في يوم الجمعة الثالث والعشرين جمادى الآخرة وصل رسول صاحب قبرص جاك، وأخبر أنه أخذ مدينة الماغوصة وقلعتها من يد الفرنج، وأنَّه سلمها للأمير جانبك الأبلق المقيم بجزيرة قبرص بمن بقيَ معه من المماليك السلطانية، فأساء جانبك السيرةَ في أهل الماغوصة، ومدَّ يده لأخذ الصبيان الحِسان من آبائهم وهم أعيانُ أهل الماغوصة، فشق ذلك عليهم، وقالوا: نحن سلَّمناكم البلد بالأمان، وقد حلفتم لنا أنَّكم لا تفعلوا معنا بعد أخذكم المدينة إلا كل خير، وأنتم مسلمون، فما هذا الحال؟ فلم يلتفت جانبك الأبلق إلى كلامِهم، واستمرَّ على ما هو عليه، فأرسل أهل الماغوصة إلى جاك عرفوه الخبر، فأرسل جاك إلى جانبك ينهاه عن هذه الفعلة، فضرب جانبك القاصِدَ بعد أن أوسعه سبًّا، فأرسل إليه قاصدًا آخر، فضربه جانبك بالنشَّاب، فركب جاك إليه من الأفقسية مدينة قبرص، وجاء إليه وكلَّمه، فلم يلتفت إليه، وخشَّن عليه الكلام، فكلمه جاك ثانيًا، فضربه بشيءٍ كان في يده، فسقط جاك مغشيًّا عليه، فلما رأت الفرنج ذلك مدَّت أيديها إلى جانبك ومن معه من المسلمين بالسيوفِ، فقُتِلَ جانبك وقُتِل معه خمسة وعشرون مملوكًا من المماليك السلطانية، واستولى جاك على الماغوصة على أنَّه نائب بها عن السلطان، فعيَّن السلطان سودون المنصوري الساقي وتوجَّه لقبرص مع يعقوب قاصد جاك.
هو الإمامُ العلَّامةُ شَيخُ الإسلام تقيُّ الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري المصري المنفلوطي، المالكيُّ الشافعي، أحَدُ الأعلام وقاضي القضاة, المعروفُ بابن دقيق العيد. وُلِدَ يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة 625 بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز، تفقَّهَ على والده بقوص, وكان والِدُه مالكيَّ المذهب، ثم تفقَّه على الشيخ عزِّ الدِّين بن عبد السلام الشافعي، فحقَّق المذهبَين، وأفتى فيهما، سَمِعَ الكثير ورحل في طلب الحديثِ وخرج وصَنَّفَ فيه إسنادًا ومتنًا مُصَنَّفات عديدة، فريدةً مفيدة، وانتهت إليه رياسةُ العلم في زمانه، وفاقَ أقرانه ورحل إليه الطَّلَبةُ ودرَّسَ في أماكن كثيرة، ولي قضاءَ الديار المصرية، وكان وقورًا قليل الكلام غزيرَ الفوائِدِ كثيرَ العُلومِ، فيه ديانةٌ ونزاهة، وله شعرٌ رائق، كما كان بارعًا في الفقه والأصول، له مصنَّفاتٌ عديدة، منها: الإلمام في أحاديث الأحكام، وله إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، وله شرح الأربعين النووية، وغيرها، وله خُطَبٌ بليغة مشهورة، أنشأها لَمَّا كان خطيبًا بقوص. قال الذهبي في معجمه: "هو قاضي القضاة بالدِّيارِ المصرية، وشيخُها وعالِمُها، الإمامُ العلَّامة، الحافِظُ القدوة الوَرِع، شيخُ العصر. كان علَّامةً في المذهبين، عارفًا بالحديثِ وفنونه، سارت بمصنَّفاته الرُّكبان. ولي القضاءَ ثمانيَ سنين", وبسط السبكيُّ ترجمته في الطبقاتِ الكبرى قال: "لم ندرِكْ أحدًا من مشايخنا يختَلِفُ في أنَّ ابنَ دقيق العيد هو العالمُ المبعوثُ على رأس السَّبعمائة". وقال عنه ابنُ كثير في طبقاته: "أحدُ عُلماء وقته، بل أجلُّهم وأكثَرُهم عِلمًا ودِينًا، وورَعًا وتقشُّفًا، ومداومةً على العلم في ليلِه ونهاره، مع كِبَرِ السِّنِّ والشُّغلِ بالحكم. وله التصانيف المشهورة والعلوم المذكورة. برع في علومٍ كثيرة لا سيما في علم الحديث، فاق فيه على أقرانِه وبرز على أهل زمانِه، رحلت إليه الطلبة من الآفاق، ووقع على عِلمِه ووَرَعِه وزُهدِه الاتِّفاق". توفي يوم الجمعة حادي عشر شهر صفر، وصُلِّيَ عليه يوم الجمعة بسوق الخيل، وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء، ودفن بالقرافة الصغرى.
هو الإمامُ العلَّامةُ الحافِظُ المجَوِّدُ, شيخُ خُراسان, أبو حاتمٍ, محمَّدُ بنُ حِبَّان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد بن سهيد بن هدية بن مُرة التميمي الدارمي البُستي، ولِدَ سنة بِضعٍ وسَبعينَ ومائِتين. صاحِبُ الكُتُب المشهورة. ومنها كتابُ الأنواع والتقاسيم، المعروف باسم (صحيح ابن حبان)، كان مِن أوعيةِ العِلمِ، برع في الحديثِ والفِقهِ واللُّغةِ والوَعظِ، تنقَّلَ في الأقطارِ لطَلَبِ العِلمِ، له تصانيفُ كثيرةٌ في الحديثِ والرِّجالِ والوَعظِ وغيرِها، وجمع كتُبُه وجعَلَها في دارٍ وجعَلَها وقفًا. تولَّى القضاءَ في بُست، قال أبو سعد الإدريسي: "كان على قضاءِ سَمَرقند زمانًا، وكان من فقهاءِ الدِّينِ، وحُفَّاظ الآثار, عالِمًا بالطِّبِّ وبالنجوم, وفنونِ العِلمِ, صنَّفَ المسند الصحيح- يعني به كتاب "الأنواع والتقاسيم" - وكتاب "التاريخ"، وكتاب "الضعفاء"، وفقَّه النَّاسَ بسَمَرقند". وقال الحاكم: "كان ابنُ حِبَّان من أوعية العلم في الفِقهِ, واللُّغة, والحديث، والوعظ, ومِن عُقَلاء الرجال, قَدِمَ نيسابور سنة 334, فسار إلى قضاء نَسا, ثم انصرف إلينا في سنة 337, فأقام عندنا بنيسابور, وبنى الخانقاه, وقرئَ عليه جملةٌ مِن مُصَنَّفاته, ثمَّ خرج من نيسابور إلى وطنِه سجستان, عامَ أربعين, وكانت الرِّحلةُ إليه لِسَماعِ كُتُبِه". مات في بُست عن 94 عاما.
هو السُّلطانُ محمدُ بن محمودِ بن محمدٍ، كان مَولِدُه سَنةَ 522هـ، وكان كَريمًا عاقِلًا، وهو الذي حاصَرَ بغدادَ طالِبًا السَّلْطَنَةَ وعادَ عنها، فأَصابَهُ سُلٌّ، وطالَ به فماتَ ببابِ همذان، فلمَّا حَضَرَهُ الموتُ أَمَرَ العَساكرَ فرَكِبَت وأَحضرَ أَموالَه وجَواهِرَه وحَظَاياهُ ومَمَاليكَهُ، فنَظَرَ إلى الجَميعِ مِن طَيَّارَةٍ تشرف على ما تحتها، فلمَّا رَآهُ بَكَى، وقال: هذه العَساكرُ والأَموالُ والمَماليكُ والسَّراري ما أرى يَدفَعون عَنِّي مِقدارَ ذَرَّةٍ، ولا يَزيدون في أَجَلِي لَحظةً. وأَمَرَ بالجَميعِ فرُفِعَ بعدَ أن فَرَّقَ منه شَيئًا كَثيرًا. وكان له وَلَدٌ صَغيرٌ، فسَلَّمَهُ إلى آقسنقر الأحمديلي وقال له: أنا أَعلمُ أن العَساكرَ لا تُطيعُ مِثلَ هذا الطِّفلِ، وهو وَديعةٌ عندك، فارحَل به إلى بِلادِك. فرَحَلَ إلى مراغة، فلمَّا ماتَ اختَلَفَت الأُمراءُ، فطائِفةٌ طَلَبوا ملكشاه أَخاهُ، وطائِفةٌ طَلَبوا عَمَّهُ سُليمانَ شاه، وهُم الأَكثرُ، وطائِفةٌ طَلَبوا أرسلان الذي مع إيلدكز؛ فأَمَّا ملكشاه فإنه سار من خوزستان، ومعه دكلا صاحِبُ فارسن وشملة التُّركمانيُّ وغَيرُهما، فوَصلَ إلى أصفهان، فسَلَّمَها إليه ابنُ الخجندي، وجَمَعَ له مالًا أَنفَقَهُ عليه، وأَرسلَ إلى العَساكرِ بهمذان يَدعُوهم إلى طاعَتِه، فلم يُجيبوهُ لعدم الاتِّفاقِ بينهم، ولأنَّ أَكثرَهُم كان يُريدُ عَمَّهُ سُليمانَ شاه, وكان مَسجونًا بالمَوصِل فأُفرِجَ عنه وانعَقَدَت له السَّلطَنَةُ، وخُطِبَ له على مَنابرِ تلك البِلادِ سِوَى بغدادَ والعِراقِ.
في ثامِنَ عشر رجب قَدِمَت طائفة كبيرة من جيش المصريِّين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأميرُ حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأميرُ سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعدهم طائفةٌ أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح وأيبك الخزندار فقَوِيَت القلوبُ واطمأنَّ كثير من الناس، وكان الناسُ في حفل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي، وتقهقر الجيشُ الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهَمَهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرجَ يوم الأحد خامس شعبان، ووصل التتارُ إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادًا، وقَلِقَ الناس قلقًا عَظيمًا، وخافوا خوفًا شديدًا، واختبطَ البَلَدُ لتأخُّرِ قدوم السلطان ببقيَّة الجيش، وقال النَّاسُ: لا طاقة لجيشِ الشام مع هؤلاء المصريين بلقاءِ التتار لكثرَتِهم، وإنما سبيلُهم أن يتأخَّروا عنهم مرحلةً مرحلة، وتحَدَّث الناسُ بالأراجيف فاجتمع الأمراءُ في يوم الأحد خامس شعبان بالميدان وتحالَفوا على لقاء العدو، وشَجَّعوا أنفُسَهم، ونودِيَ بالبلد أنْ لا يرحل أحدٌ منه، فسكن النَّاسُ وجلس القضاةُ بالجامِعِ وحَلَّفوا جماعة من الفقهاء والعامَّة على القتال، وتوجَّهَ الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة إلى العسكَرِ الواصِلِ من حماة فاجتمع بهم في القطيعةِ فأعلَمَهم بما تحالف عليه الأمراءُ والنَّاسُ من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحَلَفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يَحلِفُ للأمراءِ والنَّاسِ إنَّكم في هذه الكَرَّة منصورون، فيقولُ له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقولُ: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يتأوَّلُ في ذلك أشياءَ مِن كتاب اللهِ منها قَولُه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] ولَمَّا كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكِرُ الشاميَّة فخَيَّمَت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاةُ، فصار الناسُ فيهم فريقين: فريقٌ يقولونَ إنَّما ساروا ليختاروا موضِعًا للقتالِ؛ فإنَّ المرج فيه مياهٌ كثيرة فلا يستطيعون معها القتال، وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة لِيَهرَبوا وليلحقوا بالسلطان، فلما كانت ليلةُ الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقَوِيَت ظنون الناسُ في هَرَبِهم، وقد وصلت التتارُ إلى قارة، وبلغ الأمراءَ قُدومُ السلطانِ فتَوَجَّهوا إليه من مَرجِ راهط، فلَقُوه على عقبة الشحورا في يومِ السبت ثانيَ عَشَر رمضان، ثمَّ وَرَدَ عند لقائِهم به الخبَرُ بوصول التتار في خمسينَ ألفًا مع قطلوشاه نائب غازان، فلبس العسكَرُ بأجمعه السلاح، واتَّفَقوا على قتال التتار بشقحب تحت جبل غباغب (وهي من الطرف الشمالي لمرج الصفر)، فلما تمَّ الترتيبُ زَحَفت كراديس التتار كقِطَع الليل، وكان ذلك وقتَ الظهر من يوم السبتِ ثاني رمضان, وأقبل قطلوشاه بمن معه من الطوامين، وحملوا على الميمنة فثَبَتَت لهم الميمنة وقاتلوهم أشدَّ قِتالٍ، ثم قُتِلَ مِن الميمنة الكثيرُ فأدركَتْهم الأمراءُ مِن القَلبِ ومِن المَيسَرة واستمَرُّوا في القتال إلى أن كَشَفوا التتارَ عن المسلمينَ واستمَرَّ القتالُ بين التتار والمسلمينَ إلى أن وقفَ كل من الطائفتينِ عن القتال، ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبَلٍ قريب منه، وصَعِدَ عليه وفي نفسه أنَّه انتصر، وأن بولاي في أثر المنهزمينَ مِن المسلمين، فلمَّا صَعِدَ الجبَلَ رأى السَّهلَ والوَعرَ كُلَّه عساكِرَ، والميسرةَ السُّلطانيةَ ثابتةً وأعلامها تخفُق، فبُهِتَ قطلوشاه وتحيَّرَ واستمَرَّ بمَوضِعِه حتى كَمُلَ معه جمعُه وأتاه مَن كان خلف المنهزمينَ مِن الميمنةِ السُّلطانيَّة ومعهم عِدَّةٌ من المسلمينَ قد أسروهم، فعند ذلك جمَعَ قطلوشاه أصحابَه وشاوَرَهم فيما يفعَلُ، وإذا بكوسات- قطعتان من نحاس تشبهان الترسَ الصغير يدقُّ بأحدها على الآخِرِ بإيقاعٍ مخصوص- السُّلطانِ والبوقات قد زَحَفَت وأزعجت الأرضَ وأرجفت القلوبَ بحِسِّها، فلم يثبت بولاي وخرج من تجاهِ قطلوشاه في نحوِ العشرين ألفًا من التتار، ونزل مِن الجَبَل بعد المغرب ومَرَّ هاربًا، وبات السلطانُ وسائِرُ عساكره على ظهور الخيل والطبولُ تُضرَبُ، وتلاحقَ بهم من كان انهَزَمَ شيئًا بعد شيءٍ، وهم يَقصِدونَ ضَربَ الطبول السلطانيَّة والكوسات؛ وأحاط عسكَرُ السُّلطانِ بالجبَلِ الذي بات عليه التتارُ وشرع قطلوشاه في ترتيبِ مَن معه، ونزلوا مشاةً وفرسانًا وقاتلوا العساكِرَ، فبرزت المماليكُ السلطانية بمقَدَّميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعمِلوا في قتالهم عملًا عظيمًا، فصاروا تارةً يرمونهم بالسِّهامِ وتارة يواجهونَهم بالرماح، واشتغل الأمراء أيضًا بقتال من في جهتِهم، وصاروا يتناوبون في القتال أميرًا بعد أمير، وألحَّت المماليك السلطانيَّةُ في القتال وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعةِ والفروسية ما لا يوصَفُ، حتى إن بعضَهم قُتِلَ تحته الثلاثةُ من الخيل، وما زال الأمراءُ على ذلك حتى انتصف نهارُ الأحد، صعد قطلوشاه الجبل وقد قُتِلَ من عسكره نحو ثمانين رجلًا، وجُرح الكثير واشتَدَّ عَطَشُهم، واتفق أنَّ بعضَ من كان أسَرَه التتار هرب ونزل إلى السلطان، وعَرَّفه أنَّ التتارَ قد أجمعوا على النزولِ في السَّحَرِ لمصادمة العساكرِ السُّلطانية، وأنَّهم في شدة من العَطَشِ، فاقتضى الرأيُ أن يُفرِجَ لهم عند نزولِهم ويركَبَ الجيشُ أقفيتَهم، فلما باتوا على ذلك وأصبحوا نهارَ الاثنين، ركب التتارُ في الرابعة من النَّهارِ ونزلوا من الجبل فلم يتعَرَّض لهم أحدٌ وساروا إلى النهر فاقتَحَموه، فعند ذلك رَكِبَهم بلاءُ الله من المسلمين وأيَّدَهم الله تعالى بنَصرِه حتى حَصَدوا رؤوسَ التتار عن أبدانِهم ووضعوا فيهم السَّيفَ ومَرُّوا في أثرهم قتلًا وأسرًا إلى وقت العصر، وعادوا إلى السُّلطانِ وعَرَّفوه بهذا النصر العظيم، واستمَرَّت الأمراء وبَقِيت العساكرُ في طلب التتار إلى القريتينِ، وقد كَلَّت خيولُ التتار وضَعُفَت نفوسُهم وألقَوا أسلحَتَهم واستسلموا للقَتلِ، والعساكِرُ تقتلُهم بغير مدافعةٍ، حتى إن أراذِلَ العامَّة والغِلمان قتلوا منهم خلقًا كثيرًا وغَنِموا عندئذ غنائِمَ، وقتل الواحِدُ من العسكر العشرينَ من التتار فما فوقها، ثم أدركت عُربانُ البلاد التتارَ وأخذوا في كيدهم، فيجيء منهم الاثنانُ والثلاثة إلى العِدَّة الكثيرة من التتار، كأنهم يهدونَهم إلى طريقٍ قريبةٍ مفازة، فيوصلونهم إلى البَرِّيَّة ويتركونهم بها فيموتون عطشًا، ومنهم من دار بهم وأوصلوهم إلى غوطة دمشق، فخرجت إليهم عامَّةُ دِمشقَ فقَتَلوا منهم خلقًا كثيرًا، وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبَشَّروا النَّاسَ بالنصرِ.
كان سَببُها أنَّ عِزَّ الدولة بختيارَ بنَ مُعِزِّ الدولة قلَّت عنه الأموالُ، فتوَجَّه مع جندِه إلى الأهواز، ليتعَرَّضوا لبختكين آزادرويه، وكان متولِّيَها، ويعملوا له حُجَّةً يأخذونُ منه مالًا ومِن غيره، فسار بختيار وعسكَرُه، وتخلَّفَ عنه سبكتكين التركي، فلمَّا وصلوا إلى الأهواز خدم بختكين بختيار وحَمَلَ له أموالًا جليلةَ المقدارِ، وبذل له من نَفسِه الطاعةَ، وبختيار يفكِّرُ في طريقٍ يأخُذُه به. فاتَّفَق أنَّه جرى فتنةٌ بين الأتراك والديلم، عندما نزل بعضُ الديلم دارًا بالأهواز، ونزل قريبًا منه بعضُ الأتراك، وكان هناك لَبِنٌ موضوعٌ، فأراد غلامُ الدَّيلميِّ أن يبنيَ به معلفًا للدوابِّ، فمنعه غلامُ التركي، فتضاربا، وخرجَ كُلُّ واحد من التركي والديلمي إلى نُصرةِ غُلامِه، فضَعُفَ التركي عنه، فرَكِبَ واستنصر بالأتراكِ، فرَكِبوا وركب الديلم، وأخذوا السِّلاحَ، فقُتِلَ بينهم أحدُ قُوَّاد الأتراك، وطلَبَ الأتراكُ بثأر صاحِبِهم، وقتلوا به من الديلم قائدًا أيضًا، وخَرَجوا إلى ظاهرِ البلد، واجتهد بختيار في تسكينِ الفتنة، فلم يُمكِنْه ذلك، فاستشار الديلمَ فيما يفعَلُه، وكان أُذُنًا يَتبَعُ كُلَّ قائلٍ، فأشاروا عليه بالقَبضِ على رؤساء الأتراكِ لتصفوَ له البلادُ، فأحضَروا بختكين وكاتِبَه سَهلَ بن بِشرٍ، وسباشى الخوارزمي بكتيجور، وكان حمًا لسبكتكين, فاعتقَلَهم وقَيَّدَهم، وأطلق الديلمَ في الأتراك، فنَهَبوا أموالَهم ودوابَّهم، وقُتِلَ بينهم قتلى، وهرب الأتراكُ، وأمر فنُودِيَ بالبصرة بإباحةِ دَمِ الأتراك، وكان بختيار قد واطأَ والدتَه وإخوتَه أنَّه إذا كتب إليهم بالقَبضِ على الأتراك يُظهِرونَ أنَّ بختيار قد مات، ويجلِسونَ للعزاء، فإذا حضر سبكتكين عندهم قبَضوا عليه، فلمَّا وَقَفوا على الكتُبِ وقع الصُّراخُ في داره، وأشاعوا موتَه، فعَلِمَ سبكتكين أنَّ ذلك مكيدة عليه، ودعاه الأتراكُ إلى أن يتأمَّرَ عليهم، فركِبَ في الأتراك، وحصَرَ دارَ بختيار يومين، ثم أحرَقَها ودخَلَها، وأخذ أبا إسحاقَ وأبا طاهِرٍ ابنَي مُعِزِّ الدولة ووالدتَهما ومن كان معهما، فسألوه أن يمكِّنَهم من الانحدارِ إلى واسط، ففعل، وانحدروا، وانحدر معهم الخليفةُ المطيع لله، ثم أعاد سبكتكين الخليفةَ ورَدَّه إلى داره، وذلك تاسِعَ ذي القعدة، واستولى على ما كان لبختيار جميعِه ببغداد، ونزل الأتراكُ في دور الديلمِ وتتَبَّعوا أموالَهم وأخذوها، وثارت العامَّةُ من أهل السُّنَّة ينصُرونَ سبكتكين؛ لأنه كان سُنِّيًّا، فخلع عليهم، وجعل لهم العُرَفاء والقُوَّاد، فثاروا على الشِّيعةِ وحاربوهم وسُفِكَت بينهم الدماء، وأُحرِقَت الكرخ حريقًا ثانيًا، وظهَرَت السُّنَّة عليهم.
تَمَلَّك نُورُ الدِّين محمودُ بن زِنكي مَدينةَ دِمشق، وأَخذَها مِن صاحِبِها مُجيرِ الدِّين أبق بن محمد بن بوري بن طغتكين، وكان سَببُ جِدِّهِ في مِلْكِها أن الفِرنجَ لمَّا مَلَكوا في العام الماضي مَدينةَ عَسقلان لم يكُن لنورِ الدين طَريقٌ لإزعاجِهِم عنها لاعتِراضِ دِمشق بينه وبين عَسقلان، كما أن الفِرنجَ لمَّا مَلَكوا عَسقلان طَمِعوا في دِمشق، حتى أنهم استَعرَضوا كلَّ مَن بدِمشق مَملوكًا أو جارِيةً من النَّصارَى، فمَن أرادَ المُقامَ بها تَركوهُ، ومَن أرادَ العَوْدَ إلى وَطنِه أَخذوهُ قَهرًا شاء صاحِبُه أم أَبَى، وكان لهم على أَهلِها كلَّ سَنةٍ قَطيعةٌ يَأخُذونها منهم، فكان رُسُلُهم يدخلون البلدَ ويَأخُذونها منهم، فلمَّا رأى نورُ الدين ذلك خافَ أن يَملِكَها الفِرنجُ فلا يَبقَى له حينئذٍ بالشامِ مُقامٌ، فأَعْمَلَ الحِيلةَ في أَخْذِها حيث عَلِمَ أنها لا تَملِك قُوَّةً، لأن صاحِبَها متى رأى غَلَبَتَهُ عليه راسَلَ الفِرنجَ واستَعانَ بهم فأَعانوهُ لِئَلَّا يَملِكَها؛ فراسَلَ نورُ الدينِ محمودٌ مُجيرَ الدينِ صاحِبَ دِمشق واستَمالَهُ، وواصَلَهُ بالهَدايا، وأَظهرَ له المَودَّةَ حتى وَثِقَ به، فلمَّا لم يَبقَ عنده من الأُمراءِ أَحَدٌ قَدَّمَ أَميرًا يُقال له: عَطَا بن حَفَّاظ السُّلَمِيُّ الخادِمُ، وكان شَهْمًا شُجاعًا، وفَوَّضَ إليه أَمْرَ دَولتِه، فكان نورُ الدينِ لا يَتمكَّن معه مِن أَخْذِ دِمشق، فقَبَضَ مُجيرُ الدينِ على عَطَا الخادمِ فقَتَلهُ، فسار نورُ الدينِ حينئذٍ إلى دِمشقَ، وكان قد كاتَبَ مَن بها من الأَحداثِ واستَمالَهُم، فوَعَدوهُ بالتَّسليمِ إليه، فلمَّا حَصَرَ نورُ الدينِ البلدَ أَرسلَ مُجيرُ الدينِ إلى الفِرنجِ يَبذُل لهم الأَموالَ وتَسليمَ قَلعةِ بعلبك إليهم ليِنجِدوه وليُرَحِّلُوا نورَ الدينِ عنه، فشَرَعوا في جَمْعِ فارِسِهِم وراجِلِهم ليُرَحِّلُوا نورَ الدينِ عن البلدِ، فإلى أن اجتَمَعَ لهم ما يُريدون تَسلَّم نورُ الدينِ البلدَ، فعادوا بخُفَّيْ حُنَينٍ، وأما كَيفِيَّةُ تَسليمِ دِمشق فإنه لمَّا حَصرَها ثارَ الأَحداثُ الذين راسَلَهم، فسَلَّموا إليه البلدَ من البابِ الشرقيِّ ومَلَكَهُ، وحَصَرَ مُجيرَ الدينِ في القَلعةِ، وراسَلَهُ في تَسليمِها وبَذَلَ له أَقطاعًا من جُملَتِه مَدينةُ حِمْصَ، فسَلَّمَها إليه وسار إلى حِمصَ، ثم إنه راسَلَ أَهلَ دِمشق ليُسلِّموا إليه، فعَلِمَ نورُ الدينِ ذلك فَخافَهُ، فأَخَذَ منه حِمصَ، وأَعطاهُ عِوَضًا عنها بالس، فلم يَرْضَهَا، وسار منها إلى العِراقِ، وأَقامَ ببغداد وابتَنَى بها دارًا بالقُربِ من النِّظامِيَّة، وتُوفِّي بها.
ملك العادل أبو بكر بن أيوب بلد الخابور ونصيبين، وحصر مدينة سنجار، والجميع من أعمال الجزيرة، وهو بيد قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود، وسببُ ذلك أن قطب الدين كان بينه وبين ابنِ عَمِّه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، صاحب الموصل، عداوةٌ مستحكمة، وكان لنور الدين وزراء يحبون أن يشتغل عنهم، فحسَّنوا له مراسلة العادل والاتفاق معه على أن يقتسما بالبلاد التي لقطب الدين، وبالولاية التي لولد سنجر شاه بن غازي بن مودود، وهي جزيرة ابن عمر وأعمالها، فيكون مُلك قطب الدين للعادل، وتكون الجزيرةُ لنور الدين، فوافق هذا القولُ هوى نور الدين، فأرسل إلى العادل في المعنى، فأجابه إلى ذلك مستبشرًا، فبادر العادلُ إلى المسير من دمشق إلى الفرات في عساكره، وقصد الخابور فأخذه، فلما سمع نور الدين بوصوله كأنَّه خاف واستشعر، هذا والعادل قد ملك الخابورَ ونصيبين، وسار إلى سنجار فحصرها، فبينما الأمرُ على ذلك إذ جاءهم أمر لم يكن لهم في حساب، وهو أن مظفر الدين كوكبري، صاحب إربل، أرسل وزيره إلى نور الدين يبذُلُ من نفسه المساعدةَ على منع العادل عن سنجار، وأنَّ الاتفاق معه على ما يريده، فوصل الرسولُ ليلًا فوقف مقابل دار نور الدين وصاح، فعبَرَ إليه سفينة عبر فيها، واجتمع بنور الدين ليلًا وأبلغه الرسالة، فأجاب نور الدين إلى ما طلب من الموافقة، وحلفَ له على ذلك، وعاد الوزيرُ من ليلته، فسار مظفر الدين، واجتمع هو ونور الدين، ونزلا بعساكِرِهما بظاهر الموصل، ولما وصل مظفر الدين إلى الموصل، واجتمع بنور الدين، أرسلا إلى الملك الظاهرِ غازي بن صلاح الدين، وهو صاحِبُ حلب، وإلى كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، بالاتِّفاق معهما، فكلاهما أجاب إلى ذلك، فتواعَدوا على الحركة وقصْد بلاد العادل إن امتنع من الصلحِ والإبقاء على صاحب سنجار، وأرسلا أيضًا إلى الخليفة الناصر لدين الله ليرسِلَ رسولًا إلى العادل في الصلح أيضًا، فقويت حينئذ نفس صاحب سنجار على الامتناع، ووصلت رسلُ الخليفة إلى العادل وهو يحاصر سنجار، فأجاب أولًا إلى الرحيل، ثم امتنع عن ذلك، وغالط، وأطال الأمر لعله يبلغ منها غرضًا، فلم ينلْ منها ما أمَّله، وأجاب إلى الصلح على أن يكون له ما أخذ وتبقى سنجار لصاحبها، واستقرَّت القاعدة على ذلك، وتحالفوا على هذا كلُّهم، وعلى أن يكونوا يدًا واحدة على الناكثِ منهم؛ ورحل العادل عن سنجار إلى حران، وعاد مظفر الدين إلى إربل، وبقي كل واحد من الملوك في بلده.
بعد أن تمَّ القضاءُ على ثورةِ الزنج، بدأ بالظهورِ دَعوةٌ جديدة كان رائِدَها حمدانُ بن الأشعث المعروف بقَرمَط، جاء من خوزستان إلى الكوفةِ واستقَرَّ بمكانٍ يُسمَّى (النهرين)، وكان يُظهِرُ الزهدَ والتقشُّفَ ويسفُ الخُوصَ ويأكُلُ مِن كَسْبِ يَدِه، ويُكثِرُ الصلاة، فأقام على ذلك مدَّةً، فكان إذا قعد إليه رجلٌ ذاكَرَه في أمر الدينِ وزَهَّدَه في الدنيا وأعلَمَه أنَّ الصلاة المفروضةَ على الناسِ خمسونَ صلاةً في كلِّ يومٍ وليلة، حتى فشا ذلك عنه بموضِعِه، ثمَّ أعلَمَهم أنَّه يدعو إلى إمامٍ مِن آل بيتِ الرَّسولِ، فلم يزَلْ على ذلك حتى استجاب له جمعٌ كثيرٌ، وكان تأثَّرَ أصلًا بالحسين الأهوازي صاحب الإسماعيليِّين، واستلمَ الزَّعامة حمدانُ بعد موت الحسين، فابتنى دارًا لأتباعِه بالكوفة، وفرَضَ على أتباعه مبلغًا يدفعونَه ويَصرِفُه هو في الدَّعوة، كما جعل من أصحابِه اثني عشر نقيبًا، واشترى السلاحَ وأخافَ النَّاسَ فلَحِقَ به بعضُهم خوفًا، وكان القرامِطةُ دُعاةً للإسماعيليَّة في البداية، ثم انحرفوا عنهم بعد أن انحرَفَت الدعوة في السلميَّة- مقر الدَّعوة الإسماعيلية- ولم تعد لأولاد محمَّد بن إسماعيل بل لأولاد عبدالله بن ميمون القدَّاح- ابن مؤسِّس الدعوة- فبدأ بالدعوة بطريقٍ آخَرَ مخالِفًا عن الإسماعيليين؛ مما ولَّد الشقاق بينهم، وأصبحت كلُّ دعوةٍ مُستقلَّةً بنَفسِها، ومن المعروفِ أن هذه الدعوةَ فيها إسقاطٌ للفروضِ مِن الصلاةِ والصَّومِ والحَجِّ وغيرها من التعاليم.
توجَّهت تجريدةٌ- جيش لا رجَّالةَ فيه- في خامس عشر شعبان إلى بلاد سيس، وسبَبُ ذلك وصول رسول القان موسى وعلي بادشاه بطلب النَّجدة على الشيخ حسن الكبير وطغاي بن سونتاي وأولاد دمرداش ليكون علي بادشاه نائب السلطنة ببغداد، فاستشار السلطانُ نائب الشام والأمراء، واستقَرَّ الرأي على تجريد العسكر نحو سيس؛ فإن تكفور نقض الهُدنةَ بقَبضِه على عِدَّة مماليك وإرسالِهم إلى مدينة إياس، فلم يُعلَمْ خَبَرُهم وقَطَع الحَملَ المقَرَّر عليه، ويكون في ذلك إجابةُ علي بادشاه إلى ما قَصَده من نزول العسكر قريبًا من الفرات، مع معرفة الشيخ حسن بأنا لم نساعِدْ علي بادشاه عليه، وإنما بعثنا العسكرَ لغزو سيس، وعَمِلَ مُقَدَّم العسكر الأمير أرقطاي ويكون في الساقة، ويتقَدَّم الجاليش صحبة الأمير طوغاي الطبَّاخ ومعهما من الأمراء قباتمر وبيدمر البدري وتمر الموساري وقطلوبغا الطويل، وجوكتمر بن بهادو وبيبغا تتر حارس الطير، ومن أمراء الشَّام قطلوبغا الفخري مُقَدَّم الجيش الشامي، وكتب بخروجِ عَسكَرِ دِمشقَ وحماة وحلب وحمص وطرابلس إلى ناحية جعبر، فإذا وصل عسكرُ مصر إلى حلب عادت عساكر الشامِ ثم مَضَوا جميعًا إلى سيس، فيكون في ذلك صِدقُ ما وعد به علي بادشاه، وبلوغ الغَرَض من غزو سيس فسار العسكرُ من القاهرة في ثاني عشر شعبان، وتوجه الأمير تنكز إلى محل ولايته.
هو أبو القاسِمِ إسماعيلُ بنُ عَبَّاد بن عباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني الوزيرُ المشهورُ بكافي الكُفاة، وزَرَ لمؤَيَّد الدولة بن رُكنِ الدولة بن بُوَيه. هو أوَّلُ مَن سُمِّيَ بالصَّاحِبِ؛ لأنَّه صَحِبَ مُؤَيَّد الدولة من الصِّبا، وسَمَّاه الصاحِبَ، فغَلَب عليه، ثمَّ سُمِّيَ به كلُّ مَن وَلِيَ الوَزارةَ بعده، وقيل: لأنَّه كان يصحَبُ أبا الفضل بن العَميدِ، فقيل له صاحِبُ ابن العميد، ثم خُفِّفَ فقيل: الصاحب. أصلُه من الطالقان، وكان نادرةَ دَهرِه وأعجوبةَ عَصرِه في الفضائِلِ والمكارم. أخذ الأدبَ عن الوزيرِ أبي الفضل بن العميدِ، وأبي الحُسَين أحمد بن فارس. وقد كان مِن العِلمِ والفضيلة والبراعةِ والكرمِ والإحسان إلى العُلَماءِ والفُقراء على جانبٍ عَظيمٍ، وكان صاحِبَ دُعابةٍ وطُرفةٍ في رُدودِه وتَعليقاتِه. لَمَّا توفِّيَ مُؤيدُ الدولة بُوَيه بجرجان في سنة 373، وَلِيَ بعده أخوه فَخرُ الدولة أبو الحسن، فأقَرَّه على الوزارة، وبالغ في تعظيمِه. قال الذهبي: "بقي في الوزارة ثمانيةَ عشَرَ عامًا، وفتح خمسينَ قلعة، وسَلَّمَها إلى فخر الدولة، لم يجتَمِعْ عشرةٌ منها لأبيه. وكان الصاحِبُ عالِمًا بفنون كثيرةٍ مِن العلم، لم يُدانِه في ذاك وزيرٌ، وكان أفضَلَ وُزَراءِ دَولةِ بني بُوَيه الديلمة، وأغزَرَهم عِلمًا، وأوسَعَهم أدبًا، وأوفَرَهم محاسِنَ". سمع الحديثَ مِن المشايخِ الجيادِ العوالي الإسنادِ، وعُقِدَ له في وقتٍ مَجلِسٌ للإملاءِ فاحتفَلَ النَّاسُ لحُضورِه، وحضره وجوهُ الأُمَراءِ، فلمَّا خرجَ إليهم لَبِسَ زِيَّ الفقهاء وأشهد على نَفسِه بالتَّوبةِ والإنابةِ ممَّا يعاينه مِن أمورِ السُّلطانِ، وذكَرَ للنَّاسِ أنَّه كان يأكُلُ مِن حين نشأ إلى يَومِه هذا من أموالِ أبيه وجَدِّه ممَّا وَرِثَه منهم، ولكِنْ كان يخالِطُ السُّلطانَ، وهو تائِبٌ ممَّا يُمارِسونَه، واتخذَ بناءً في داره سمَّاه بيت التوبة، ووضَعَ العُلَماءُ خطوطهم بصِحَّة تَوبتِه، وحين حدَّث استملى عليه جماعةٌ لكثرةِ مَجلسِه، توفي بالري وله نحوُ ستين سنة، ونُقِلَ إلى أصبهان، وله كتابُ المحيط في اللغة. قال عنه الذهبي: "كان شيعيًّا جَلدًا كآلِ بُوَيه، وما أظنُّه يَسُبُّ، لكِنَّه معتزليٌّ، قيل: إنَّه نال مِن البُخاريِّ، وقال: هو حَشْويٌّ لا يُعَوَّلُ عليه" .
الإمامُ، الحافظُ، المُجَوِّدُ، المُقرِئُ، الحاذِقُ، عَالِمُ الأندلُس، أبو عَمرٍو عُثمانُ بن سَعيدِ بن عُثمان الدَّاني، المعروف بابنِ الصَّيْرَفِيِّ، وبأبي عَمرٍو الدَّاني، مالِكي المَذهَب، وُلِدَ سنة 371هـ بدأ بِطَلَبِ العِلمِ في قُرطبة سَنةَ 386هـ, ثم رَحلَ إلى المَشرِق وسَمِعَ الحَديثَ في القَيروان ومصر، وهو أَحدُ الأَئِمَّة في عِلمِ القُرآن رِواياتِه، وقِراءاتِه، وتَفسيرِه، ومَعانِيه، وطُرُقِه، وإعرابِه، وإليه انتهى عِلمُ القِراءات وإتقانُ القُرآن، وجَمعَ في ذلك كُلِّهِ تَواليفَ حِسانًا مُفيدةً، وله مَعرِفَة بالحَديثِ وطُرُقِه، وأسماء رِجالِه ونَقَلَتِهِ، وكان حَسَنَ الخَطِّ، جَيِّدَ الضَّبطِ، مِن أهلِ الذَّكاءِ والحِفظِ، والتَّفنُّنِ في العِلمِ، دَيِّنًا فاضِلًا، وَرِعًا مُجابَ الدَّعوةِ. لم يكُن في عَصرِه ولا بَعدَ عَصرِه أحدٌ يُضاهيهِ في حِفظهِ وتَحقيقِه، وكان يقول: "ما رأيتُ شَيئًا قط إلا كَتبتُه، ولا كَتبتُه إلا وحَفِظتُه، ولا حَفِظتُه فنَسيتُه". وكان يُسألُ عن المَسأَلةِ مما يَتعلَّق بالآثارِ وكلامِ السَّلفِ، فيُورِدها بجميعِ ما فيها مُسنَدَةً من شُيوخِه إلى قائلِها. وله مُؤلَّفاتٌ تُعتَبر هي المرجِعُ في القِراءات مثل: ((التَّيسير في القِراءاتِ السَّبْعِ))، و((المقنع في رَسْمِ المصاحِف)) و((المُحكَم في نَقْطِ المصاحِف)) و((الاهتداء في الوقفِ والابتداء)) وغيرها، قال الذهبي: " كان بين أبي عَمرٍو الدَّاني، وبين أبي محمد بن حَزمٍ وَحشَةٌ ومُنافرَةٌ شَديدةٌ، أَفضَت بهما إلى التَّهاجي، وهذا مَذمومٌ مِن الأَقرانِ، مَوفورُ الوُجودِ، نَسألُ اللهَ الصَّفحَ, وأبو عَمرٍو أَقْوَمُ قِيلًا، وأَتْبَعُ للسُّنَّةِ، ولكنَّ أبا مُحمدٍ أَوسعُ دَائِرةً في العُلومِ، بَلغَت تَواليفُ أبي عَمرٍو مائةً وعِشرين كِتابًا". تُوفِّي في الأَندلُس عن 73 عامًا. ودُفِنَ ليومِه بعدَ العَصرِ بِمَقبرةٍ دانِيَةٍ، ومَشى سُلطانُ البَلدِ أمامَ نَعشِه، وشَيَّعَهُ خَلْقٌ عَظيمٌ.
لما فرغ عماد الدين زنكي من أمرِ البلاد الشامية، حلب وأعمالها، وما ملكه، وقرَّر قواعده؛ عاد إلى الموصل، وديار الجزيرة؛ ليستريح عسكره، ثم أمرهم بالتجهُّز للغَزاة، فتجهزوا وأعدُّوا واستعدوا، وعاد إلى الشام وقَصَد حلب، فقَوِيَ عَزمُه على قصد حصن الأثارب ومحاصرته؛ لشدة ضرره على المسلمين، وهذا الحصن بين حلب وبين أنطاكية، وكان مَن به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها الغربية، وكان أهل البلد معهم في ضرٍّ شديد وضيق كل يوم؛ قد أغاروا عليهم، ونهبوا أموالهم. فلما رأى زنكي هذه الحالَ صَمَّم العزمَ على حصر هذا الحصن، فسار إليه ونازله، فلما علمَ الفرنج بذلك جمعوا فارِسَهم وراجِلَهم، وعلموا أن هذه وقعة لها ما بعدها، فحشدوا وجمعوا ولم يتركوا من طاقتهم شيئًا إلا استنفدوه، فلما فرغوا من أمرهم ساروا نحوه، ثم ترك عماد الدين الحصن وتقدم إليهم، فالتقوا واصطفُّوا للقتال، وصبر كلُّ فريق لخصمه، واشتدَّ الأمر بينهم، ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المسلمين فظفروا، وانهزم الفرنج أقبحَ هزيمة، ووقع كثيرٌ من فرسانهم في الأَسْر، وقُتِل منهم خلق كثير، فلما فرغ المسلمون من ظَفَرِهم عادوا إلى الحصن فتسلَّموه عَنوةً، وقتلوا وأسروا كل من فيه، وأخربه عماد الدين، وجعله دكًّا، ثم سار منه إلى قلعة حارم، وهي بالقرب من أنطاكية، فحصرها، وهي أيضًا للفرنج، فبذل له أهلها نصف دخل بلد حارم وهادنوه، فأجابهم إلى ذلك،وعاد عنهم وقد استقوى المسلمون بتلك الأعمال؛ قال ابن الأثير تعليقًا على انتصارات زنكي في حصن الأثارب وقلعة حارم: "وضعفت قُوى الكافرين، وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب، وصار قصاراهم حِفظَ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طَمِعوا في ملك الجميع".
هو مجد الدين أبو السعادات المبارك بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجزري كانت ولادته بجزيرة ابن عمر سنة 544 ونشأ بها، ثم انتقل إلى الموصل سنة خمس وستين, ثم عاد إلى الجزيرة، ثم الموصل، وتنقل في الولايات بها واتصل بخدمة الأمير مجاهد الدين قايماز بن عبد الله الخادم الزيني، فكتب له, ثمَّ اتصل بخدمة عز الدين مسعود بن مودود صاحب الموصل، وتولى ديوان رسائله وكتب له إلى أن توفي، ثم اتصل بولده نور الدين أرسلان شاه فحَظِيَ عنده، وتوفَّرت حرمتُه لديه، وكتب له مدة, ثم عرض له مرض كفَّ يديه ورجليه فمنعه من الكتابة مطلقًا، وأقام في داره يغشاه الأكابرُ والعلماء، وأنشأ رباطًا بقرية من قرى الموصل ووقفَ أملاكَه عليه وعلى داره التي كان يسكنها بالموصل، وقيل: إنه صنف كتبه كلَّها في مدة العطلة، وكان عنده جماعة يعينونه عليها في الاختيار والكتابة. كان ابن الأثير عالِمًا في عدة علوم مبرزًا فيها، منها: الفقه، والأصولان، والنحو، والحديث، واللغة، وله تصانيف مشهورة في التفسير والحديث، والنحو، والحساب، وغريب الحديث، وله رسائل مدوَّنة، وهو صاحب جامع الأصول في الحديث، وله كتاب غريب الحديث والأثر، وغيرها من المصنفات، وهو غير صاحب الكامل في التاريخ، فهذا أخوه. قال أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل في حقه: أشهر العلماء ذِكرًا، وأكبر النبلاء قدرًا، وأحد الأفاضل المشار إليهم، وفرْد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم، أخذ النحوَ عن شيخه أبي محمد سعيد بن المبارك الدهان، وسمع الحديث متأخرًا، ولم تتقدَّم روايته. وله المصنَّفات البديعة والرسائل الوسيعة " توفي في آخر ذي الحجة.
هو العلامة أثير الدين أبو البقاء صالح بن يزيد بن صالح بن علي بن موسى بن أبي القاسم بن شريف النفزي الرندي من قبيلة نفزة البربرية أبو الطيب، شاعر أندلسي من أهل رندة من جزيرة الأندلس، ولِدَ برندة سنة 601, وهو من القضاة، وله علمٌ بالحساب والفرائض، وهو أحد الأدباء المجيدين من أهل الأندلس. أقام بمالقة شهرًا، وأكثر الترددَ إلى غرناطة يسترفد ملوكَها، قال عنه أبو عبد الله محمد المراكشي في الذيل والتكملة: "كان خاتمة أدباء الأندلس، بارع التصرف في منظوم الكلام ومنثوره، فقيهًا حافظًا فرَضيًّا متفنِّنًا في معارف جليلة، نبيل المنازع، متواضعًا مقتصدًا في أحواله، وله مقامات بديعة في أغراض شتى، وكلامه نظمًا ونثرًا مدون، وله تأليف في العَروض، وتأليف في صنعة الشعر سماه "الكافي في علم القوافي"، وأودعه جملة وافرة من نظمه" وهو الذي نظم القصيدة المشهورة في رثاء الأندلس والتي أولها:
لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ
فلا يُغَرَّ بطِيبِ العيش إنسانُ
رثى فيها الأندلس بعد انهيار دولة الموحدين في أعقاب هزيمتهم في معركة العقاب سنة 609 وانحسار المسلمين في غرناطة بعد أن استولى الفرنج على معظم مدن الأندلس الكبرى، كقرطبة وإشبيلية وبلنسية وغيرها، وعمل الفرنج على محو آثار الإسلام في هذه المدن, وكذلك عندما تنازل حاكم غرناطة الأمير محمد بن يوسف بن نصر لملك قشتالة الفونسو عن بعض المدن والحصون الإسلامية مصانعةً له, فأثارت هذه الأوضاع حميةَ أبي البقاء وغيَّرَتْه، فنظم هذه القصيدة المشهورة، والتي انتشرت في بلاد المسلمين وخاصة بلاد المغرب أرض العدوة، يرثي فيها حال المسلمين بالأندلس، ويستنجد بحكامها لإنقاذ إخوانهم في الأندلس.