لما استقرَّت الأمور لعلاء الدين في الدولة الخلجية بالهند بدأ يتَّجِهُ لشؤون الدولة الحربيَّة، ويعنى بالنواحي الاجتماعيَّة، وكان سلطانًا قويًّا طموحًا، نجح في دفع الخطر المغوليِّ عن بلاده، وقاد جنده في فتوحات متَّصلة، حتى أظلَّت راية الإسلام شبهَ القارة الهندية كلَّها لأول مرة في التاريخ. ولكي يدفَعَ هجمات المغول أقام سلسلةً من الحصون على حدوده الغربية، وزوَّدها بالجند والسلاح، ولكنَّ ذلك لم يحُلْ دون هجمات المغول على الهند، فتوالت حملاتُهم على الرغم مما كان يتكبَّدونه من خسائر على أيدي علاء الدين وقادته، مثلما حدث في سنة 698هـ ( 1298م) حين سار سلطانُ المغول قتلق خواجه على رأس قوات كثيفة، فتصَدَّى لها علاءُ الدين وقائداه ظفرخان وألج خان، وأنزلوا بالمغول هزيمةً قاصمة، لكنَّها لم تمنَعْهم من موالاةِ الهجوم مراتٍ أخرى حتى تمكَّن القائدُ غازي ملك تغلق من القضاء على خطر المغول تمامًا. وفي الوقت الذي كان فيه علاء الدين مشغولًا بالقضاء على هجمات المغول كان يعِدُّ الجيوشَ لاستكمال فتح الهند، فأرسل في سنة 699هـ (1299م) قائديه ألنخان ونصرت خان لفتح حصن رنتنبهور أعظَمِ حصونِ إقليم الراجبوتانا، فنجحا في مهمتهما بعد حروب دامية، ودخل الإقليمُ في طاعة علاء الدين الخلجي، ثم فتح إمارة موار، وكانت أمنَعَ إمارات الراجبوتانا بقلعتها الحصينة القائمةِ على قِمَّةِ جَبَلٍ منحوتةٍ في الصخر، ثم استولى على ملوة وأوجين ودهري نجري، ولم يكد يأتي عام 706 هـ (1306م) حتى كان علاء الدين الخلجي قد فتح الهنستان كلَّها من البنغال إلى البنجاب. وواصل علاء الدين فتوحاتِه، فأرسل قائدَه الحبشيَّ كافور، فاخترق أقاليمَ ملوة والكجرات، ثم أردف ذلك بجيش آخر يقوده أدلوغ خان، واستولى الجيشان على ديوكر، وتوالت انتصارات علاء الدين حتى تمكن من فتح الجنوب الهندي كلِّه.
قُتِلَ ياسور أحَدُ ملوك المغول وقتَ رَميِ الجمرات، وكان من خَبَرِه أنَّ مَلِكَ الشرق أبا سعيد بن خربندا المغولي لما قُتِل جوبان أراد إقامةَ ياسور لأنه من عظماء القان التتر، فخُوِّفَ من شجاعته، وأنَّ جوبان كان يريد إقامتَه في الملك، فنَفَر منه أبو سعيد، ثم إنَّه استأذنه في الحَجِّ فأَذِنَ له، وقام له بما يليقُ به، ثم طلب أبو سعيد من المجدِ السلامي وكتب إلى السلطانِ يُعَرِّفُه بأمر ياسور، ويخوِّفُه منه أن يجتَمِعَ عليه المغول، ويسألُه قَتْلَه، فدفع السلامي كتاب أبي سعيد إلى مملوكِه قطلوبك السلامي فقَدِمَ على السلطان أول ذي القعدة من السنة الماضية، فأركَبَه السلطان النجيبَ في عاشِرِه إلى مكة، ومعه كتابٌ إلى الأمير برسبغا الحاجب وقد حَجَّ من مصر بطَلَبِ الشريف رُمَيثة وموافقته سرًّا على قتل ياسور، فقَدِمَ قطلوبك مكة أول ذي الحجة، فلم يوافِقْ رُمَيثة على ذلك، واعتذر بالخوفِ، فأعد برسبغا بعضَ نجابته من العُربان لذلك، ووعده بما ملأ عينَه، فلما قضى الحاجُّ النُّسُكَ من الوقوف والنحر، ورَكِبَ ياسور في ثاني يوم النحر لرميِ الجمار، ركب برسبغا أيضًا فعندما قارب ياسور الجَمرةَ وثب عليه النجاب، وضَرَبه فألقاه إلى الأرضِ، وهرب نحو الجَبَل، فتبعه مماليكُ برسبغا وقتلوه أيضًا، خشيةً مِن أن يَعتَرِفَ عليه، فاضطرب حجَّاجُ العراق وركبت فرسانُهم وأخذوا ياسور قتيلًا في دمائه، وساروا إلى برسبغا منكرينَ ما حلَّ بصاحِبِهم، فتبرَّأَ برسبغا من ذلك وأظهر الترحُّمَ عليه، وقَرَّر عندهم أن هذا الذي قتَلَ هو مَن له عليه ثأرٌ أو أحَدُ غرمائه، وإنكم كُفِيتُم أمْرَه، فإني أخذتُ لكم بثأرِه وقَتْلِ قاتله "، فانصرفوا عنه وفي نفوسِهم منه شيء، وما زالوا له بالمرصاد وهو منهم محتَرِزٌ منهم حتى افترق ركبُ الحاجِّ العراقيين من المصريِّين بالمدينة النبوية، فأمِنَ برسبغا على نفسِه.
قَدِمَ إلى أرض عجلون شخص يُسمَّى عثمان بن أحمد بن عثمان بن محمود بن محمد بن علي بن فضل بن ربيعة، يعرف بابن ثقالة، من فقهاء دمشق، وادعى أنه السفياني، وظهر بقرية الجيدور وحلَّف أهل البلاد وأقطع الإقطاعات، وأمَّر عدة من الناس، وقال: أنا السلطان الملك الأعظم السفياني، فاجتمع عليه خلق كثير؛ من عرب وترك وعشير، بألوية خضر إلى وادي إلياس من جبل عوف بمعاملة عجلون، وبثَّ كتُبَه، ووقَّع عليها تحت البسملة السفياني، ونصها: إلى حضرة فلان أن يجمع فرسان هذه الدولة السلطانية، الملكية، الإمامية، الأعظمية، الربانية، المحمدية، السفيانية، أعلاها الله تعالى وشرَّفها، وأنفذها في الآفاق، وصرَّفها، ويحضروا بخيلهم ورجالهم وعددهم، مهاجرين إلى الله ورسوله، ومجاهدين في سبيل الله تعالى، ومقاتلين؛ لتكون كلمة الله هي العليا، والاعتماد على العلامة الشريفة أعلاه أعلاها الله تعالى. ثم دخل أرض عجلون في تاسع ربيع أول، بعسكر كبير، فيه سلاح دارية، وطبر دارية، فأقطع الإقطاعات، وكتب على القصص، يكتب كما يكتب السلطان، فقَبَّل الناس الأرض بين يديه في ساعة واحدة، وهم زيادة على خمسمائة رجل، في وقتٍ واحد معًا، وخُطِب له على منبر عجلون، فقيل: السلطان الملك الأعظم السفياني، ونادى ببلاد عجلون أن مغلَّ هذه السنة يسامح به الناس فلا يؤخذُ منهم منه، وفيما بعدها يؤخَذُ منهم العشر فقط، ويترك أخذ الخراج وأخذ المكس، فإن حكم التركِ قد بَطَل، ولم يبقَ إلا حكم أولاد الناس، فثار عند ذلك غانم الغزاوي به، وجهز إليه طائفة طرقوه وهو بالجامع وقاتلوه، وقبضوا عليه، وعلى ثلاثة من أصحابه، بعدما ركب وقاتلهم، فاعتُقل الأربعة بقلعة عجلون، وكتب بالخبر إلى السلطان، فنقله إلى قلعه صفد، واعتقله بها.
لما دخل الإسبان إلى تونس قاموا بإرجاع أحمد الحفصي، لكنهم اشترطوا عليه مقابِلَ ذلك أن يمنحَهم أراضيَ من تونس، فرفض ذلك فخلعوه وولَّوا أخاه محمدًا مكانه، وكان قد وافق على طلب الإسبان، فلجأ أحمد إلى صقلية ومات في باليرمو، أمَّا أخوه محمد فأدخل الإسبان إلى البلاد فشاركوه السلطةَ وكثُرَ الفساد وهرب أكثرُ الناس إلى الجبال، ولكنْ لم يلبث الأمرُ فيها أكثر من ثمانية أشهر، حتى أبحر الأسطولُ العثماني بقيادة سنان باشا وقلج علي في 23 محرم من هذه السنة, فخرج من المضائقِ ونشر أشرعتهَ في البحر الأبيض، فقاموا بضرب ساحلِ كالابريا، مسينا، واستطاع العثمانيون أن يستولوا على سفينة أوروبية، ومن هناك قطعوا عرض البحر في خمسةِ أيام، في هذا الوقت وصل الحاكمُ العثماني في تونس حيدر باشا، كما وصلت قوةٌ من الجزائريين بقيادة رمضان باشا، وقوةُ طرابلس بقيادة مصطفى باشا، كما وصل ثمةَ متطوعين من مصر، بدأ القتال في ربيع أول من هذه السنة, ونجح العثمانيون في الاستيلاء على حلق الواد، بعد أن حوصِرَ الإسبان حصارًا محكمًا، وقامت قوات أخرى بمحاصرة مدينة تونس، ففَرَّ الإسبان الموجودون فيها ومعهم الملك الحفصي محمد بن الحسن إلى البستيون التي بالغ الإسبان في تحصينها وجعلوه من أمنع الحصون في الشمال الإفريقي، توجه العثمانيون بعد تجمُّع قواتهم إلى حصار البستيون، وضيَّق العثمانيون الخناقَ على أهلها من كل ناحية, فلجأ الحفصيون إلى صقليةَ حيث ظلوا يوالون الدسائسَ والمؤامرات والتضرعات لملوك إسبانيا سعيًا لاسترداد مُلكهم، واتخذهم الإسبان آلاتٍ طيِّعةً تخدمُ بها مآربَهم السياسية حسَبَما تمليه الظروفُ عليهم، وقضى سقوط تونس بيد العثمانيين على الآمال الإسبانية في إفريقيا، وضَعُفت سيطرتها تدريجيًّا حتى اقتصرت على بعض الموانئ، مثل مليلة ووهران والمرسى الكبير، وتبدد حلمُ الإسبان نحو إقامة دولة إسبانية في شمال إفريقيا وضاع بين الرمال.
هو السلطانُ أحمد الثالث بن السلطان محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول، المولود في 3 رمضان سنة 1083/ 23 ديسمبر سنة 1673 وعند تعيينه سلطانًا للدولة وزع أموالًا طائلة على الانكشارية، وسلم لهم في قتل المفتي فيض الله أفندي لمقاومته لهم في أعمالهم, فلما استقرَّت الأحوال وعادت السكينة اقتصَّ السلطان أحمد من رؤوس الانكشارية، فقتل منهم عددًا ليس بقليل، وعزل في 6 رجب سنة 1115 الصدرَ الأعظم نشانجي أحمد باشا الذي انتخبه الانكشارية وقت ثورتهم، وعين بدلًا عنه زوج أخته داماد حسن باشا, وعلى الرغم من مصاهرته للسلطان وما أتاه من الأعمال النافعة كتجديد الترسانة وإنشاء كثير من المدارس من أن يكون هدفًا لدسائس المفسدين أرباب الغايات الذين لا يروق في أعينهم وجود أعنَّة الأمور في قبضة رجل حازم يحول بينهم وبين ما يشتهون، فأعملوا فكرهم وبذلوا جهدَهم حتى تحصلوا على عزله في 28 جمادى الأولى 1116 وكثُر من بعده تغييرُ الصدور تبعًا للأهواء, ومما يُذكر في تاريخ السلطان أحمد الثالث أنه أدخل المطبعة في بلاده، وأسس دار طباعة في الآستانة بعد إقرار المفتي وإصداره الفتوى بذلك، مشترطًا عدم طبع القرآن الشريف خوفا من التحريف؛ واسترجاع إقليم المورة وقلعة آزاق، وفتح عدة ولاياتٍ مِن مملكة العجم, ولَمَّا ظهر من السلطان أحمد عدم الميل لحرب دولة الفرس والرغبة في الصلح معهم ثار عليه الانكشارية، فقتلوا الصدر الأعظم والمفتي وأمير البحر، ثم عزلوا السلطان ونصبوا ابن أخيه محمود الأول بن مصطفى الثاني, وبقي السلطان أحمد معزولًا إلى أن توفِّيَ هذه السنة.
تعتبَرُ بروتوكولات حُكَماءِ صهيون من أخطَرِ الكتُبِ المنتَشِرة حولَ العالم، ذلك أنَّها تتحَدَّثُ عن خطةٍ مَرسومةٍ وجاهزةٍ وُضِعَت للسيطرةِ على العالم. يقالُ إنَّ مَن وضع هذه البروتوكلات هم رجالُ المال والاقتصاد اليهود؛ لتخريب المسيحيةِ والبابوية، ثم الإسلام؛ للسيطرةِ على العالم أكمَلَ، وذلك خلال مئة سنةٍ مِن تاريخ وَضعِها، يُقالُ: إنَّها كُتِبَت عام 1897 في بازل بسويسرا، أي: في العام نفسه الذي عُقِدَ فيه المؤتمر الصهيوني الأوَّلُ، بل ويزعم البعضُ أنَّ تيودور هرتزل تلاها على المؤتمرِ وأنَّها نوقِشَت فيه، وقد تعدَّدَت المصادِرُ التي تتكلَّمُ عن مصدر البروتوكولات...فمن قائلٍ إنَّ واضِعَها رجلٌ غامِضٌ في الجيشِ الروسي ليوقِعَ باليهودِ الذين عارضوا الدولةَ القيصريةَ، وذلك للإيقاعِ بهم في روسيا، إلى قائلٍ إنَّ أصلَها قد جاء من أوروبا، ولكِنْ لم تُعرَفْ حقيقةُ واضِعِها؛ لأنَّها لم تُرفَق باسم أحد أو بتوقيعِه. وبغضِّ النظر عن كلِّ هذه الأقاويل فإنَّ البروتوكولات يهوديَّةٌ، وعندما ظهرت بروتوكولات حكماء صهيون (وكان ذلك في روسيا في مطلعِ القرن الماضي، ولعله ما جعل البعضَ يعتقد أنَّ أصلَها روسيا) أحدَثَت ردَّةَ فعلٍ كبيرةً في أوساطِ العالم وضجَّةً عظمى بين الحكَّام اليهود حول العالم، وعلى رأسهم هرتزل الذي صرَّح بأن ظهورَها في ذلك الوقتِ يشكِّلُ خطرًا كبيرًا على كلِّ اليهود حول العالم، وأن أحدًا ما أخرجها من قُدسِ الأقداس الذي لا يُسمَحُ لكبارِ الحكَّام اليهود برؤيتِها فيه، ويقال: إنَّ أوَّلَ ظُهورٍ لها كان على يد صحفيَّة فرنسيَّة اختطفَتْها من أحد الزعماءِ اليهود أثناء لقاءٍ صَحفيٍّ جمعهما، ولكنَّها لم تترجَمْ أوَّلَ مَرَّةٍ إلا باللغة الروسية بعد انتقالها إلى هذه الأخيرةِ، ومنها إلى الولايات المتحدة وبريطانيا، أمَّا على الصعيد العسكري فقد هبَّت مئات الفِرَق في الجيش الروسي (بأمرٍ مِن الحكومة القيصرية) لتقتُلَ آلاف اليهود وتحرقَ منازِلَهم وتصادِرَ أموالهم. ويظَلُّ الجدلُ قائمًا في معرفة مصدرِ هذه البرتوكولات وصِحَّتِها.
البريمي واحةٌ في جنوب شرقي المملكة العربية السعودية على الحدودِ مع عمان والإمارات، وهي تابعة للأحساءِ، وعندما طلب الملكُ عبد العزيز من مهندسي شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) التنقيبَ فيها عن النفط منَعَت بريطانيا المنقِّبين عن مواصلة العمل باسمِ بَعضِ محميَّاتِها في الخليج؛ بدعوى أنَّها من الأراضي غير المتَّفَقِ على تبعيتها، ووافق الملك عبد العزيز حسمًا للنزاع مع الإنجليز على سحب المنقبِّين وتأجيل العمل إلى أن يتِمَّ الاتفاق على الحدود، وبينما الملِكُ ينتظر صدى تسامحِه إذا به يعلَمُ أنَّ عُمَّالًا تابعين لشركة نفط بريطانية يقومون بالحَفرِ والتنقيب في نفس الأرضي التي قالوا بالأمسِ إنها غيرُ متفق على تبعيتها، واحتجَّت حكومة الملك عبد العزيز وعُقِدَ مؤتمران لهذا الغرض بين الطرفين أحدُهما في لندن، والآخر في الدمام، وفي المؤتمر الثاني طلب الوفد البريطاني تأجيلَ اجتماعاته شهرًا، ووافق الوفد السعودي غير أن هذا الشهر لم ينتهِ، فأرسل الملك عبد العزيز أميرًا من أهل الرياض هو تركي بن عطيشان للنظرِ في شؤون البريمي، فنزلت على مقربةٍ مِن مقَرِّه قوةٌ بريطانية مسلَّحة سدَّت في وجهه سُبُلَ التموين والاتصال بالخارج، وبدأت الطائرات تحوم فوق موقع إقامة ابن عطيشان، فأبرق الملِكُ إلى سفارته في لندن في 29 / 12 /1371هـ برقيةً شخصية توصِلُها إلى وزير الخارجية البريطانية يستنكِرُ فِعلَ الحكومة البريطانية في البريمي مع مندوبه ابن عطيشان، ويهَدِّدُ برفع شكوى إلى مجلس الأمن، فأكد وزير الخارجية البريطاني على أهمية استمرار الصداقة ورغبتِهم الصادقة في حلِّ النزاع وسَحْب القوات البريطانية من البريمي في الوقت الذي ينسحب ابن عطيشان منها, ورفض الملِكُ سَحْبَ ابن عطيشان؛ وذلك لأن البريمي أرضٌ سعودية، وتوفي الملك عبد العزيز والوضعُ قائِمٌ على حاله: ابن عطيشان محصور والشركات البريطانية تعمَلُ منفردةً في التنقيب عن النفطِ.
بعدَ أنِ اشْتدَّ المرضُ على أبي طالبٍ عَمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو الذي كفله صغيرًا، وآزرَهُ كبيرًا، وناصرَهُ على دَعوتهِ، وحَماهُ من عَوادي المشركين، دخل عَليهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وعندهُ أبو جَهْلٍ، فقال: ( أي عَمِّ، قُلْ: لا إلَه إلَّا الله، كلمةً أُحاجُّ لك بها عندَ الله). فقال أبو جَهْلٍ وعبدُ الله بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، تَرغبُ عن مِلَّةِ عبدِ المُطَّلبِ؟ فلم يَزالا يُكلِّماهُ حتَّى قال آخرَ شيءٍ كَلَّمهُم بهِ: على مِلَّةِ عبدِ المُطَّلبِ. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لأَستَغفِرَنَّ لك ما لمْ أُنْهَ عنهُ). فنزلتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}ونزلتْ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. وقد كان أبو طالبٍ الحِصْنَ الذي احتَمى بهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من هَجماتِ الكُبراءِ والسُّفهاءِ، ولكنَّه بَقِيَ على مِلَّةِ الأَشياخِ من أَجدادهِ، فلمْ يُفلِحْ.
كان سبَبُ ذلك أن المأمونَ جعل عليَّ بنَ موسى الرضا بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وليَّ عهدِ المسلمين والخليفةَ من بعده، ولقَبَّه الرضا من آل محمد، وأمَرَ جُندَه بطرح السَّواد ولُبس الثياب الخُضر، وكتب بذلك إلى الآفاقِ، وكتب الحسَنُ بن سهل إلى عيسى بن محمد بن أبي خالد بعد عودِه إلى بغداد يُعلِمُه أنَّ المأمون قد جعل عليَّ بن موسى وليَّ عَهدِه من بعده. وذلك أنه نظرَ في بني العباس وبني علي، فلم يجِدْ أحدًا أفضَلَ ولا أورعَ ولا أعلَمَ منه، وأمر عيسى بنَ محمد أن يأمُرَ مَن عنده من أصحابه، والجندَ، والقُوَّادَ، وبني هاشم بالبيعة له، ولُبسِ الخُضرة، ويأخذ أهلَ بغداد جميعًا بذلك، فثار العباسيُّون وقالوا: إنما يريد أن يأخُذَ الخلافةَ مِن ولَدِ العبَّاس، وإنمَّا هذا من الفَضلِ بنِ سهلٍ، فمكثوا كذلك أيامًا وتكلَّم بعضُهم وقالوا: نولِّي بعضَنا ونخلع المأمونَ، فكان أشَدَّهم فيه منصورٌ وإبراهيمُ ابنا المهديِّ.
لَمَّا فرغ محمَّدُ بن حميد الطوسي مِن أمْرِ المتغَلِّبينَ على طريقِه إلى بابك الخُرمي سار نحوه وقد جمع العساكر، والآلاتِ والميرة، فاجتمع معه عالمٌ كثير من المتطوِّعةِ مِن سائر الأمصار، فسلك المضايقَ إلى بابك، وكان كلَّما جاوز مضيقًا أو عقبةً ترك عليه من يحفَظُه من أصحابِه إلى أن نزل بهشتادسر (جبل في إيران)، وحفَر خندقًا وشاور في دخولِ بلد بابك، فأشاروا عليه بدخولِه مِن وجهٍ ذكروه له، فقَبِلَ رأيهم، وعبَّأ أصحابه، فكان بابك يُشرِفُ عليهم من الجبل، وقد كمَنَ لهم الرجالُ تحت كلِّ صخرةٍ، فلما تقدَّمَ أصحابُ محمد، وصَعِدوا في الجبل خرج عليهم الكُمَناء وانحدر بابك إليهم فيمن معه، وانهزم الناسُ، وصبَرَ محمَّد بن حميد مكانَه، وفرَّ من كان معه غيرَ رجلٍ واحد، وسارا يطلبانِ الخلاص، فرأى جماعةً وقِتالًا فقَصَدهم، فرأى الخرميَّة يقاتلونَ طائفةً مِن أصحابه، فحين رآه الخرميَّة قصدوه؛ لِما رأَوا من حسن هيئتِه، فقاتَلَهم، وقاتلوه، وضربوا فَرَسه بزراق، فسقط إلى الأرضِ، وأكبُّوا على محمد بن حميد فقتلوه.
هو شيخُ الفَلسفةِ الحَكيمُ أبو نصر محمَّدُ بنُ محمد بن طرخان بن أوزلغ التركي الفارابي المنطقيُّ، من كبار الفلاسفة، قال الذهبي: "أحدُ الأذكياء. له تصانيفُ مشهورة, من ابتغى الهُدى منها ضَلَّ وحار, منها تخرَّجَ ابنُ سينا, نسأل الله التوفيق". تعلَّم اليونانية, ولقِيَ متَّى بن يونس فأخذ عنه, وسار إلى حرَّان فلزم بها يوحنَّا بن جيلان النصراني فتعلَّمَ عليه المنطِقَ, وقد أحكم أبو نصرٍ العربيَّةَ بالعراقِ، رحل إلى دمشق ثم حلب، يُعتبَرُ مساويًا لأرسطو في الفلسفة، ويعتبِرُ البعض أنَّ الفارابي هو مترجِمٌ لِمَا كان عليه أرسطو، كما أنَّ له مُشاركةً في الطبِّ والموسيقى، وهو من اخترع آلةَ القانون الموسيقيَّة المعروفة اليوم، وكان يحِبُّ الوَحدةَ, وكان يتزهَّدُ زُهدَ الفلاسفة، ولا يحتفِلُ بملبسٍ ولا منزلٍ, أجرى عليه ابنُ حمدان في كلِّ يومٍ أربعة دراهم. من تصانيفِه: آراءُ أهل المدينة الفاضلة، وجوامع السياسة، والمدخل إلى صناعة الموسيقى، وغير ذلك من الكتُب، توفِّيَ في طريقه إلى عسقلان؛ حيث قتله اللصوصُ، فنُقِلَ إلى دمشق وصلَّى عليه سيفُ الدولة الحمداني، ودفن بظاهر دمشق عن عُمرٍ يناهز الثمانينَ.
لما أخذ خوارزم شاه مدينة بلخ سار عنها إلى مدينة ترمذ مجِدًّا، وبها ولدُ عماد الدين صاحب بلخ، فأرسل إليه محمَّد بن علي بن بشير يقولُ له: إن أباك قد صار من أخصِّ أصحابي وأكابِرِ أمراء دولتي، وقد سَلَّمَ إليَّ بلخ، وإنما ظهَرَ لي منه ما أنكَرْتُه، فسَيَّرْتُه إلى خوارزم مُكرَمًا محترمًا، وأمَّا أنت فتكون عندي أخًا ووعَدَه، وأقطعه الكثيرَ، فخدعه محمد بن علي، فرأى صاحِبُها أنَّ خوارزم شاه قد حصره مِن جانبٍ والخطا قد حصره من جانبٍ آخر، وأصحابُه قد أسرهم الدز بغُزنة، فضَعُفَت نفسه، وأرسل من يستحلِفُ له خوارزم شاه، فحلَفَ له، وتسَلَّم منه ترمذ وسَلَّمَها إلى الخطا الكفار، فلقد اكتسَبَ بها خوارزم شاه سُبَّةً عظيمة، وذِكرًا قبيحًا في عاجِلِ الأمر، ثم ظهر للناس بعد ذلك أنَّه إنما سلمها إليهم ليتمكَّنَ بذلك مِن مُلكِ خراسان، ثم يعود إليهم فيأخُذُها وغيرَها منهم؛ لأنَّه لَمَّا مَلَكَ خراسان وقصد بلاد الخطا وأخَذَها وأفناهم؛ عَلِمَ النَّاسُ أنَّه فعل ذلك خديعةً ومكرًا.
هو أبو حفص عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي، الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، ولد في الرابع من ذي القعدة سنة 576 بالقاهرة. وكان أبوه يكتب فروض النساء والرجال، ناظم التائية, وهي قصيدة طويلةٌ أكثر من سبعمائة بيت في السلوك على طريقة المتصوفة المنسوبين إلى الاتحاد، وقد تكلَّمَ فيه غير واحد من المشايخ بسبب قصيدته المشارِ إليها، وقد ذكره الذهبي وحطَّ عليه فقال: "إن لم يكن في تلك القصيدةِ صريحُ الاتحاد الذي لا حيلةَ في وجوده، فما في العالم زندقةٌ ولا ضلال، اللهمَّ ألهمنا التقوى، وأعذنا من الهوى، فيا أئمَّة الدين ألا تغضبون لله؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله". مات وقد قارب السبعين، توفي بالقاهرة في يوم الثلاثاء الثاني من جمادى الأولى، ودفن من الغد بسفح المقطم، وقبره معروف به يُقصَد للزيارة، وكان قد سافر إلى مكة وبقي فيها قرابة الخمسة عشر سنة متصلًا فيها بالصوفية، ولكن له شطحات كثيرة في قصائده على عادة المتصوفة، وخاصة في هيامِهم وغزلهم مع قَصدِهم الذاتَ الإلهيَّةَ- تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
كتب السلطان قلاوون إلى الأكابر ببلاد السند والهند والصين واليمن والنوبة صورةَ أمان لمن اختار الحضورَ إلى ديار مصر وبلادِ الشام، من إنشاءِ فَتحِ الدين بن عبد الظاهر، وسيَّرَه مع التجار، وفي أول جمادى الأولى ورَدَت كتب الأمير علم الدين سنجر المسروري الخياط من دنقلة (من بلاد النوبة)، بفتحها والاستيلاءِ عليها وأسرِ مُلوكها، وأخْذِ تيجانهم ونسائِهم، وكان الكِتابُ على يد ركن الدين منكورس الفاقاني، فخلع عليه وكتب معه الجوابَ بإقامة الأمير عزِّ الدين أيدمر والي قوص بدنقلة، ومعه مَن رسمَ لهم من المماليك والجُند والرجال، وأن يحضُرَ الأمير علم الدين ببقيَّة العسكر، وجهَّزَ من قلعة الجبل سعد ابن أخت داود؛ ليكونَ مع الأمير أيدمر لخبرته بالبلادِ وأهلها، فسار وقد أعطي سيفًا مُحلًّى، فأقام بقوص، وأما النوبةُ فإن عامون مَلِكَها رجع بعد خروج العسكر إلى دنقلة، وحارب من بها وهزَمَهم، وفَرَّ منه الملك وجريس والعسكر المجرد، وساروا إلى القاهرة، فغضب السلطانُ وأمر بتجهيز العسكر لغزو النوبةِ.
في هذه السَّنةِ قُتِلَ الأميرُ قشتمر المنصوري نائب حلب، وخبَرُه أنَّه لَمَّا وَلَيَ نيابة حلب في جمادى الآخرة من هذه السنة وتوجَّه إلى حلب، فلم يُقِمْ بها إلا يسيرًا، ثم إن بني كلاب كَثُر فسادُهم وقَطْعُهم الطريقَ فيما بين حماة وحلب، وأخذوا بعضَ الحُجَّاج، فخرج إليهم الأمير قشتمر نائِبُ حلب بالعسكر، حتى أتوا تلَّ السلطان بظاهر حلب، فإذا عدَّةٌ من مضارب عرب آل فضل، فاستاق العسكَرُ جمالَهم ومواشيَهم ومالوا على بيوت العَرَبِ فنهبوها، فثارت العَرَبُ بهم وقاتلوهم، واستنجدوا مَن قَرُب منهم من بنى مهنا، وأتاهم الأميرُ حيار وولده نعير بجمع كبيرٍ، فكانت معركة شنيعة، قُتِلَ فيها الأمير قشتمر النائب وولَدُه وعِدَّة من عسكره، وانهزم باقيهم، فركب العرَبُ أقفِيَتَهم، فلم ينجُ منهم عريانًا إلا من شاء الله، وكان ذلك يومَ الجمعة خامس عشر ذي الحجة، ولما بلغ الملك الأشرف ذلك عَظُمَ عليه، وأرسل تقليدًا للأمير اشقتمر المارديني بنيابة حلب على يد الأمير قطلوبغا الشعباني، وعزل حيارًا عن إمرة العَرَب وولاها لزامِل.