سأل جلالُ الدَّولةِ البويهيُّ الشيعيُّ الخليفةَ القائمَ بأمرِ الله ليخاطَبَ بشاهِنشاه أي: ملك الملوك، فامتنع، ثمَّ أجاب إليه؛ إذ أفتى الفقهاءُ بجَوازِه، فكتب فتوى إلى الفُقَهاءِ في ذلك، فأفتى القاضي أبو الطيِّب الطبري، والقاضي أبو عبد الله الصيمري، والقاضي ابن البيضاوي، وأبو القاسم الكرخي بجوازِه، وامتنع منه قاضي القضاة أبو الحَسَن الماوردي، وجرى بينه وبين من أفتى بجوازه مراجعاتٌ، وخُطِبَ لجلالِ الدَّولة بمَلِك الملوك، وكان الماورديُّ مِن أخَصِّ الناسِ بجلال الدَّولة، وكان يتردَّدُ إلى دار المملكة كلَّ يوم، فلما أفتى بهذه الفُتيا انقطَعَ ولَزِمَ بيته خائِفًا، وأقام منقطعًا مِن شَهرِ رمضان إلى يوم عيدِ النحر، فاستدعاه جلالُ الدَّولة، فحضر خائفًا، فأدخله وَحْدَه وقال له: قد عَلِمَ كُلُّ أحد أنَّك من أكثَرِ الفقهاءِ مالًا وجاهًا وقربًا منا، وقد خالفْتَهم فيما خالفَ هوايَ، ولم تفعلْ ذلك إلَّا لعدمِ المحاباةِ منك، واتِّباعِ الحَقِّ، وقد بان لي مَوضِعُك من الدِّين، ومكانُك من العلمِ، وجعلتُ جزاءَ ذلك إكرامَك بأن أدخلتُك إليَّ، وجعلْتُ أذن الحاضرين إليك؛ ليتحَقَّقوا عودي إلى ما تحِبُّ، فشكره ودعا له.
لما استولى النصارى الأسبان على العرائش، طمحت نفوسُهم إلى الاستيلاء على غيرها وتعزيزِها بأختها، فرأوا أنَّ المهديةَ أقربُ إليها، فبعث إليها الطاغية فيليبس الثالث من جزيرة قادس تسعين مركبًا حربية، فانتهوا إليها واستولوا عليها من غير قتال؛ لفرار المسلمين الذين كانوا بها عنها، وبعدها كتب أهل سلا إلى السلطان زيدان، فبعث إليهم أبا عبد الله العياشي الذي كان مقدمًا بوكالته على الجهاد بدكالة، وأمر أبو عبد الله أهلَ سلا بالتهيؤ للغزو واتخاذ العُدة، فلم يجد عندهم إلَّا نحوَ المائتين منها، وكانت السنون والفِتَن قد أضعَفَتها، فحضَّهم على الزيادة والاستكثار منها، فكان مبلغُ عِدَّتهم بما زادوه زهاءَ أربعمائة، ثم نهض بهم إلى المعمورة فصادف بها من النصارى غِرَّةً، فكانت بينه وبينهم حربٌ قُربُها إلى أن غربت الشمس، فقُتِل من النصارى زهاءُ أربعمائة، ومن المسلمين مائتان وسبعون، وهذه أول غزوة أوقعها في أرض الغرب بعد صدوره من ثغر آزمور، ومنها أقصرت النصارى عن الخروج إلى الغابة، وضاق بهم الحالُ، ثم إن السلطان زيدان لما بلغه اجتماعُ الناس على سيدي محمد العياشي بسلا وسلامته من غدرةِ قائدِه السنوسي، بعث إلى قائده على عسكر الأندلس بقصبة سلا المعروف بالزعروري وأمره باغتيالِه والقبض عليه، ففاوض الزعروري أشياخَ الأندلس في ذلك، فاتفق رأيُهم على أن يكون مع العياشي جماعةٌ منهم عينًا عليه وطليعةً على نيَّتِه واستخبارًا لِما هو عازم عليه وما هو طالبٌ له، فلازمه بعضُهم وشعر العياشي بذلك فانقبض عن الجهادِ ولَزِم بيته.
لَمَّا تولى براك بن عبد المحسن أمرَ بني خالد نهض بجميعِ بني خالد للغزوِ، فورد اللصافة الماء المعروف، فأغار على عُربان سبيع وغيرهم, وأخذ منهم إبلًا كثيرة، فلما بلغ الأمير سعود خبَرُ بني خالد استشار من معه في النفير أو الحضير، فأشار عليه العُربان بالنفير طمعًا في الغنيمة، فتكلم حجيلان بن حمد فقال: هؤلاء مقصِدُهم الغنيمة ونحن مقصِدُنا عزُّ الإسلام والمسلمين، فانهض بالمسلمين في ساقةِ هذه الشَّوكةِ، فإن أظفرك اللهُ بهم لم يقُمْ لبني خالد قائمةٌ حتى الحسا بيدك، وأعطاك الله من الأموال ما هو خير ممَّا في محلتهم، وهؤلاء الجنود رؤساءُ بني خالد ورجالُ شوكتهم, فنهض سعود بجيشِه وورد ماء اللصافة، فوجد آثار بني خالد صادِرة منها، فبعث العيون يقتفون آثارهم حتى أقبلوا كأنَّها قِطَع الليل، فنهض لهم سعود بجيشِه فرسانًا ورُكبانًا، فلم يثبتوا لهم ساعةً واحدةً حتى انهزموا لا يلوي أحدٌ على أحدٍ، ولا والدٌ على ولد, فتبعهم جيشُ سعود في ساقَتِهم يقتلون ويغنَمون، واستأصلوا تلك الجموعَ قتلًا ونهبًا، وانهزم براك ومعه شرذمة قليلة إلى المنتفق, وهلك من بني خالد في هذه الوقعة بين القَتلِ والظمأ خلق كثير، قيل إنهم أكثر من ألف رجل, وأخذ سعودٌ جميع ركابهم وخيلهم وأذوادهم وأمتاعهم، وجميع ما معهم، ولم يقم بعد هذه الواقعة لبني خالد قائمةٌ.
غزا الناصِرُ أميرُ الأندلس مدينةَ بَطليوس؛ لمحاربة أهلِها وأميرِهم ابن مروان الجليقي؛ فلمَّا أخَذَهم الحِصارُ، وطاوَلَتهم الحربُ، وفَنِيَ رجالُهم، واستُبيحَت نَعَمُهم، وقُطِعَت ثَمراتُهم، ورأوا عزمًا لا فترةَ فيه، وجِدًّا لا بقاءَ لهم عليه- استأمنوا الناصِرَ، وعاذُوا بصَفحِه، فأوسعهم ما أوسَعَ أمثالَهم قبلهم. واستنزل ابنَ مروان الجليقي وأهلَه، وذوي الشوكة مِن صَحْبِه، وأسكَنَهم قرطبة، وألحقهم في الملاحِقِ السَّنِيَّة، وملك المدينة وولَّاها عُمَّاله، وصارت بسيلِ كوره. ثم انتقل الناصِرُ منها قاصدًا إلى مدينة أكشونبة بقرب الساحلِ الغربي من البحرِ المحيط، فاحتل بها يوم الاثنين لسبعٍ بقين من جمادى الآخرة، وكان قد افتتَحَ في طريقه حصنَ الوقاع وتردَّدَت الفتوحاتُ في هذا العامِ بوقائِعَ كانت على أهلِ بطليوس، وافتُتِحَت فيه مدينة شاطبة من بلنسيَّة، ثم افتُتِحَت بطليوس في العامِ التالي.
في ليلة الجمعة السادس والعشرين جمادى الأولى وقع بمكة المشرفة مطر غزير، سالت منه الأودية، وحصل منه أمر مهول على مكة؛ بحيث صار الماء في المسجد الحرام مرتفعًا أربعة أذرع، فلما أصبح الناس يوم الجمعة ورأوا المسجد الحرام بحر ماء، أزالوا عتبة باب إبراهيم، حتى خرج الماء من المسفلة، وبقي بالمسجد طين في سائر أرضه قَدْر نصف ذراع في ارتفاعه، فانتدب عدة من التجار لإزالته، وتهدم في الليلة المذكورة دور كثيرة، يقول المكثِر: زيادة على ألف دار، ومات تحت الردم اثنا عشر إنسانًا، وغرق ثمانية أنفس، ودلف سقف الكعبة، فابتلَّت الكسوة التي بداخلها، وامتلأت القناديل التي بها ماء، حدث ذلك السيل بمكة وأوديتها، وبطرق اليمن.
ثار الأرمن الصنارية بزَعامة موشيغ ماميكونيان، وسمباط بن آشوط، وامتنعوا عن دفع الخَراج، فأمدَّ المنصورُ الحسَن بن قحطبة أمير أرمينية بجيشٍ يضُمُّ كبارَ القادة، فالتقى الطرفانِ وجرت معركةٌ قرب جبل أرارات، وعُرِفَت المعركة في التاريخ الأرمني باسم بيغرافند، وفيها تمَّ قمعُ هذه الثورة وقتْلُ موشيغ، ودخلَ جيشُ المسلمين مدينة تفليس.
لمَّا فَتَح يَزيدُ بن المُهَلَّب قُهِسْتان وجُرْجان طَمِعَ في طَبَرِسْتان أن يَفْتَحها، فَعَزَم على أن يَسيرَ إليها، فاسْتَعمَل عبدَ الله بن المُعَمَّر اليَشْكُرِيَّ على السَّاسان وقُهِسْتان، وخَلَّفَ معه أَربعةَ آلاف، ثمَّ أَقبَل إلى أَدانِي جُرجان مما يَلِي طَبَرِسْتان، فاسْتَعمَل على أَيْذُوسا راشِدَ بن عَمرٍو، وجَعَلَه في أَربعةِ آلاف، ودَخَل بِلادَ طَبَرِسْتان، فأَرسَل إليه الإِصْبَهْبَذ صاحِبُها يَسألُه الصُّلْحَ وأن يَخرُج مِن طَبَرِسْتان، فأَبَى يَزيدُ، ورَجَا أن يَفْتَتِحَها، ووَجَّه أَخاهُ أبا عُيَينَة مِن وَجْهٍ، وابنَه خالدَ بن يَزيدَ مِن وَجْهٍ، وأبا الجَهْم الكَلْبِيَّ مِن وَجْهٍ، وقال: إذا اجْتَمعتُم فأَبُو عُيينَة على النَّاس. فسار أبو عُيينَة وأقام يَزيدُ مُعَسْكِرًا, واسْتَجاش الإصْبَهْبَذ أَهلَ جِيلان والدَّيْلَم، فأَتوه فالْتَقوا في سَفْحِ جَبلٍ، فانْهَزَم المشركون في الجَبلِ، فاتَّبَعهُم المسلمون حتَّى انْتَهوا إلى فَمِ الشِّعْبِ، فدَخلَه المسلمون وصَعَد المشركون في الجَبلِ واتَّبَعَهم المسلمون يَرومُون الصُّعود، فرَماهُم العَدُوُّ بالنِّشابِ والحِجارَةِ، فانْهَزَم أبو عُيينَة والمسلمون يَركَب بَعضُهم بَعضًا، يَتَساقَطون في الجَبلِ حتَّى انْتَهوا إلى عَسْكَرِ يَزيدَ، وكَفَّ عَدُوُّهم عن اتِّباعِهم، وخافَهُم الإصْبَهْبَذ، فكان أَهلُ جُرجان ومُقَدِّمُهم المَرْزبان يَسأَلُهم أن يُبَيِّتُوا مَن عندهم مِن المسلمين، وأن يَقطَعوا عن يَزيدَ المادَّةَ والطَّريقَ فيما بينه وبين بِلادِ الإسلام، ويَعِدُهم أن يُكافِئَهم على ذلك، فثاروا بالمسلمين، فقَتَلوهُم أَجمعين وهُم غارُون في لَيلةٍ، وقُتِلَ عبدُ الله بن المُعَمَّر وجَميعُ مَن معه فلم يَنْجُ منهم أَحَدٌ، وكَتَبوا إلى الإصْبَهْبَذ بِأَخْذِ المَضايِق والطُّرُق. وبَلَغ ذلك يَزيدَ وأَصحابَه فعَظُمَ عليهم وهالَهُم، وفَزِعَ يَزيدُ إلى حَيَّان النَّبَطِي وقال له: لا يَمنَعك ما كان مِنِّي إليك مِن نَصيحَة المسلمين، وقد جاءَنا عن جُرجان ما جاءَنا، فاعْمَل في الصُّلْح. فقال: نعم. فأَتَى حَيَّانُ الإصْبَهْبَذ فقال: أنا رَجُلٌ منكم، وإن كان الدِّينُ فَرَّقَ بيني وبينكم، فأنا لكم ناصِح، فأنت أَحَبُّ إِلَيَّ مِن يَزيدَ، وقد بَعَث يَسْتَمِدُّ وأَمْدادُه منه قَريبَة، وإنَّما أصابوا منه طَرَفًا، ولست آمَن أن يأتيك مَن لا تقوم له، فأَرِحْ نَفسَك وصالِحْه، فإن صالَحتَه صَيَّرَ حَدَّهُ على أَهلِ جُرجان بِغَدْرِهِم وقَتْلِهم أَصحابَه. فصالَحَهُ على سَبعمائة ألف، وقِيلَ: خَمسمائة ألف، وأربعمائة وَقْرِ زَعْفَران، أو قِيمتِه مِن العَيْنِ، وأَربعمائة رَجُلٍ، على كُلِّ رَجُلٍ منهم تُرْسٌ وطَيْلَسان، ومع كُلِّ رَجُل جامٌ مِن فِضَّة وخِرْقَة حَرير وكُسْوَة. ثمَّ رَجَع حَيَّانُ إلى يَزيدَ، فقال: ابْعَث مَن يَحْمِل صُلْحَهُم. فقال: مِن عندهم أو مِن عندنا؟ قال: مِن عندهم. وكان يَزيد قد طابت نَفسُه أن يُعطِيَهم ما سَأَلوا ويَرجِع إلى جُرجان، فأَرسَل إلى يَزيد مَن يَقبِض ما صالَحَهم عليه حَيَّان.
بُويِعَ لِيَزيد بن الوَليدِ الذي يُقالُ له: النَّاقِص، وإنَّما سُمِّيَ النَّاقِصَ لأنَّه نَقَصَ الزِّيادَة التي كان الوَليدُ زادَها في عَطِيَّاتِ النَّاس، وهي عشرة عشرة، ورَدَّ العَطاءَ إلى ما كان أيَّام هِشام، لمَّا قُتِلَ الوليد بن يَزيد خَطَب يَزيدُ بن وَليد النَّاسَ فذَمَّ الوَليدَ بن يَزيد وأنَّه قَتلَه لِفِعلِه الخَبيث. قال: (... ظَهَر الجَبَّارُ العَنيد، المُستَحِلُّ الحُرْمَة، والرَّاكِب البِدعَة، والمُغَيِّر السُّنَّة، فلمَّا رأيتُ ذَلِكَ أَشفَقتُ إذ غَشِيَتكم ظُلْمَة لا تَقلَع عَنكم عَلَى كَثرَةٍ مِن ذُنوبِكم، وقَسوَةٍ مِن قُلوبِكم، وأَشفَقتُ أن يَدعو كَثيرٌ مِن النَّاس إِلَى ما هُوَ عَليهِ، فيُجيبُه مَن أَجابَه مِنكم، فاستَخرتُ اللَّه فِي أَمرِي، وسَألتُه ألا يِكِلَني إِلَى نَفسِي، ودَعوتُ إلى ذلك مَن أَجابَني مِن أَهلِي وأَهلِ وِلايَتِي، وهو ابْنُ عَمِّي فِي نَسَبي وكُفْئِي فِي حَسَبي، فأَراحَ اللَّه مِنه العِبادَ، وطَهَّر مِنه البِلادَ، وِلايَةً مِن اللَّه، وعَونًا بِلا حَوْلٍ مِنَّا ولا قُوَّة، ولكن بِحَوْلِ اللَّه وقُوَّتِه ووِلايَتِه وعَوْنِه. ثمَّ قال: أيُّها النَّاس إنَّ لكم عَليَّ أن لا أَضَعَ حَجرًا على حَجَر ولا لَبِنَة، ولا أَكتَري نَهرًا، ولا أُكثِر مالًا، ولا أُعطِيَه زَوجةً ووَلدًا، ولا أَنقُل مالًا عن بَلدٍ حتَّى أَسُدَّ ثَغرَه وخَصاصَة أَهلِه بما يُغنيهم، فما فَضَل نَقلتُه إلى البَلدِ الذي يَليهِ، ولا أُجَمِّرَكُم في ثُغورِكم فأَفتِنَكم، ولا أُغلِق بابي دونكم، ولا أَحمِل على أَهلِ جِزْيَتِكم، ولكم أُعطِياتُكم كُلَّ سَنَة، وأَرزاقُكم في كُلِّ شَهر حتَّى يكونَ أَقصاكُم كَأدناكُم، فإن وَفَّيتُ لكم بما قلتُ فعليكم السَّمعُ والطَّاعة وحُسْنُ الوِزارَة، وإن لم أَفِ فلكم أن تَخلَعوني إلَّا أن أَتوبَ، وإن عَلِمتُم أَحدًا ممَّن يُعرَف بالصَّلاح يُعطيكم مِن نَفسِه مِثلَ ما أُعطيكم وأَردتُم أن تُبايِعوه فأنا أوَّلُ مَن يُبايعهُ. أيُّها النَّاس لا طاعةَ لِمَخلوقٍ في مَعصِيةِ الخالِق).
هو الإمامُ العلَّامة الفقيه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان بن خميس، الملقَّب كأسلافه أبا بُطَيْن -بضم الباء وفتح الطاء وسكون الياء- من عوائل قحطان، العائذي نسبًا، الحنبلي مذهبًا، النجدي بلدًا، فقيه الديار النجديَّة في عصرِه، وإمامٌ من أئمة العلم في زمنه, ولِدَ الشيخ في بلدة الروضة من بلدان سدير، لعشر بقين من ذي القعدة سنة 1194هـ, ونشأ بها وقرأ على عالمها محمد بن الحاج عبد الله بن طراد الدوسري الحنبلي، فمَهَر في الفقه، ثم رحل إلى شقراء عاصمةِ الوشم بنجد واستوطنها، وقرأ على قاضيها الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله الحُصين تلميذِ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، قرأ عليه في التفسير والحديث والفِقهِ وأصول الدين، حتى برع في ذلك كله، وأخذ عن العلَّامة أحمد بن حسن بن رشيد العفالق الأحسائي الحنبلي، وعن الشيخ العلامة حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر التميمي. رحل إلى الشام، ثمَّ عاد في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، فولَّاه قضاء الطائفِ، وبقي فيها مدة ثم رجع إلى شقراء وصار قاضيًا لها ولجميع بلدان الوشم، ولَمَّا تولى الإمام فيصل الحكمَ رغب إليه أهلُ القصيم أن يبعَثَ إليهم الشيخ أبا بطين قاضيًا لهم ومدرسًا، فبعثه الإمام فيصل وبَقِيَ عندهم إلى سنة 1370هـ حين رجع من عنيزة إلى شقراء، ومكث فيها إلى أن توفي فيها سنة 1383هـ. له "مجموعة رسائل وفتاوى" و"مختصر بدائع الفوائد" و"الانتصار للحنابلة" و"تأسيس التقديس في كشف شبهات ابن جرجيس". وقد أخذ عنه العلمَ بالقصيم وشقراء كثيرٌ من طلبة العلم.
هو أحمدُ بنُ أبي دُؤادَ بنِ جَريرٍ الإياديُّ، القاضي البَصريُّ، ثُمَّ البغداديُّ، الجَهْميُّ، وليَ قضاءَ القُضاةِ للمُعتَصِمِ والواثِقِ وبَعضِ أيَّامِ المتوكِّلِ . وُلِد سنةَ ستينَ ومائةٍ، وكان أبوه تاجرًا يَفِدُ إلى الشام، ثم وفد إلى العراق وأخذ ولَدَه هذا معه إلى العراق، فارتحل للبصرةِ، واتصل ابن أبي دؤاد بأصحاب واصلِ بنِ عطاء، وعنهم أخذ مذهَبَ الاعتزالِ، ثم اتَّصلَ بالمأمونِ فكان قاضيَ القُضاةِ، وتوفِّيَ سنةَ أربعينَ ومائتينِ، عن ثمانين سنةً ودُفِن بدارِه ببغدادَ، عامَلَه اللهُ بما يستَحِقُّ. وكان شاعرًا مُجيدًا، فصيحًا بليغًا، إلَّا أنَّه كان داعيةً إلى خَلقِ القُرآنِ. وقد كان يومَ المحنةِ مُؤَلِّبًا على أحمدَ بنِ حَنبَلٍ، وسببًا في شِدَّةِ تعذيبِه، وكان يقولُ: (يا أميرَ المؤمِنينَ، اقتُلْه، هو ضالٌّ مُضِلٌّ!) .قال ابنُ عساكِرَ: (وليَ ابنُ أبي دُؤادَ قضاءَ القُضاةِ للمُعتَصِمِ ثُمَّ للواثِقِ، وكان موصوفًا بالجودِ والسَّخاءِ، وحُسنِ الخُلُقِ ووُفورِ الأدَبِ، غيرَ أنَّه أعلَن بمَذهَبِ الجَهْميَّةِ، وحَمَل السُّلطانَ على امتحانِ النَّاسِ بخَلقِ القُرآنِ) .وحكى عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارميُّ دورَ ابنِ أبي دُؤادَ في إشعالِ فِتنةِ خَلقِ القُرآنِ، فقال: (أكرَهوا النَّاسَ عليه بالسُّيوفِ والسِّياطِ، فلم تَزَلِ الجَهْميَّةُ سنواتٍ يركَبونَ فيها أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ بقُوَّةِ ابنِ أبي دُؤادَ المحادِّ للهِ ولرَسولِه، حتى استُخلِف المتوكِّلُ -رحمةُ اللهِ عليه- فطمَس اللهُ به آثارَهم، وقَمَع به أنصارَهم، حتى استقام أكثَرُ النَّاسِ على السُّنَّةِ الأُولى، والمنهاجِ الأوَّلِ) .
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامة الناقِدُ في فنون العلوم: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ عماد الدين أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، من تلاميذ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ. كان مولِدُه في رجب سنة 705. توفي ولم يبلغِ الأربعين، وكان قد حَصَّل من العلومِ ما لا يَبلُغُه الشُّيوخُ الكبار، وتفَنَّنَ في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين، والتاريخ والقراءات، وله مجاميعُ وتعاليقُ مُفيدة كثيرة, وكان حافِظًا جيِّدًا لأسماءِ الرجال وطُرُقِ الحديث، عارفًا بالجَرحِ والتعديل، بصيرًا بعِلَلِ الحديث، حَسَن الفَهمِ له، جَيِّد المذاكرة، صَحيحَ الذِّهنِ مُستقيمًا على طريقةِ السَّلَفِ، واتِّباع الكِتابِ والسنَّة، مثابرًا على فِعلِ الخيرات، ومن مصنَّفاته كتاب العلل، وهو مؤلِّفُ كِتاب العقود الدريَّة في مناقب شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّة، وله كتاب قواعد أصول الفقه، وفضائل الشام، والأحكام في الفقه، وغيرها كثير, وكان قد مَرِضَ قريبًا من ثلاثة أشهر بقُرحة وحُمَّى سُل، ثم تفاقم أمرُه وأفرط به إسهالٌ، وتزايد ضَعفُه إلى أن توفِّيَ يوم الأربعاء عاشرَ جمادى الأولى قبل أذانِ العصر، وكان آخِرَ كلامِه أنْ قال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ الله، اللهُمَّ اجعَلْني من التوَّابينَ واجعَلْني من المتطَهِّرينَ، فصُلِّيَ عليه يومَ الخميس بالجامِعِ المظفري وحضر جنازتَه قُضاةُ البلد وأعيانُ الناس من العلماء والأمراء والتجَّار والعامة، وكانت جنازتُه حافلةً، ودُفِن بالروضة.
ارتكب الرُّوسُ فظائعَ وجرائمَ في حقِّ الشعب الأفغاني المسلم، أدَّت إلى مقتل أكثَرَ من مِليون مُسلِمٍ، وتشريدِ حوالي خمسة ملايين آخرين، واستخدم الرُّوسُ أحدث ما في ترسانتِهم العسكريَّةِ من أسلحةٍ فتَّاكة ومُحرَّمة دوليًّا، غير أنها لم توفِّر لهم البقاء الآمن في أفغانستان، حيث شنَّ المجاهدون الأفغانُ حربًا شرسةً ضد الروس، أدَّت إلى استنزافٍ دائمٍ لقُوَّاتهم، وخسر الروس حوالي أكثر من (13) ألفَ قتيلٍ و(35) ألف جريحٍ في حربهم التي استمرَّت أكثر من ثماني سنواتٍ في أفغانستان حتى انسحبوا منها في 26 جمادى الآخرة 1408هـ = 15 فبراير 1988م، غير أن "نجيب الله محمد" رئيسَ الاستخبارات الأفغانية، والموالي للسوفييت، سيطَرَ على الحُكم في البلاد، وهو ما دفع المجاهدينَ إلى الاستمرار في الحرب حتى استطاعوا تقويض أركانِ حُكمِهِ، ثم قَتلِهِ عَلَنًا أمام كاميراتِ التِّلفاز.
صاحب دمشق الملك أبو منصور أتابك طغتكين -أتابك يعني الأمير الوالد- وهو من مماليك السلطان تتش بن ألب أرسلان، زوَّجه بأم ولده دقاق، فلما قُتل السلطان تملَّك بعده ابنه دقاق، وصار طغتكين مقدَّم عسكره، ثم تملَّك بعد دقاق. كان عاقلًا خيِّرًا شهمًا شجاعًا، مَهيبًا مجاهدًا، مؤثِرًا للعدل، يلقَّب ظهير الدين, كثيرَ الغزوات والجهاد للفرنج، حسنَ السيرة في رعيته، ولَمَّا توفي مَلَك بعده ابنُه تاج الملوك بوري، وهو أكبر أولاده، بوصيةٍ من والده بالمُلْك، وأقر وزير أبيه أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني على وزارته. قال الذهبي: "لولا أن الله أقام طغتكين للإسلام بإزاء الفرنج، وإلا كانوا غلبوا على دمشق؛ فقد هزمهم غير مرة، فقد كان سيفًا مسلولًا على الفرنج. لكن له خرمة؛ كان قد استفحل البلاء بداعي الإسماعيلية بهرام بالشام، وكان يطوف المدائن والقلاع متخفيًا، ويغوي الأغتام والشطَّار، وينقاد له الجهَّال، إلى أن ظهر بدمشق بتقرير قرَّره صاحب ماردين إيلغازي مع طغتكين، فأخذ يكرِمُه طغتكين، ويبالغ اتقاءً لشَرِّه، فتبعه الغوغاء والسفهاء والفلاحون، وكَثُروا، ووافقه الوزيرُ طاهر المزدقاني، وبثَّ إليه سِرَّه، ثم التمس من الملك طغتكين قلعةً يحتمي بها، فأعطاه بانياس سنة 520، فعَظُم الخطب، وتوجَّع أهل الخير، وتستَّروا مِن سَبِّهم، وكانوا قد قتلوا عدة من الكبار", وقال ابن الجوزي: "كان طغتكين شهمًا عادلًا، حزن عليه أهل دمشق، فلم تبقَ محلة ولا سوق إلا والمأتم قائم فيه عليه؛ لعدله وحسن سيرته. حكم على الشام خمسًا وثلاثين سنة، وسار ابنه بسيرته مُدَيدة، ثم تغيَّر وظلَم". وقال فيه أبو يعلى بن القلانسي: "مرض ونحل، ومات في صفر سنة 522، فأبكى العيون، وأنكأ القلوب، وفتَّ في الأعضاد، وفتَّت الأكباد، وزاد في الأسف، فرحمه اللهُ، وبرَّد مضجعه".
هو الشيخ الإمام العلامة المحدِّث، الأديبُ النَّسَّابة: عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري الموصلي المعروف بابن الأثير، مصنف كتاب (أُسْد الغابة في أسماء الصحابة)، وكتاب (الكامل في التاريخ)، وهو من أحسنها سردًا للحوادث ابتدأه من المبتدأ إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، ولد بجزيرة ابن عمر، في سنة 550، ونشأ بها، وأخواه العلامة مجد الدين والوزير ضياء الدين، ثم تحوَّلَ بهم أبوهم إلى الموصل، فسَمِعوا بها، واشتغلوا وبرعوا وسادوا. كان ابن الأثير إمامًا علامة، أخباريًّا أديبًا، متفنِّنًا رئيسًا محتشمًا، عالِمًا بالأنساب والتواريخ وأيام العرب، وله كتاب خاص بتاريخ الأتابكة الذين عاش في ظلهم، وكان منزله مأوى طلبة العلم، ولقد أقبل في آخر عمره على الحديث إقبالًا تامًّا، وسمع العاليَ والنازل, ووزر لبعض أتابكة الموصل وأقام بها في آخر عمره موقرًا مُعظَّمًا إلى أن توفي بها، وكان يتردد إلى بغداد. قدم ابن الأثير الشام رسولًا، فحدَّث بدمشق وحلب. قال ابن خلكان: " لَمَّا وصلت إلى حلب في أواخر سنة 626 كان عز الدين ابن الأثير مقيمًا عند الطواشي شهاب الدين طغريل الخادم أتابك الملك العزيز بن الملك الظاهر صاحب حلب، وكان الطواشي كثير الإقبال عليه حَسَنَ الاعتقاد فيه مُكْرِمًا له، فاجتمعت به فوجدته رجلًا مكملًا في الفضائل وكرم الأخلاق وكثرة التواضع، فلازمت التردادَ إليه" وأمَّا ابن الأثير الجزري الآخر فهو أخوه أبو السعادات المبارك مصنف كتاب جامع الأصول، وأخوهما الوزير ضياء الدين أبو الفتح نصر الله كان وزيرًا للملك الأفضل علي بن صلاح الدين، توفي ابن الأثير عن خمس وسبعين سنة- رحمه الله- في الموصل، ودُفِنَ بها.
هو العلامة المتكلم أبو الحسن علي بن أبي علي ابن محمد بن سالم الثعلبي سيف الدين الآمدي، الحنبلي ثم الشافعي. الحموي الدمشقي، صاحبُ المصَنَّفات في الأصلين وغيرهما، ومن مصنفاته: " أبكار الأفكار في الكلام " و" دقائق الحقائق في الحكمة " و" إحكام الأحكام في أصول الفقه " ولد بعد 550 بيسيرٍ بآمد، وقرأ بها القراءات على الشيخ محمد الصفار، وعمار الآمدي. وحفظ "الهداية" في مذهب أحمد. كان حنبليَّ المذهب فصار شافعيًّا أشعريًّا أصوليًّا منطقيًّا جدليًّا خلافيًّا، وكان حسن الأخلاق، وقد تكَلَّموا فيه بأشياءَ اللهُ أعلم بصحتها، وقد كانت ملوك بني أيوب كالمعظَّم والكامل يُكرمونَه وإن كانوا لا يحبُّونه كثيرًا، وقد فوَّضَ إليه المعَظَّم تدريس العزيزية، فلما ولي الأشرفُ دمشق عزله عنها ونادى بالمدارس أن لا يشتغل أحدٌ بغير التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بعلومِ الأوائل نفيتُه، فأقام الشيخ سيف الدين بمنزله إلى أن توفِّي بدمشق، ودُفِنَ بتربته بسفح قاسيون، وكان قد اشتغل ببغداد على أبي الفتح نصر بن فتيان بن المنى الحنبلي، ثم انتقل إلى مذهبِ الشافعي فأخذ عن ابن فضلان وغيره، وحَفِظَ طريقة الخلاف للشريف، وزوائد طريقة أسعد الميهني، ثم انتقل إلى الشام واشتغل بعلوم المعقول. قال الذهبي: "تفنَّنَ في علم النظر، والفلسفة وأكثَرَ من ذلك. وكان من أذكياءِ العالم, ثم دخل الديارَ المصرية وتصَدَّرَ بها لإقراء العقليات بالجامع الظافري. وأعاد بمدرسةِ الشافعي. وتخرَّج به جماعة. وصنَّف تصانيفَ عديدة. ثم قاموا عليه، ونسبوه إلى فساد العقيدة والانحلال والتعطيل والفلسفة. وكتبوا محضرًا بذلك. قال القاضي ابن خلكان: وضعوا خطوطَهم بما يستباحُ به الدم، فخرج مستخفيًا إلى الشام فاستوطن حماة" ثم تحوَّل إلى دمشق فدرس بالعزيزية، ثم عُزِلَ عنها ولزم بيته إلى أن مات، وله ثمانون عامًا- رحمه الله تعالى وعفا عنه.