انتهت الحربُ العالمية الأولى ووُضِعَت العراق تحت الانتداب البريطاني، فأظهر الإنجليزُ الفساد من مجاهرة لشرب الخمور، وممارسة الزنا والاختلاط والسير في الطرقات بدون حشمة، بالإضافة لنظرة الاستعلاء بزعمهم أنَّهم جاؤوا ليرفعوا مستوى السكَّان والأخذ بأيديهم نحو الاستقلالِ، ولكن العراقيين (غير اليهود والنصارى الذين صاروا يصِرُّون على أن يبقوا تحت رعاية بريطانيا) كانوا ينظرون إلى الإنجليز نظرةَ ازدراء وكراهية ورغبة في الانتقام والثورة، فحدثت في بعض المناطق هنا وهناك عملياتٌ مثل ما حدث في النجف؛ حيث قُتِلَ مارشال قائد القوات الإنجليزية، وقُتِلَ في إقليم زاخو في الشمال النقيب بعسن الذي أراد رفع النصارى فوق المسلمين، وقُتِلَ الحاكم الإنجليزي في العمادية وتكَرَّرت مثل هذه العمليات، وخاصة بين العشائر، سواء في الشمال في منطقة الأكراد، أو في الجنوب في لواء المنتفق، حتى كانت بعضُ الاحتفالات يُلقى فيها الخطب الحماسية أو بعض الأشعار الحماسية التي تُشعِلُ نار الثورة فتتحَرَّك، وبقيت هكذا تغلي نفوس العراقيين حتى اندلعت ثورةُ العشرين حين اعتُقِل الشيخ شعلان أبو الجون شيخ قبائل بني حجيم، فهاجمت القبيلة مقرَّ الحاكم وخلَّصت الشيخ شعلان منهم، وكانت هذه الحادثة الشرارةَ لاندلاع الثورة العراقية. مرت الثورة في مراحل ثلاث: أولاها: تتمثل في الأحداث التي مهَّدت للثورة، وهي الأحداث التي جرت في بغداد وكربلاء ودير الزور وتلعفر والموصل، والثانية: تتمثل في الثورة المسلَّحة التي انطلقت في الرميثة في الثلاثين من حزيران 1920 ثم عمَّت منطقة الفرات الأوسط. أما الثالثة: فتتمثل في انتشار الثورة في مناطِقِ العراق الأخرى كديالي والغراف وغيرهما. وتعَدُّ الثورة في منطقة الفرات الأوسط بمثابة العمود الفقري لثورة العشرين كلها؛ ففي هذه المنطقة حصلت الانتصاراتُ الكبرى للثورة، كما أنَّ هذه المنطقة هي التي تحمَّلت العبءَ الأكبر من التضحيات في الأنفس والأموال، وصمدت للقتال فترة طويلة نسبيًّا نحو ثلاثة أشهر، وبعد أن عمَّت الثورة منطقةَ الفرات الأوسط أقام العراقيون سلطاتٍ محلية، ثم انتقلت إلى بعقوبة وديالي وأربيل وكركوك وخانقين، وقد تمكن الإنجليز من القضاء عليها بسهولة وفي خلال وقت قصير. هاجم رجال القبائل الكوفةَ واستولوا على قرية الكفل، وقتل الثوارُ مئةً وثمانين مستعمرًا وأسَروا مئة وستين، كما استولوا على عتادٍ حربيٍّ وذخيرة، وأغرقوا الباخرةَ فلاي في شطِّ الكوفة، كما سيطر رجالُ القبائل على المسيب وكربلاء والنجف وسدة الهندية، والجديرُ بالذِّكرِ أنَّ هذه الثورة التي عمَّت أرجاء القطر العراقي شارك فيها على السواء السُّنَّة والشيعة. أخذت النجدات الإنجليزية تصِلُ إلى العراق حتى وصل من القوات الغازية 133 ألف مقاتل، وبدأت تستعيد المدن شيئًا فشيئًا حتى أنهوا تلك الثورةَ، وبعد ثلاثة أشهر أعلِنَ العفوُ العامُّ.
كانت إيطاليا تطمَحُ بالسيطرة على طرابلس، وخاصةً بعد أن احتلَّت فرنسا تونس عام 1299هـ وبدأت إيطاليا تعقِدُ الاتفاقات السياسية مع الدول الأوربية الأخرى، مثل إسبانيا وفرنسا وإنجلترا والنمسا، ثم انصرفت إلى تهيئة الوضعِ داخِلَ ليبيا، فعَمِلَت على شراء الأراضي وإنشاء المشروعات الزراعية، وإرسال البعثات النصرانية الكاثوليكية، وفتح المدارس الإيطالية، وتأسيس شركات النقل بين البلدين، ومسْح السواحل بحجَّة البحث عن الإسفنج البحري، وفي عام 1238هـ قدمت إيطاليا إنذارًا للدولة العثمانية اتهمتها بعرقلة المساعي لتحضير الشعب الليبي، ولا تريد إضاعة الوقت بالمفاوضات،وإنما قررت احتلالَ ذلك الجزء من شمالي إفريقيا، واحتَجَّ الباب العالي لدى الدول الأوربية التي كانت على علمٍ مُسبق ومدبَّر بالموضوع، وأعلنت الدولةُ العثمانية رفضَ الإنذار غيرَ أن إيطاليا حاصرت سواحل طرابلس وبرقة؛ كي لا يصِلَ إليها أي مساعدة من تركيا، وكذا حاصرت إنجلترا الحدود البرية من جهة مصر رغم تظاهرها بالحياد، وبدأ الأسطول الإيطالي في السابع من شوال 1329هـ / 30 أيلول 1911م بقصف مدينة درنة، وفي اليوم التالي قُصِفَت طرابلس وتمَّ إنزال القوات التي احتلت طرابلس وبنغازي والخمس، ولم ينقَضِ الشهر حتى احتل الطليان طرابلس وبنغازي ودرنة، وعرفت البلاد باسم ليبيا، وأعلنت روما ضمَّ هذا الجزء من شمالي إفريقيا إليها، وبدأت المقاومة تشتد حتى ألجأت المستعمرين إلى الساحلِ، وتقدَّم العثمانيون بقيادة عزيز المصري، والمتطوِّعون بقيادة أنور باشا وأخيه نوري وعمه خليل، والسكان ومنهم السنوسيون، ووصلوا إلى طرابلس وانتصروا على الطليان في بنغازي، وهدَّدت إيطاليا باحتلال استانبول، فأرسلت بارجتين حربيتين إليها، واحتَلَّت بعض الجزر وضربت ميناءَ بيروت واضطرت الدولة إلى عقدِ معاهدة مع إيطاليا وانسحبت من ليبيا وتركت المجاهدين وحدَهم بالميدان، وحدثت معاهدةُ السلم عام 1329هـ ولم تعترف الدولة العثمانية بالاحتلال الإيطالي، وإنما تعهدت بسحب موظفيها وجنودها، وصدر قرار سلطاني بإعطاء ليبيا الاستقلال الذاتي، وتعهدت إيطاليا بإعطاء الحرية الدينية والعفو العام وقَبول ممثل عثماني، ولم تنفذ إيطاليا أيَّ بند من بنود الاتفاقية!!
هو أبو الحسَنِ عليُّ بن الخليفة الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بأمر الله، وهو الأصغر، وكان يلقَّب الملك المعظم، وكان أحبَّ ولدي الخليفة إليه، وقد رشَّحه لولاية العهد بعده، وعزَلَ ولده الأكبر عن ولاية العهدِ؛ لأجل أبي الحسن علي, وكان كريمًا كثير الصدقة والمعروف، حَسَن السيرة، محبوبًا إلى الخاص والعام، وكان سببُ موتِه أنَّه أصابه إسهالٌ فتوفِّيَ، وحَزِنَ عليه الخليفةُ حُزنًا لم يُسمَعْ بمثله، حتى إنه انقطع، ثم أُخرجَ نهارًا، ومشى جميعُ الناس بين يدي تابوتِه إلى تربة جدَّتِه عند قبر معروف الكرخي، فدُفِنَ عندها، ولما أُدخِل التابوت أُغلِقَت الأبواب، وسُمِعَ الصراخ العظيم من داخل التربة، فقيل إن ذلك صوتُ الخليفة, وأمَّا العامة ببغداد فإنَّهم وجدوا عليه وجدًا شديدًا، ودامت المناحات عليه في أقطار بغداد ليلًا ونهارًا، ولم تبق امرأةٌ إلَّا وأظهرت الحزن، وما سُمِعَ ببغداد مثل ذلك في قديمِ الزمانِ وحديثه. وتَرَك أبو الحسن ولدينِ أحدهما المؤيَّد أبو عبد الله الحسين، والموفَّق أبو الفضل يحيى.
طلب اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني بمصرَ مِن الضابط تشارلز جورج غوردون الإشرافَ على إخلاء السودان من القواتِ المصرية تمهيدًا لاحتلالها، ولكن غوردون رفض ذلك الطلبَ وأعلن أنَّ القواتِ الإنجليزيةَ والمصريةَ المشتركة بالخرطوم سوف تتحَرَّكُ للقضاء على الثورة المهدية، وكان ذلك منه غطرسةً وتكبُّرًا دفع ثمنَهما حياتَه؛ تحرَّكت قواتُ المهدي باتجاه الخرطوم أواخِرَ سنة 1301هـ 1884م، وأرسل المهديُّ مندوبًا من عنده يطلُبُ من غوردون تسليمَ الخرطوم، فرفض وأبى واستكبر بشدة، فضرب المهديون حصارًا شديدًا على المدينة، وعندها تحرَّكت الحكومة الإنجليزية برئاسةِ جلادستون وأرسلت قواتٍ لنجدة الحاميةِ المصرية في السودانِ، وذلك في أوائل سنة 1302هـ 1885م، وعندها قرَّر المهديون اقتحامَ المدينة فاقتحموها في 12 ربيع الآخر سنة 1302هـ، وكان رأسُ غوردون هو أوَّلَ رأسٍ قُطِعَ في هذه المعركة التي أصبحت بعدها السودان كلُّها خاضعةً للحركة المهدية، وكان لسقوطِ الخرطوم ومقتَل غوردون صدًى عظيمًا في إنجلترا، ولكِنَّ ثمار الحركة لم تكتَمِلْ؛ إذ مات زعيمُها بعد ذلك بقليلٍ.
لمَّا افْتَتَح سعدُ بن أبي وَقَّاص المدائنَ بَلغَه أنَّ أهلَ المَوْصِل قد اجْتَمعوا بِتَكْريت على رَجُلٍ يُقال له: الأنطاق, فكتَب إلى عُمَر بن الخطَّاب بأَمْرِ جَلُولاء، واجْتِماع الفُرْسِ بها, وبأَمْرِ أهلِ المَوْصِل, فكتَب عُمَر في قَضِيَّةِ أهلِ المَوْصِل أن يُعَيِّنَ جيشًا لِحَرْبِهم, ويُؤَمِّرَ عليه عبدَ الله بن المُعْتَمِّ, ففَصَلَ عبدُ الله بن المُعْتَمِّ في خمسةِ آلافٍ مِن المدائنِ, فسار في أربعٍ حتَّى نزَل بِتَكْريت على الأنطاقِ، وقد اجْتَمع إليه جماعةٌ مِن الرُّومِ, ومِن نَصارى العَربِ, مِن إيادٍ, وتَغْلِبَ, والنَّمِرِ, وقد أَحْدَقوا بِتَكْريت, فحاصَرهُم عبدُ الله بن المُعْتَمِّ أربعين يومًا, وزاحَفوهُ في هذه المُدَّةِ أربعةً وعشرين مَرَّةً, ما مِن مَرَّةٍ إلَّا ويَنْتَصِرُ عليهم, وراسَل عبدُ الله بن المُعْتَمِّ مَن هنالك مِن الأَعرابِ, فدَعاهُم إلى الدُّخولِ معه في النُّصْرَةِ, وفَلَّ جُموعَهم, فضَعُفَ جانِبُهُم, وعزَمَت الرُّومُ على الذِّهابِ في السُّفُنِ بأَموالِهم إلى أهلِ البلدِ, فجاءت القُصَّادُ إليه عنهم بالإجابةِ إلى ذلك, فأرسَل إليهم: إن كنتم صادِقين فيما قُلتُم فاشْهَدوا أنَّ لا إلهَ إلَّا الله، وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله, وأَقِرُّوا بما جاء مِن عند الله. فرجعت القُصَّادُ إليه بأَنَّهم قد أسلموا, فبعَث إليهم: إن كنتم صادِقين، فإذا كَبَّرْنا وحَمَلْنا على البلدِ اللَّيلةَ فأَمْسِكوا علينا أبوابَ السُّفُنِ, وامْنَعوهُم أن يَركَبوا فيها, واقْتُلوا منهم مَن قَدَرْتُم على قَتلِه, ثمَّ شَدَّ عبدُ الله وأصحابُه, وكَبَّروا تَكبيرةَ رَجُلٍ واحدٍ, وحَمَلوا على البلدِ, فكَبَّرت الأعرابُ مِن النَّاحيةِ الأُخرى, فَحَارَ أهلُ البلدِ, وأخذوا في الخُروجِ مِن الأبوابِ التي تَلِي دِجْلَة, فتَلَقَّتْهُم إيادٌ والنَّمِرُ وتَغْلِبُ, فقَتَلوهُم قتلًا ذَريعًا, وجاء عبدُ الله بن المُعْتَمِّ بأصحابِه مِن الأبوابِ الأُخَرِ, فقتَل جميعَ أهلِ البلدِ عن بَكْرَةِ أَبيهِم ولم يُسْلِم إلَّا مَن أَسلَم مِن الأعرابِ مِن إيادٍ وتَغْلِبَ والنَّمِرِ, وقد كان عُمَرُ عَهِدَ في كِتابِه إذا نُصِروا على تَكْريت أن يَبعَثوا رِبْعِيَّ بن الأفْكَلِ إلى الحِصْنَيْنِ، وهي المَوْصِل سريعًا, فسار إليها كما أَمَرَ عُمَرُ، ومعه سَرِيَّةٌ كثيرةٌ وجماعةٌ مِن الأبطالِ, فسار إليها حتَّى فاجَأَها قبلَ وُصولِ الأخبارِ إليها, فأجابوا إلى الصُّلْحِ, فضُرِبَت عليهم الذِّمَّةُ عن يَدٍ وهُم صاغِرون, ثمَّ قُسِّمَت الأموالُ التي تَحَصَّلت مِن تَكْريت, فبلَغ سَهمُ الفارسِ ثلاثةَ آلافٍ، وسَهمُ الرَّاجِل ألفَ دِرهَم، وبَعَثوا بالأخماسِ مع فُراتِ بن حَيَّانَ, وبالفَتحِ مع الحارِث بن حَسَّانَ, ووَلِيَ إِمْرَةَ حَربِ المَوْصِل رِبْعِيُّ بن الأَفْكَل ووَلِيَ الخَراجَ بها عَرْفَجَةُ بن هَرْثَمَةَ.
هو الحكَمُ بنُ هشامٍ ابنُ الداخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ابن الحَكَم الأُموي، المرواني، أبو العاصِ، أميرُ الأندلس، وابنُ أميرِها، وحفيدُ أميرها. ويلقَّب: بالمرتضَى، ويعرف: بالربضي؛ لِما فعلَ بأهلِ الربض. بويعَ بالمُلك عند موت أبيه- في صفر سنة ثمانين ومائة- وكان من جبابرةِ الملوك وفُسَّاقهم ومتَمَرِّديهم، وكان فارسًا شجاعًا فاتِكًا، ذا دهاءٍ وحَزمٍ، وعُتُوٍّ وظُلمٍ، تملَّكَ سبعًا وعشرين سنة. وكان في أوَّلِ أمْرِه على سيرةٍ حميدةٍ، تلا فيها أباه، ثم تغيَّرَ وتجاهر بالمعاصي. كان يأخذُ أولادَ النَّاسِ المِلاح، فيُخصيهم ويُمسِكُهم لنَفسِه. وله شِعرٌ جَيِّد. وكان يقرِّبُ الفُقَهاء وأهلَ العلمِ. وكَثُرت العلماء بالأندلُسِ في دولته، حتى قيل: إنَّه كان بقُرطبة أربعةُ آلاف متقَلِّس- أي: مُتزَيِّينَ بزيِّ العلماء- فلما أراد اللهُ فناءهم، عَزَّ عليهم انتهاكُ الحكَمِ بن هشام للحُرُمات، وأْتَمَروا ليخلَعوه، ثم جيَّشوا لقتاله، وجرت بالأندلسِ فِتنةٌ عظيمةٌ على الإسلام وأهله- فلا قوَّةَ إلا باللهِ- على يدِ الحَكَمِ بن هشام، قُتل فيها عشراتُ الآلافِ مِن العُلَماء والعامَّة خاصةً في وقعة الربض بقُرطبة، ثم توفِّيَ الحَكَمُ بن هشام. وهو أوَّلُ من جَنَّد بالأندلُسِ الأجنادَ المُرتَزِقة، وجمع الأسلحةَ والعُدَد، واستكثَرَ من الحشَمِ والحواشي، وارتبَطَ الخيولَ على بابه، وشابَهَ الجبابرةَ في أحوالِه، واتَّخذ المماليكَ، وجعَلَهم في المرتَزِقة، فبلغت عِدَّتُهم خمسةَ آلاف مملوك، وكانوا يُسَمَّون الخُرسَ؛ لعُجمةِ ألسنتِهم، وكانوا يوميًّا على باب قَصرِه. وكان يطَّلِعُ على الأمور بنفسه، ما قَرُب منها وبَعُد، وكان له نفَرٌ مِن ثقاتِ أصحابِه يُطالِعونَه بأحوالِ النَّاس، فيرُدُّ عنهم المظالِمَ، ويُنصِفُ المظلومَ، وهو الذي وطَّأَ لعَقِبه المُلْكَ بالأندلس، وولِيَ بعده ابنُه عبدالرحمن بن الحكَم.
كان أوَّلَ مَن أظهرَ إسلامَه سبعةٌ: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعمَّارٌ، وأمُّهُ سُميَّةُ، وصُهيبٌ، وبلالٌ، والمقدادُ، فأمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فمنعهُ الله بعمِّه أبي طالبٍ، وأمَّا أبو بكرٍ فمنعهُ بقومِه، وأما سائرهُم فأخذهُم المشركون فألبسوهُم أَدراعَ الحديدِ وصَهروهُم في الشَّمسِ، فما منهُم إلَّا مَن واتاهُم فيما أرادوا وأَوْهَمهُم بذلك إلَّا بلالًا، فإنَّه هانتْ عَليهِ نفسُه في الله عزَّ وجلَّ، وهان على قومِه فأخذوه، وأعطوه الوِلدانَ، فجعلوا يطوفون به في شِعابِ مكَّة، وهو يقولُ: أَحَدٌ، أَحَدٌ. فجعلوا في عُنقهِ حبلًا، ودفعوه إلى الصِّبيانِ يلعبون بهِ، حتَّى أثَّر في عُنقهِ، وكان بلالٌ لبعضِ بني جُمَحٍ، وكان الذي يتولَّى كِبْرَ تَعذيبهِ أُميَّةُ بنُ خَلفٍ، فكان يُخرجهُ إذا حَمِيَتِ الظَّهيرةُ، فيَطرَحهُ على ظَهرهِ في بَطحاءِ مكَّة، ثمَّ يأمرُ بالصَّخرةِ العظيمةِ فتوضعُ على صدرهِ. ثمَّ يقولُ له: لا تزالُ هكذا حتَّى تموتَ أو تكفرَ بمحمَّدٍ وتعبدَ اللَّاتَ والعُزَّي. فيقولُ وهو في هذا العذابِ والبلاءِ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وكأنَّما كان يزيدُه عذابُه وبلاؤُه إيمانًا فوق إيمانٍ، ورقَّ له أبو بكرٍ حين رآهُ يومًا في هذا الهوانِ الشَّديدِ، فاشتراهُ وأعتقهُ، وأعتقَ معه سِتًّا ممَّن كانوا يُعذَّبون على الإسلامِ.
لما فُقِدَ الملك الناصر وقتَ الظهر من يوم الأحد خامس عشرين ربيع الأول بادر الأمراء بالركوب إلى القلعة، وهم طائفتان: الطائفة التي خالفت الناصر وحاربته، ويرجع أمرُهم إلى الأمير يشبك الدوادار، والطائفة الأخرى هي التي وَفَت للناصر، وكبيرهم الأمير الكبير بيبرس ابن أخت الظاهر، وحاربت يشبك الدوادار ومن معه، فلما صار الفريقان إلى القلعة، منعهم الأمير سودون تلى المحمدي أمير أخور من صعود القلعة، وهم يضرعون إليه من بعد نصف النهار إلى بعد غروب الشمس، ثم مكَّنهم من العبور من باب السلسلة، وقد أحضروا الخليفة والقضاة الأربعة، واستدعوا الأمير عبد العزيز بن الظاهر برقوق، وقد ألبسه سعد الدين إبراهيم بن غراب الخِلعة الخليفتية، وعمَّمه، فعهد إليه الخليفة أبو عبد الله محمد المتوكل على الله بالسلطنة، ولقَّبوه الملك المنصور عز الدين، وكنَّوه بأبي العز، وذلك عند أذان عشاء الآخرة، من ليلة الاثنين سادس عشرين ربيع الأول، وقد ناهز الاحتلام، وقام سعد الدين إبراهيم بن غراب كاتب سر مصر بأعباء المملكة، يدبر الأمراء كيف شاء، والمنصور تحت كفالة أمِّه، ليس له من السلطنة سوى مجرد الاسم في الخطبة، وعلى أطراف المراسيم.
هو الأميرُ الشريف حمود بن محمد بن أحمد الحسني التهامي، ويُعرَفُ بأبي مسمار أمير من أشراف تهامة اليمن، كانت ولادته عام 1170هـ في قرية الملاحة من بلاد بني مالك بالسراة، كانت له ولأسلافه ولايةُ المخلاف السليماني من تهامة ودعوتهم لأئمة صنعاء. في سنة 1210 ثار حمود على ابن عمه علي بن حيدر، فنزل له عن إمارة عريش واستقلَّ بولاية أبي عريش وصبيا وضمد والمخلاف السليماني. واختطَّ مدينة (الزهراء) وبنى قلاعًا وأسوارًا. وكان شجاعًا كريمًا محبًّا للعمران، فيه دهاءٌ وحَزمٌ. وهو أولُ من استقَلَّ بالمخلاف السليماني عن أئمَّةِ صنعاء. وفي أيامِه استولت جيوشُ نجد على البلاد المجاورة له، فقاتلهم، فهزموه فانضوى إلى لوائِهم فدان بالدَّعوةِ السلفية، فأزال ما كان من أثَرٍ للبِدَعِ والوسائِلِ الشركية في بلادِه، وأصبح أميرًا من أمراء الإمام عبد العزيز بن محمد، ثم لابنه سعود، وقد قام بعملياتِ فتحٍ لصالح دولة الدرعية، فاستولى على اللحية والحُديدة وزَبيد وما يليها. وقد هزم الأميرُ حمود أبو مسهار قواتِ محمد علي باشا التي يقودُها سنان أغا في عسير، ثم وافاه الأجلُ بعد انتصاره بعشرة أيام عن عمر ثلاث وستين سنة، وقد دفن في قرية الملاحة مسقِطَ رأسه في الظهرة المعروفة بظهرةِ حمود نسبةً إليه، وهي واقعة على ضفاف كضامة الملاحة.
في أوائل القرن التاسع عشر ظهر إلى الوجودِ في هذه المنطقة نفوذُ روسيا القيصرية المتمَثِّل في شمال إيران وبريطانية التي يتمَثَّل وجودُها في الخليج العربي وجنوب إيران، وقد أخذت إيران في هذه الفترة في إثارة المشاكِلِ في العراق ضِدَّ الدولة العثمانية عن طريق إثارة المتمَرِّدين وتحريضِهم للثورة؛ ونظرًا لرغبةِ الأطراف المعنيَّة في وضع حدٍّ لهذه المشاكل الحدودية بين الدولتين العثمانية والإيرانية، فقد توسَّطت كلٌّ من روسيا القيصرية وبريطانيا لحَلِّ الخلافات بين الحكومتين العثمانية والإيرانية، فتَمَّ توقيعُ هذه المعاهدة عام 1847م؛ حيث ورد نَصُّ المادة الثانية من هذه المعاهدة كما يلي (تتعهد الحكومة الإيرانية أن تتركَ للحكومة العثمانية جميعَ الأراضي المنخَفِضة، أي: الأراضي الكائنة بالقسم الغربي من منطقة زهاب، وتتعهَّد الحكومة العثمانية بأن تترُكَ للحكومة الإيرانية القِسمَ الشرقي، أي: جميع الأراضي الجبلية من المنطقة المذكورة بما في ذلك وادي كرند، وتتنازل الحكومةُ الإيرانية عن كل ما لها من ادِّعاءات في مدينة السليمانية ومنطقتها، وتعهَّدت رسميًّا بألَّا تتدخَّلَ في سيادة الحكومة العثمانية على تلك المنطقة، أو تتجاوز عليها، وتعترف الحكومةُ العثمانية بصورةٍ رسمية بسيادةِ الحكومة الإيرانية التامَّة على مدينة المحمرة ومينائها وجزيرة خضر والمرسي والأراضي الواقعة على الضفة الشرقية، أي: الضفة اليسرى من شط العربِ التي تحت تصرُّف عشائر مُعتَرَف بأنَّها تابعة لإيران، وفضلًا عن ذلك فللمراكب الإيرانية حقُّ الملاحة.
كان أوَّلَ الخارِجين فَروةُ بن نَوفلٍ الأشجعيُّ، وكان ممَّن اعتزَل قِتالَ عَلِيٍّ والحسنِ وانحاز معه خمسُمائة فارسٍ مِن الخَوارِج إلى شَهْرَزُور، قائلًا: والله ما أدري على أيِّ شيءٍ نُقاتِلُ عَلِيًّا! أرى أن أَنصَرِفَ حتَّى تَتَّضِحَ لي بَصيرَتي في قِتالِه أو أُتابِعُه. فلمَّا سَلَّمَ الحسنُ الأمرَ إلى مُعاوِيَة قالوا: قد جاء الآن ما لا شَكَّ فيه، فسيروا إلى مُعاوِيَة فجاهِدوهُ. فأقبلوا وعليهم فَروةُ بن نَوفلٍ حتَّى حَلُّوا بالنُّخَيْلَةِ عند الكوفَة، فأرسل إليهم مُعاوِيَةُ جَمْعًا مِن أهلِ الشَّام فقاتَلوهُم، فانْهزَم أهلُ الشَّام، فقال مُعاوِيَةُ لأهلِ الكوفَة: والله لا أمانَ لكم عندي حتَّى تَكُفُّوهُم. فخرَج أهلُ الكوفَة فقاتَلوهُم. فقالت لهم الخَوارِج: أليس مُعاوِيَةُ عَدُوَّنا وعَدُوَّكُم؟ دَعُونا حتَّى نُقاتِلَه، فإن أَصَبْنا كُنَّا قد كَفَيْناكُم عَدُوَّكُم، وإن أَصابَنا كنتم قد كَفَيْتُمونا. فقالوا: لابُدَّ لنا مِن قِتالِكُم. فأخَذ بَنُو أَشْجَعَ صاحِبَهُم فَروةَ فحادَثوهُ ووَعَظوهُ فلم يَرْجِعْ، فأخَذوهُ قَهْرًا وأَدْخَلوهُ الكوفَةَ، فاسْتَعْمَل الخَوارِج عليهم عبدَ الله بن أبي الحَوْساءِ، رجلًا مِن طَيِّء، فقاتَلهُم أهلُ الكوفَة فقتَلوهُم, ثمَّ تَمَكَّنَ منه المُغيرةُ بن شُعبةَ والي العِراق وقتَله، وقُتِلَ عبدُ الله بن أبي الحَوْساء الطَّائيُّ الذي تَوَلَّى أمرَ الخَوارِج بعدَه، ثمَّ قُتِلَ حَوْثَرةُ بن وَداعٍ الأسديُّ الذي نَصَّبَهُ الخَوارِج أميرًا عليهم. ثمَّ خرَج أبو مَريم وهو مَوْلًى لِبَني الحارثِ بن كعبٍ، وقد أَحَبَّ أن يُشْرِكَ النِّساءَ معه في الخُروجِ؛ إذ كانت معه امرأتان: "قَطام وكُحَيْلَة" فكان يُقالُ لهم: يا أصحاب كُحَيْلَة وقَطام. تَعْيِيرًا لهم، وقد أراد بهذا أن يَسُنَّ خُروجَهُنَّ، فوَجَّهَ إليه المُغيرةُ جابرَ البَجليَّ فقاتَلهُ حتَّى قتَلهُ وانْهزَم أصحابُه. ثمَّ خرَج رجلُ يُقالُ له: أبو لَيْلى، أَسْودُ طَويلُ الجِسْم، وقبلَ أن يُعْلِنَ خُروجَه دخَل مَسجِدَ الكوفَة وأخَذ بعِضادَتَيِ البابِ، وكان في المسجدِ عِدَّةٌ مِن الأشرافِ، ثمَّ صاح بأعلى صَوتِه: لا حُكمَ إلَّا لله، فلم يَعترِضْ له أحدٌ، ثمَّ خرَج وخرَج معه ثلاثون رجلًا مِن الموالي بسَوادِ الكوفَة، فبعَث له المُغيرةُ مَعقِلَ بن قيسٍ الرِّياحيَّ فقَتلَه سنة 42هـ.
هو الخليفةُ عثمان الثاني بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان بن أرطغرل. وُلِد بإستانبول سنة 1013 ولَمَّا توفي والده أحمد الأول سنة 1026لم يرشِّحْه للخلافة لصِغرِ سِنِّه، ورشح أخاه مصطفى الأول، لكنه لم يلبث على سرير الملك إلا ثلاثة أشهر؛ حيث عزلَه في أول سنة 1027 أربابُ الغايات، وفي مقدمتهم المفتي وآغا السراي، وساعدهم الانكشارية على ذلك لتوزيع الهبات عليهم عند تولية كل ملكٍ جديدٍ، وأقاموا مكانه السلطان عثمان الثاني, وفي بداية حكمه أمر بإطلاق قنصل فرنسا وأرسل مندوبًا لملك فرنسا يعتذر عما حصل من الإهانة لسفيره, وعندما تدخَّلت بولونيا في شؤون إمارة البغدان لمساعدة جراسياني الذي عُزل بناءً على مساعي أمير ترنسلفانيا، اتخذ السلطان عثمان هذا التدخُّلَ سببًا في إشهار الحرب على مملكة بولونيا وتحقيق أمنيتِه، وهي فتح هذه المملكة وجعْلها فاصلًا بين أملاك الدولة ومملكة روسيا التي ابتدأت في الظهور، وقبل الشروع في الحرب أصدر أمرًا بتقليل اختصاصات المفتي ونزْع ما كان له من السلطةِ في تعيين وعزل الموظفين، وجعل وظيفتَه قاصرة على الإفتاء، حتى يأمن شَرَّ دسائسه التي ربما تكون سببًا في عزله، كما كانت سبب عَزلِ سلَفِه، لكن أتى الأمرُ على الضدِّ بما كان يؤمِّل, وبعد أن أتمَّ هذه التمهيدات الداخلية سيَّرَ الجيوش والكتائب لمحاربة مملكة بولونيا، فلما طالت الحربُ طلبت الانكشارية منه الكَفَّ عن الحرب, فحَنِق السلطان على الانكشارية من طلَبِهم الراحة وخلودهم إلى الكسل وإلزامه على الصلح مع بولونيا، فعزم على التخلُّص من هذه الفئة الباغية، ولأجل الاستعداد لتنفيذ هذا الأمر الخطير أمر بحشدِ جيوش جديدة في ولايات آسيا، واهتمَّ بتدريبها وتنظيمها، وشرع فعلًا في تنفيذ هدفه، وعلمت الانكشارية بذلك فهاجوا وماجوا وتذمَّروا واتفقوا على عزل السلطان، وتم لهم ذلك في 9 رجب من هذه السنة ثم قتلوه. بعد أن حكم أربع سنوات وأربعة أشهر, وأعادوا مكانه السلطان مصطفى الأول المخلوع سابقًا!
بعد أن أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية، وهي الحرب التي عُرِفت بالحرب الإيطالية - الطرابلسية. حاصر الأسطول الإيطالي مدينةَ طرابلس الغرب مدةَ ثلاثة أيام، بعدها سقطت المدينةُ بيد المستعمرين الإيطاليين. ولم تتوفر للمقاومة الشعبية القوة اللازمة لقهر الإيطاليين ورَدِّهم على أعقابهم. كما لم تكن قدرةُ الدولة العثمانية القتالية بالمستوى المطلوب، ولم تكن القوة بين الطرفين متكافئة، ورغم المقاومة العثمانية المحلية التي قادها السنوسيون إلا أن الإيطاليين تمكنوا من احتلال ليبيا عام 1911م. وأثناء الحرب -وكوسيلة ضغط على الدولة العثمانية- نقل الإيطاليون الحرب ضِدَّ مواقع عثمانية أخرى، فضرب الأسطول الإيطالي مينائَي بيروت والحديدة. واحتلوا جزيرة رودس في البحر الأبيض المتوسط، ثم احتلُّوا مجموعة جزر الدوديكانيز. وهاجمت السفنُ الإيطالية الحربية ممَرَّ الدردنيل وغير ذلك من المواقع العثمانية الأخرى. ورأت الدولةُ العثمانية أنها وقعت في حرب لا قدرةَ لها عليها. ولاحت في الأفق بوادِرُ حرب جديدة ضِدَّ الدولة العثمانية في البلقان. فاضطرت الدولةُ العثمانية إلى قبول المفاوضات مع الإيطاليين، وأمام الأزمات الداخلية والعسكرية والاقتصادية التي مرَّت بها الدولة العثمانية رأت حكومةُ مختار باشا الغازي أن تصِلَ بالمفاوضات مع إيطاليا إلى نتيجة حاسمة، فأرسلت وزيرَ الزراعة العثماني وزوَّدته بصلاحيات واسعة، وتم الاتفاق على عقد معاهدة صلح بين الدولة العثمانية والحكومة الإيطالية في 18 أكتوبر عام 1912م بعد توسُّط من قِبَل حكومة بريطانيا، وقد عُرِفَت تلك المعاهدة باسم معاهدة أوشي لوزان. وقد حوت إحدى عشرة مادة. تعهَّدت فيها الدولتان بإيقاف حالة الحرب بينهما، وسحْب القوات من جبهات القتال، فتسحب الدولة العثمانية قواتِها من طرابلس وبرقة، وتسحب إيطاليا قواتها وسفنها من الجزر العثمانية التي احتلَّتها في بحر إيجة. كما أن الدولة العثمانية سحبت جميع الموظفين الإداريين العاملين في ليبيا. وأعلن السلطان العثماني منح ليبيا استقلالًا تامًّا، أي: أن السلطان العثماني جرَّد الدولة العثمانية من كل أنواع السيادة على ليبيا. وبالمقابل أعلنت إيطاليا جَعْلَ ليبيا خاضعةً تمامًا للسيادة الإيطالية. وقد جاء توقيعُ معاهدة أوشي لوزان بعد أن احتل الفرنسيون الجزائر وتونس، واحتل البريطانيون مصر، وأصبحت الدولة العثمانية مطوَّقة في إفريقيا. وهكذا نفذ الأوروبيون اتفاقياتِهم السرية الرامية إلى تقسيم شمال إفريقيا فيما بينهم!
لَمَّا بلغ الأمير فاروق سن الرابعة عشرة طلب السير مايلز لامبسون من الملك فؤاد ضرورةَ سفر ابنه الأمير فاروق إلى بريطانيا لمواصلةِ الدراسة وأصَرَّ على ذلك بشدة رافضًا أيَّ محاولة من الملك فؤاد لتأجيل سفره حتى يبلغ سن السادسة عشرة، فتقرَّر سفرُ فاروق إلى بريطانيا ولكن دون أن يلتحِقَ بكلية إيتون، بل تم َّإلحاقه بكلية وولتش للعلوم العسكرية؛ ونظرًا لكونه لم يبلغ الثامنة عشرة -وهو أحد شروط الالتحاق بكلية وولتش- فقد تم الاتفاق على أن يكون تعليمُه خارج الكلية على يد معلِّمين من نفس الكلية، وقد رافق فاروق خلال سفرِه بعثةٌ مُرافِقةٌ له برئاسة أحمد حسنين باشا؛ ليكون رائدًا له -والذي كان له دور كبير في حياته بعد ذلك- بالإضافة إلى عزيز المصري الذي كان نائبًا لرئيس البعثة وكبيرًا للمعلمين، بالإضافة إلى عمر فتحي حارسًا للأمير وكبير الياوران فيما بعد، وكذلك الدكتور عباس الكفراوي كطبيب خاص، وصالح هاشم أستاذ اللغة العربية، بالإضافة إلى حسين باشا حسني كسكرتير خاص، والذي كان وجوده عاملًا مساعدًا للأمير على الانطلاق؛ فقد شجَّعه على الذهاب إلى المسارح والسينما ومصاحبة النساء ولعب القمار، بينما كان عزيز المصري دائم الاعتراض على كل تلك التصرفات، وكان فاروق بحُكمِ ظروف نشأته القاسية والصارمة يميل إلى حسين باشا ويتمرَّدُ على تعليمات وأوامر عزيز المصري، وفي تلك الفترة كان المرض قد اشتَدَّ على الملك فؤاد، وأصبح على فراش الموت، فاقترحت بريطانيا تشكيل مجلس وصاية مكوَّن من ثلاثة أعضاء، هم: الأمير محمد علي توفيق؛ ابن عم الأمير فاروق، وقد كان ذا ميول إنجليزية، وكان يرى دائمًا أنه أحق بعرش مصر، والثاني: هو محمد توفيق نسيم باشا، رئيس الوزراء الأسبق، وهو من رجال القصر، والثالث: هو الإمام الأكبر الشيخ المراغي، وعندما علم الأمير فاروق بشدَّةِ مرض والده ورغبته في أن يرى ابنه، طلب العودةَ إلى مصر لرؤية والده ووافقت بريطانيا بعد تردُّد على عودة فاروق إلى مصر في زيارة ليعودَ بعدها لاستكمال دراسته إلَّا أنه وقبل أن يسافر فاروق إلى مصر لرؤية والده كان والده الملك فؤاد الأول قد لقِيَ ربه في 28 أبريل 1936م. وعاد فاروق إلى مصر وقطع دراستَه ليجلس على كرسي العرش.
في الخامس من رجب حصل بين المماليك الأجلاب وبعض الأمراء مناوشات، وكان عند السلطان جماعة من خشداشيته الأمراء، والسلطان ومن عنده كالمأسورين في يد الأجلاب، ثم تفرق الأجلاب إلى الأطباق بقلعة الجبل، ولبسوا آلة الحرب وعادوا إلى القصر بقوة زائدة وأمر كبير، وتوجه بعضهم لإحضار الخليفة، وتوجه بعضهم لنهب الحريم السطاني بداخل الدور، ودخل على السلطان ثلاثة أنفار منهم وهم ملثَّمون، وأرادوا منه أن يقوم وينزل إلى المخبأة التي تحت الخرجة، فامتنع قليلًا، ثم قام معهم مخافةً من الإخراق، وأخذوه وأنزلوه إلى المخبأة من غير إخراق ولا بهدلة، وأنزلوا فرشًا ومقعدًا، ونزل معه بعض مماليكِه وبعض الأجلاب أيضًا، وأغلقوا عليه الطابقة، وأخذوا النمجة والدرقة والفوطة ودفعوهم إلى خير بك، بعد أن أطلقوا عليه اسم السلطان، وقبَّل له الأرض جماعةٌ من أعيان الأمراء، وقيل إنهم لقبوه بالملك العادل، كل ذلك بلا مبايعة ولا إجماع الكلمة على سلطنته، بل بفعل هؤلاء الأجلاب الأوباش، غير أن خير بك لما أخذ النمجة والدرقة حدثته نفسه بالسلطنة، وقام وأبعد في تدبير أمره وتحصينِ القلعة، وبينما هو في ذلك فرَّ عنه غالب أصحابه الكبار مثل خشكلدي ومغلباي وغيرهما، فعند ذلك لم يجد خير بك بدًّا من الإفراج عن الملك الظاهر تمربغا ومن معه من خشداشيته ومماليكه، فأخرجوهم ونزل خير بك على رجل الملك الظاهر تمربغا يقبِّلُها، ويبكي ويسأله العفو عنه، وقد أبدى من التضرع أنواعًا كثيرة، فقَبِل السلطان عذره، هذا وقد جلس السلطان الملك الظاهر تمربغا موضع جلوس السلطان على عادته، وأخذ النمجة والدرقة، وقد انهزم غالب الأجلاب، ونزلوا من القلعة لا يلوي أحد منهم على أحد، كل ذلك والأتابك قايتباي بمن معه من الأمراء بالرملة، فلما تم جلوس الملك الظاهر تمربغا بالقصر على عادته، أمر من كان عنده من أكابر الأمراء بالنزول إلى الأتابك قايتباي لمساعدته، ولما تم أمر الأتابك قايتباي من قتال الأجلاب وانتصر، طلع من باب السلسلة، وجلس بمقعد الإسطبل بتلك العظمة الزائدة فكلَّمه بعض الأمراء في السلطنة، وحسَّنوا له ذلك، فأخذ يمتنع امتناعًا ليس بذاك، إلى أن قام بعضهم وقبَّل الأرض له، وفعل غيره كذلك، فامتنع بعد ذلك أيضًا، فقالوا: ما بقي يفيد الامتناع، وقد قبَّلنا لك الأرض، فإمَّا تذعن وإما نسلطن غيرك، فأجاب عند ذلك، فلما تمَّ أمر الأتابك قايتباي في السلطنة، طلع الأمير يشبك بن مهدي الظاهري الكاشف بالوجه القبلي إلى الملك الظاهر تمربغا، وعرَّفه بسلطنة قايتباي، وأخذه ودخل به إلى خزانة الخرجة الصغيرة فكانت مدة سلطنته ثمانية وخمسين يومًا، وحضر الخليفة والقضاة، وبايعوا الأتابك قايتباي بالسلطنة، ولبس خلعة السلطنة السواد الخليفتي، ونودي في الحال بسلطنته بشوارع القاهرة، وتلقب بالملك الأشرف قايتباي المحمودي.