الموسوعة التاريخية

عدد النتائج ( 1185 ). زمن البحث بالثانية ( 0.013 )

العام الهجري : 656 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1258
تفاصيل الحدث:

هو الوزيرُ, المُدْبر، المُبير, وزيرُ العراق، أبو طالب مؤيد الدين محمد بن أحمد بن علي بن أبي طالب بن محمد العلقمي البغدادي،  وزير المستعصم بالله. كان عنده فضيلةٌ في الإنشاء والأدب، لكنه كان رافضيًّا شيعيًّا جَلْدًا خَبيثًا داهيةً- لَعَنه اللهُ- استوزره الخليفةُ المستعصِمُ بالله سنة 642 وكان مشؤومًا على نفسِه، وعلى أهل بغداد، ورديء الطويَّة على الإسلام وأهله،  ولم يُعصَم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزيرَ صِدقٍ ولا مرضيَّ الطريقة؛ فإنه هو الذي أعان على المسلمينَ في قضية هولاكو وجنوده في سقوط بغداد، وارتكاب مذبحة فيها- قبَّحه الله. وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصُلْ لِغَيرِه من الوزراء. ثم إنَّ ابنَ العلقمي عَمِلَ على ألَّا يُخطَب بالجوامِعِ، ولا تُصَلى الجماعة، وأن يبني مدرسةً على مذهب الشيعة، فلم يحصل له أمَلُه، وفُتِحَت الجوامع، وأُقِيمَت الجماعات. وقد رد كيدَه في نحرِه، وأذَلَّه بعد العزة القعساء، وصار ذليلًا عند التَّتارِ بعد ما كان وزيرًا للخُلَفاء! واكتسب إثمَ من قُتِلَ ببغداد من الرجال والنساء والأطفال، فالحُكمُ لله العليِّ الكبيرِ رَبِّ الأرض والسماء، وأراد الوزيرُ ابن العلقمي- قَبَّحه الله ولَعَنَه- أن يعَطِّلَ المساجد والمدارس والرُّبُطَ ببغداد، ويستَمِرَّ بالمَشاهد ومحالِّ الرفض، وأن يبني للرَّافضة مدرسةً هائلة ينشرون عِلمَهم بها وعليها، فلم يُقدِرْه الله تعالى على ذلك، بل أزال نعمتَه عنه وقَصَفَ عمره بعد شهورٍ يسيرةٍ مِن سقوط بغداد على أيدي المغولِ، فلم يمهِلْه اللهُ ولا أهمَلَه، بل أخذه أخذَ عزيزٍ مُقتَدِرٍ، في مستهلِّ جمادى الآخرةِ عن ثلاث وستين سنة، فمات جَهدًا وغَمًّا وحزنًا وندمًا، حيث كان يظنُّ أنَّ التَّتارَ ستُكرِمُه أكثَرَ مما كان مُكرَّمًا في بني العباس، فأخزاه الله فنَزَل من رتبةِ الوزارة إلى رتبةِ الخَدَمِ، وقد رأته يومًا امرأةٌ وهو يقادُ به وهو راكبٌ على بِرذَون، وكان قبل ذلك يسيرُ في موكبٍ وأبَّهةٍ، فقالت له: أهكذا كان يعامِلُك بنو العبَّاسِ؟!! فكانت هذه الكَلِمةُ سَببًا في زيادة كَمَدِه وغَمِّه، فوقعت كلمتُها في قلبه وانقطع في دارِه إلى أن مات كمدًا وغبينةً وضيقًا، وقِلَّة وذِلَّة، فلم يلبث بعدها يسيرًا حتى هلك- عامله اللهُ بما يستحِقُّ- ودفن في قبور الروافض، وقد سَمِعَ بأذنيه، ورأى بعينيه من الإهانةِ مِن التتارِ والمسلمينَ ما لا يُحَدُّ ولا يوصف. وكانت دولتُه أربع عشرة سنة.

العام الهجري : 703 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1304
تفاصيل الحدث:

هو المَلِكُ محمود غازان ويقال (قازان) بن القان أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولي بن جنكزخان المغولي ملك التتار العراقين وخراسان وفارس وأذربيجان والروم؛ ولد سنة 670. كان شابًّا عاقلًا شجاعًا مهيبًا مليحَ الشكلِ، وكان جلوسه على تخت الملك سنة 693. ذكر الذهبي إسلامَه فقال: "دخل قازان الإسلامَ بوساطة نوروز التركي وزيرِه ونائِبِه ومدبِّر مملكته وزَوجِ عَمَّتِه. أسلم في شعبان سنة694 بخراسان على يد الشيخ الكبير المحدث صدر الدين إبراهيم بن الشيخ سعد الدين بن حمويه الجويني. وذلك بقُربِ الري بعد خروجه من الحمام، وجلس مجلسًا عامًّا فتلَفَّظ بشهادة الحق وهو يبتَسِمُ ووجهه يستنير ويتهَلَّل, وكان شابًّا أشقر مليحا، له إذ ذاك بضعٌ وعشرون سنة. وضج المسلمون حوله عندما أسلم ضجَّةً عَظيمةً مِن المغول والعجم وغيرهم، ونثر على الخلق الذهب واللؤلؤ. وكان يومًا مشهودًا. وفشا الإسلامُ في جيشه بحصر نوروز؛ فإنَّه كان مسلمًا خَيِّرًا صحيح الإسلام، يحفظُ كثيرًا من القرآن والرقائق والأذكار, ثم شرع نوروز يلقِّن الملك غازان شيئًا من القرآن ويجتهد عليه. ودخل رمضان فصامه، ولولا هذا القَدرُ الذي حصل له من الإسلام وإلَّا كان قد استباح الشامَ لَمَّا غلب عليه، فلله الحمد والمنَّة" كان لقازان خبرةٌ بسياسة الأمور وتدبير الملك، وكان قد التحق في أفعالِه بجَدِّه الأكبر هولاكو، لكِنْ كانت هيبته قويَّةً ورعيتُه في زمانه آمنةً، أظهر غازان العدل، وتسمى بمحمود، ومَلَك العراقين وخراسان وفارس والجزيرة والروم، وتسمَّى بالقان، وأفرد نفسَه بالذِّكرِ في الخطبة، وضرب السكَّة، ولم يسبِقْه أحد من آبائه إلى هذا، فاقتدى به من جاء بعده، وكان من أجَلِّ ملوك بيت هولاكو، إلَّا أنه كان يبخَلُ بالنسبة إليهم, وطرد نائِبَه نوروز من بلادِه ثمَّ أمر بقَتلِه. مات بقرب همذان، ولم يتكَهَّل، ونقل إلى تبريز، ودفن بتربته، ويقال إنه مات مسمومًا، واشتهر أنَّه سُمَّ في منديل تمسَّحَ به بعد الجِماعِ، فتعلَّ ومات, ثم قام في المُلكِ بعده أخوه خدبندا محمد بن أرغون، وخُطِبَ له على منابر العراق وخراسان وتلك البلاد، وتلقَّب بغياث الدين محمد، وكتب إلى السلطان بجلوسِه، وطلبه للصُّلحِ وإخماد الفتنة، وسَيَّرَ إليه رسله.

العام الهجري : 1234 العام الميلادي : 1818
تفاصيل الحدث:

يقول ابن بشر: "كانت هذه البلدةُ -الدِّرعية- أقوى البلادِ، وقوَّةُ أهلها وكثرةُ رجالهم وأموالهم لا يحصيه التَّعداد، فلو ذهبت أعددُ أحوالهم وإقبالَهم فيها وإدبارَهم في كتايب الخيل والنجايب العمانيات، وما يدخلُ على أهلها من أحمالِ الأموالِ مِن سائر الأجناس التي لهم مع المسافرينَ منهم، ومن أهل الأقطار- لم يسَعْه كتاب، ولرأيت العجَبَ العجاب، وكان الداخِلُ في موسمها لا يفقد أحدًا من أهل الآفاقِ مِن اليمن وتهامة والحجاز وعمان، والبحرين وبادية الشام والعراق، وأناس من حاضرتهم، إلى غير ذلك من أهل الآفاقِ ممن يطول عَدُّه، هذا داخِلٌ فيها وهذا خارجٌ منها، وهذا مستوطِنٌ فيها، وكانت الدورُ لا تُباعُ فيها إلا نادرًا، وأثمانُها سبعة آلاف ريال وخمسة آلاف، والداني بألف ريال، وأقل وأكثر، وكلُّ شيء يقدره على هذا التقدير من الصغير والكبير، وكروة الدكان الواحد بلغت في الشَّهرِ الواحد خمسةً وأربعين ريالًا، وكروة الدكان الواحد من سائر الدكاكين بريالٍ في اليوم، والنازل بنصفٍ، وذُكر لي: أن القافلة من الهدم -الملابس- إذا أتت إليها بلغَت كروة الدكان في اليوم الواحد أربعة أريُل، وأراد رجلٌ منهم أن يوسِّعَ بيته ويعمره فاشترى نخلاتٍ تحت هذا البيت يريدُ قطعها ويعمر موضِعَها، كل نخلة بأربعين ريالًا أو خمسين ريالًا، فقطع النخل وعمر البيت، ولكِنَّه وقع عليه الهدم قبل تمامِه، وذَكر لي من أثقُ به أن رجلًا من أهل الدرعية قال له: إني أردت ميزابًا في بيتي فاشتريتُ خشبة طولها ثلاثة أذرع بثلاثة أريُل، وأجرة نَجْره وبِناه ريال, وكان غلاء الحطب فيها والخشب إلى حدِّ الغاية، حتى قيل: إنَّ حملَ الحطب بلغَ خمسة أريل وستة، والذراع من الخشبة الغليظة بريال، وكل غالبِ بيوتها مقاصير، وقصور كأنَّ ساكنيها لم يكونوا من أبناء ساكني القبور، فإذا وقفْتَ في مكان مرتفع ونظرت موسمها وكثرة ما فيها من الخلائق وتزايلهم فيه وإقبالهم وإدبارهم، ثم سمعتُ رنَّتَهم فيه ونجناجهم فيه، إذا كأنه دويُّ السيل القوي إذا انصَبَّ من عالي جبل، فسبحان من لا يزولُ مُلكُه ولا يُضامُ سُلطانُه ولا يُرامُ عِزُّه {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] "

العام الهجري : 1348 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1929
تفاصيل الحدث:

في عام 1907 أنشأ الحزبُ اليهوديُّ مُنظَّمةً عَسكريَّةً من اليهود الأوروبيين تسمَّى (بارجيورا) ثم تأسَّست الوكالة اليهودية عام 1923 بقرارٍ من المؤتمر الصهيوني الثالث عشر، وهي الوكالةُ التي أخذت على عاتِقِها تنشيطَ هِجرةِ اليهود من جميع أنحاء العالم إلى فلسطين بشتى الوسائل. وهي منظَّمةٌ يهودية صهيونية أقيمَت بمبادرةٍ مِن بنيامين زئيف هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول، الذي انعقد في بازل عام 1897م بصفته برلمانًا عامًّا لليهود. انعقد المؤتمَرُ مِن أجل بحثِ سُبُل تحقيق أهداف الصهيونية، كما هو منصوصٌ عليها في خطة بازل: "إقامة وطن للشعب اليهودي في أرض إسرائيل حَسَب الشريعة الدولية". وعليه اتخذ المؤتمرُ إجراءاتٍ لإنجازِ هذه الخطة: توطينُ اليهود الفلَّاحين وأصحاب المهن وأرباب الصناعة، في أرض إسرائيل. تنظيم وتوحيد الشعب اليهودي بأسْرِه عن إنشاء المؤسَّسات الملائمة، والمحلية والعامة بموجِبِ القوانين الخاصَّة بكل بلاد. تقوية العواطِفِ اليهودية القومية والاعتراف القومي اليهودي. إجراءُ النشاطات التمهيدية بهدفِ الحصول على مُوافقة الحكوماتِ التي بوُسعِها المساعدة على تحقيق هدف الصهيونية. ولدى إقامة المنظَّمة الصهيونية انخرطت فيها حوالي 260 جمعيةً من "حوففي تصيون" (أعضاء محبي صهيون) من روسيا ومن شرق أوروبا. وفي بداية طريقها عملت المنظَّمةُ الصهيونية على توطيد الاستيطان في أرض فلسطين؛ حيث أقامت هيئاتٍ بهدفِ مساعدتها على نَيلِ أهدافها. على سبيل المثال تمَّ تأسيس بنك كنز الاستيطان اليهودي عام 1899 بهدف تمويلِ فكرة هرتزل في شِراءِ امتيازٍ لتوطين اليهود في أرض إسرائيل من أيدي المملكة العثمانية. ثمَّ تمَّ اعتبار ضائقة الشعب اليهودي مشكلةً سياسية عالمية يجِبُ التعامل معها على الصعيدِ الدولي، وعمل على إنجاز الهدفين الرئيسيين: الهدف الأول: إقامة وطن للشعب اليهودي في أرض إسرائيل بموافَقةٍ مِن الدول الكبرى، عن جراء "شارتير" (وثيقة حقوق سياسية يتم الحصولُ عليها بالمفاوضات الدبلوماسية) كما تقَرَّر في خطة مؤتمر بازل. والهدف الآخر: تقوية وتطوير المنظمة الصهيونية؛ من أجل أن تتحَوَّلَ إلى هيئةٍ ذات أهمية في المفاوضات السياسية؛ إذ في يوم من الأيام سيكون بمقدورها تولِّي قيادةِ المشروع الاستيطاني. هذا ومارست المنظَّمةُ الصهيونية العالمية نشاطاتِها بصورة دبلوماسية، وخاصةً في المملكة العثمانية، وفي ألمانيا، ولكِنْ لم تؤدِّ الجهود السياسية المباشِرة التي بذلها هرتزل إلى النتائجِ المنشودة.

العام الهجري : 1353 العام الميلادي : 1934
تفاصيل الحدث:

لَمَّا بلغ الأمير فاروق سن الرابعة عشرة طلب السير مايلز لامبسون من الملك فؤاد ضرورةَ سفر ابنه الأمير فاروق إلى بريطانيا لمواصلةِ الدراسة وأصَرَّ على ذلك بشدة رافضًا أيَّ محاولة من الملك فؤاد لتأجيل سفره حتى يبلغ سن السادسة عشرة، فتقرَّر سفرُ فاروق إلى بريطانيا ولكن دون أن يلتحِقَ بكلية إيتون، بل تم َّإلحاقه بكلية وولتش للعلوم العسكرية؛ ونظرًا لكونه لم يبلغ الثامنة عشرة -وهو أحد شروط الالتحاق بكلية وولتش- فقد تم الاتفاق على أن يكون تعليمُه خارج الكلية على يد معلِّمين من نفس الكلية، وقد رافق فاروق خلال سفرِه بعثةٌ مُرافِقةٌ له برئاسة أحمد حسنين باشا؛ ليكون رائدًا له -والذي كان له دور كبير في حياته بعد ذلك- بالإضافة إلى عزيز المصري الذي كان نائبًا لرئيس البعثة وكبيرًا للمعلمين، بالإضافة إلى عمر فتحي حارسًا للأمير وكبير الياوران فيما بعد، وكذلك الدكتور عباس الكفراوي كطبيب خاص، وصالح هاشم أستاذ اللغة العربية، بالإضافة إلى حسين باشا حسني كسكرتير خاص، والذي كان وجوده عاملًا مساعدًا للأمير على الانطلاق؛ فقد شجَّعه على الذهاب إلى المسارح والسينما ومصاحبة النساء ولعب القمار، بينما كان عزيز المصري دائم الاعتراض على كل تلك التصرفات، وكان فاروق بحُكمِ ظروف نشأته القاسية والصارمة يميل إلى حسين باشا ويتمرَّدُ على تعليمات وأوامر عزيز المصري، وفي تلك الفترة كان المرض قد اشتَدَّ على الملك فؤاد، وأصبح على فراش الموت، فاقترحت بريطانيا تشكيل مجلس وصاية مكوَّن من ثلاثة أعضاء، هم: الأمير محمد علي توفيق؛ ابن عم الأمير فاروق، وقد كان ذا ميول إنجليزية، وكان يرى دائمًا أنه أحق بعرش مصر، والثاني: هو محمد توفيق نسيم باشا، رئيس الوزراء الأسبق، وهو من رجال القصر، والثالث: هو الإمام الأكبر الشيخ المراغي، وعندما علم الأمير فاروق بشدَّةِ مرض والده ورغبته في أن يرى ابنه، طلب العودةَ إلى مصر لرؤية والده ووافقت بريطانيا بعد تردُّد على عودة فاروق إلى مصر في زيارة ليعودَ بعدها لاستكمال دراسته إلَّا أنه وقبل أن يسافر فاروق إلى مصر لرؤية والده كان والده الملك فؤاد الأول قد لقِيَ ربه في 28 أبريل 1936م. وعاد فاروق إلى مصر وقطع دراستَه ليجلس على كرسي العرش.

العام الهجري : 1408 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1988
تفاصيل الحدث:

دخلتِ العراق في حربٍ مع إيران، ولكن لم تكن هي الجبهة الوحيدة التي يُقاتل عليها العراقيُّون في ذلك الوقت، فقد كانت مُشكلة الأكراد ما تزال قائمةً، ولما كانت العراق لا تستطيع أن تُقاتل على جبهتينِ معًا، لجأت إلى المباحثات مع جلال الطالباني رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردي، ووقفِ القتال، فتمَّ التفاهم معه في ربيع الأول 1404هـ / ديسمبر 1983م على إطلاقِ تسعة وأربعين سجينًا سياسيًّا، وعودةِ ثمانية آلافِ عائلةٍ كُرديَّةٍ إلى مناطقها في كُردستان، بعد أن كانوا أُجبروا على الإقامة بجنوب العراق، وشمول مِنطَقة الحكم الذاتي للأكراد على مِنطَقة كركوك الغنية بالنفط، وإعطاءِ نِسبةٍ ثابتةٍ للأكراد من النفط تتراوح بين عِشرينَ إلى ثلاثينَ بالمائة، ثم بعد فترة تغيَّر موقفُ الرئيس العراقي صدام حسين تجاه الاتحاد الوطني الكُردي، والحزب الشُّيوعي الكُردي بعد الدَّعم الدولي للعراق، فعاد لاستئناف الحِوار بشكلٍ جَدَليٍّ، وحاولتِ العراق التفاهُمَ مع تركيا للقضاء على المقاومة الكُردية، وبالتالي رفَضَ حزبُ الاتحاد الوطني الكردي العرضَ العراقيَّ بالعفو عن السياسيين، فانهارتِ المفاوضات حول الحكم الذاتي، وعاد القتال معهم ثانية بعد أن توقَّف لأكثَرَ من عام، ثم لما أخذ التهديد الإيراني يقلُّ عام 1407هـ ركَّزت العراق اهتمامها على الشمال، حيث سيطر الأكراد على عشرة آلاف كيلو مترًا مربعًا، فاتخذت الحكومةُ سياسة الأرض المحروقة، فدكَّت أكثر من ثمانمائة قريةٍ كُرديةٍ على طول الحزام الأمني مع إيران، وأجبرت أعدادًا كبيرةً على المغادرة والانتقال للجنوب، واستمرَّ هذا حتى منتصف عام 1408هـ، ثم في بداية النصف الثاني منه نجح الأكرادُ في شنِّ غاراتٍ على الأراضي التي تُسيطر عليها الحكومة، فقامت العراقُ بهجمةٍ انتقاميةٍ ضد بلدة حلبجة، وقتلت أربعة آلاف كُرديٍّ، وقد اندمجتِ التنظيماتُ الكُرديَّة مع بعضها في سبيل الوقوف المُشتَرَك في وجه الحكومة العراقية، وهم سِتَّة أحزابٍ، ثم في أواخر السَّنة بعد أن بدأت أمورُ الحرب مع إيران تنتهي خصَّص ما يقرُب من سبعين ألف جنديٍّ؛ لإنهاء المسألة الكُرديَّة، واستُعملت الأسلحة الممنوعة دوليًّا، فهرب أكثر من مائة ألف كُرديٍّ إلى إيران وتركيا، ثم في الخامس من صفر 1409هـ / 16 أيلول 1988م صدر عفوٌ عامٌّ، ودعت الحكومة العراقية الأكرادَ للعودة إلى الوطن خلال ثلاثين يومًا، ووعدت بإطلاق المعتقلين، وفعلًا رجع للبلاد ما يقرُب من ستين ألف كرديٍّ، تمَّ توزيعُهم على المناطق العراقية.

العام الهجري : 813 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1410
تفاصيل الحدث:

في شهر ذي الحجة من سنة اثنتي عشرة وثمانمائة قاتل (الأمير شيخ المحمودي)  نوروزًا ودمرداش، سبعة أشهر وحاصرهما بحماة، ووقع بينهم في هذه المدة المذكورة حروب وخطوب يطول شرحها، وقُتِل بينهم خلائق لا تُحصى، واشتد الأمر على نوروز وأصحابه بحماة، وقلَّت عندهم الأزواد وقاسوا شدائد حتى وقع الصلح بينه وبين الأمير شيخ، وذلك عندما سمعوا بخروج الملك الناصر فرج إلى البلاد الشامية، وخاف نوروز إن ظفر به الملك الناصر لا يبقيه، فاحتاج إلى الصلح، وحلف كل من نوروز والأمير شيخ لصاحبه، وأما السلطان الملك الناصر فإنه أخذ في التجهيز إلى السفر نحو البلاد الشامية، وعَظُم الاهتمام في أول محرم هذه السنة، وأما الأمير شيخ فإنه لما بلغه خروج السلطان من الديار المصرية لم يَثبُت، وداخَلَه الخوف، وخرج من دمشق في يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر ربيع الأول بعساكره ومماليكه، وتبعه الأمير جانم نائب حماة، فدخل بكتمر جلق إلى الشام من الغد في يوم السابع والعشرين -على حين غفلة- حتى يطرق الأمير شيخًا، ففاته الأمير شيخ بيوم واحد، لكنه أدرك أعقابه وأخذ منهم جماعةً، ونهب بعض أثقال الأمير شيخ، ثم دخل السلطان الملك الناصر إلى دمشق بعد عشاء الآخرة من ليلة الخميس الثامن والعشرين، وقد ركب من بحيرة طبرية في عصر يوم الأربعاء على جرائد الخيل ليكبسَ الأمير شيخًا، ففاته بيسير، وكان الأمير شيخ قد أتاه الخبر وهو جالس بدار السعادة من دمشق، فركب من وقته وترك أصحابه، ونجا بنفسه بقماش جلوسه، فما وصل إلى سطح المزة إلا وبكتمر جلق داخل دمشق؟ ومر الأمير شيخ على وجهه منفردًا عن أصحابه، ومماليكه وحواشيه في أثره، والجميع في أسوأ ما يكون من الأحوال، وسار السلطان بعساكره إلى جهة حلب حتى وصلها في قصد الأمير شيخ ونوروز بمن معهما من الأمراء، ثم كتب السلطان لنوروز والأمير شيخ يخيِّرُهما، إما الخروج من مملكته، أو الوقوف لمحاربته، أو الرجوع إلى طاعته، فأجابه الأمير شيخ بأنه ليس بخارج عن طاعته، ويعتذر عن حضوره بما خامر قلبه من شدة الخوف والهيبة عندما قبض عليه السلطان مع الأتابك يشبك الشعباني في سنة 810، وأنه قد حلف لا يحارب السلطان ما عاش، من يوم حلفه الأمير الكبير تغري بردي في نوبة صرخد، وكرَّر الاعتذار عن محاربته لبكتمر جلق، حتى قال: وإن كان السلطان ما يسمح له بنيابة الشام على عادته، فينعم عليه بنيابة أبلستين، وعلى الأمير نوروز بنيابة ملطية، وعلى يشبك بن أزدمر بنيابة عينتاب، وعلى غيرهم من الأمراء ببقية القلاع؛ فإنهم أحق من التركمان المفسدين في الأرض، فلم يرضَ السلطان بذلك، وصمَّم على الإقامة ببلاد الشام، وبينما السلطان بحلب ورد عليه الخبر بأن الأمير شيخًا ونوروزًا وصلا عينتاب، وسارا على البرية إلى جهة الشام، فركب السلطان مسرعًا من حلب على حين غفلة في الثالث والعشرين شهر رجب ببعض عساكره، وسار حتى دخل دمشق في أربعة أيام، وأما الأمير شيخ ونوروز، فإنهما لما سار السلطان عن أبلستين خرجا من قيسارية بمن معهم، وجاؤوا إلى أبلستين فمنعهم أبناء دلغادر وقاتلوهم، فانكسروا منهم وفروا إلى عينتاب، فلما قربوا من تل باشر تمزقوا، وأخذت كل طائفة جهة من الجهات، فلحق بحلب ودمشق منهم عدة وافرة، واختفى منهم جماعة، ومرَّ الأمير شيخ ونوروز بحواشيهما على البرية إلى تدمر فامتاروا منها، ومضَوا مسرعين إلى صرخد وتوجَّهوا إلى البلقاء ودخلوا بيت المقدس، ثم توجهوا إلى غزة وأقاموا بها حتى أخرج السلطان إليهم بكتمر جلق على عسكر كبير، فسار إلى زرع، ثم كتب للسلطان يطلب نجدة، فأخرج إليه السلطان من دمشق بعسكر هائل من الأمراء والمماليك السلطانية، فلما وصل بكتمر جلق بمن معه من الأمراء إلى غزة، وبلغه توجه الأمير شيخ ونوروز إلى جهة مصر، إلى أن وصلوا إلى مصر في يوم الأحد ثامن شهر رمضان ودخل معهم إلى القاهرة خلائق من الزعر، وبني وائل -من عرب الشرقية - والأمير سعيد الكاشف هو معزول، وأصبح الأمير شيخ أقام رجلًا في ولاية القاهرة فنادى بالأمان، ووعد الناس بترخيص الأسعار، وبإزالة المظالم، فمال إليه جمع من العامة، وأقاموا ذلك اليوم، وملكوا مدرسة الملك الأشرف شعبان التي كانت بالصوة تجاه الطبلخاناة السلطانية، هذا والقتال مستمر بينهم وبين أهل القلعة، ثم طلبوا من الأمراء الذين بالقلعة فتح باب القلعة لهم، قالوا: ما لنا غرض في النهب، وإنما نريد أن نأخذ ابن أستاذنا -يعنون بابن أستاذنا: الأمير فرج ابن السلطان الملك الناصر فرج- فقال كافور الزمام: وأيش أصاب السلطان حتى تأخذوا ولده؟ فقالوا: لو كان السلطان حيًّا ما كنا هاهنا -يعنون أنهم قتلوا السلطان، وساروا إلى الديار المصرية ليسلطنوا ولده- فلم يمش ذلك على كافور ولا على غيره، وطال الكلامُ بينهم في ذلك، فلم يلتفت كافور إلى كلامهم، فهددوه بإحراق الباب، فخاف وبدأ يماطلهم؛ لعلمه بمجيء العسكر المصري من الشام، وبينما كافور الزمام في مدافعتهم لاحت طلائع العسكر السلطاني لمن كان الأمير شيخ أوقفه من أصحابه يرقبهم بالمآذن بقلعة الجبل، وقد ارتفع العجاج، وأقبلوا سائقين سوقًا عظيمًا جهدهم، فلما بلغ الأمير شيخ وأصحابه ذلك لم يثبتوا ساعةً واحدةً، وركبوا من فورهم ووقفوا قريبًا من باب السلسلة، فدهمهم العسكر السلطاني فولَّوا هاربين نحو باب القرافة، والعسكر في أثرهم، فكبا بالأمير شيخ فرسُه عند سوق الخيم بالقرب من باب القرافة، فتقنطر من عليه، فلم يستطع النهوض ثانيًا؛ لعظم روعه وسرعة حركته، فأركبه بعضُ أمراء آخوريته وركب الأمير شيخ ولحق بأصحابه، فمروا على وجوههم على جرائد الخيل، وتركوا ما أخذوه من القاهرة، وأيضًا ما كان معهم، وساروا على أقبح وجه بعد أن قبض عسكر السلطان على جماعة من أصحاب الأمير شيخ، ودخل الأمير بكتمر جلق بعساكره، وأرسل الأمير سودون الحمصي فاعتقل جميع من أمسك من الشاميين، وأخذ يتتبَّعُ من بقي من الشامية بالقاهرة، ثم نادى في الوقت بالأمان، وقدم عليه الخبر في ليلة الأربعاء حادي عشر من شهر رمضان بأن الأمير شيخًا نزل إطفيح وأنهم افترقوا فرقتين؛ فرقة: رأسها الأمير نوروز الحافظي، ويشبك بن أزدمر، وسودون بقجة، وفرقة: رأسها الأمير شيخ المحمودي، وسودون تلي المحمدي، وسودون قراصقل، وكل فرقة منهما معها طائفة كبيرة من الأمراء والمماليك، وأنهم لما وصلوا إلى الشوبك دفعهم أهلها عنها، فساروا إلى جهة الكرك وبها سودون الجلب، فتضرعوا له حتى نزل إليهم من قلعة الكرك، وتلقاهم وأدخلهم مدينة الكرك، وأنهم استقروا بالكرك، واستمر السلطان بدمشق إلى يوم سابع عشر ذي القعدة، وخرج منها إلى قبة يلبغا، ورحل من الغد بأمرائه وعساكره يريد الكرك بعدما تحقق نزول الأمراء بالكرك، وأما الأمير شيخ ونوروز وجماعتهما، فإنهم أقاموا بالكرك أيامًا، واطمأنوا بها، ثم أخذوا في تحصينها، وأما السلطان الملك الناصر فإنه سار من مدينة دمشق حتى نزل على مدينة الكرك في يوم الجمعة الرابع والعشرين ذي القعدة، وأحاط بها ونصَب عليها الآلات، وجَدَّ في قتالها، وحصرها وبها الأمير شيخ ونوروز وأصحابهما، واشتدَّ الحصار عليهم بالكرك، وأخذ الملك الناصر يلازم قتالهم حتى أشرفوا على الهلاك والتسليم، ثم أخذ الأمير شيخ ونوروز والأمراء يكاتبون الأمير تغري بردي ويتضرعون إليه، وهو يتبرَّم من أمرهم والكلام في حقهم، ويوبخهم بما فعله الأمير شيخ مع بكتمر جلق بعد حَلِفِه في واقعة صرخد، فأخذ الأمير شيخ يعتذر ويحلف بالأيمان المغلظة أن بكتمر جلق كان الباغي عليه والبادئ بالشر، وأنه هو دفع عن نفسه لا غير، وأنه ما قَصْدُه في الدنيا سوى طاعة السلطان، ولا زالوا حتى تكلم تغري بردي مع السلطان في أمرهم، ثم تردَّدت الرسل بينهم وبين السلطان أيامًا حتى انعقد الصلح، على أن يكون تغري بردي نائب الشام، وأن يكون الأمير شيخ نائب حلب، وأن يكون الأمير نوروز نائب طرابلس، وكان ذلك بإرادة الأمير شيخ ونوروز، فإنهما قالا: لا نرضى أن يكون بكتمر جلق أعلى منا رتبة بأن يكون نائب الشام، ونحن أقدم منه عند السلطان، فإن كان ولا بد، فيكون الأمير الكبير تغري بردي في نيابة الشام، ونكون نحن تحت أوامره، ونسير في المهمات السلطانية تحت سنجقه، وأما بكتمر ودمرداش فلا، وإن فعل السلطان ذلك لا يقع منا بعدها مخالفة أبدًا، ولما بلغ الأمراء والعساكر هذا القول أعجبهم غاية الإعجاب، وقد ضجر القوم من الحصار، وملوا من القتال، فلا زالوا بالسلطان حتى أذعن ومال إلى تولية تغري بردي نيابة الشام، وكان السلطان قد شرط على الأمراء شروطًا كثيرة فقبلوها، على أن يكون تغري بردي نائب دمشق.

العام الهجري : 721 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1321
تفاصيل الحدث:

كان عَقيبَ هَدمِ الكنائِسِ وقوعُ الحريق بالقاهرة ومصر، فابتدأ يومَ السبت خامس عشر جمادى الأولى، وتواتَرَ إلى آخره، بدأ الحريقُ في رَبعٍ من أوقاف المارستان المنصوري، واشتد الأمرُ، والأمراءُ تُطفِئُه إلى عصر يوم الأحد، فوقع الصوتُ قبل المغرب بالحريقِ في حارة الديلم بزُقاق العريسة، قريب من دار كريم الدين الكبير، ودخل الليلُ واشتد هبوب الرياح، فسَرَت النار في عِدَّة أماكن، وبعث كريمُ الدين بولده علم الدين عبد الله إلى السلطان يُعَرِّفُه، فبعث عِدَّةً من الأمراء والمماليك لإطفائِه خوفًا على الحواصِلِ السلطانية ثم تفاقم الأمرُ، واحتاج أقسنقر شاد العمائر إلى جمع سائرِ السائقينَ والأمراء، ونزلت الحُجَّاب وغيرهم، والنار تَعظُمُ طُولَ نهار الأحد، وباتوا على ذلك، وأصبحوا يوم الاثنينِ والنار تُتلِفُ ما تمُرُّ به، والهَدٌّ واقع في الدور التي تجاور الحريق خشيةً مِن تعَلُّقِ النار فيها وسَرَيانها في جميع دور القاهرة، فلما كانت ليلة الثلاثاء خرج أمر الحريقِ عن القُدرة البَشَرية، وخرجت ريحٌ عاصِفةٌ ألقت النخيلَ وغَرَّقت المراكب، ونَشَرت النار، فنزل النائب بسائر الأمراء وجميعِ مَن في القلعة وجميعِ أهل القاهرة، ونُقِل الماءُ على جمال الأمراء، ولحِقَه الأمير بكتمر الساقي وأُخرِجَت جمالُ القرى السلطانية، ومُنِعَت أبواب القاهرة أن يخرج منها سقاء، ونُقِلَت المياه من المدارس والحمَّامات والآبار، وجُمِعَت سائر البنائين والنجارين، فهُدَّت الدور من أسفلِها والنار تحرِقُ في سقوفها، وعَمَل الأمراء الألوف وعِدَّتُهم أربعة وعشرون أميرًا بأنفُسِهم في إطفاء الحريقِ، بحيث صار من باب زويلة إلى حارة الروم بحرًا، ثم خَمِدَت النار وعاد الأمراء، فوقع الصياحُ في ليلة الأربعاء بربع الملك الظاهِرِ خارج باب زويلة وبقيسارية الفقراء، وهبَّت الرياح مع ذلك، فرَكِبَ الحُجَّاب والوالي وعملوا في إطفائها إلى بعد الظهر من يوم الأربعاء وهدموا دورًا كثيرةً مِمَّا حوله، فما كاد أن يفرغ العَمَلُ من إطفاء النار حتى وقعت النارُ في بيت الأمير سلار بخط القصرين، فأقبلوا إليه وإذا بالنار ابتدأت من أعلى البادهنج- المنفذ الذي يجيء منه الريح- وكان ارتفاعُه من الأرض زيادة على مائة ذراع- بذراع العمل- ورأوا فيه نِفطًا قد عُمِلَ فيه فتيلة كبيرة، فما زالوا بالنار حتى أُطفِئَت، من غير أن يكون لها أثرٌ كبير، ونُودِيَ بأن يُعمَلَ بجانِبِ كُلِّ حانوت بالقاهرةِ ومصرَ زيرُ ودن ملآن ماء، وكذلك بسائر الحارات والأزقَّة، فلما كانت ليلة الخميس: وقع الحريق بحارة الروم وبخارج القاهرة، وتمادى الحالُ كذلك، ولا تخلو ساعة من وقوعِ الحريق بموضع من القاهرة ومصر، وامتنع والي القاهرةِ والأمير بيبرس الحاجب من النَّومِ، فشاع بين الناس أنَّ الحريق من جهة النصارى لَمَّا أنكاهم هدم الكنائس ونهبها، وصارت النيرانُ توجَدُ تارة في منابر الجوامِعِ وتارة في حيطان المدارسِ والمساجد، ووُجِدَت النار بالمدرسة المنصورية، فزاد قلقُ النَّاسِ وكَثُر خوفهم، وزاد استعدادُهم بادِّخار الآلات المملوءة ماء في أسطُحِ الدور وغيرها، وأكثر ما كانت النارُ توجد في العلو، فتقع في زروب الأسطح والبادهنجانات، ويُوجَدُ النِّفطُ قد لُفَّ في الخِرَق المبَلَّلة بالزيت والقطران، فلما كانت ليلةُ الجمعة الحادي عشر جمادى الأولى قُبِضَ على راهِبَينِ خرجا من المدرسة الكهاريَّة بالقاهرة، وقد أضرما النارَ بها، وأُحضِرا إلى الأمير علم الدين سنجر الخازن والي القاهرة، فشَمَّ منهما رائحة الكبريت والزيت، فأحضرهما من الغدِ إلى السلطان، فأمر بعقوبتِهما حتى يعترفا، فلما نزل الأميرُ علم الدين بهما وجد العامَّةَ قد قبضت على نصرانيٍّ مِن داخل باب جامِعِ الظاهر بالحُسَينية، ومعه كعكة خِرَق بها نفط وقطران، وقد وضعها بجانِبِ المنبر، فلما فاح الدخانُ أنكروه, ووجدوا النصرانيَّ وهو خارج والأثَرُ في يديه، فعُوقِبَ قبل صاحبيه، فاعترف النصرانيُّ أنَّ جماعة من النصارى قد اجتمعوا وعَمِلوا النفط، وفَرَّقوه على جماعة ليَدورُوا به على المواضع، ثم عاقَبَ الأمير علم الدين الراهبينِ، فأقرا أنَّهما من دير البغل، وأنهما هما اللذانِ أحرقا سائر الأماكن التي تقَدَّمَ ذِكرُها، وذلك أنَّه لَمَّا مر بالكنائس ما كان، حَنِقَ النصارى من ذلك وأقاموا النياحةَ عليها، واتَّفَقوا على نكاية المسلمين، وعملوا النفطَ وحَشَوه بالفتائِلِ وعَمِلوها في سهامٍ ورَموا بها، فكانت الفتيلة إذا خرجت من السَّهمِ تقَعُ على مسافة مائة ذراع، فلما أنفقوا ذلك فَرَّقوه في جماعة، فصاروا يدورون في القاهرة بالليل، وحيث وجدوا فرصة انتهزوها وألقَوا الفتيلةَ، حتى كان ما كان، فطالع الأميرُ علم الدين السلطانَ بذلك، واتَّفَق وصول كريم الدين الكبير ناظر الخاص من الإسكندريَّة، فعَرَّفه السلطان ما وقع من القَبضِ على النصارى، فقال البطرق: هؤلاء سُفَهاءُ قد فعلوا كما فَعَل سُفَهاؤُكم، والحُكمُ للسلطان، وأقام البطركُ ساعةً، وقام فرَكِبَ بغلةً كان قد رُسِمَ له منذ أيام بركوبِها، فشَقَّ ذلك على الناس، وهَمُّوا به لولا الخوف ممن حوله من المماليك، فلما رَكِب كريم الدين من الغد صاحت العامَّةُ به: "ما يحِلُّ لك يا قاضي تحامي للنصارى، وقد أخربوا بيوت المسلمين، وتُركِبُهم البغال، فانتكى كريمُ الدين منهم نكايةً بالغةً، وأخذَ يُهَوِّنُ من أمر النصارى الممسوكين ويَذكُرُ أنَّهم سفهاء، وعرف السلطان ما كان من أمْرِ البُطرُقِ، وأنه اعتُنيَ به، فأمر السلطانُ الواليَ بعقوبة النصارى، فأقروا على أربعة عشر راهبًا بدير البغل، فقُبِضَ عليهم من الدير، وعُمِلَت حفيرةٌ كبيرة بشارع الصليبة، وأُحرِقَ فيها أربعة منهم في يوم الجمعة، وقد اجتمع من الناس عالمٌ عظيم، فاشتدت العامَّةُ عند ذلك على النصارى، وأهانوهم وسَلَبوهم ثيابَهم، وألقَوهم من الدوابِّ إلى الأرض، وركب السلطانُ إلى الميدان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الآخر، وقد اجتمع عالمٌ عظيم، وصاحوا: "نصر اللهُ الإسلامَ، انصر دينَ محمَّد بن عبد الله"، فلما استقَرَّ السلطان بالميدان حتى أَحضَرَ له الخازنُ والي القاهرة نصرانيَّينِ قد قُبِضَ عليهما، فأُحرِقا خارجَ الميدان، وخرج كريم الدين الكبير من الميدان وعليه التشريفُ، فصاحت به العامة: "كم تحامي للنصارى"، وسَبُّوه ورموه بالحجارة، فعاد إلى الميدان، فشَقَّ ذلك على السلطان، واستشار الأمراءَ في أمر العامة، فأشار عليه الأميرُ جمال الدين أقوش نائِبُ الكرك بعزل الكُتَّاب النَّصارى، فإنَّ النَّاسَ قد أبغضوهم، فلم يُرضِه ذلك، وتقَدَّمَ السلطان إلى ألماس الحاجب أن يَخرُجَ في أربعة أمراء ويضَعَ السَّيفَ في العامَّةِ حتى ينتهيَ إلى باب زويلة، ويمُرَّ إلى باب النصرِ وهو كذلك ولا يرفَع السَّيفَ عن أحد، وأمرَ والي القاهرة أن يتوجَّهَ إلى بابِ اللوق والبحر، ويَقبِضَ من وجده، ويحمِلَهم إلى القلعة، وعَيَّن لذلك مماليكَ تَخرُجُ من الميدان، فبادر كريمُ الدين وسأل السلطانَ العَفوَ، فقَبِلَ شَفاعتَه، ورسم بالقبضِ على العامَّةِ مِن غَيرِ قَتلِهم، وكان الخبَرُ قد طار، ففَرَّت العامَّةُ حتى الغلمان، وصار الأميرُ لا يجِدُ مَن يُركِبُه، وانتشر ذلك، فغُلِّقَت جميعُ أسواق القاهرة، فما وصل الأمر إلى باب زويلة حتى لم يجِدوا أحدًا، وشَقُّوا القاهرةَ إلى باب النصر، فكانت ساعةً لم يمُرَّ بالناس أعظَمُ منها، ومَرَّ الوالي إلى باب اللوق وبولاق وباب البحر، وقبض كثيرًا من الكلابزة- من يتولَّى تربية الكلاب وبَيعَها- والنواتية –الملَّاحين- وأراذل العامَّة، بحيث صار كلُّ من رآه أخَذَه، وجفَل الناسُ مِن الخوف، وعَدوا في المراكب إلى بر الجيزة، فلما عاد السلطانُ إلى القلعة لم يجد أحدًا في طريقه، وأحضر إليه الوالي بمن قبض عليه وهم نحو المائتين، فرسم أن يُصلَبوا، وأفرد جماعةً للشَّنقِ وجماعةً للتوسيطِ، وجماعةً لقطع الأيدي، فصاحوا: "يا خوند- يا سيد- ما يحِلُّ لك، فما نحن الغُرَماء"، وتباكوا فَرَّقَ لهم بكتمر الساقي، وقام معه الأمراءُ، وما زالوا بالسلطان حتى رسم بصَلبِ جماعةٍ منهم على الخَشَبِ من باب زويلة إلى سوقِ الخَيلِ، وأن يُعَلَّقوا بأيديهم، فأصبحوا يومَ الأحدِ صفًّا واحدًا من بابِ زويلة إلى سوقِ الخيل تحت القلعة، فتوجَّعَ لهم الناس، وكان منهم كثيرٌ مِن بياض الناس، ولم تُفتَح القاهرة، وخاف كريم الدين على نفسِه، ولم يَسلُكْ من باب زويلة، وصَعِدَ القلعة من خارج السور، فإذا السلطانُ قد قَدَّم الكلابزة وأخَذَ في قطع أيديهم، فكشف كريم الدين رأسَه وقَبَّل الأرض، وباس رِجلَ السُّلطانِ، وسأله العفو، فأجابه السلطانُ بمساعدة الأمير بكتمر، وأمَرَ بهم فقُيِّدوا وأُخرِجوا للعَمَلِ في الحفير بالجيزة، ومات ممَّن قُطِعَ يَدَه رَجُلان، وأُمِرَ بحَطِّ من عُلِّقَ على الخَشَب، فللحالِ وقع الصوتُ بحريقِ أماكِنَ بجوار جامع ابن طولون، وبوقوعِ الحريق في القلعةِ، وفي بيت الأحمدي بحارة بهاء الدين من القاهرة، وبفُندق طرنطاي خارج باب البحر، فدُهِشَ السلطان، وكان هذا الفندق برسم تجارِ الزيت الوارد من الشام، فعَمَّت النار كلَّ ما فيه حتى العُمُد الرُّخام، وكانت ستة عشر عمودًا، طولُ كل منها ستة أذرع، ودوره نحو ذراعين، فصارت كلُّها جيرًا، وقُبِضَ فيه على ثلاثة نصارى معهم فتائِلُ النفط، اعتَرَفوا أنهم فعلوا ذلك، فخاف السلطانُ الفتنةَ ورجع إلى مداراتِهم، وتقَدَّم إلى الحاجِبِ بأن يخرُجَ وينادي: "من وجد نصرانيًّا فدَمُه ومالُه حلالٌ"، فلما سمعوا النداءَ صرخوا صوتًا واحدًا: "نصرك الله يا ناصِرَ دين الإسلام"، فارتجَّت الأرض، ونودِيَ عَقيبَ ذلك بالقاهرة ومصر: "من وُجِدَ من النصارى بعمامةٍ بَيضاءَ حَلَّ دمه، ومن وُجِدَ من النصارى راكبًا باستواءٍ حَلَّ دمه" وكُتِبَ مرسومٌ بلُبس النصارى العمائِمَ الزرق، وألَّا يركبوا فَرَسًا ولا بغلًا، وأن يركبوا الحميرَ عَرضًا، ولا يدخلوا الحَمَّام إلَّا بجَرَس في أعناقهم، ولا يتزَيَّوا بزيِّ المسلمين هم ونساؤُهم وأولادهم، ورُسِمَ للأمراء بإخراج النصارى من دواوينِهم ومن دواوين السلطان، وكُتِبَ بذلك إلى سائر الأعمال، وغُلِّقَت الكنائس والأديرة، وتجرَّأت العامة على النصارى، بحيث إذا وجدوهم ضربوهم وعَرَّوهم ثيابَهم، فلم يتجاسَرْ نصرانيٌّ أن يخرُجَ من بيته، ولم يُتحَدَّثْ في أمرِ اليهودِ، فكان النصرانيُّ إذا طرأ له أمرٌ يتزيَّا بزيِّ اليهودِ، ويلبَس عمامة صفراءَ يكتريها من يهوديٍّ ليخرُجَ في حاجتِه! واحتاج عِدَّةٌ من النصارى إلى إظهارِهم الإسلام، فأسلم السني ابن ست بهجة في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة، وخُلِعَ عليه، وأسلم كثيرٌ منهم، واعترف بعضُهم على راهب بدير الخندق أنه كان يُنفِقُ المالَ في عَمَل النفطِ للحريق ومعه أربعة، فأُخِذوا وسُمِّروا.

العام الهجري : 444 العام الميلادي : 1052
تفاصيل الحدث:

في هذه السَّنَةِ دَخلتْ العَربُ إلى إفريقية, وسببُ ذلك أنَّ المُعِزَّ بن باديس كان خَطَبَ للقائم بأَمرِ الله الخليفة العبَّاسي، وقَطَع خُطبةَ المُستَنصِر العُبيدي الفاطمي صاحب مصر، فلمَّا فعل ذلك كَتَب إليه المُستَنصِر العَلويُّ يَتَهدَّدهُ، فأَغلظَ المُعِزُّ في الجوابِ، ثم شَرعَ المُستَنصِرُ ووَزيرهُ الحسنُ بن عَليٍّ اليازوري في إرسالِ العَربِ إلى أفريقية، وأصلحوا بني زُغْبَة ورِياحٍ، وكان بينهم حُروبٌ وحُقودٌ، وأعطوهم مالًا، وأَمروهُم بِقَصدِ بِلادِ القَيروان، ومَلَّكوهُم كُلَّ ما يَفتحونَه، ووَعَدوهُم بالمَدَدِ والعُدَدِ. فدَخلتْ العربُ إلى إفريقية، وكَتَب اليازوري إلى المُعِزِّ وكان حاقدا عليه: "أمَّا بعدُ، فقد أرسلنا إليكم خُيولًا فُحولًا، وحَملنا عليها رِجالًا كُهولًا، ليقضي الله أمرًا كان مَفعولًا". فاحلوا فلمَّا حَلُّوا أرضَ بَرْقَة وما والاها ووجدوا بِلادًا كَثيرةَ المَرْعَى خالِيَة مِن الأَهلِ، فأَقامَت العَربُ بها واستَوطَنَتها، وعاثوا في أَطرافِ البِلادِ, وبَلَغ ذلك المُعِزَّ فاحتَقَرهُم, وكانت عَربُ زُغبَة قد مَلكَت مَدينةَ طرابلس سنة 446هـ، فتَتابَعَت رِياحٌ والأثبجُ وبنو عَدِيٍّ إلى إفريقية، وقَطَعوا السَّبيلَ وعاثوا في الأرضِ، وأرادوا الوصولَ إلى القَيروان، فقال مُؤْنِسُ بن يحيى المِرداسيُّ: "ليس المُبادرَة عندي بِرَأيٍ. فقالوا: كيف تُحِبُّ أن تَصنعَ؟ قال: خُذوا شيئًا فشَيئًا حتى لا يَبقَى إلَّا القَيروان، فخُذوها حينئذٍ. فقالوا: أنت المُقَدَّمُ علينا، ولَسْنَا نَقطعُ أَمرًا دُونك". ثم قَدِم أُمراءُ العَربِ إلى المُعِزِّ فأَكرَمَهم وبَذَل لهم شيئًا كَثيرًا، فلمَّا خَرجوا مِن عِندِه لم يُجازُوهُ بما فَعلَ مِن الإحسانِ، بل شَنُّوا الغاراتِ، وقَطَعوا الطَّريقَ، وأَفسَدوا الزُّروعَ، وقَطَّعوا الثِّمارَ، وحاصَروا المُدُنَ، فضاق بالنَّاسِ الأَمرُ، وساءَت أَحوالُهم، وانقَطعَت أَسفارُهم، ونَزلَ بإفريقية بَلاءٌ لم يَنزِل بها مِثلُه قط، فحينئذٍ احتَفلَ المُعِزُّ وجَمعَ عَساكرَه، فكانوا ثلاثين ألف فارس، ومِثلَها رَجَّالَة، وسار حتى أَتَى جَنْدِران، وهو جَبَلٌ بينه وبين القَيروان ثلاثةُ أيَّامٍ، وكانت عُدَّةُ العَربِ ثَلاثةُ آلافِ فارس، فلمَّا رَأَتْ العَربُ عساكِر صنهاجة والعَبيدَ مع المُعِزِّ هالَهُم ذلك، وعَظُمَ عليهم، فقال لهم مُؤْنِسُ بن يحيى: ما هذا يوم فِرارٍ. والتَحَم القِتالُ واشتَدَّتْ الحَربُ، فاتَّفقَت صِنهاجَة على الهزيمةِ وتَرْكِ المُعِزِّ مع العَبيدِ حتى يَرَى فِعلَهم، ويُقتَل أَكثرُهم، فعند ذلك يَرجِعون على العَربِ، فانهَزمتْ صِنهاجَة وثَبَتَ العَبيدُ مع المُعِزِّ، فكَثُرَ القَتلُ فيهم، فقُتِلَ منهم خَلْقٌ كَثيرٌ، وأرادت صِنهاجة الرُّجوعَ على العَربِ فلم يُمكِنهُم ذلك، واستَمرَّت الهَزيمةُ، وقُتِلَ مِن صِنهاجة أُمَّةٌ عَظيمَة، ودَخلَ المُعِزُّ القَيروانَ مَهزومًا، على كَثرَةِ مَن معه، وأَخذتْ العَربُ الخَيْلَ والخِيامَ وما فيها مِن مالٍ وغَيرِه. ولمَّا كان يومُ النَّحْرِ من هذه السَّنَةِ جَمعَ المُعِزُّ سَبعةً وعِشرينَ ألف فارس، وسار إلى العَربِ جَرِيدَةً -الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- وسَبَقَ خَبرُه، وهَجَم عليهم وهُم في صَلاةِ العِيد، فرَكِبَت العَربُ خُيولَهم وحَملَت، فانهَزَمت صِنهاجة، فقُتِلَ منهم عالَمٌ كَثيرٌ. ثم جَمعَ المُعِزُّ وخَرجَ بِنَفسِه في صِنهاجة وزِناتَة في جَمعٍ كَثيرٍ، فلمَّا أَشرفَ على بُيوتِ العَربِ، انتَشَب القِتالُ، واشتَعَلت نِيرانُ الحَربِ، وكانت العَربُ سَبعةَ آلافِ فارس، فانهَزَمت صِنهاجة، وزِناتَة، وثَبَتَ المُعِزُّ فيمَن معه من عَبيدِه ثَباتًا عَظيمًا لم يُسمَع بمِثلِه، ثم انهَزَم وعاد إلى المَنصوريَّة. وأحصي مَن قُتِلَ مِن صنهاجة ذلك اليوم، فكانوا ثلاثةَ آلاف وثلاثمائة. ثم أَقبلَت العَربُ حتى نَزلَت بمُصَلَّى القَيروان، ووَقعَت الحَربُ، فقُتِلَ مِن المَنصوريَّة ورقادة خَلْقٌ كَثيٌر، فلمَّا رأى ذلك المُعِزُّ أَباحَهم دُخولَ القَيروان لِمَا يحتاجون إليه مِن بَيعٍ وشِراءٍ، فلمَّا دخلوا استَطالَت عليهم العامَّةُ، ووَقعَت بينهم حَربٌ كان سَببُها فِتنةً بين إنسانٍ عَربيٍّ وآخرَ عامِيٍّ، وكانت الغَلَبةُ للعَربِ. وفي سنة 444هـ بُنِيَ سورُ زويلة والقَيروان، وفي سنة 446هـ حاصرت العَربُ القَيروانَ، ومَلَكَ مُؤنِسُ بن يحيى مدينةَ باجَة، وأَشارَ المُعِزُّ على الرَّعِيَّة بالانتقالِ إلى المَهديَّة لِعَجزِه عن حمايتهم من العَربِ. وشَرعَت العَربُ في هَدمِ الحُصونِ والقُصورِ، وقَطَّعوا الثِّمارَ، وخَرَّبوا الأَنهارَ، وأَقامَ المُعِزُّ والناسُ يَنتَقِلون إلى المَهديَّة إلى سَنةِ تِسعٍ وأربعين، فعندها انتَقلَ المُعِزُّ إلى المَهديَّة في شعبان، فتَلقَّاهُ ابنُه تَميمٌ، ومَشَى بين يَديهِ، وكان أَبوهُ قد وَلَّاهُ المَهديَّة سَنةَ خَمسٍ وأربعين، وفي رمضان من سَنةِ تِسعٍ وأربعين نَهبَت العَربُ القَيروانَ, وهكذا تَتابَعت هَزائمُ المُعِزِّ وعَسكرِه على يَدِ العَربِ بِدَعمٍ مِن المُستَنصِر العُبيدي حاكم مصر.

العام الهجري : 187 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 803
تفاصيل الحدث:

كان لآلِ بَرْمَك نفوذٌ كبيرٌ في دولة الرشيد؛ إذ كان يحيى بن خالدٍ مُربِّيًا للرشيدِ، وكان أولادُه جعفر والفضل وموسى ومحمَّد أترابَ الرَّشيد، ثمَّ تغيَّرَت أحوالُ البرامكة وتبدَّلَ لهم الرشيدُ فجأةً، فقتل جعفرَ بنَ يحيى وسجَنَ يحيى وابنَه الفضلَ، وصادرَ أملاكَهم، وقد قيل في سبب ذلك أشياءُ؛ منها: أنهم- يعني البرامِكةَ- زاد نفوذُهم كثيرًا، وزادت مصروفاتُهم كثيرًا، حتى فاقوا الخليفةَ بذلك؛ ممَّا جعل أمرَهم مُريبًا مُخيفًا؛ فقد بنى جعفرٌ بيتًا له كلَّفَه عشرينَ مليونَ درهم، وعندما عاد الفضلُ بن يحيى مِن حَربِه في الديلم أطلق لمادِحيه ثلاثةَ ملايين درهم. وهذا السَّرفُ جعل الرشيدَ يتابِعُهم في الدواوينِ والكتاباتِ، فاكتشفَ وُجودَ خَلَلٍ كبير في مصاريفِ الدولة. وقيل: لتشَيُّعِهم وتعاطُفِهم مع العَلَويِّينَ؛ فقد حمل يحيى بن خالد البرمكي إلى يحيى بن عبد الله الطالبي في أثناء ثورتِه بالديلم مئتي ألفِ دينارٍ، كما أنَّ جعفرًا أطلَقَه بعد سَجنِه مِن دونِ عِلمِ الخليفة. وقد أحضر الخليفةُ جعفرًا وسأله، فأقرَّ بالأمرِ، فأظهرَ الرَّشيدُ أنَّه راضٍ عن عَمَلِه، فلمَّا خرج مِن مجلِسِه قال: "قتلني اللهُ بسَيفِ الهُدى على عمَلِ الضَّلالةِ إنْ لم أقتُلْك", وقد يُعدُّ هذا من أقوى أسبابِ نِقمةِ الرشيدِ عليهم، وقيل: لتعصُّبِهم للفُرسِ ومحاولةِ إقصاءِ العَرَب عن المناصبِ المُهِمَّة؛ فقد أبدَوا كراهيَتَهم لمحمَّد بن الليث لِمَيله عن العجَم، وسَعَوا لدى الرشيدِ للإيقاع بيزيدَ بن مزيد الشيباني، واتَّهَموه بالتراخي في قتالِ الخوارج. وقيل: بل لأنَّ الرشيدَ لَمَّا كان يحِبُّ أن يجتَمِعَ مع جعفر وأختِه العبَّاسة (أخت الرشيد) وهي مُحَرَّمة على يحيى، فزَوَّجَها الرشيدُ مِن جَعفرٍ على ألا يقرَبَها، بل فقط ليجتَمِعوا ويَسمُروا سويًّا، ولكِنَّ جعفرًا أتاها فحَمَلت العبَّاسةُ منه، ولَمَّا ولَدَت وجَّهَته إلى مكَّةَ، ثمَّ عَلِمَ الرشيدُ بذلك من بعضِ حواضِنِ العبَّاسة، فعَدَّ ذلك خيانةً مِن جعفرٍ،  وقد تناقل المؤرِّخونَ قِصَّةَ عبَّاسة وجعفرٍ البرمكيِّ، وكأنَّها أحدَثَت فِعلًا، بينما عليَّةُ بنتُ المهدي تقولُ للرَّشيدِ بعد إيقاعِه بالبرامكة: ما رأيتُ لك يومَ سرورٍ تامًّا منذ قتَلْتَ جعفرًا، فَلأيِّما شيءٍ قَتَلْتَه؟ فقال: لو عَلِمتُ أنَّ قَميصي يعلمُ السَّببَ الذي قتلْتُ به جعفرًا لأحرقتُه. فهل كانت عليَّة بنت المهدي جاهلةً السَّبَبَ لو كان هناك مِثلُ هذه الفضيحة (قِصَّة عبَّاسة وجعفر البرمكيِّ) في قصرِ الخلافة؟!

العام الهجري : 373 العام الميلادي : 983
تفاصيل الحدث:

قال أبو حيَّان التوحيديُّ: " سألني وزيرُ صمصام الدَّولة بن عضُدِ الدولة عن زيد بن رفاعة في حدود سنة 373 قال: لا أزالُ أسمَعُ مِن زيد بن رفاعة قولًا يَريبُني، ومذهبًا لا عهد لي به، وقد بلغني أنَّك تغشاه وتجلِسُ إليه وتُكثِرُ عنده. ومن طالت عشرتُه لإنسانٍ أمكَنَ اطِّلاعُه على مستكنِّ رأيه. فقلت: أيُّها الوزيرُ، عنده ذكاءٌ غالِبٌ، وذهن وقَّاد. قال: فعلى هذا ما مذهَبُه؟ قلت: لا يُنسَبُ إلى شيءٍ، لكنه قد أقام بالبصرةِ زمانًا طويلًا وصادف بها جماعةً لأصنافِ العِلمِ، فصَحِبَهم وخَدَمهم، وكانت هذه العُصابةُ قد تألَّفَت بالعِشرة وتصافَتْ بالصَداقةِ، واجتمعت على القُدسِ والطَّهارة والنصيحةِ، فوضعوا بينهم مذهبًا زعموا أنَّهم قرَّبوا به الطريقَ إلى الفوز برضوانِ الله، وذلك أنهم قالوا: إنَّ الشريعةَ قد تدنَّسَت بالجَهالاتِ واختَلَطت بالضَّلالاتِ، ولا سبيل إلى غَسلِها وتطهيرِها إلَّا بالفَلسفةِ!!! وزَعموا أنَّه متى انتظَمَت الفلسفةُ اليونانيَّة والشَّريعة العربية فقد حصل الكَمالُ، وصنفوا خمسين رسالة في خمسينَ نَوعًا من الحكمة، ومقالةً حاديةً وخمسين جامعةً لأنواعِ المقالات على طريقِ الاختصارِ والإيجازِ، وسمَّوها "رسائل إخوان الصَّفا" وكتَموا فيها أسماءَهم وبثُّوها في الورَّاقينَ ووَهبوها للنَّاسِ، وحَشَوا هذه الرسائلَ بالكَلِمات الدينيَّة، والأمثال الشرعيَّة، والحروف المجتَمِعة، والطُّرُق الممَوَّهة، وهي مبثوثةٌ مِن كُلِّ فنٍّ بلا إشباعٍ ولا كفايةٍ، وفيها خرافات وكنايات، وتلفيقات وتلزيقات، فتَعِبوا وما أغْنَوا، وغَنَّوا وما أطرَبُوا، ونسَجُوا فهَلْهَلوا، ومَشَطوا ففَلْفَلوا!! وبالجملة فهي مقالاتٌ مُشوِّقاتٌ غيرُ مستقصاةٍ، ولا ظاهرة الأدلة والاحتجاج". ولما كتم مصنِّفو رسائل إخوان الصفا أسماءَهم، اختلف النَّاسُ في الذي وضعها، ولا تزال مصدرَ خِلافٍ بين عُلَماءِ الإسلام والتساؤل حولَ الانتماء المذهبيِّ للجماعة؛ فالبعض اعتبَرَهم من أتباع المدرسة المعتزِليَّة، والبعض الآخر اعتبرهم من نِتاجِ المدرسةِ الباطنيَّة، وذهب البعض الآخر إلى وصْفِهم بالإلحادِ والزندقة. قال الذهبي عنها: "حُبِّبَ إلى أبي حامدٍ الغزالي إدمانُ النَّظرِ في كتابِ "رسائل إخوان الصفا" وهو داءٌ عُضالٌ، وجَرَبٌ مُرْدٍ، وسمٌّ قتَّالٌ، ولولا أنَّ أبا حامد من كبارِ الأذكياء، وخِيارِ المُخلِصين، لتَلِفَ؛ فالحَذارِ الحَذارِ مِن هذه الكتبِ، واهربوا بدينِكم من شُبَهِ الأوائلِ، وإلَّا وقَعْتُم في الحَيرةِ، فمن رام النَّجاةَ والفوزَ فلْيَلزم العبوديَّة، ولْيُدمِن الاستغاثةَ باللهِ، ولْيَبتَهِلْ إلى مولاه في الثَّباتِ على الإسلامِ، وأن يُتوفَّى على إيمانِ الصَّحابةِ, وسادةِ التابعين، واللهُ المُوَفِّق، فبُحسنِ قَصدِ العالِمِ يُغفَرُ له وينجو، إن شاء اللهُ".

العام الهجري : 577 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1181
تفاصيل الحدث:

هو أبو الفتوح الملك الصَّالح إسماعيلُ- صاحب حلب- بن نور الدين محمود بن الأتابك زنكي, وصى له والده محمود بمملكته وهو ابن إحدى عشرة سنة، فملَّكوه بدمشق، وحلفوا له بحلب، فأقبل صلاح الدين من مصر، وأخذ منه دمشق، فترحل إسماعيل إلى حلب، وكان شابًا ديِّنًا خَيِّرًا، عاقلًا بديع الجمال، محبَّبًا إلى الرعية وإلى الأمراء، ثم سار السلطان صلاح الدين، وحاصر حلب مُدَّةً، ثم ترحل عنها، ثم حاصرها، فصالحوه، وبذلوا له المعرَّةَ وغيرها، ثم نازل حلب ثالثًا، فبذل أهلُها الجهد في نصرة الملك الصالح، فلما ضَجِرَ السلطان، صالَحَهم وترحل، وأخرجوا إليه بنت نور الدين، فوَهَبها عزاز- بليدة قريبة من حلب- وكان تدبير مملكة حلب إلى أم الملك الصالح، وإلى شاذبخت الخادم وابن القيسراني. تعلل الملك الصالحُ بقولنج خمسة عشر يومًا، "فلما اشتد به المرض عَرَض عليه طبيبه خمرًا للتداوي، فأبى، وقال: قد قال نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الله لم يجعَلْ شفاءَ أمتي فيما حَرَّمَ عليها))، ولعلي أموتُ وهو في جوفي. ولما اشتد مرضُه أحضر الأمراء، وسائر الأجناد، ووصَّاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واستحلفهم على ذلك، فقال له بعضهم: إنَّ عماد الدين ابن عمك أيضًا، وهو زوجُ أختك، وكان والدُك يحِبُّه ويؤثره، وهو تولى تربيتَه، وليس له غير سنجار، فلو أعطيتَه البلد لكان أصلحَ، وعز الدين له من البلاد من نهر الفرات إلى همذان، ولا حاجة به إلى بلدك، فقال له: إن هذا لم يغِبْ عني، ولكن قد عَلِمتُم أن صلاح الدين قد تغلَّبَ على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي، ومتى سَلَّمتُ حلب إلى عماد الدين يعجِزُ عن حفظها، وإن ملكها صلاحُ الدين لم يبق لأهلنا معه مقامٌ، وإنْ سَلَّمتُها إلى عز الدين أمكَنَه حِفظُها بكثرة عساكره وبلادِه، فاستحسنوا قوله، وعجبوا من جودة فطنته مع شِدَّةِ مَرَضِه وصِغَرِ سنه. توفي في رجب، وعمره نحو تسع عشرة سنة, ولما قضى نحبه أرسل الأمراء إلى أتابك عز الدين يستدعونه إلى حلب، فسار هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات، وأرسل فأحضر الأمراءَ عنده من حلب، فحضروا وساروا جميعًا إلى حلب، ودخلها في العشرين من شعبان، وكان صلاح الدين حينئذ بمصر، فأقام أتابك عز الدين مسعود بحلب عدة شهور، ثم سار عنها إلى الرقَّة.

العام الهجري : 624 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1227
تفاصيل الحدث:

بعد أنْ تولَّى أمرَ دولة الموحدينَ أبو محمد العادل بن أبي يوسف يعقوب المنصور سنة 621هـ (1224م) عهد بولاية إفريقيَّةَ إلى أبي محمَّد عبد الله بن عبد الواحد بن أبي حفص، وكان في صحبته أخوه أبو زكريا يحيى، وقام الوالي الجديدُ بإعادة الهدوء والاستقرارِ بعد أن عكَّرت صفوَها الفتنُ والثَّورات، وقام بحَمَلات على الخارجينَ على سلطان الدولة، وما كادت الأمورُ تستقرُّ حتى قفز على منصبِ حُكم الموحِّدين أبو العلاء إدريس المأمون سنة 624 هـ (1227م) بعد ثورة قادها ضدَّ أخيه أبي محمد العادل، فرفض أبو محمد عبد الله الحفصي بيعتَه والدُّخولَ في طاعته، فما كان من حاكِمِ الموحِّدين الجديدِ إلَّا أن كتب بولاية إفريقية إلى أبي زكريا يحيى، فقَبِلَها على الفور وسار من تونس إلى القيروان، وتغلَّب على أخيه أبي محمد عبد الله، وتولى أمر البلاد سنة 625 هـ (1228م) وكانت سن أبي زكريا يوم بدأ حكمه سبعًا وعشرين سنة، لكن ما أظهَرَه من أول وهلة من براعة ومقدرة كان يدلُّ على ما يتمتَّعُ به من نضجٍ سياسيٍّ، ومهارة إداريَّة، وسبق له أن حكمَ في منطقة إشبيليَّة بالأندلس؛ حيث كان واليًا على بعضِ المقاطعاتِ هناك. وبعد قليلٍ مِن ولايته خلع أبو زكريا طاعةَ أبي العلاء إدريس حاكِمِ الموحدين، ولكنَّه لم يدعُ لنفسه بالأمر؛ تحسبًا للموحِّدينَ الذين كانوا في ولايته، واتخذَ تونس عاصمة له، وبدأ في اكتساب محبَّة أهل إفريقيَّة باتباعِ سياسة معينة، فأحسن معاملتَهم، وخفَّف عنهم أعباءَ الضرائب، ونظر في أمورِهم، وراقبَ عُمَّاله وولاتَه، واستعان بأهل الخبرة والكفاءة، وقرَّب الفقهاءَ إليه، فأسلَمَت له البلاد قيادَها ودانت له بالطاعة والولاء. ثم نهض أبو زكريا لإقرار سُلطانِه وبَسطِ نفوذه في المناطق المجاورة، فزحف بجيشِه إلى قسنطينة بالجزائر، فدخلها دون صعوبةٍ، وخرج أهلُها لمبايعته في شعبان 626 هـ (1229م)، ثم اتجه إلى بجاية ففتحها ودخلت في سلطانه، وبذلك خرجت الولايتان من سلطان دولة الموحدين، وأصبحتا تابعتين لأبي زكريا، ثم طاف بالنواحي الشَّرقية من ولايته، واستوثق من طاعة أهلِها. وكان ردُّ الموحدينَ على توسعات أبي زكريا على حساب دولتِهم ضعيفًا للغاية، بل يكاد يكونُ معدومًا، ولم يستطع حكَّام الموحدين أن يمنعوا تفكُّكَ دولتهم، أو يقضوا على الحركاتِ الانفصاليَّة، فكانت الدولةُ مشغولةً بالفِتَن والثورات التي تهب في الأندلُسِ، بل في مراكشَ عاصمةِ دولتِهم.

العام الهجري : 672 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1274
تفاصيل الحدث:

هو الفيلسوف الرياضي الفلكي نصير الدين أبو جعفر محمد بن عبد الله الطوسي، كان يقال له المولى نصير الدين، ويقال الخواجا نصير الدين، اشتغل في شبيبتِه وحصَّل علم الأوائلِ جيدًا، وصَنَّف في ذلك في علم الكلامِ، وشرح الإشارات لابن سينا، حتى كان رأسًا في علم الأوائل، لا سيَّما معرفة الرياضة وصنعة الأرصاد، فإنه فاق بذلك على الكبار. اشتغل في بداية أمرِه على المعين سالم بن بدران المصري المعتزلي، المتشيِّع الرافضي فنزع فيه عروق كثيرة منه، حتى أفسد اعتقادَه، وزَرَ نصير الدين لأصحاب قلاع ألموت من الإسماعيلية، ثم وزر لهولاكو، وكان ذا حُرمة وافرة ومنزلةٍ عاليةٍ عند هولاكو, وكان معه في واقعة بغداد، وقيل إنه أشار على هولاكو خان بقتل الخليفةِ بعد أن كان أحدُ منجِّمي هولاكو حذَّره من مغبة ذلك، وكان يطيعُه فيما يشير به, وجعله هولاكو على أوقافِ بغداد يتصَرَّف فيها كيف يشاء, فابتنى بمدينةِ مراغة قُبَّة رصد عظيمة ورتَّبَ فيها الحكماء من المنجِّمين والفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والمحدثين والأطباء وغيرهم من أنواع الفضلاء، وجعل لهم الجامكيَّة- الراتب- واتخذ فيها خزانةً عظيمة عالية، فسيحةَ الأرجاء وملأها بالكتب التي نُهِبَت من بغداد والشام والجزيرة، حتى تجمَّعَ فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد. وكان سمحًا، كريمًا، حليمًا حسن العشرةِ، غزيرَ الفضائل، جليلَ القدر، لكنَّه على مذهب الأوائِلِ في كثيرٍ مِن الأصول، نسأل الله الهدى والسَّداد. وله شعرٌ جيد قوي, وله كتابُ أخلاق ناصري بالفارسية ألَّفه لمتملك الإسماعيليَّة لما كان وزيرًا له في ألموت، وله كتاب تجريد العقائد بالعربية، وهو في الفلسفة وعلم الكلام، وله إثبات العقل الفعال وشرح كتاب المجسطي (المنطق) وغير ذلك. قال ابن القيم: " صارع محمد الشهرستانى ابن سينا في كتاب سماه "المصارعة" أبطل فيه قولَه بقدم العالم وإنكار المعاد، ونفى علمَ الرب تعالى وقدرته، وخلقه العالم، فقام له نصير الإلحاد وقعد، ونقَضَه بكتاب سماه "مصارعة المصارعة" ووقَفْنا على الكتابين نصر فيه: أن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام. وأنه لا يعلم شيئًا، وأنه لا يفعل شيئًا بقدرته واختياره، ولا يبعث من في القبور, وبالجملة فكان هذا الملحِدُ هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر". توفي في بغداد في ثاني عشر ذي الحجة، وله خمس وسبعون سنة.

العام الهجري : 678 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1280
تفاصيل الحدث:

هو السُّلطان الملك السعيد، ناصر الدين، أبو المعالي محمد بركة خان بن السلطان الملك الظاهر بيبرس وُلِدَ سنة 658 في صفر بالعش من ضواحي القاهرة، وسلطنه أبوه وهو ابن خمس سنين أو نحوها. وبويع بالملك بعد والده وهو ابن ثمان عشرة سنة. وكان شابًّا مليحًا كريمًا، فيه عَدلٌ ولين وإحسان إلى الرعيَّة، ليس في طبعه ظلمٌ ولا عسف، بل يحب الخير وفعله. وكان محببا إلى الرعية، لكنه شاب غِرٌّ لم يحمِلْ أعباء الملك، وعجز عن ضبط الأمورِ فتعصَّبَ أمراء المماليك لذلك وخلعوه من السلطنة، وعملوا محضرًا بذلك، وأطلقوا له سلطنة الكرك فسار إليها بأهله ومماليكه، فلما استقر بها قَصَده جماعةٌ من الناس، فكان يُنعِمُ عليهم ويصلهم، فكثروا عليه بحيث نَفِدَ كثير من حواصِلِه، وبلغ ذلك السلطان الملك المنصور قلاوون الألفي فتأثر منه، مات الملك السعيد بركة خان بالكرك في الحادي عشر من ذي القعدة، وكان قد ركبَ في الميدان فتقنطر عن فَرَسِه وهو يلعب بالكرة، فصدع وحُمَّ أيامًا، ومات وعمره نيف وعشرون سنة، وقيل إنه مات مسمومًا، وورد الخبر بوفاته إلى مصر في العشرين منه، فعمل له السلطان قلاوون عزاءً بالإيوان من قلعة الجبل، وجلس كئيبًا ببياضٍ، وقد حضر العلماء والقضاة والأمراء والوعاظ والأعيان، فكان يومًا مشهودًا، وأقام القراءُ شهرًا يقرؤون القرآن، وكتب إلى أعمال مصر والشام بأن يصلَّى عليه صلاة الغائب، ودُفِنَ عند جعفر الطيار، ثمَّ نقل إلى تربته بدمشق بعد سنة وخمسة أشهر، ودفن عند والده. ووجدت عليه امرأتُه بنت الملك المنصور سيف الدين وجدًا شديدًا، ولم تزل باكية حزينة إلى أن ماتت بعده بمدة. وعندما مات الملك السعيد أقام الأمير ُعلاء الدين أيدغدي الحراني نائب الكرك نجمَ الدين خضر بن الظاهر ملكًا مكان أخيه بالكرك، ولقَّبه الملك المسعود فتحَكَّم عليه مماليكه وأساؤوا التدبير، وفَرَّقوا الأموال ليستجلبوا الناسَ، وحضر إليهم طائفةٌ من البطَّالين فساروا إلى الصلت واستولوا عليها، وبعثوا إلى صرخد فلم يتمَكَّنوا منها، وأتَتْهم العربان وتقربوا إليهم بالنصيحة، وأخذوا مالًا كثيرا من المسعود ثم تسلَّلوا عنه، ولم يزل المسعود في إنفاق المالِ حتى فنيت ذخائر الكرك التي كان المَلك الظاهر قد أعدَّها لوقت الشدة، وبعث المسعودُ إلى الأمير سنقر الأشقر نائب دمشق يستدعيه، فجرد السلطان قلاوون الأمير عز الدين أيبك الأفرم إلى الكرك.