بعدَ مُرورِ عامينِ أو ثلاثةِ أَعوامٍ مِنَ الحِصارِ الظَّالمِ في شِعْبِ أبي طالبٍ نُقِضتْ الصَّحيفةُ وفُكَّ الحِصارُ؛ وذلك أنَّ قُريشًا كانوا بين راضٍ بهذا الميثاقِ وكارهٍ له، فسعى في نَقْضِ الصَّحيفةِ مَنْ كان كارهًا لها, وكان القائمُ بذلك هشامُ بنُ عَمرٍو مِن بني عامرِ بنِ لُؤَيٍّ, وكان يَصِلُ بني هاشمٍ في الشِّعْبِ مُستَخفِيًا باللَّيلِ بالطَّعامِ, فإنَّه ذهب إلى زُهيرِ بنِ أبي أُمَيَّةَ المخزوميِّ -وكانت أمُّه عاتِكَةَ بنتَ عبدِ المُطَّلبِ- وقال: يا زُهيرُ، أَرَضيتَ أنْ تَأكُلَ الطَّعامَ، وتَشربَ الشَّرابَ، وأَخوالُكَ بحيث تعلمُ؟ فقال: ويحكَ، فما أصنعُ وأنا رجلٌ واحدٌ؟ أما والله لو كان معي رجلٌ آخرُ لقمتُ في نَقضِها. قال: قد وجدتَ رجلًا. قال: فمن هو؟ قال: أنا. قال له زُهيرٌ: ابْغِنا رجلًا ثالثًا. فذهب إلى المُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ، فذكَّرهُ أَرحامَ بني هاشمٍ وبني المُطَّلبِ ابنيْ عبدِ مَنافٍ، ولَامَهُ على مُوافقتِهِ لِقُريشٍ على هذا الظُّلمِ، فقال المُطْعِمُ: ويحكَ، ماذا أصنعُ؟ إنَّما أنا رجلٌ واحدٌ. قال: قد وجدتَ ثانيًا. قال: من هو؟ قال: أنا. قال: ابغِنا ثالثًا. قال: قد فعلتُ. قال: من هو؟ قال: زُهيرُ بنُ أبي أُمَيَّةَ. قال: ابغِنا رابعًا. فذهب إلى أبي البَخْتريِّ بنِ هشامٍ، فقال له نحوًا ممَّا قال للمُطْعِمِ، فقال: وهل مِن أحدٍ يُعينُ على هذا؟ قال: نعم. قال: مَن هو؟ قال زُهيرُ بنُ أبي أُمَيَّةَ، والمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ، وأنا معك. قال: ابغِنا خامسًا. فذهب إلى زَمعةَ بنِ الأسودِ بنِ المُطَّلبِ بنِ أسدٍ، فكلَّمهُ, وذكر له قرابتَهُم وحقَّهُم، فقال له: وهل على هذا الأمرِ الذي تُدعوني إليه مِن أحدٍ؟ قال: نعم. ثم سَمَّى له القومَ، فاجتمعوا عند الحَجُونِ، وتعاقدوا على القيامِ بنَقضِ الصَّحيفةِ، وقال زُهيرٌ: أنا أَبدأُكم فأكونُ أوَّلَ مَن يتكلَّمُ. فلمَّا أصبحوا غَدَوْا إلى أَنْدِيَتِهِم، وغدا زُهيرٌ عليه حُلَّةٌ، فطاف بالبيتِ سبعًا، ثمَّ أقبل على النَّاسِ، فقال: يا أهلَ مكَّة، أنأكلُ الطَّعامَ, ونَلبَسُ الثِّيابَ, وبنو هاشمٍ هَلْكى، لا يُباع ولا يُبتاعُ منهم؟ والله لا أقعدُ حتَّى تُشَقَّ هذه الصَّحيفةُ القاطعةُ الظَّالمةُ. قال أبو جهلٍ, وكان في ناحيةِ المسجدِ: كذبتَ، والله لا تُشَقُّ. فقال زَمعةُ بنُ الأسودِ: أنت والله أَكْذَبُ، ما رضينا كتابتَها حيث كُتِبتْ. قال أبو البَخْتريِّ: صدق زَمعةُ، لا نرضى ما كُتِبَ فيها، ولا نُقِرُّ به. قال المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ: صدقتُما، وكذب مَن قال غيرَ ذلك، نبرأُ إلى الله منها وممَّا كُتِبَ فيها. وقال هشامُ بنُ عَمرٍو نحوًا من ذلك. فقال أبو جهلٍ: هذا أمر قُضِيَ بليلٍ، وتُشُووِر فيه بغيرِ هذا المكانِ. وأبو طالبٍ جالسٌ في ناحيةِ المسجدِ، إنمَّا جاءهُم لأنَّ الله كان قد أَطلعَ رسولَه صلى الله عليه وسلم على أمرِ الصَّحيفةِ، وأنَّه أرسلَ عليها الأَرَضَةَ، فأكلتْ جميعَ ما فيها من جَورٍ وقَطيعةٍ وظُلمٍ إلا ذكرَ الله عزَّ وجلَّ، فأَخبر بذلك عمَّه، فخرج إلى قُريشٍ فأخبرهم أنَّ ابنَ أخيهِ قد قال كذا وكذا، فإنْ كان كاذبًا خَلَّيْنا بينكم وبينه، وإنْ كان صادقًا رجعتُم عن قطيعتِنا وظُلمِنا. قالوا: قد أنصفتَ. وبعد أنْ دار الكلامُ بين القومِ وبين أبي جهلٍ، قام المُطعمِ إلى الصَّحيفةِ لِيَشُقَّها، فوجد الأَرَضَةَ قد أكلتْها إلَّا (باسمِك اللَّهمَّ)، وما كان فيها مِن اسمِ الله فإنَّها لم تأكلْهُ. ثم نقضَ الصَّحيفةَ وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه مِنَ الشِّعبِ، وقد رأى المشركون آيةً عظيمةً مِن آياتِ نُبوَّتِه، ولكنَّهم كما أخبر الله عنهم: (وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ) أعرضوا عن هذه الآيةِ وازدادوا كُفرًا إلى كُفرهِم.
كان سببُها أنَّه لمَّا قُتِلَ أصحابُ بِئرِ مَعونةَ مِن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين، وأَفْلَتَ منهم عَمرُو بنُ أُميَّةَ الضَّمريُّ، فلمَّا كان في أَثناءِ الطَّريقِ راجعًا إلى المدينةِ قَتَلَ رجُلينِ مِن بني عامرٍ، وكان معهما عهدٌ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأَمانٌ لم يَعلَمْ به عَمرٌو، فلمَّا رجَع أَخبرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم... فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النَّضيرِ يَستَعينُهم في دِيَةِ ذَيْنِكَ الرَّجلينِ، وكانت مَنازِلُ بني النَّضيرِ ظاهِرَ المدينةِ على أَميالٍ منها شَرقِيَّها. قال محمَّدُ بنُ إسحاقَ بنِ يَسارٍ في كتابِه السِّيرة: ثمَّ خرج رسولُ الله إلى بني النَّضيرِ، يَستَعينُهم في دِيَةِ ذَيْنِكَ القَتيلَينِ مِن بني عامرٍ، اللَّذينِ قَتَلَ عَمرُو بنُ أُميَّةَ الضَّمريُّ؛ للجِوارِ الذي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عقَد لهما.... فلمَّا أتاهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَستَعينُهم في دِيَةِ ذَيْنِكَ القَتيلينِ قالوا: نعم، يا أبا القاسمِ، نُعينُك على ما أَحببتَ، ممَّا اسْتعَنتَ بِنا عليه. ثمَّ خلا بعضُهم ببعضٍ فقالوا: إنَّكم لن تَجِدوا الرَّجلَ على مِثلِ حالِه هذه -ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى جَنبِ جِدارٍ مِن بُيوتِهم- فَمَن رجلٌ يَعلو على هذا البيتِ، فيُلقي عليه صَخرةً، فيُريحُنا منه؟ فانْتدَب لذلك عَمرُو بنُ جَحَّاشِ بنِ كعبٍ أحدُهم، فقال: أنا لذلك. فصعَدَ ليُلقِيَ عليه صَخرةً كما قال، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في نَفَرٍ مِن أصحابِه، فيهم أبو بكرٍ وعُمَرُ وعليٌّ رضي الله عنهم. فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ مِن السَّماءِ بما أراد القومُ، فقام وخرج راجعًا إلى المدينةِ، فلمَّا اسْتَلْبَثَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أصحابُه قاموا في طَلبِه فلَقوا رجلًا مُقبِلًا مِنَ المدينةِ، فسألوهُ عنه، فقال: رأيتُه داخلًا المدينةَ. فأقبل أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتَّى انتهوا إليه، فأخبرَهُم الخبرَ بما كانت يَهودُ أرادت مِنَ الغَدْرِ به، وأمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتَّهَيُّؤِ لِحربِهم والمَسيرِ إليهم. ثمَّ سار حتَّى نزل بهم فتَحصَّنوا منه في الحُصون، فأمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقطعِ النَّخلِ والتَّحريقِ فيها. فنادوهُ: أن يا محمَّدُ، قد كنتَ تَنهى عن الفسادِ وتَعيبُه على مَن صنَعه، فما بالُ قطعِ النَّخلِ وتَحريقِها؟! وقد كان رَهْطٌ مِن بني عَوفِ بنِ الخَزرجِ، منهم عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ بن ابنُ سَلولَ، ووَديعَةُ، ومالكُ بنُ أبي قَوْقَلٍ، وسُوَيدٌ، وداعِسٌ، قد بعثوا إلى بني النَّضيرِ: أنِ اثْبُتوا وتَمَنَّعوا فإنَّا لن نُسْلِمَكُم، إن قوتِلْتُم قاتلنا معكم، وإن أُخرِجتُم خَرَجنا معكم فتَرَبَّصوا ذلك مِن نَصرِهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرُّعبَ، فسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُجْلِيَهم ويَكُفَّ عن دِمائهِم، على أنَّ لهم ما حمَلتِ الإبلُ مِن أموالهِم، إلَّا الحَلَقَةَ، ففعَل، فاحتملوا مِن أموالهم ما اسْتقلَّتْ به الإبلُ، فكان الرَّجلُ منهم يَهدِم بيتَه عن نِجافِ بابِه، فيضَعُه على ظهرِ بَعيرهِ فينطلِقُ به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم مَن سار إلى الشَّامِ، وخَلَّوْا الأموالَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فكانت لِرسولِ الله خاصَّةً)، وقد ثبَت في البُخاريِّ أنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قد أَجلى بني النَّضيرِ. وفيهم نزلت سورةُ الحَشْرِ.
دخل يعقوبُ بن الليث نيسابور، وكان سببَ مَسيرِه إليها أنَّ عبد الله السجزي كان ينازع يعقوب بسجستان، فلما قويَ عليه يعقوبُ هرب منه إلى محمد بن طاهر، فأرسل يعقوبُ يطلب من ابن طاهرٍ أن يسَلِّمَه إليه فلم يفعَلْ، وقيل: كان سببَ مِلك يعقوب نيسابورَ ما بلَغَه من ضَعفِ محمد بن طاهر أميرِ خراسان، فلما تحقَّقَ يعقوبُ ذلك، وأنَّه لا يقدِرُ على الدَّفعِ، وكان بعضُ خاصة محمد بن طاهر، وبعضُ أهلِه لَمَّا رأوا إدبارَ أمرِه، مالوا إلى يعقوبَ فكاتبوه، واستدعَوه وهَوَّنوا على محمد أمرَ يعقوب من نيسابور، فسار نحوَه إلى نيسابور، فلما قرُبَ منها وأراد دخولها، وجَّه محمد بن طاهر يستأذِنُه في تلقِّيه فلم يأذَنْ له، فبعث بعُمومتِه وأهلِ بيته فتلقَّوه, ثم دخل يعقوبُ نيسابور، فركب محمد بن طاهر فدخل إليه في مضربه، فسأله ثم وبَّخَه على تفريطِه في عمَلِه، وقبض على محمد بن طاهر، وأهلِ بيته، وكانوا نحوًا مِن مائة وستين رجلًا، وحملهم إلى سجستان واستولى على خراسان، ورتَّبَ فيها نُوَّابه, ثم أرسل إلى الخليفةِ يذكرُ تفريطَ محمد بن طاهر في عمَلِه، وأنَّ أهلَ خراسان سألوه المسيرَ إليهم، ويذكُر غلبة العَلويِّين على طبرستان، وبالغ في هذا المعنى، فأنكر عليه الخليفةُ ذلك، وأمَرَه بالاقتصارِ على ما أُسنِدَ إليه.
هي أُمُّ المؤمنين زينبُ بنتُ جَحْشِ بن رِيابِ بن يَعْمُر، أُمُّها أُمَيْمةُ بنتُ عبدِ المُطَّلِب عَمَّةُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، مِن المُهاجِرات، كانت تحت زيدِ بن حارِثَةَ، ثمَّ طَلَّقَها فزَوَّجَها اللهُ تعالى نَبِيَّهُ، وفيها نزَلَت الآياتُ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]. كانت كَثيرةُ الخيرِ والصَّدقَةِ، كانت صَناعَ اليَدِ، تَعمَلُ بِيَدِها، وتَتَصَدَّقُ به في سَبيلِ الله، ولمَّا دَخلَت على رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان اسمُها بَرَّة فسَمَّاها زَيْنَب، ومن وَرَعِها مَوقِفُها مِن عائشةَ في حادِثَةِ الإفْكِ، قالت عائشةُ: سألَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم زينبَ بنتَ جَحْشٍ عن أَمْرِي ما عَلِمْتِ أو ما رَأَيْتِ؟ قالت: يا رسولَ الله أَحْمِي سَمْعِي وبَصَرِي، والله ما عَلِمْتُ إلَّا خيرًا. قالت عائشةُ: وهي التي كانت تُسامِيني مِن أَزواجِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فعَصَمَها الله بالوَرَعِ. وكانت أوَّلَ نِساءِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لُحوقًا به، كما أخْبَر رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وصلَّى عليها عُمَرُ بن الخطَّاب، ودخَل قَبْرَها أُسامةُ بن زيدٍ، ومحمَّدُ بن عبدِ الله بن جَحْشٍ، وعبدُ الله بن أبي أَحْمَدَ بن جَحْشٍ، ودُفِنَتْ في البَقيعِ رضِي الله عنها وأرضاها.
هو الشَّيخُ العالمُ المعَمَّر، مُسنِدُ الديار المصرية، أمين الدين: أبو القاسم سيد الأهل هبة الله بن علي بن سعود بن ثابت بن هاشم بن غالب الأنصاري، الخزرجي، المنستيري الأصل، المصري المولِد والدار، المعروف بالبوصيري، الكاتب الأديب. كانت ولادته سنة 506 بمصر، وقيل: بل ولد يوم الخميس خامس ذي القعدة سنة 500, وله سماعاتٌ عاليةٌ وروايات تفَرَّد بها وألحَقَ الأصاغِرَ بالأكابرِ في علُوِّ الإسناد، ولم يكنْ في آخر عصره في درجتِه مِثلُه، وعاش اثنتين وتسعين سنة. وكان مُسنِدَ دِيارِ مِصرَ في وقتِه، سمع مع السِّلَفي، وبقراءته من أبي صادق المديني، وأبي عبد الله محمد بن بركات السعيدي، وأبي الحسن علي بن الحسين الفراء، وسلطان بن إبراهيم، والخفرة بنت مبشر بن فاتك، وغيرهم. وانفرد بالسَّماع منهم. وأجاز له أبو الحسن الفرَّاء، وابن الخطَّاب الرازي، وقد سمع منهما، وسمع من أبي طاهر السِّلَفي, وحدَّث بمصر والإسكندرية، ورحل إليه المحدِّثون، وقُصد من البلاد. فسمع عليه النَّاسُ وأكثروا، وكان جده مسعود قَدِمَ من المنستير إلى بوصير، فأقام بها إلى أن عُرِفَ فَضلُه في دولةِ المصريِّينَ، فطُلِبَ إلى مصر، وكُتِبَ في ديوان الإنشاء، ووُلِدَ له علي والد أبي القاسم بمصر، واستقَرُّوا بها وشُهِروا. وكان أبو القاسمِ يسمى سيدَ الأهل أيضًا، لكِنَّ هبة الله أشهر، وتوفِّيَ في الليلة الثانية من صفر سنة 598، ودُفِنَ بسَفحِ المقطم. وهذا البوصيري غيرُ البوصيري صاحب البردة المتوفى سنة 697.
هو الإمام العلامة شيخ الإسلام مجتهد العصر نادرة الوقت فقيه الدنيا وخاتمة المجتهدين: سراج الدين أبو حفص عمر بن رسلان بن نصير بن صالح -وصالح أول من سكن بلقينة- بن شهاب بن عبد الخالق بن عبد الحق بن مسافر بن محمد الكناني البلقيني الشافعي، وُلِد في ليلة الجمعة ثاني عشر شعبان 724 ببلقينة، وهي قرية في المحلة الكبرى بطنطا. حفظ القرآن وهو في السابعة من عمره. حفظ المحرر في الفقه، والكافية لابن مالك في النحو، ومختصر ابن الحاجب في الأصول، والشاطبية في القراءات. أقدمه أبوه إلى القاهرة وله اثنتا عشرة سنة، وأجاز له من دمشق الحافظ أبو الحجاج المزِّي، والحافظ الذهبي، وطلب العلم واشتغل على علماء عصره، وتفقَّه بجماعة كثيرة، وبرع في الفقه وأصوله، والعربية والتفسير، وغير ذلك، وأفتى ودرس سنين، وانفرد في أواخر عمره برئاسة مذهبه، وولي إفتاء دار العدل، ودرس بزاوية الشافعي المعروفة بالخشابية من جامع عمرو بن العاص، وولي قضاء دمشق عوضًا عن تاج الدين عبد الوهاب السُّبكي، فباشر مدة يسيرة، ثم تركه وعاد إلى مصر واستمرَّ بمصر يقرئ ويشتغل ويفتي بقية عمره، له مصنفات؛ منها: تصحيح المنهاج، ومحاسن الاصطلاح، وترجمان شعب الإيمان، وغيرها. توفي في يوم الجمعة عاشر ذي القعدة، وصُلي عليه بجامع الحاكم، ثم دُفِن بمدرسته التي أنشأها تجاه داره بحارة بهاء الدين قراقوش من القاهرة.
ثار أبو عصامٍ ومَن وافقه على إبراهيمَ بن الأغلب، أميرِ إفريقيَّة، فحاربهم إبراهيمُ، فظَفِرَ بهم. واستعمل ابنُ الأغلب ابنَه عبدالله على طرابلس الغرب، فلما قدِمَ إليها ثار عليه الجُندُ، فحصروه في داره، ثم اصطَلَحوا على أن يخرُجَ عنهم، فخرج عنهم، فلم يُبعِد عن البلد حتى اجتمع إليه كثيرٌ من الناس، ووضَعَ العطاء، فأتاه البربرُ من كل ناحية، فاجتمع له عددٌ كثير، فزحف بهم إلى طرابلس، فخرج إليه الجُند، فاقتتلوا فانهزمَ جُند طرابلس، ودخل عبد الله المدينةَ، وأمَّنَ الناسَ وأقام بها؛ ثمَّ عزله أبوه، واستعمل بعده سُفيانَ بن المضاء، فثارت هوارة بطرابلُس، فخرج الجندُ إليهم، والتَقَوا واقتتلوا، فهُزِمَ الجند إلى المدينة، فتَبِعَهم هوارة، فخرج الجندُ هاربين إلى الأميرِ إبراهيم ابن الأغلب، ودخلوا المدينةَ فهَدَموا أسوارها. وبلغ ذلك إبراهيمَ ابن الأغلب، فسيَّرَ إليها ابنَه أبا العباس عبد الله في ثلاثة عشر ألف فارس، فاقتتل هو والبربر، فانهزم البربرُ، وقُتِل كثيرٌ منهم، ودخل طرابلس وبنى سورها. وبلغ خبَرُ هزيمة البربر إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، وجمع البربرَ وحَرَّضَهم، وأقبل بهم إلى طرابلس، وهم جمعٌ عظيم، غضبًا للبربر ونصرةً لهم، فنزلوا على طرابلس، وحصروها. فسدَّ أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بابَ زناتة، ولم يزل كذلك إلى أن توفِّي أبوه إبراهيم بن الأغلب، وعَهِدَ بالإمارة لولده عبد الله، فأخذ أخوه زيادةُ الله بن إبراهيم له العهودَ على الجند، وسيَّرَ الكتاب إلى أخيه عبد الله، يخبِرُه بموت أبيه، وبالإمارة له، فأخذ البربرُ الرسولَ والكتابَ، ودفعوه إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، فأمر بأن يناديَ عبد الله بن إبراهيم بموت أبيه، فصالَحَهم على أن يكونَ البلدُ والبحر لعبد الله، وما كان خارجًا عن ذلك يكونُ لعبد الوهاب، وسار عبدُ الله إلى القيروان، فلقيه الناس، وتسلَّمَ الأمرَ، وكانت أيَّامُه أيامَ سُكونٍ ودَعةٍ.
حُنينُ: وادٍ إلى جَنبِ ذي المَجازِ، قريبٌ مِنَ الطَّائفِ، وبينه وبين مكَّةَ بضعةَ عشرَ مِيلًا مِن جِهَةِ الشرائع والسيل الكبير، وقِيلَ سُمِّيَ بِحُنَيْنٍ؛ نِسبَةً إلى رَجلٍ يُدعَى: حُنينَ بنَ قابِثَةَ بنِ مَهْلائِيلَ.
وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أقامَ بمكَّةَ 19 يومًا، حتَّى جاءَتْ هَوازِنُ وثَقيفٌ فنزلوا بحُنينٍ يُريدون قِتالَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد جمَعوا قبلَ ذلك حين سَمِعوا بمَخرجِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ المدينةِ، وهُم يَظنُّون أنَّه إنَّما يُريدُهم، فلمَّا أَتاهُم أنَّه قد نزَل مكَّةَ، أخَذوا في الاسْتِعدادِ لِمُواجهَتِه، وقد أَرادوها مَوقِعَةً حاسِمةً، فحَشدوا الأموالَ والنِّساءَ والأَبناءَ حتَّى لا يَفِرَّ أَحدُهم ويَترك أهلَهُ ومالَهُ، وكان يَقودُهم مالكُ بنُ عَوفٍ النَّضْريُّ، واسْتنفَروا معهم غَطَفانَ وغيرَها. فاسْتعَدَّ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم لِمُواجَهتِهم، فاسْتَعارَ مِن يَعْلى بنِ أُميَّةَ ثلاثين بَعيرًا وثلاثين دِرْعًا، واسْتَعارَ مِن صَفوانَ بنِ أُميَّةَ مائةَ دِرْعٍ، واسْتعمَل عَتَّابَ بنَ أَسِيدِ بنِ أبي العاصِ أَميرًا على مكَّةَ، وقد ثبَت في الصَّحيحين أنَّ الطُّلقاءَ قد خرَجوا معه إلى حُنينٍ. واسْتقبَل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بجَيشِه وادِيَ حُنينٍ في عَمايَةِ الصُّبْحِ، وانْحَدروا فيه، وعند دُخولِهم إلى الوادي حَملوا على هَوازِنَ فانْكشَفوا، فأَكَبَّ المسلمون على ما تَركوهُ مِن غَنائِمَ، وبينما هُم على هذه الحالِ اسْتقبَلَتْهُم هَوازِنُ وأَمطَرتْهُم بِوابِلٍ مِنَ السِّهامِ، ولم يكنْ المسلمون يَتوقَّعون هذا فضاقَتْ عليهم الأَرضُ بما رَحُبَتْ، فوَلَّوْا مُدْبِرين لا يَلْوِي أحدٌ على أحدٍ، وانْحازَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم ذاتَ اليَمينِ وهو يقولُ: (أين النَّاسُ؟ هَلُمُّوا إليَّ، أنا رسولُ الله، أنا رسولُ الله، أنا محمَّدُ بنُ عبدِ الله). وأمَر الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عَمَّهُ العبَّاسَ -وكان جَهْوَرِيَّ الصَّوتِ- أن يُنادِيَ النَّاسَ بالثَّباتِ، وخَصَّ منهم أصحابَ بَيعةِ الرِّضوانِ، فأَسرَعوا إليه، ثمَّ خَصَّ الأَنصارَ بالنِّداءِ، ثمَّ بني الحارثِ بنِ الخَزرجِ، فطاروا إليه قائِلِين: لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ. ودارت المَعركةُ قَويَّةً ضِدَّ هَوازِنَ، وقال الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عندما رأى المَعركةَ تَشْتَدُّ: (هذا حين حَمِيَ الوَطيسُ). ثمَّ أخَذ حَصَياتٍ -أو تُرابا- فرَمى به وُجوهِ الكُفَّارِ وهو يقولُ: (شاهَتِ الوُجوهُ). فما خلَق الله تعالى منهم إنسانًا إلَّا مَلأَ عَينَيْهِ تُرابًا بتلك القَبضةِ، فوَلَّوْا مُدْبِرين، والرَّسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: (انْهزَموا ورَبِّ محمَّدٍ)، وفي رِوايةٍ أُخرى: (انْهزَموا ورَبِّ الكَعبةِ, انْهزَموا ورَبِّ الكَعبةِ). وقد رُوِيَ: أنَّ قَتْلى بني مالكٍ مِن ثَقيفٍ لِوَحدِها قد بلَغ 70 قَتيلًا، وقُتِلَ بأَوْطاسٍ مِن بني مالكٍ 300، وقُتِلَ خُلَقٌ كَثيرٌ مِن بني نَصرِ بنِ مُعاوِيَةَ ثمَّ مِن بني رِئابٍ، ورُوِيَ: أنَّ سَبْيَ حُنينٍ قد بلَغ 6000 مِنَ النِّساءِ والأَبناءِ. بينما قُتِلَ مِنَ المسلمين أربعةٌ.
هي صَفِيَّةُ بنتُ حُيَيِّ بن أَخْطَبَ، مِن وَلَدِ هارونَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأُمُّها بَرَّةُ بنتُ سَمَوْأَل أُخْتُ رِفاعةَ، كانت تحت سَلَّامِ بنِ مِشْكَمٍ القُرَظيِّ، ثمَّ خلَف عليها كِنانةُ بن الرَّبيعِ بن أبي الحُقَيْقِ، سَباها النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن خَيبر وكانت عَروسًا، وأَعْتَقَها وتَزوَّجَها بعدَ مَرجِعِه مِن خَيبر، توفِّيت في المدينةِ ودُفِنت في البَقيعِ رضي الله عنها وأرضاها.
ذكَر مُعظمُ أهلِ المَغازي والسِّيَرِ أنَّها وقعت بعدَ بدرٍ، ورجَّحهُ ابنُ حَجَرٍ، وقد كانت يومَ السَّبتِ للنِّصفِ مِن شَوَّالٍ. وخَبرُ إجلاءِ بني قَينُقاعٍ ثابتٌ في الصَّحيحينِ، فعنِ ابنِ عُمَرَ رضِي الله عنهما قال: "حاربَتِ النَّضيرُ وقُرَيْظةُ، فأَجْلى بني النَّضيرِ، وأَقَرَّ قُرَيْظَةَ ومَن عليهم، حتَّى حاربتْ قُرَيْظَةُ، فقَتَلَ رِجالَهم، وقَسَمَ نِساءَهُم وأَولادَهُم وأَموالَهُم بين المسلمين، إلَّا بعضَهُم لَحِقوا بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فآمَنَهُم وأَسلَموا، وأَجْلى يَهودَ المدينةِ كُلَّهم: بني قَيْنُقاعٍ -وهُم رَهْطُ عبدِ الله بنِ سَلامٍ- ويَهودَ بني حارِثةَ، وكُلَّ يَهودِ المدينةِ"
خرَج زيادُ بن خِراشٍ العِجليُّ -ثائِرٌ مِن الحَروريَّة على مُعاوِيَة بن أبي سُفيان- في ثلاثمائةِ فارسٍ، فأتى أرضَ مَسْكِن مِن السَّوادِ، فسَيَّرَ إليه زيادُ بن أَبيهِ خَيلًا عليها سعدُ بن حُذيفةَ أو غيرُه، فقَتَلوهم وقد صاروا إلى ماه، ونَشَبَت مَعاركُ انتهَت بقَتلِ زيادٍ العِجليِّ. ثمَّ خرَج على زيادِ بن أَبيهِ أيضًا رجلٌ مِن طَيِّء يُقالُ له: مُعاذ، فأتى نَهْرَ عبدِ الرَّحمن ابنِ أُمِّ الحَكَمِ في ثلاثين رجلًا هذه السَنَةَ، فبعَث إليه زيادٌ مَن قتَلَه وأصحابَهُ، وقِيلَ: بل حَلَّ لِواءَهُ واسْتَأمَنَ. ويُقالُ لهم: أَصحابُ نَهْرِ عبدِ الرَّحمن.