينان الذي التقى به وحاوَرَه: "قد خُيِّلَ إليَّ مِن حريَّةِ فِكرِه ونبالةِ شِيَمِه وصراحتِه وأنا أتحدث إليه، أنَّني أرى وجهًا لوجهِ أحدِ مَن عرفتُهم من القُدَماء، وأنني أشهَدُ ابنَ سينا أو ابنَ رشد, أو أحدَ أولئك الملاحدة العِظامِ الذين ظلُّوا خمسة قرون يعملونَ على تحريرِ الإنسانيةِ مِن الإسارِ" وتبقى شخصيةُ الأفغاني يحومُ حولَها كثيرٌ مِن الشُّكوكِ!
خَرَج عبدُ اللَّه بنُ أُنيسٍ رَضي اللهُ عنه من المدينةِ يومَ الإثنَينِ لخمسٍ خَلَونَ من المُحرَّمِ على رأس خمسةٍ وثلاثين شهرًا من مُهاجَرِ رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبَلَغَ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ سُفيانَ بنَ خالِدِ بن نُبَيحٍ الهُذليَّ ثم اللِّحيانيَّ -وكان يَنزِل عُرْنةَ وما والاها في أُناسٍ من قومِه وغيرِهم- يُريد أن يَجمَعَ الجُموعَ إلى رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فضَوَى إليه بَشَرٌ كثيرٌ من أفناءِ الناسِ.
قال عبدُ اللَّه بنُ أُنيسٍ رضي اللَّه تعالى عنه: دَعاني رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: "إنَّه بَلَغني أنَّ سفيانَ بنَ خالدِ بنِ نُبَيحٍ يَجمَع لي الناسَ ليَغزوَني وهو بنَخلةَ أو بعُرْنةَ فأْتِه فاقْتُلْه". فقلتُ: يا رسول اللَّه، صِفْهُ لي حتى أعرِفَه. فقال: "آيةُ ما بَينَك وبَينَه أنَّك إذا رَأيتَه هِبتَه وفَرِقْتَ منه، ووَجَدْتَ له قُشَعْريرةً، وذَكَرْتَ الشَّيطانَ". قال عبد اللَّه: كنتُ لا أهابُ الرِّجالَ، فقلت: يا رسول اللَّه، ما فَرِقتُ من شيءٍ قطُّ. فقال: "بَلَى؛ آيةُ ما بَينَك وبَينَه ذلك: أن تَجِدَ له قُشَعْريرةً إذا رَأيتَه". قال: واستَأذَنتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أقولَ. فقال: "قُلْ ما بَدا لَكَ". وقال: "انتَسِبْ لخُزاعةَ". فأخَذتُ سَيفي ولم أزِدْ عليه وخرجتُ أعتَزي لخُزاعةَ حتى إذا كنتُ ببَطنِ عُرْنةَ لَقيتُه يمشي ووراءه الأحابيشُ. فلمَّا رَأيتُه هِبتُه وعَرَفتُه بالنَّعتِ الذي نَعَت لي رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقلتُ: صَدَقَ اللَّهُ ورسولُه، وقد دخل وقتُ العَصرِ حين رَأيتُه، فصَلَّيتُ وأنا أمشي أُومي برَأسي إيماءً. فلمَّا دَنَوتُ منه قال: "مَنِ الرَّجلُ؟". فقلتُ: "رجلٌ من خُزاعةَ سَمِعتُ بجَمعِكَ لمُحمَّدٍ فجِئتُكَ لأكونَ مَعَك عليه". قال: "أجلْ؛ إنِّي لَفي الجَمعِ له". فمَشَيتُ معه وحدَّثتُه فاستَحلَى حديثي وأنشَدتُه وقلتُ: "عَجَبًا لِمَا أحدَثَ مُحمَّدٌ مِن هذا الدِّينِ المُحدَثِ، فارَقَ الآباءَ وسَفَّه أحلامَهم". قال: "لم ألْقَ أحَدًا يُشبِهُني ولا يُحسِنُ قِتالَه". وهو يتوكَّأُ على عصًا يَهُدُّ الأرضَ، حتى انتَهَى إلى خِبائِه وتفرَّق عنه أصحابُه إلى منازِلَ قَريبةٍ منه، وهم يُطيفون به. فقال: هَلُمَّ يا أخا خُزاعةَ. فدَنَوتُ منه. فقال: اجلِسْ. فجَلَستُ معه حتى إذا هَدَأ الناسُ ونامَ اغتَرَرْتُه. وفي أكثرِ الرِّواياتِ أنه قال: فمَشَيتُ معه حتَّى إذا أمكَنني حَمَلتُ عليه السَّيفَ فقَتَلتُه وأخذتُ رأسَه. ثم أقبلتُ فصَعِدتُ جَبَلًا، فدَخَلتُ غارًا وأقبَلَ الطلبُ من الخيلِ والرجالِ تَمعَجُ في كلِّ وجهٍ وأنا مُكتَمِنٌ في الغارِ، وأقبل رجلٌ معه إداوَتُه ونعلُه في يدِهِ وكنتُ خائفًا، فوضع إداوَتَه ونعلَه وجلس يَبولُ قَريبًا من فَمِ الغارِ، ثم قال لأصحابِه: ليس في الغارِ أحدٌ، فانصَرَفوا راجِعين، وخرجتُ إلى الإداوةِ فشَرِبتُ ما فيها وأخذتُ النَّعلَين فلَبِستُهما. فكنتُ أسير الليلَ وأكمُنُ النهارَ حتى جِئتُ المدينة، فوَجَدتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجد، فلمَّا رآني قال: "أفلَحَ الوَجهُ". فقلت: وأفلَحَ وَجهُكَ يا رسول اللَّه". فوَضَعتُ الرَّأسَ بين يَدَيه وأخبَرتُه خَبَري، فدَفَع إليَّ عصًا وقال: "تَخَصَّرْ بِها في الجَنَّةِ؛ فإنَّ المُتخَصِّرين في الجَنَّةِ قَليلٌ".
فكانتِ العصا عند عبدِ اللَّه بن أُنَيسٍ حتى إذا حضَرَته الوفاةُ أوصى أهلَه أن يُدرِجوا العصا في أكفانِه. ففَعَلوا ذلك. قال ابنُ عُقبةَ: "فيَزعُمون أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ بقتلِ عبدِ اللَّه بنِ أُنيسٍ سُفيانَ بنَ خالِدٍ قبلَ قُدومِ عبدِ اللَّه بنِ أُنَيسٍ رضي اللَّه تعالى عنه".
أُنشِئَت هذه المكتبةُ في القرن الثاني الهجري ( الثامن الميلادي) على يدِ هارونَ الرشيد، وذلك بعد أن ضاقت مكتبةُ القَصرِ بما فيها من كتُبٍ, وعَجَزت عن احتواءِ القُرَّاء المتردِّدين عليها؛ ممَّا جعله يفكِّرُ في إخراجِها من القصر, وإفرادِها بمبنًى خاصٍّ بها, يَصلُحُ لاستيعابِ أكبَرِ عدَدٍ مِن الكتُبِ, ويكون مفتوحًا أمام كلِّ الدارسينَ وطُلَّابِ العِلمِ. فاختار لها مكانًا مُناسِبًا, وأقام عليه مبنًى مكَوَّنًا من عدَّةِ قاعات؛ قاعة للاطِّلاع, وقاعة للمُدارَسة, وقاعة لنَسخِ الكتُبِ الجديدة وتجليدِها, وقاعة للتَّرويحِ عن النَّفسِ وللاستراحةِ. ومسجِدًا للصلاةِ, ومكانًا يَبيتُ فيه الغُرَباء, تتوفَّرُ فيه مقوِّماتُ الحياةِ مِن طعامٍ وشَرابٍ وغَيرِه, ومخزنًا للكتُب, نظمَت فيه بحيثُ صار لكُلِّ فَنٍّ مِن الفنون العِلميَّة مكانٌ خاصٌّ به, وتُوضَعُ فيه مُرَتَّبةً في دواليبَ، ثم زوَّدها بما تحتاجُ إليه من أثاثٍ ومرافِقَ, وأحبارٍ وأوراقٍ للدارسين, وعيَّنَ لها المُشرِفينَ على إدارتِها, والعُمَّالَ القائمينَ على خدمة ورعايةِ زائريها. وواصلَ ابنُه المأمونُ بعده الاهتمامَ بتلك المكتبةِ، فأحضر مئاتِ النُّسَّاخ والشُّرَّاح والمُترجِمينَ مِن شَتَّى اللُّغات؛ لتعريبِ ونَقلِ الكتُبِ من لغَتِها الأصلية, حتى غَدَت من أعظَمِ المكتبات في العالَم, ووضع بها مرصدًا؛ ليكون تعليمُ الفلَكِ فيها تعليمًا عمليًّا، يجَرِّبُ فيها الطلابُ ما يدرُسونَه من نظريَّاتٍ عِلميَّةٍ, وبنى بها مستشفًى لعلاجِ المرضى وتعليمِ الطِّبِّ؛ إذ كان يؤمِنُ بأن العِلمَ النظري وحده لا جَدوى منه. وكتب إلى ملكِ الرومِ يسألُه الإذنَ في إنفاذِ ما عنده من العلومِ القديمة المخزونةِ المورَّثة عن اليونان, واجتمع لدى المأمونِ بذلك ثروةٌ هائلةٌ مِن الكتبِ القديمة, فشَكَّلَ لها هيئةً مِن المترجمينَ المَهَرة والشُّرَّاح والورَّاقينَ؛ للإشرافِ على ترميمِها ونَقلِها إلى العربيَّة, وعيَّنَ مسؤولًا لكلِّ لغةٍ يُشرِفُ على من يُترجِمونَ تُراثَها, وأجرى عليهم الرواتبَ العظيمة, حيث جعل لبعضِهم خمسَمائة دينارٍ في الشهر, أي ما يساوي 2كيلو جرام ذهبًا تقريبًا, بالإضافة إلى الأعطيات الأخرى, إذ أعطى على بعضِ الكتُبِ المُترجَمة وزنَها ذهبًا. وبعضُهم كان يقومُ بترجمة الأصلِ إلى لُغتِه هو, ثم يقومُ مترجِمٌ آخَرُ بنَقلِه إلى العربيَّةِ وغيرِها, ولم يقتَصِرْ دَورُ المترجمينَ على الترجمةِ فقط، وإنما قاموا بالتعليقِ على هذه الكتب، وتفسيرِ ما فيها من نظريَّات, ونَقْلها إلى حيِّز التطبيق, وإكمالِ ما فيها من نَقْصٍ, وتصويبِ ما فيها من خطأٍ؛ حيث كان عمَلُهم يُشبِهُ ما يسمَّى بالتحقيقِ الآن, وما إن انتهى عصرُ المأمون حتى كانت معظَمُ الكتُبِ اليونانيَّة والهنديَّة والفارسية وغيرِها من الكتب القديمة في علومِ الرياضةِ والفَلَك والطبِّ والكيمياءِ والهندسةِ موجودةً بصورتها العربيَّة الجديدةِ بمكتبة بيتِ الحكمةِ. كان للترجمةِ التي عَمِلَ عليها المأمونُ أثَرٌ واضِحٌ في تطوُّرِ الحركة العلميَّة لدى المسلمين إلَّا أنَّها نقَلَت معها بعضَ مُعتَقداتِ الأُمَم السابقة، وأفسدت على بعضِ المُسلِمين دينَهم. يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة: "أظهر اللهُ مِن نورِ النبوةِ شَمسًا طَمَسَت ضوءَ الكواكبِ، وعاش السَّلَفُ فيها بُرهةً طويلةً، ثم خَفِيَ بعضُ نورِ النبوة؛ فعُرِّبَ بعضُ كتُبِ الأعاجِمِ الفلاسفةِ مِن الرومِ والفُرس والهند في أثناءِ الدولة العباسيَّة، ثم طُلِبَت كتُبُهم في دولة المأمونِ مِن بلاد الروم فعُرِّبَت، ودَرَسَها الناسُ وظهر بسبب ذلك من البِدَعِ ما ظهر، وكان أكثَرُ ما ظهر من علومِهم الرياضيَّة كالحسابِ والهيئةِ، أو الطبيعةِ كالطبِّ أو المنطقيَّة، فأمَّا الإلهيَّةُ: فكلامُهم فيها نَزْرٌ، وهو مع نزارتِه ليس غالِبُه عندهم يقينًا، وعند المسلمينَ من العلومِ الإلهيَّة الموروثة عن خاتَمِ المُرسَلين ما ملأ العالمَ نُورًا وهدًى". وقال أيضًا رحمه الله: "إنَّ أمَّتَنا- أهلَ الإسلامِ- ما زالوا يَزِنون بالموازينِ العَقليَّة, ولم يسمَعْ سَلَفًا بذكرِ هذا المنطقِ اليوناني, وإنَّما ظهر في الإسلامِ لَمَّا عُرِّبَت الكتبُ الروميَّة في عهد دولة المأمونِ"
هو الفيلسوفُ المُنَجِّم مُحمَّد بنُ أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي مُؤرخٌ مُحَقِّقٌ وجغرافيٌّ مُدقِّق، وفلَكيٌّ نابِهٌ، ورياضيٌّ أصيلٌ، وفيزيائيٌّ راسخٌ، ومترجِمٌ متمَكِّنٌ، مِن بلادِ السندِ، ومن أعيان الفلاسفة. عاصر الرَّئيسَ ابن سينا وجَرَت بينهما حوارات وأسئلةٌ وجوابات، وكان عالِمًا في الهيئة والنجوم، خبيرًا بالطبِّ. وُلد في بيرون إحدى ضواحي خوارزم، وهو مجهولُ النَسَب؛ فقد قال عن نفسِه في شعر: إذ لستُ أعرِفُ جَدِّي حقَّ مَعرفةٍ
وكيف أعرِفُ جدي إذ جَهِلتُ أبي
أبي أبو لهبٍ شَيخٌ بلا أدَبِ
نَعَم ووالدتي حمَّالةُ الحَطَب
يقول ياقوت الحموي" "بيرون بالفارسية معناه برّا، وسألتُ بعض الفضلاءِ عن ذلك فزعَم أنَّ مقام البيروني بخوارزم كان قليلًا، وأهلُ خوارزم يسمُّونَ الغريبَ بهذا الاسم، كأنَّه لَمَّا طالت غربتُه عنهم صار غريبًا، وما أظنُّه يُرادُ به إلَّا أنَّه من أهل الرستاق، يعني أنَّه من برّا البلد". كتب في كلِّ ما كان معروفًا مِن علومِ عَصرِه، وهو بذلك يُعدُّ أحدَ الموسوعيِّينَ. قال ياقوت الحموي: " وأما سائِرُ كُتُبِه في علومِ النُّجومِ والهيئةِ والمَنطِقِ والحكمةِ؛ فإنَّها تفوق الحَصرَ، رأيتُ فَهرسَتَها في وقْفِ الجامع بمرو في نحوِ الستين ورقةً بخط مكتنز". لَمَّا صَنَّف القانونَ المسعودي أجازه السلطانُ مسعود بن محمود الغزنوي بحَملِ فيلٍ مِن نقدِه الفِضِّي إليه، فردَّه إلى الخزانةِ بعُذرِ الاستغناء عنه، وكان مُكِبًّا على تحصيلِ العلوم مُنصَبًّا إلى تصنيف الكتُبِ، يفتَحُ أبوابها، ويُحيطُ شواكِلَها وأقرابَها، ولا يكاد يفارِقُ يدَه القلمُ وعَينَه النَّظرُ وقَلْبَه الفِكَرُ إلَّا في يومَيِ النيروز والمهرجان من السَّنة، ثمَّ هِجِّيراه في سائر الأيَّام من السَّنَةِ عِلمٌ يُسفِرُ عن وجهه قِناعَ الأشكال ويحسِرُ عن ذراعيه كمامَ الأغلاق. وأمَّا نباهةُ قَدرِه ومكانته عند الملوك فقد بلغ من حظوتِه لديهم أنَّ شمس المعالي قابوس بن وشمكير أراد أن يستخلِصَه لصُحبتِه ويرتبِطَه في دارِه على أن تكونَ له الإمرةُ المطاعةُ في جميع ما يحويه مُلكُه، فأبى عليه ولم يطاوِعْه، ولَمَّا أسمَحَت نفسُه بمثل ذلك لخوارزم شاه آواه في داره وأنزله معه في قَصرِه، لَمَّا استولى السُّلطانُ محمود على خوارزم قَبَضَ على البيروني وعلى أستاذِه عبد الصمد أول بن عبد الصمد الحكيم واتَّهَمه بالقَرمطةِ والكُفرِ، فأذاقه الحِمامَ، وهمَّ أن يُلحِقَ به أبا الرَّيحان البيروني، فقيل له إنَّه إمامُ وَقتِه في علمِ النُّجومِ، وإنَّ الملوكَ لا يَستَغنونَ عن مِثلِه، فأخَذَه معه، ودخل إلى بلادِ الهندِ وأقام بينهم وتعلَّم لُغتَهم واقتبس علومَهم، ثمَّ أقام بغُزنة حتى مات بها, وعلى الرغمِ مِن أنَّ البيروني لم يكن عربيًّا إلَّا أنَّه كان مُقتَنِعًا بأنَّ اللغةَ العربيَّةَ هي اللُّغةُ الوحيدةُ الجديرةُ بأن تكونَ لغةَ العِلمِ، وقد نُسِبَ إليه أنَّه قال: الهجوُ بالعربيَّةِ أحَبُّ إليَّ من المدحِ بالفارسيَّة. ومن أشهر كتب البيروني: الآثارُ الباقية عن القرون الخالية، وهو من أبرَزِ كُتُبِ التقاويم، القانونُ المسعودي في علمِ الفلك والجغرافيا والهندسة، الاستيعابُ في صنعة الأسطرلاب، الصَّيدنَة في الطب, تحديدُ نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، تحقيقُ ما للهند من مقولةٍ مقبولة في العقل أو مرذولة، التفهيمُ لصناعة التنجيم. وغيرها كثير، وللبَيروني لَمَحاتٌ علميَّةٌ سبق بها عصرَه، منها قولُه بأن واديَ السِّندِ كان يومًا قاعَ بحرٍ ثم غطَّتْه الرواسِبُ الفَيضيَّة بالتدريج، والقولُ بدوران الأرضِ حول محْورِها، والقول بجاذبيَّة الأرض, وله في الرياضيَّات السبقُ الذي لم يشقَّ المُحضرون غبارَه، ولم يلحق المُضمِّرون المُجيدون مِضمارَه. توفي في غزنة (كابول الآن).