خرجت طائفةٌ من الروسيَّة في البحر إلى نواحي أذربيجان، وركبوا في البحرِ في نهر للكر، وهو نهرٌ كبير، فانتهوا إلى بَردعةَ، فخرج إليهم نائبُ المرزبان بردعة في جمع الديلم والمطوعة يزيدون على خمسةِ آلافِ رجلٍ، فلَقُوا الروس، فلم يكُنْ إلَّا ساعة حتى انهزم المسلمونَ منهم، وقُتِلَ الديلم عن آخرهم، وتَبِعَهم الروس إلى البلد، فهرب من كان له مركوبٌ وترك البلد، فنزله الروسُ ونادوا فيه بالأمان فأحسنوا السيرةَ، وأقبلت العساكرُ الإسلامية مِن كُلِّ ناحية، والروس تقاتِلُهم، فلا يثبُتُ المسلمون لهم، وغَنِموا أموالَ أهلها واستعبدوا السَّبيَ، واختاروا من النِّساءِ مَن استحسنوها. لَمَّا فعل الروسُ بأهل بردعة ما فعلوا استعظَمَه المسلمون، فتنادَوا بالنفيرِ، وجمع المرزبانُ بنُ محمد النَّاسَ واستنفَرَهم, فبلغ عِدَّةُ من معه ثلاثين ألفًا، وسار بهم، وكان يغاديهم القتالَ ويُراوِحُهم، فلا يعود إلَّا مفلولًا، فبَقُوا كذلك أيامًا كثيرة، وقد أصاب الروسَ الوباءُ، ولما طال الأمرُ على المرزبان أعمل الحِيَل، فرأى أن يكمنَ كمينًا، ثم يلقاهم في عسكَرِه، ويتطارَدَ لهم، فإذا خرج الكمينُ عاد عليهم، فتقَدَّمَ إلى أصحابه بذلك، ورتَّبَ الكمينَ ثمَّ لَقِيَهم، واقتتلوا، فتطارد لهم المرزبانُ وأصحابُه، وتَبِعَهم الروسيَّةُ حتى جازوا موضِعَ الكمينِ، فاستمَرَّ الناسُ على هزيمتهم لا يلوي أحدٌ على أحد، فخرجوا من ورائِهم، والتجأ الباقونَ إلى حصنِ البلد، ويُسَمّضى شهرستان، وكانوا قد نقلوا إليه ميرةً كثيرةً، وجعلوا معهم السبيَ والأموالَ، فحاصرهم المرزبان وصابَرَهم، ثمَّ إن أصحاب المرزبان أقاموا يقاتِلونَ الروسية، وزاد الوباءُ على الروسيَّة، فكانوا إذا دفَنوا الرجلَ دفنوا معه سلاحَه، فاستخرج المسلمونَ مِن ذلك شيئًا كثيرًا بعد انصرافِ الروس، ثم إنَّهم خرجوا من الحِصنِ ليلًا، وقد حملوا على ظهورِهم ما أرادوا من الأموالِ وغيرِها، ومَضَوا إلى الكرِّ، وركبوا في سُفُنِهم ومضوا، وعجز أصحابُ المرزبان عن اتِّباعِهم وأخذِ ما معهم، فتركوهم، وطَهَّرَ اللهُ البلادَ منهم.
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامة الحافِظُ شَمسُ الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي خاتمةُ الحُفَّاظ، كان من أسرة تُركمانيَّة الأصل، تنتهي بالولاءِ إلى بني تميم، سكنت مدينة ميافارقين من أشهَرِ مدن ديار بكر، ولِدَ في كفر بطنا قرب مدينة دمشق في شهرِ ربيع الآخر سنة 673, وهو حافِظٌ لا يُجارَى ولافِظٌ لا يُبارى، أتقَنَ عِلمَ الحديث ورجالَه، ونظَرَ عِلَلَه وأحوالَه، وعرف تراجم الناس وأزال الإبهام في تواريخهم, واشتهَرَ بالعِلمِ والورع؛ قال السيوطي: "حُكِيَ عن شيخ الإسلام أبي الفضلِ ابنِ حَجَر أنَّه قال: شَرِبتُ ماء زمزم لأصِلَ إلى مرتبة الذهبيِّ في الحفظِ, ثم قال السيوطي: والذي أقولُه: إن المحَدِّثين عيالٌ الآن في الرجالِ وغَيرِها من فنونِ الحديث على أربعةٍ: المِزِّي، والذَّهَبي، والعِراقي، وابن حجر" ومُصَنَّفاته كثيرةٌ جِدًّا تُنبِئ عن عِلمِه الزاخر في الحديث والرجال والتاريخ، فله كتب مشهورة، منها: كتاب تاريخ الإسلام وطبقات مشاهير الأعلام، وكتاب سير أعلام النبلاء، وله في الرجال كتب كثيرة أشهرها: ميزان الاعتدال في أحوال الرجال، وتذكرة الحُفَّاظ، وطبقات القُراء، وله تعليقات على المستدرك، وله كتاب الكبائر، والطب النبوي، وغيرها كثير يصعُب حَصرُه هنا، وقف الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني على تاريخه الكبير المسمى بتاريخ الإسلام جزءًا بعد جزء إلى أن أنهاه مطالعةً وقال: "هذا كتابُ عَلَمٍ اجتمَعْتُ به وأخذتُ عنه وقرأتُ عليه كثيرًا من تصانيفه، ولم أجِدْ عنده جمودَ المحدِّثين، ولا كَودَنة النَّقلة، بل هو فقيهُ النَّظَر، له دُربة بأقوالِ النَّاسِ ومذاهِبِ الأئمة من السلف وأرباب المقالاتِ، وأعجبني منه ما يعانيه في تصانيفِه مِن أنه لا يتعدى حديثًا يورده حتى يبيِّنَ ما فيه من ضَعفِ مَتنٍ أو ظَلامِ إسنادٍ أو طَعنٍ في رواتِه، وهذا لم أرَ غَيرَه يراعي هذه الفائدةَ فيما يورده. توفي في ليلة الاثنين ثالث شهر ذي القعدة، وصُلِّيَ عليه يوم الاثنين صلاة الظهر في جامع دمشق ودُفِنَ بباب الصغير.
هو أميرُ المؤمنين، الناصِرُ لدينِ الله، أبو المطرِّف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن الداخل عبد الرحمن، كان أبوه محمَّدٌ وَلِي عَهْد والده عبد الله بن محمد، فقَتَله أخوه أبو القاسِمِ المطرِّف، فقَتَله أبوهما به. ولَمَّا قُتِلَ محمد، كان لابنِه عبد الرحمن عشرونَ يومًا. ووليَ الخلافةَ بعد جَدِّه عبد الله. قال ابن حزم: "كانت خلافتُه من المُستطرَف؛ لأنَّه كان شابًّا، وبالحَضرةِ جماعةٌ مِن أعمامه، وأعمامِ أبيه، فلم يعتَرِضْ معترِضٌ عليه. واستمَرَّ له الأمر وكان شهمًا صارِمًا ". نظر أهلُ الحَلِّ والعقدِ مَن يقومُ بأمرِ الإسلام، فما وجدوا في شبابِ بني أميَّةَ مَن يَصلُحُ للأمرِ إلَّا عبدُالرحمن بن محمد، فبايعوه، وطلب منهم المالَ فلم يَجِدْه، وطلب العُدَدَ فلم يجِدْها، فلم يزَل السَّعدُ يخدُمُه إلى أن سار بنَفسِه لابن حفصون، فوجده مجتازًا لوادي التُّفاح، ومعه أكثَرُ من عشرين ألف فارس, فهزمه وأفلت ابنُ حفصون في نفرٍ يسيرٍ، فتحصَّنَ بحِصن مبشر. ولم يزل عبدُ الرحمن يغزو حتى أقام العَوَج، ومهَّدَ البلاد، ووضع العدلَ، وكثُرَ الأمنُ، ثم بعث جيشًا إلى المغرب، فغزا سجلماسة، وجميعَ بلاد القبلة، وقتَلَ ابنَ حفصون. ولم تزَلْ كلمته نافذةً, وصارت الأندلسُ أقوى ما كانت وأحسَنَها حالًا، وصَفا وجهُه للروم، وشَنَّ الغاراتِ على العدُوِّ، وغزا بنَفسِه بلادَ الروم اثنتي عشرة غزوةً، ودوخَّهم، ووضع عليهم الخَراجَ، ودانت له ملوكُها، فكان فيما شرط عليهم اثنا عشر ألف رجلٍ يصنعون في بناء الزهراءِ التي أقامها لسُكناه على فرسخ من قُرطُبة. كلُّ مَن تقدَّمَ مِن آباءِ عبد الرحمن لم يتسَمَّ أحَدٌ منهم بإمرةِ المؤمنين، وإنما كانوا يُخاطَبونَ بالإمارة فقط، وفعل مِثلَهم عبدُ الرحمن إلى السَّنَةِ السابعة والعشرين مِن ولايته، وكان قد تلقَّبَ بأمير المؤمنين لما رأى مِن ضَعفِ الخلافةِ في بغداد, وظهورِ الشِّيعةِ العُبَيدية بالقيروان وادِّعائِهم لقبَ الخلافة، وما آلت إليه البلادُ مِن التفرُّقِ والتشَتُّت، فرأى أنَّه أحَقُّ بإمرةِ المؤمنين فتسمَّى بأمير المؤمنين وخليفةِ المُسلِمين سنة 316، ولم يزَلْ منذ وليَ الأندلسَ يستنزِلُ المتغلِّبينَ حتى صارت المملكةُ كُلُّها في طاعته، وأكثَرُ بلادِ العدوة، وأخاف ملوكَ الطوائف حوله. قال عبدُ الواحد المراكشي: " اتَّسَعت مملكة الناصر، وحَكَم على أقطار الأندلس، ومَلَك طنجةَ وسبتة وغيرَهما من بلاد العدوة، وكانت أيامُه كلُّها حروبًا, وعاش المسلمون في آثارِه الحميدة آمنينَ ". وقد ابتدأ الناصِرُ ببناء مدينة الزهراء في أوَّلِ سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، فكان يَقسِمُ دَخْلَ مملكتِه أثلاثًا: فثُلُثٌ يرصُدُه للجند، وثلُثٌ يدَّخِرُه في بيتِ المال، وثُلُثٌ ينفقه في الزهراء, وكان دخَلُ الأندلس خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألفًا، ومن السوق والمُستخلَص سبعمائة ألف دينار وخمسة وستون ألفًا. ويقال: إنَّ بناء الزهراء أُكمِلَ في اثنتي عشرة سنة، بألفِ بنَّاءٍ في اليومِ، مع البنَّاءِ اثنا عشر فاعلًا. حكى أبو الحسن الصفار: " أنَّ يوسف بن تاشفين مَلِكَ المغرب لَمَّا دخل الزهراء، وقد خَرِبَت بالنيران والهَدْمِ، من تسعين سنةً قبل دخولِه إليها، وقد نقل أكثَر ما فيها إلى قُرطُبة وإشبيليَّة، ونظر آثارًا تَشهَدُ على محاسنها، فقال: الذي بنى هذه كان سفيهًا. فقال أبو مروان بن سراج: كيف يكونُ سفيهًا وإحدى كرائمِه أخرجت مالًا في فداءِ أُسارى في أيَّامِه، فلم يوجَدْ ببلادِ الأندلسِ أسيرٌ يُفدَى ". وقد افتتح سبعينَ حِصنًا -رحمه الله. بدأ عبدَ الرَّحمنِ الناصرَ المرَضُ وبقي فترةً على ذلك، إلى أن توفِّيَ في هذه السنة في صدر رمضان، فكانت إمارتُه خمسين سنة وستة أشهر، ثم خَلَفه ابنُه الحكمُ الذي تلقَّبَ بالمُستنصِر.
خَرَج الجُنَيْدُ المُرِّيُّ غازِيًا يُريدُ طَخارِسْتان، فوَجَّه عُمارَةَ بن حُرَيْم إلى طَخارِسْتان في ثمانِيَة عَشر ألفًا، ووَجَّهَ إبراهيمَ بن بَسَّام اللَّيْثِيَّ في عَشرةِ آلافٍ إلى وَجْهٍ آخَر، وجاشَت التُّرْكُ فأتوا سَمَرْقَنْد وعليها سَوْرَةُ بن الحُرِّ، فكَتَب سورةُ إلى الجُنَيْدِ: إنَّ خاقان جاشَ التُّرْكَ فخَرَجتُ إليهم فلم أَطِقْ أن أَمنَع حائِطَ سَمَرْقَنْد، فالغَوْثَ الغَوْثَ. وعَبَرَ الجُنيدُ فنَزَل كِشَّ وتَأَهَّبَ للمَسيرِ، وبَلَغ التُّرْك فغَوَّرُوا الآبارَ التي في طَريقِ كِشٍّ فأَخَذ الجُنيدُ طَريقَ العَقَبَة فارْتَقى في الجَبَلِ ودَخَل الشِّعْبَ، فصَبَّحَهُ خاقان في جَمعٍ عَظيمٍ، وزَحَف إليه أَهْلُ الصُّغْدِ وفَرْغانَة والشَّاش وطائِفَة مِن التُّرْك، فحَمَل خاقان على المُقَدِّمَة وأَخَذ الرَّايَة ابنُ مَجاعَة فقُتِلَ، وتَداوَلَها ثمانية عشر رَجُلًا فقُتِلوا، وصَبَر النَّاسُ يُقاتِلون حتَّى أَعْيوا، فكانت السُّيوف لا تَقطَع شَيْئًا، فقَطَع عَبيدُهُم الخَشَب يُقاتِلون به حتَّى مَلَّ الفَريقان، فكانت المُعانَقَة ثمَّ تَحاجَزوا فبَيْنا النَّاسُ كذلك إذ أَقْبَل رَهَجٌ وطَلَعَت فُرْسانٌ، فنادَى الجُنيدُ: الأرضَ الأرضَ! فتَرَجَّلَ وتَرَجَّل النَّاسُ، ثمَّ نادَى: لِيُخَنْدِق كُلُّ قائِدٍ على حِيالِه. فخَنْدَقوا وتَحاجَزوا ثمَّ طَلَب الجُنيدُ النَّجْدَة فعَرَفت التُّرْك بذلك فكَمُنَت له وقَتَلَته، فخَرَج مِن الشِّعْب واشْتَدَّ الأَمْرُ حتَّى قال الجُنيدُ: كُلُّ عَبدٍ قاتَل فهو حُرٌّ. فقاتَلوا قِتالًا عَجِبَ منه النَّاسُ حتَّى انْكَشَف العَدُوُّ ورَجَع الجُنيدُ إلى سَمَرْقَنْد.
في هذه السَّنةِ كانت بالدِّيارِ المصرية واقعةٌ غريبة من كلامِ الحائط، وخبَرُه أنَّ في أوائل شهر رجب من هذه السنة ظهر كلامُ شَخصٍ مِن حائط في بيت العدلِ شهاب الدين أحمد الفيشي الحنفي بالقُربِ مِن الجامع الأزهر، فصار كلُّ من يأتي إلى هذا الحائط ويسألُه عن شيء يرُدُّ عليه الجوابَ ويُكَلِّمُه بكلام فصيح، فجاءته الناسُ أفواجًا، وتردَّدَت إلى الحائِطِ أكابِرُ الدولةِ، وتكلموا معه!! وافتتن الناس بذلك المكان وتركوا معايشَهم وازدحموا على حائط هذا الدار، وأكثَرَ أربابُ العقول الفحصَ عن ذلك، فلم يَقِفوا له على خبر، وتحيَّرَ الناسُ في هذا الأمر العجيب، إلى أن حضر إلى هذا الدار القاضي جمال الدين محمود القيصري العجمي محتَسِبُ القاهرة، وفحص عن أمره بكُلِّ ما يمكنُ القدرة إليه، حتى إنَّه أخرب بعضَ الحائطِ، فلم يُؤَثِّر ذلك شيئًا، واستمَرَّ الكلام في كل يوم إلى ثالث شعبان، وقد كادت العامَّةُ أن تتعَبَّدَ بمكانِه، وأكثروا من قولهم: يا سلام سَلِّم، الحيطة بتتكَلِّم!! وخاف أهلُ الدولة من إفساد الحال، وقد أعياهم أمرُ ذلك، حتى ظهر أن الذي كان يتكَلَّمُ هي زوجةُ صاحِبِ المنزل، فأُعلِمَ بذلك الأتابِكُ برقوق، فاستدعى بها مع زَوجِها، فحضرا، فأنكرت المرأةُ فضربها فأقَرَّت، فأمر بتَسميرِها وتَسميرِ شَخصٍ آخر معها يسمى عمر، وهو الذي كان يجمَعُ الناس إليها، بعد أن ضرب برقوقٌ الزَّوجَ وعُمَر بالمقارع، وطِيفَ بهما في مصر والقاهرة، ثم أُفرِجَ عنهم بعد أن حُبِسوا مُدَّةً!!
وعدُ بلفور أو تصريحُ بلفور، هو وعدٌ لليهود يمنَحُهم حقَّ إقامة وطن قومي في فلسطين، وهو وعدٌ مشؤوم بالنسبة للمسلمين يناقِضُ ما أبرمه الإنجليزُ مع الشريف حسين في مراسلات "حسين، مكماهون" والوعودَ بإقامة خلافةٍ عربية إسلامية في البلاد العربية مقابِلَ إعلان العرب الثورةَ على الدولة العثمانية!! ولقد أثار اشتراكُ الإمبراطورية العثمانية في الحربِ ضِدَّ الحلفاء الأطماعَ الصهيونية، وكان على رأس زعمائهم في إنجلترا حاييم وايزمان الذي كتب إلى زعماء الصهيونية في أمريكا طالبًا دعم الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون الذي وصل للرئاسة بفضلِ تمويل اليهودِ فهو تابعٌ لهم، وأما في بريطانيا فكان اليهودُ قد أطاحوا بحكومةِ رئيس الوزراء هربرت هنري سكويت المعروفِ بعدائه لليهود، وموَّلوا حكومةً ائتلافية فيها ديفيد لويد جورج المحامي عن الحركة الصهيونية ووينستون تشرشل الماسوني والمؤازر للصهيونية، ثم أعلنت بريطانيا إرسالَ وزير خارجيتها بلفور إلى الولايات المتحدة للاتصالِ بممثلي المصارف الأمريكية (غالبهم إن لم يكن كلهم من اليهود) وإبلاغهم رسميًّا بأنَّ الحكومة البريطانية ستتبنى رسميًّا مشاريعهم المتعلِّقة بالصهيونية مقابِلَ تعهُّدهم بإدخال أمريكا إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية، ثم دخلت أمريكا الحربَ، وكانت أول كتائبها وصلت إلى فرنسا في حزيران 1917م وتكفَّلت بريطانيا بإعادة تأسيس فلسطين كوطنٍ قومي لليهود، وكأن أرض فلسطين ملكُ آبائهم! وكان وعد بلفور صدر في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) وهو عبارةٌ عن خطاب من آرثر جيمس بلفور وزيرِ خارجية بريطانيا إلى المصرفيِّ اليهودي اللورد ليونيل وولتر دي روتشلد، وجاء فيه: "أن حكومة جلالة الملك تنظرُ بعين العطفِ إلى تأسيس وطنٍ قوميٍّ للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدَها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليًّا أنه لن يؤتى بعمَلٍ من شأنه أن يجحَفَ بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتَّعُ بها الطوائف غير اليهودية الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتَّعُ به اليهود في البلدان الأخرى" وقد تمسَّكت الحكومات البريطانية المتعاقبة بهذا التصريح الذي أصبح عن طريق الانتداب إلزامًا دوليًّا، وكان من غايات بريطانيا لهذا هو حماية مصالحها في السويس، فكان هذا أولَ الغدر الظاهِرِ، وليس أوَّله بالكلية، وأبدى العربُ والقوميون الذين كانوا مخدوعين بالوعود الإنجليزية استياءَهم، ولكن لاتَ حينَ مناصٍ!!!
غَزَا الجَرَّاح بن عبدِ الله الحَكَمي بِلادَ الخَزَر شمال القوقاز، وهم إيرانيون، فاجْتَمَع الخَزَرُ والتُّرْك مِن ناحِيَة اللَّان، فلَقِيَهم الجَرَّاح فيمَن معه مِن أَهلِ الشَّام وأذربيجان، فاقْتَتَلوا أَشَدَّ قِتالٍ رَآهُ النَّاسُ، فصَبَر الفَريقان، وتَكاثَرَت الخَزَرُ والتُّرْكُ على المسلمين فاسْتُشْهِد هو ومَن معه مِن الجُنْدِ بأردبيل، ولمَّا قُتِلَ الجَرَّاح طَمِعَ الخَزَرُ وأَوْغَلوا في البِلادِ حتَّى قاربوا المَوْصِل، وعَظُمَ الخَطْبُ على المسلمين. فلمَّا بَلَغ ذلك هِشامَ بن عبدِ الملك بَعَث سَعيدَ بن عَمرٍو الحَرَشِي بجَيْشٍ وأَمَرَهُ بالإسراعِ إليهم، فلَحِقَ التُّرْكَ وَهُم يَسيرون بأَسارَى المسلمين نحو مَلِكِهم خاقان، فاسْتَنْقَذ منهم الأَسارَى ومَن كان معهم مِن نِساء المسلمين، ومِن أَهلِ الذِّمَّةِ أيضًا، وقَتَل مِن التُّرْك مَقْتَلَةً عَظيمَةً جِدًّا، وأَسَر منهم خَلْقًا كثيرًا فقَتَلهم صَبْرًا، ولم يَكْتَفِ الخَليفَة بذلك حتَّى أَرسَل أخاه مَسلمَةَ بن عبدِ الملك في أَثَر التُّرْك، فسار إليهم في بَرْدٍ شَديدٍ وشِتاءٍ عَظيمٍ، فوَصَل إلى بابِ الأَبوابِ،وسار بمن معه في طَلَبِ الأَتراك ومَلِكِهم خاقان.
أراد الهادي أن يعهَدَ لابنه جعفرٍ بدلًا من أخيه هارون الرشيد الذي عيَّنه والده المهديُّ واليًا ثانيًا للعهد. وألحَّ الهادي على ذلك وشجَّعَه جماعةٌ من ولاته, لكِنَّ خالد بن يحيى البرمكي نبَّهَه أنَّ جعفر ما زال صغيرًا لم يبلُغ الحنثَ، ثمَّ إنَّ هذا سيجعل الناسَ تستخِفُّ بأيمانِها، فرجع الهادي عن رأيه في عَزْلِ الرشيد, والعجيبُ أنَّ الرشيدَ كان مُسالِمًا لأخيه الهادي في هذا الأمرِ دون أن يبديَ أيَّ اعتراضٍ, حتى جاءه الرشيدُ يومًا فجلس عن يمينه بعيدًا عنه، فجعل الهادي ينظُرُ إليه مليًّا، ثم قال: يا هارونُ، تطمَعُ أن تكونَ وليًّا للعهدِ حَقًّا؟ فقال: إي والله، ولئنْ كان ذلك لأصِلَنَّ مَن قطعتُ، ولأُنصِفَنَّ من ظَلَمتُ، ولأزوِّجَنَّ بنيك من بناتي. فقال: ذاك الظَّنُّ بك. فقام إليه هارونُ ليقَبِّلَ يدَه، فحلف الهادي ليجلس معه على السرير فجلس معه، ثم أمرَ له بألف ألف دينار، وأن يدخُلَ الخزائنَ فيأخُذَ منها ما أراد، وإذا جاء الخَراجُ دفع إليه نِصفَه. ففعل ذلك كلَّه ورَضِيَ الهادي عن الرشيد, فاستلم هارونُ الرشيد زمامَ الخلافة في اليوم التالي لوفاة أخيه الهادي.
لَمَّا قُتِلَ باذ الكردي سار ابنُ أخته أبو عليِّ بنُ مروان الكردي في طائفةٍ مِن الجيش إلى حصن كيفا، وهو على دجلة، وهو من أحصَنِ المعاقل، وكان به امرأةُ باذ وأهلُه، فلمَّا بلغ الحِصنَ قال لزوجة خالِه: قد أنفذني خالي إليك في مُهِمَّة، فظنَّتْه حقًّا، فلمَّا صَعِدَ إليها أعلَمَها بهلاكِه، وأطمَعَها في التزوُّجِ بها، فوافقَتْه على مُلكِ الحِصنِ وغَيرِه، ونزل وقصَدَ حصنًا حصنًا، حتى مَلَك ما كان لخالِه، وسار إلى ميافارقين، وسار إليه أبو طاهرٍ وأبو عبد الله ابنا حَمدانَ طمعًا فيه، ومعهما رأسُ باذ، فوجدا أبا عليٍّ قد أحكَمَ أمْرَه، فتصافُّوا واقتَتَلوا أكثَرَ مِن مَرَّة، وأقام ابنُ مروان بدِيارِ بَكرٍ وضَبَطَها، وأحسَنَ إلى أهلِها، وألان جانِبَه لهم، فطَمِعَ فيه أهلُ ميافارقين، فاستطالوا على أصحابِه، فأمسك عنهم إلى يومِ العيد، وقد خرجوا إلى المصلَّى، فلمَّا تكاملوا في الصَّحراءِ وافى إلى البلَدِ، وأخذ أبا الصَّقرِ شيخَ البلد فألقاه مِن على السور، وقبَضَ على من كان معه، وأخذ الأكرادُ ثيابَ النَّاسِ خارِجَ البلد، وأغلق أبوابَ البلَدِ، وأمَرَ أهلَه أن ينصَرِفوا حيثُ شاؤوا، ولم يمَكِّنْهم من الدُّخولِ، فذهبوا كلَّ مذهَبٍ.
في يومِ الجمعة العشرين من شوَّالٍ ركِبَ نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشقَ إلى جبال الجرد وكسروان (وهي من مناطق الساحل اللبناني كان يسكنُها الدروز والروافض) وخرج الشيخُ تقي الدين ابن تيميَّة ومعه خلقٌ كثير من المتطَوِّعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية؛ بسبب فساد نيَّتِهم وعقائدِهم وكُفرِهم وضَلالِهم، وما كانوا عامَلوا به العساكِرَ لَمَّا كسرهم التَّتَرُ، وهربوا حين اجتازوا ببلادهم، ووثَبوا عليهم ونهَبوهم وأخذوا أسلحتَهم وخيولهم، وقتلوا كثيرًا منهم، فلما وصلوا إلى بلادِهم جاء رؤساؤُهم إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية فاستتابَهم وبيَّنَ للكثيرِ منهم الصوابَ وحصل بذلك خيرٌ كثيرٌ، وانتصارٌ كبير على أولئك المُفسِدين، والتزموا بردِّ ما كانوا أخَذوه من أموال الجيش، وقَرَّر عليهم أموالًا كثيرة يحملونَها إلى بيت المال، وأُقطِعَت أراضيهم وضياعُهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخُلونَ في طاعة الجُندِ ولا يلتَزِمونَ أحكام المِلَّة، ولا يدينونَ دينَ الحَقِّ، ولا يحَرِّمونَ ما حرم اللهُ ورسوله، وعاد نائبُ السلطنة يوم الأحد ثالث عشر ذي القعدة وتلقاه الناسُ بالشموع إلى طريق بعلبك وسطَ النَّهار.
مع ما تمتَّع به الإخوانُ (إخوان من أطاع الله) من بسالةٍ وبطشٍ بالأعداء ورغبةٍ في الجهادِ، لكن بدا منهم جفاءٌ وغلظة مع من يخالِفُهم في طريقتِهم من الحضَرِ عُمومًا، والبدو خصوصًا، ممَّن لم يلحَقْ بهم في الهِجَر، وصاروا يتهمونَهم بالضلالِ، وربما رموهم بالكُفرِ، فانتشر من جرَّاءِ هذا الأمر الفوضى في البلادِ، وكاد ينقَطِعُ حبل الأمن والسلام، فعقد السلطان عبد العزيز ابن سعود مؤتمرًا في الرياض في هذا العام للنظرِ فيما استحدث الإخوانُ مِن تُهَمٍ وأحكامٍ حَضَره كبارُ الرؤساء والعلماء وقرَّروا بعد البحث ستة أمور:
1- الكُفرُ لا يُطلَقُ على بادية المسلمين الثابتين على دينهم.
2- لا تفاوُتَ بين لابسِ العقال ولابسِ العمامة إذا كان معتقَدُهم واحدًا.
3- لا فرقَ بين الحضر الأولينَ والمهاجرين الآخرين.
4- لا فرقَ بين ذبيحةِ البدوي الذي في ولايةِ المسلمين، ودَربُه دَربُهم، ومُعتقدُه مُعتقدُهم، وبين ذبيحةِ الحضر الأولين والمهاجرين.
5- لا حَقَّ للمهاجرين أن يعتدُوا على النَّاسِ الذين لم يُهاجِروا؛ كأن يضربوهم، أو يتهدَّدوهم، أو يُلزِموهم بالهِجرةِ.
6- لا يحِقُّ لأحدٍ أن يهجُرَ أحدًا بدويًّا كان أو حضريًّا بغيرِ أمرٍ واضحٍ، وكُفرٍ صَريحٍ، وبدون إذنٍ مِن وليِّ الأمرِ أو الحاكِمِ الشرعيِّ.
كانت مجاعةٌ بالأندلس؛ حيث بلغت الحاجةُ بالناسِ مبلغًا لا عهدَ لهم بمثله؛ وبِيعَ قَفيزُ قَمحٍ بكيلِ سوقِ قرطبة بثلاثةِ دنانير. ووقع الوباءُ في الناس، وكَثُرَ الموت في أهل الفاقةِ والحاجة، حتى كاد أن يُعجَزَ عن دفنهم. وكَثُرت صدقات أميرِ المؤمنين عبد الرحمن الناصر على المساكينِ في هذا العام، وصَدَقات أهلِ الحِسبة من رجاله، فكان الحاجب بدرُ بنُ أحمد أكثَرَهم صدقة، وأعظَمَهم بمالِه مواساةً. ولم يمكن في هذا العام- لضيقِ الأحوالِ فيه- أن يكون غزاة أو إخراجُ جَيشٍ.
كانت مُراسلاتُ "حسين - مكماهون" التي دارت بين شَريف مكةَ الشَّريفِ حسين، ونائبِ الملِكِ البريطاني في القاهرة هنري مكماهون، تمثِّلُ مقدِّماتِ الثورةِ العربية، ومن أبرزِ أسبابِها، والتي وعدت فيها بريطانيا الشريفَ حسينًا بالمساعدة وتنصيبِه ملكًا على العربِ، وإقامةِ خلافةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ، كما أنَّ هناك أسبابًا أخرى، منها: الضَّعفُ الذي دَبَّ في أطرافِ الدولةِ العثمانية التي كانت تحكمُ المناطِقَ العربيةَ في الشامِ والحجازِ ومصر والمغرب، ومنها النعراتُ العُنصرية التي ظهرت على يدِ الاتحاديِّين القوميِّين بشكلٍ واضح، وانتشر الظلمُ في الدولةِ على نطاقٍ واسع؛ فسياسةُ الاتحاديِّينَ هي التي أيقظت الفكرةَ القوميَّةَ العثمانيةَ، بدأ بسوء الظنِّ بالعربِ، وأسهم في ذلك بعضُ الذين يريدون تخويفَ السلطانِ العثماني من العربِ، يُشيعُ أن العربَ يريدون أن يقيموا مملكةً عربية وحدهم، وكانت شكاوى العرب تنحصِرُ في إقصاء عدد كبير منهم عن وظائفهم بالأستانة، وعدمِ دعوة العربِ لأيِّ اجتماع للتأليف بين العناصِرِ العثمانية، ولا إدخالهم في الجمعياتِ الاتحادية ولا اللِّجان المركزية، ولا حتى تعيينهم على الولاياتِ والقضاءِ في البلاد العربية، ومعارضة الاتحاديين لكلِّ مشروعٍ علمي أو أدبي في البلاد العربية، ثم بدأت بعضُ الأحزاب العربية بالظهورِ كردَّةِ فِعلٍ للقومية العثمانية؛ فعُقِدَ في باريس أول مؤتمر عربي عام 1913م، ثم تفاقم أمرُ الاتحاديين وعَظُم تشدُّدهم إلى القومية التركية، وزاد الأمرُ عندما قام جمال باشا -الذي لقِّبَ بالسفاح- بقتل عددٍ مِن الذين كَشَف أنهم يتآمرون من خلال جمعياتٍ سرية على الاستقلال عن الدولة العثمانية، وكان القوميُّون العربُ قد رأوا أن يتجمَّعوا حولَ زعيم واحد ويشكِّلوا قوةً كبيرة عربية، فرأوا في الشريفِ حُسين بن علي -شريفِ مكة وأميرِها- الشخصَ المناسب لهذه الزعامة، فأجابهم، وكان التفاهمُ معه سرًّا بواسطةِ من تمكَّن مِن بعض أعضاء الجمعيات العربية الذين هربوا من جمال باشا ووصلوا للحجاز وغيرها، فتمَّ بين زعماء العرب وجمعيَّاتهم وبعضِ المقامات العالية، ومنهم الشريف حسين، أن قرَّروا إعلان الثورة في الحجاز، وكان الشريف حسين قد تعاقد مع مكماهون على أن يكون العرب حلفاءَ للإنجليز والفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى، وطبعا ضد الأتراك؛ لأنها كانت ضِدَّ الحلفاء، ووعدوا الشريف حسين أن يُبقوه مَلِكًا على العرب وأن يعطوا العربَ استقلالهم، وإن كان القوميون العربُ بعد اطِّلاعهم على مراسلات حسين مكماهون أغضبهم كثيرًا تنازل الشريف حسين عن بعض البلاد العربية للإنجليز أو للفرنسيين. أعلن الشريفُ حسين الثورةَ على الدولة العثمانية، وأطلق بنفسِه في ذلك اليوم أولَ رصاصةٍ على قلعةِ الأتراك في مكة؛ إيذانًا بإعلانِ الثورة، وعزَّز حركتَه بإذاعة منشورٍ اتَّهم فيه الاتحاديِّين في تركيا بالخروج على الشريعةِ الإسلامية، وجاء فيه: "وانفصلت بلادُنا عن المملكةِ العثمانية انفصالًا تامًّا، وأعلنَّا استقلالًا لا تشوبُه شائبةُ مُداخَلة أجنبية ولا تحكُّم خارجي"، واستطاعت القواتُ الثائرة أن تستوليَ في أقلَّ من ثلاثة أشهرٍ على جميعِ مدن الحجاز الكبرى، باستثناء المدينة النبوية التي بقيت محاصَرةً إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يلبَثْ أن بويع الشريفُ حسين ملكًا على العرب. وقد نسفت القواتُ العربية بقيادةِ الأمير الشريف فيصل سكةَ حديد الحجاز، واحتلَّت ينبع والعَقَبة، واتخذوا من العَقَبة نُقطةَ ارتكازٍ لهم، ثم أخذ فيصل يتقدَّمُ لِيُحارِبَ الأتراكَ في منطقة شرقي الأردن، وبذلك قَدَّم للحُلفاء أكبرَ مساعدة؛ حيث استطاع اللورد اللنبي قائِدُ القوات الإنجليزية أن يدخُلَ القدسَ بمعاونة العرب، كما أنَّ احتلالَ القوات العربية لمنطقة شرقي معان قد حمى ميمنة القواتِ البريطانية في فلسطين من هَجَمات الأتراك عليها في منطقة بئر سبع والخليل، وحمى خطوطَ مواصلاتها، ولم تلبَث القواتُ العربيةُ أن تقدَّمت في (ذي الحجة 1336هـ/ سبتمبر 1918م) فاحتَلَّت دمشق واصطدمت بالأتراكِ قبل أن يدخُلَها اللنبي، ولم يمضِ أكثرُ من شهر حتى زال النفوذُ العثماني من سوريا بعد أن أمضى بها أربعة قرون. والواقع أن الكثيرين قد أُصيبوا بخيبةِ أمل كبيرة، وعلى رأسِهم الشيخ محمد رشيد رضا، وذلك عندما عَلِموا بتنازل حسين عن ولايتي إسكندرون ومرسين والمناطق الشمالية السورية، ووافق على مصالح فرنسا في ولاية بيروت لِما بعد الحرب، وعلى مصالح بريطانيا في البصرة وبغداد، وأنَّ الأسطول الإنجليزي هو الذي أسقط ثغورَ جدة ورابغ وينبع وغيرها من موانئ الحجاز، وأن ثغرَ بورسودان كان القاعدةَ التي انطلق منها الأسطول الإنجليزي لدعم ثورة الشريف حسين، وازداد شعورُهم بالخيبة عندما وجدوا ضباط إنجلترا وفرنسا مثل اللنبي وكوكس وكاترو وغورو والضابط الشهير لورانس هم الذين يقودون القبائِلَ العربية، ووصل الأمرُ ببعض هؤلاء الضبَّاط في النَّيلِ من المسلمين أنه لَمَّا دخل الجنرال اللنبي القدسَ يوم 9/12/1917م قال قولَته المشهورة: الآن انتهت الحروبُ الصَّليبية! ولَمَّا دخل الجنرال غورو دمشق يوم 21/7/1920م توجَّه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي ووقف أمامَه قائلًا: ها قد عُدنا يا صلاحَ الدين! ثم تكرَّست المرارةُ والحسرة عندما ارتفعت أعلامُ بريطانيا وفرنسا على المناطق التي قاتَلَ فيها العرب، ولم يكن بينها عَلَمُ الدولة العربية المنتظَرة! وحاول الشيخ رشيد رضا أن يلفِتَ نظرَ الشريف حسين إلى خطورة ما أقدم عليه؛ لأن العدوَّ الحقيقيَّ هو الاستعمار الغربي لا الدولةُ العثمانية، إلا أنَّ بريقَ المصلحة وأحلامَ المُلك والعَرش كانا قد سيطرا على خيال الشريف حسين، فلم يستمِعْ إلى صوتِ ناصحٍ أو حكيمٍ! وإنما أمر بمنع دخول مجلة "المنار" التي يُصدِرُها الشيخ رشيد رضا من دخول مكة. ولم يعلم العربُ باتفاقِ (سايكس – بيكو) إلا عندما أعلنه البلاشفة بعد قيام ثورتهم في روسيا 1917م، وتأكَّد العربُ أنَّ الاتفاق أهمل تأسيسَ خلافة عربية، وأعطى بعضَ أجزاء من الدولة العربية المنتَظَرة لفرنسا، وأثار هذا الاتفاقُ حفيظةَ العرب، إلا أنَّهم مضوا في ثورتهم بعد طمأنةِ البريطانيين لهم، ونجح العثمانيُّون في تصوير الشريف حسين على أنَّه خائِنٌ للإسلام متحالِفٌ مع الدُّوَل النصرانية ضِدَّ دولة إسلامية، إلَّا أن الخلافاتِ الحقيقيةَ بين العرب والإنجليز تعمَّقت وظهرت مع إطلاقِ بريطانيا لوعدِ بلفور في (المحرم 1336هـ/نوفمبر 1917م) كانت غاية الإنجليز من ثورة العرب هو ضربَ الأتراك بالعرب، بدلًا أن يخوضوا هم غمار هذه الحرب، ويدلُّ على ذلك أن الإنجليز كانوا يضغطون على الشريف حسين لبدء الثورة عندما كانت جيوش الحلفاء تستسلم للأتراك عند كوت العمارة في نيسان 1916م، وكان الحلفاءُ غير قادرين على مواجهة القوات العثمانية عند قناة السويس واليمن، فكان التعجيل بالثورة ضِدَّ العثمانيين فيه تخفيف العبء عن الإنجليز، وفعلًا أدى إعلان الثورة إلى رجحان كفة الحلفاء، وبدأت الحاميات التركية في الاستسلام بعد أن حوصِرَت واستعمل معها رجال الجيش حربَ العصابات، ثم بدأ القتال فعلًا بين العرب وجيوش العثمانيين في الحجاز في التاسع من شعبان 10 يونيو، وأعلنوا استقلالهم، وهاجموا الثكناتِ التركيةَ في مكة، وحمِيَ القتال خلال يومين، حتى تعطَّلت الصلاةُ والطواف في المسجد الحرام، وكذلك الأمرُ في جدَّة؛ دام القتال ستة أيام حتى سقطت بيدِ قوات الشريف، وفي التاسع من رمضان استسلم الأتراك في مكة، وفي ذي القعدة سقطت الطائفُ، ثم أعلن الحجازُ استقلاله عن الاتحاديين، فانتهز الإنجليز والفرنسيون الفرصة وبدؤوا في إرسال التهاني، وحتى الدول الأوربية الأخرى كروسيا وسائر الدول غير المنحازة، أما السوريون واللبنانيون فلم ينَلْهم من الثورة إلا الحصارُ والاضطهاد؛ حيث كانت كفاءتُهم الحربية ضعيفة مقارنة مع كفاءات العثمانيين في هذه المنطقة، وكانت جيوش الثورة عبارة عن ثلاثة جيوش كل واحد بقيادة ولد من أولاد الحسين، وهم فيصل، وعبد الله، وعلي، وكان مع جيش فيصل لورنس وكان يتلقى أوامِرَه من الجنرال اللنبي، ثم تألَّفت أول وزارة عربية في السابع من ذي الحجة 1334هـ/ 5 أكتوبر 1916م، ثم أمر بتأليف مجلس الشيوخ الأعلى، هذا ولم تعين الحكومة العربية، ثم تمت مبايعةُ العربِ للشريف حسين بن علي ملكًا على العرب يوم الخميس السادس من محرم 1335هـ/ 6 تشرين الأول 1916م، علما أن استنكارًا إسلاميًّا قد ورد إلى الشريف حسين عن طريق شكيب أرسلان الذي قال له: أتقاتل العربَ بالعربِ أيها الأمير حتى تكون ثمرةُ دماء قاتِلِهم ومقتولِهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سوريا، واليهود على فلسطين، وهذا ما حصل بالفعل!!
ثار أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفِهري بالأندلس، وكان من حديثه: أنَّه كان في سِجنِ عبد الرحمن بقُرطبةَ مِن حينِ هرب أبوه، وقُتِل أخوه عبد الرحمن، وحُبِس أبو الأسود، وتعامى في الحبسِ ثمَّ هرب منه واجتمعَ حَولَه خَلقٌ كثيرٌ، فرجع بهم إلى قتال عبد الرحمن الداخل، فالتقيا على الوادي الأحمر بقسطلونة، واشتدَّ القتال، ثم انهزم أبو الأسودِ، وقُتِلَ من أصحابِه أربعةُ آلاف سوى من تردَّى في النهر، واتَّبَعه الداخل يقتُلُ من لحِقَ، حتى جاوز قلعةَ الرباح، ثم جمَعَ وعاد إلى قتالِ الداخل، في سنة تسع وستين، فلما أحسَّ بمَقْدَمةِ الأمويِّ انهزم أصحابُه وهو معهم، فأُخِذَ عيالُه، وقُتِلَ أكثَرُ رجاله، وبَقِيَ إلى سنة سبعين، فهلك بقريةٍ مِن أعمال طليطِلة. وقام بعده أخوه قاسِمٌ وجمع جمعًا، فغزاه الأميرُ، فجاء إليه بغيرِ أمانٍ فقَتَله.
خرج توفيل بن ميخائيل ملِكُ الروم إلى بلادِ الإسلام، وأوقع بأهلِ زبطرة وغيرها، وكان سبَبُ ذلك أنَّ بابك لَمَّا ضَيَّقَ الأفشينُ عليه، وأشرف على الهلاك، كتب إلى مَلِك الروم توفيل يُعلِمُه أنَّ المعتَصِمَ قد وجَّهَ عساكِرَه ومقاتليه إليه، ولم يَبقَ على بابِه أحدٌ، فإن أردت الخروجَ إليه فليس في وجهِك أحدٌ يَمنَعُك؛ ظنًّا أن ذلك يخَفِّفُ عنه، فخرج توفيل في مائة ألفٍ، وقيل أكثر، منهم من الجندِ نَيِّفٌ وسبعون ألفًا وبقيَّتُهم أتباع، ومعهم من المحمِّرة الذين كانوا خرجوا بالجبالِ فلَحِقوا بالرُّومِ حين قاتَلَهم إسحاقُ بن إبراهيم بن مصعب، فبلغ زبطرة، فقتَلَ مَن بها من الرجال، وسَبى الذريَّةَ والنِّساءَ، وأغار على أهلِ ملطيَّة وغَيرِها من حصونِ المسلمين، وسبى المُسلِمات، ومَثَّلَ بمن صار في يدِه من المسلمينَ وسَمَل أعيُنَهم، وقطَعَ أنوفَهم وآذانَهم، فخرج إليهم أهلُ الثغورِ مِن الشامِ والجزيرة، إلَّا مَن لم يكن له دابَّةٌ ولا سِلاحٌ.