لَمَّا رجَعَ سَيفُ الدولة إلى حَلَب من غزو الروم، كان لحِقَه في الطريق غشيةٌ أرجَفَ عليه الناسُ بالموت، فوثب هبةُ الله ابنُ أخيه ناصر الدولة بن حمدان بابنِ دنجا النصراني فقتَلَه، وكان خصيصًا بسيفِ الدولة، وإنما قتَلَه لأنَّه كان يتعَرَّضُ لغلام له، فغار لذلك، ثمَّ أفاق سيفُ الدولة، فلَمَّا عَلِمَ هِبةُ الله أن عمه لم يمُتْ هَرَب إلى حرَّان، فلما دخلها أظهر لأهلِها أنَّ عَمَّه مات، وطلب منهم اليمينَ على أن يكونوا سِلْمًا لِمَن سالَمَه، وحَرْبًا لِمَن حاربه، فحَلَفوا له، واستثنَوا عَمَّه في اليمين، فأرسل سيفُ الدَّولةِ غُلامَه نجا إلى حرَّانَ في طلَبِ هبةِ الله، فلما قاربها هربَ هِبةُ الله إلى أبيه بالمَوصِل، فنزل نجا على حَرَّان في السابع والعشرين من شوال، فخرج أهلُها إليه من الغدِ، فقبض عليهم وصادَرَهم على ألف ألف درهم، ووكلَ بهم حتى أدَّوها في خمسة أيام، بعد الضَّربِ الوجيع بحضرةِ عِيالِهم وأهليهم، فأخرجوا أمتعتَهم فباعوا كلَّ ما يساوي دينارًا بدِرهمٍ؛ لأنَّ أهلَ البلد كلَّهم كانوا يبيعون ليس فيهم مَن يشتري؛ لأنَّهم مُصادَرون، فاشترى ذلك أصحابُ نجا بما أرادوا، وافتقَرَ أهل البلد، وسار نجا إلى ميافارقين، وترك حرَّان شاغرةً بغير والٍ، فتسَلَّط العيارون على أهلِها.
هو السُّلطانُ الأَميرُ شَرفِ الدَّولةِ أبو المَكارِمِ مُسلِمُ بن مَلِكِ العَربِ أبي المعالي قُريشِ بن بدران بن مُقَلَّدٍ حُسام الدَّولةِ أبي حَسَّان بن المُسَيِّب بنِ رافعٍ العقيليُّ, كان يَتَرَفَّض كأَبيهِ, ونَهَبَ أَبوهُ دارَ الخِلافَةِ في فِتنَةِ البساسيري، وأَجارَ القائمَ بالله, وماتَ سَنةَ 453هـ كَهْلًا، فقامَ شَرفُ الدولةِ بعدَه، واستَولَى على دِيارِ رَبيعةَ، ومُضَر، وتَمَلَّكَ حَلَب، وأَخذَ الحملَ والإتاوةَ من بلادِ الرُّومِ في أنطاكية، ونَحوِها. وسار إلى دِمشقَ فحاصَرَها. وكان قد تَهَيَّأَ له أَخذُها، فبَلغَه أنَّ حران قد عَصَى عليه أَهلُها، فسار إليهم، فحارَبَهم وحارَبوهُ، فافتَتَحها وبَذلَ السَّيْفَ، وقَتَلَ بها خِلْقًا من أَهلِ السُّنَّةِ. قال الذهبيُّ: "كان رافِضِيًّا خَبِيثًا، أَظهرَ ببِلادِه سَبَّ السَّلَفِ، واتَّسَعَت مَملكتُه، وأَطاعَتهُ العَربُ، واستَفحلَ أَمرُه حتى طَمِعَ في الاستِيلاءِ على بغداد بعدَ وَفاةِ طُغرلبك. وكان فيه أَدَبٌ، وله شِعرٌ جَيِّدٌ. وكان له في كلِّ قَريةٍ قاضٍ، وعاملٌ، وصاحِبُ خَبَرٍ. وكان أَحْوَلَ، له سِياسَةٌ تامَّةٌ. وكان لِهَيْبَتِه الأَمنُ وبعضُ العَدلِ في أيامِه مَوجودًا. وكان يَصرِف الجِزيةَ في بِلادِه إلى العَلَوِيِّين". وهو الذي عَمَّرَ سُورَ المَوصِل وشَيَّدَها في سِتَّةِ أَشهُر من سَنةِ 474هـ. ثم إنه جَرَى بينه وبين السُّلطانِ سُليمان بن قتلمش السلجوقي مصاف على بابِ أنطاكية، كان سُليمانُ بن قتلمش قد مَلَكَ مَدينةَ أنطاكية، فلمَّا أَرسلَ إليه شَرفُ الدولةِ مُسلمَ بن قريش يَطلُب منه ما كان يَحمِلُه إليه الفردوس من المالِ، أَجابهُ بأن المالَ الذي كان يَحمِلُه صاحِبُ أنطاكية فإنَّما هو لِكَونِه كافرًا، وكان يَحمِل جِزيةَ رَأسِه وأَصحابِه، وهو بِحَمدِ الله مُؤمنٌ، فنَهَبَ شَرفُ الدولةِ بَلدَ أنطاكية، فنَهبَ سُليمانُ أيضًا بَلدَ حَلَب، فلَقِيَهُ أَهلُ السَّوادِ يَشكُون إليه نَهْبَ عَسكرِه، فقال:أنا كنتُ أَشَدَّ كَراهِيةً لما يَجرِي، ولكنَّ صاحِبَكم أَحوَجَني إلى ما فَعلتُ، ولم تَجرِ عادَتي بنَهبِ مالِ مُسلمٍ، ولا أَخْذِ ما حَرَّمَتهُ الشَّريعةُ. وأَمَرَ أَصحابَه بإعادَةِ ما أَخذوهُ منهم، فأَعادَهُ، ثم إن شَرفَ الدولةِ جَمعَ الجُموعَ من العَربِ والتُّركمانِ، وسار إلى أنطاكية لِيَحصرَها، فلمَّا سَمِعَ سُليمانُ الخَبرَ جَمعَ عَساكِرَه وسار إليه، فالتَقَيا في طَرفٍ من أَعمالِ أنطاكية، واقتَتَلوا، فانهَزمَت العَربُ، فتَبِعَهم شَرفُ الدولةِ مُنهَزِمًا، ثم قُتِلَ، وله بِضعٌ وأَربعون سَنَةً. ولما قُتِلَ قَصدَ بَنُو عُقيلٍ أَخاهُ إبراهيمَ بنَ قُريشٍ، وهو مَحبوسٌ، فأَخرَجوهُ ومَلَّكوهُ أَمرَهُم، وكان قد مَكثَ في الحَبسِ سِنينَ كَثيرةً بحيث إنَّه لم يُمكِنهُ المَشيُ والحَركةُ لمَّا أُخرِجَ، ثم سار سُليمانُ بن قتلمش إلى حَلَب فحَصرَها مُستَهلَّ رَبيعٍ الأوَّلِ، فأَقامَ عليها إلى خامسِ رَبيعٍ الآخرَ، فلم يَبلُغ منها غَرَضًا، فرَحلَ عنها.
هو الكاتبُ المؤرِّخُ الصاحبُ محيى الدين عبد الله بن رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر السّعدىُّ الموقَّعُ كاتب الإنشاء بالديار المصريَّة، وكان من أبرع المؤرِّخين الذين ظهروا في مطالِعِ دولة المماليك البحريَّة، وكان إلى جانب كونِه مؤرِّخًا، كاتبًا صاحِبَ قَلمٍ بليغٍ أهَّلَه لأن يحتلَّ مكانةً مرموقة في الصفِّ الأوَّل من كتَّاب العربيَّة. ولد بالقاهرة في 9 محرم 620هـ (12 من فبراير 1223م) بدأ حياته بحفظ القرآنِ مِثلَ أقرانه من طلبةِ العلم، وتردَّدَ على حلقات الفُقَهاءِ والمحدثين, وامتَدَّت ثقافته لتشمل الأدبَ والتاريخ والأخبار، وهو ما مكَّنَه من الالتحاق بديوانِ الإنشاء على عهدِ الأيوبيِّينَ، الذي كان يضُمُّ فحولَ الكتَّاب البارعين، ولم يبدأ نجم ابن عبد الظاهر في التألُّق والظهورِ إلَّا في عهد السلطان الظاهر بيبرس، حين عَهِدَ إليه بعَمَلِ شَجرةِ نَسَب للخليفة الحاكِمِ بأمر الله أحمد العباسي، الذي اختاره بيبرس خليفةً للمسلمين في محاولةٍ منه لإحياء الخلافة العباسيَّة في القاهرةِ بعد أن سقَطَت في بغداد سنة 656هـ ( 1257م)، ثم توثَّقَت صلتُه بالظاهر بيبرس حتى صار موضِعَ ثِقتِه، فعندما أرسلَ إليه الملك المغولي بركة خان يطلُبُ عَقدَ حِلفٍ مع بيبرس كتَبَ ابن عبد الظاهر صيغةَ الكِتاب، وقرأه على السلطانِ بحضور الأمراء، كما كتب تفويضَ الظاهر بيبرس بولايةِ العهدِ إلى ولَدِه الملك السعيدِ بركة خان. واحتفَظَ ابن عبد الظاهر بمكانتِه أيضًا في عهد السلطان قلاوون الذي حكم مصرَ بعد الظاهِرِ بيبرس وولَدَيه، وكتب له تفويضَ السَّلطَنة بولايةِ العَهدِ إلى ابنه علاء الدين علي، ثم لابنه الملك الأشرف خليل قلاوون. وقد أشاد ببلاغتِه معاصِروه وشهدوا له بالتقدُّم في صناعةِ الكِتابة والأدب؛ فقد وصفه القلقشندي بأنَّه وأبناءه بيتُ الفصاحة ورؤوسُ البلاغة، وقال عنه ابن تغري بردي: بأنَّه من ساداتِ الكُتَّاب ورؤسائِهم وفُضَلائِهم, وهو صاحِبُ النَّظمِ الرَّائقِ والنَّثر الفائق, ولَمَّا وضع ابن عبد الظاهر مؤلَّفاته التاريخيَّةَ ضَمَّنَها عددًا كبيرًا من الوثائق التي كتبها، وصاغ أحداثَ عَصرِه ووقائعه وصوَّرَ أبطالَه ومعاركَه، وترك ابن عبد الظاهر عددًا من المؤلَّفات التاريخيَّة والأدبيَّة وصل إلينا كثيرٌ منها مثل: الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، وهذه السيرة كتبها المؤلِّفُ في حياة السلطانِ، وتشريف الأيام والعصور بسيرة السلطان الملك المنصور، وهي سيرةٌ للمنصور قلاوون، والروضة البهيَّة الزاهرة في خطط المُعِزِّية القاهرة. وقد امتدَّت الحياة بابن عبد الظاهر حتى تجاوز السبعينَ مِن عمره قضى معظمَها قريبًا من الأحداث التي شَهِدَتها مصرُ والشام فسَجَّلَها في كتبه. تُوفي في القاهرة في 4 من شهر رجب من هذه السنة, ودفن بالقرافة بتُربتِه التي أنشأها.
اضطربت أحوال الدولة المرينية بفاس وتسلَّط بها اليهود, بعد تعيين السلطان عبد الحق هارون اليهودي رئيسًا لدولته كما عين عددًا منهم في حكومته، وكانوا قد أظهروا الإسلام, فاجتمع رؤساءُ فاس عند خطيب القرويين الفقيه أبي فارس عبد العزيز بن موسى الورياكلي وكانت له صلابة في الحقِّ وجَلادة عليه بحيث يلقي نفسَه في العظائم ولا يبالي، وقالوا له: ألا ترى إلى ما نحن فيه من الذلَّة والصغار وتحكُّم اليهود في المسلمين والعبث بهم حتى بلغ حالهم إلى ما سمعت، فأثر كلامهم فيه, وللحينِ أغراهم بالفتك باليهودِ وخلع طاعة السلطانِ عبد الحق وبيعة الشريفِ أبي عبد الله الحفيد، فأجابوه إلى ذلك واستدعوا الشريف الحفيد فبايعوه والتفَّت عليه خاصَّتُهم وعامَّتهم وتولى كِبْرَ ذلك أهل حومة القلقليين منهم ثم تقدم الورياكلي بهم إلى فاس الجديد فصمدوا إلى حارة اليهود فقتلوهم واستلبوهم واصطلموا نعمَتَهم واقتسموا أموالهم، وكان السلطان عبد الحق يومئذ غائبًا في حركة له ببعض النواحي, وقيل إن السلطان عبد الحق خرج بجيشه إلى جهة القبائل الهبطية وترك اليهودي يقبض من أهل فاس المغارم فشَدَّ عليهم حتى قبض على امرأةٍ شريفة وأوجعها ضربًا وحكى ما تقدَّمَ فاتصل بعبد الحق خبَرُ خلعه فانفضَّ مُسرعًا إلى فاس واضطرب عليه أمر الجند ففسدت نيَّاتُهم وتنكَّرت وجوهُهم، وصار في كل منزلة تنفض عنه طائفة منهم فأيقن بالنكبةِ وعاين أسبابَ المنية، ولما قَرُب من فاس استشار هارون اليهوديَّ فيما نزل به فقال اليهودي له: لا تَقدَم على فاس لغَلَيان قِدرِ الفتنة بها، وإنما يكون قدومنا على مكناسة الزيتون؛ لأنها بلدنا وبها قوَّادنا وشيعتنا، وحينئذ يظهر لنا ما يكون، فما استتمَّ اليهودي كلامه حتى انتظمه بالرمحِ رجلٌ من بني مرين يقال له تيان، وعبد الحق ينظر، وقال: وما زلنا في تحكم اليهود واتِّباعِ رأيهم والعمل بإشارتِهم، ثم تعاورت اليهوديَّ الرماحُ من كل جانب وخرَّ صريعًا، ثم قالوا للسلطان عبد الحق: تقدم أمامَنا إلى فاس؛ فليس لك اليوم اختيار في نفسِك، فأسلم نفسه وانتُهِبت محلَّتَه وفيئَت أموالُه وحلَّت به الإهانة وجاؤوا به إلى أن بلغوا عين القوادس خارج فاس الجديد، فاتصل الخبر بأهل فاس وسلطانهم الحفيد، فخرج إلى عبد الحق وأركبه على بغل بالبردعة، وانتزع منه خاتم المُلك وأدخله البلد في يومٍ مشهود حضره جمعٌ كبير من أهل المغرب، وأجمعوا على ذمه، وشكروا الله على أخذِه، ثم جُنِّب إلى مصرعه، فضُربت عنقه صبيحة يوم الجمعة السابع والعشرين رمضان من هذه السنة, ودفن ببعض مساجد البلد الجديد ثم أُخرج بعد سنة ونُقِل إلى القلعة، فدفن بها وانقرضت بمَهلِكِه دولةُ بني عبد الحق من المغرب.
غزا الإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود الرياضَ في صفَر, فنازل أهلَها أيامًا عديدة وضيَّق عليهم واستولى على بعضِ برودِها وهدم أكثَرَها وهدم المرقابَ، وحصل بينهم قتالٌ قُتِل فيه عددٌ من أهل الرياض، وكانت هذه الغزوةُ. يقول ابن بشر: "بعد هذه الوقعة دخل قلبَ دهام الرعبُ والخجَلُ، ودخله الخوفُ والوجَلُ، فلم تستقرَّ له عينٌ, وقام يحاول الانهزامَ، وجمع رؤساءَ بلَدِه وأخبَرَهم بحقيقة مقصِدِه وأنه ملئَ خوفًا ورعبًا، فصاحوا عليه بأجمَعِهم وقالوا: خذ منا العهدَ والميثاقَ، فقال لهم: دعوني، فليست هذه البلدُ لي وطنًا، ولا أجد لي بها أنسًا ولا سكنًا" فلما انتصف ربيع الثاني من هذا العام سار عبد العزيز للمرَّةِ الثانية في هذا العام لغزوِ الرياضِ، فلمَّا قَرُب منها جاءه البشير بأنَّ ابنَ دواس قد هرب من الرياض، فحَثَّ عبد العزيز السيرَ إليها فدخلها بعد أن ألقى اللهُ في قلب دهام الرعبَ، فخرج منها هو ونساؤه وعياله وأعوانه. يصف ابنُ بشر خروجَ ابن دواس من الرياض ودخولَ الإمام عبد العزيز بن محمد بقوله: "وهذا شيء حدث، فإنَّه ما خاف من أهل بلدِه خيانةً، بل كلُّهم صادقون معه، ولا حصل عليه تضييقٌ يُلجِئه إلى ذلك، والحرب بينه وبين المسلمين له وعليه، ولكنَّ الله سبحانه جعلها آيةً لِمن افتكر، وعبرةً لمن اعتبر. قيل إنه انتفخ سَحرُه وطاش قلبُه ولبُّه، فقام فزعًا مرعوبًا وركب خيلَه وركابَه، فلما ظهر من القصر، قال: يا أهل الرياض، هذا لي مدة سنين أحارب ابنَ سعود، والآن سئمت من الحرب، فمن أراد أن يتبعني فليفعَلْ, ففَرَّ أهل الرياض في ساقتِه الرجال والنساء، هربوا على وجوههم إلى البَرِّ، وقصدوا الخرجَ، وهلك منهم خلقٌ كثير عطشًا وجوعًا.. والرجل من أهل الرياض يأخذُ الغرب- نوع من الدلو كبير-يجعل فيه ماء ويحمله على ظهرِه، والغرب لا يمسِكُ الماء، والإبل عنده لا يركَبُها، وتركوها خاويةً على عروشها: الطعام واللحم في القدور، والسواني في المناحي، والأبواب لم تغلق, وفي البلدِ مِن الأموال ما يعجِزُ عنه الحصر, فلما دخل عبد العزيز الرياضَ نادى فيها بالأمانِ، فرجع كثيرٌ منهم وسكنوها، وحاز عبد العزيز ما فيها من أموالِ الهاربين من السلاحِ والطعام والأمتعة وغير ذلك، ومات ممَّن مع دهام في هزيمتِه أربعمائة.. وقد أقام هذه الحرب سبعة وعشرين سنة، وذكر لي أنَّ القتلى في هذه المدة نحو أربعة آلاف رجل: من أهل الرياض ألفان وثلاثمائة, ومن المسلمين ألف وسبعمائة". وقد ترتَّب على خروج دهام بن دواس نهائيًّا من الرياض منهزمًا, وقُضِيَ على أعتى خصوم الدعوة في نجدٍ, ودخول الرياض تحتَ حُكمِ دولة الدرعية.
لَمَّا حشد سعودٌ حشوده في الجنوب خرج إلى الرياض، فالتقى مع قوات أخيه عبد الله التي كان يقودها أخوه محمد بن فيصل في معركة المعتلا، وهي أول معركة بين أبناء الإمام فيصل عبد الله وسعود، وقد قُتِلَ فيها عددٌ كبير من الطرفين، وخاصة أتباع سعود، وجُرِحَ فيها سعود جروحًا بليغة، وأصيب في إحدى يديه، فلجأ إلى آلِ مرة في شرق البلاد، وبقي عندها للتداوي حتى بَرِئت جراحُه.
سار عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ملك بلاد الروم إلى ولاية حلب؛ قصدًا للتغلُّب عليها، ومعه الأفضلُ بن صلاح الدين يوسف، حيث كان أشار عليه ذوو الرأيِ من أصحابه، وقالوا له: لا يتِمُّ لك هذا إلا بأن يكون معك أحدٌ من بيت أيوب لِيسهلَ على أهل البلاد وجُندِها الانقياد إليه؛ وهذا الأفضَلُ بن صلاح الدين هو في طاعتك، فأحضر الأفضل من سميساط إليه، واستقَرَّت القواعد بينهما أن يكون ما يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل، وهو في طاعة كيكاوس، والخطبة له في ذلك أجمع، ثم يقصِدون ديارَ الجزيرة، فما يفتحونَه مِمَّا بيد الملك الأشرف مثل: حران والرَّها من البلاد الجزرية، تكون لكيكاوس، وجرت الأيمانُ على ذلك، وجمعوا العساكِرَ وساروا، فملكوا قلعة رغبان، فتسَلَّمَها الأفضل، فمال الناسُ حينئذ إليهما، ثم سارا إلى قلعةِ تل باشر، وفيها صاحِبُها ولَدُ بدر الدين دلدرم الياروقي، فحصروه، وضَيَّقوا عليه، وملكوها منه، فأخذها كيكاوس لنفسِه، ولم يسَلِّمها إلى الأفضل، فاستشعر الأفضَلُ من ذلك، وقال: هذا أوَّلُ الغدر، وخاف أنَّه إن ملك حلب يفعل به هكذا، فلا يحصُلُ إلَّا أن يكون قد قلع بيتَه لغيره، ففترت نيَّتُه، وأعرض عمَّا كان يفعله، وكذلك أيضًا أهل البلاد، وأما صاحِبُ حلب فلما حدث هذا الأمر خاف أن يحصُروه، وربَّما سَلَّم أهلُ البلد والجند المدينةَ إلى الأفضل لمَيلِهم إليه، فأرسل إلى المَلِك الأشرف بن الملك العادل، صاحبِ الديار الجزرية وخلاط وغيرها، يستدعيه إليه لتكونَ طاعتُهم له، ويخطُبون له، ويجعل السكةَ باسمه، ويأخُذ من أعمال حلب ما اختار، فجمع عسكَرَه وأحضر إليه العربَ من طيئ وغيرهم، ونزل بظاهِرِ حلب، ولما أخذ كيكاوس تل باشر كان الأفضَلُ يشير بمعاجلة حلب قبل اجتماعِ العساكر بها، وقبل أن يحتاطوا ويتجَهَّزوا، فعاد عن ذلك، وصار يقولُ: الرأي أننا نقصد منبج وغيرها؛ لئلا يبقى لهم وراء ظهورِنا شيء، قصدًا للتمادي فتوجَّهوا من تل باشر إلى جهة منبج، وتقدَّم الأشرف نحوهم، وسارت العربُ في مقدِّمته، وكان طائفة من عسكر كيكاوس، نحو ألف فارس، قد سبقت مقدمته له، فالتقوا هم والعربُ ومن معهم من العسكر الأشرفي، فاقتتلوا، فانهزم عسكر كيكاوس، وعادوا إليه منهزمينَ، وأكثر العرب الأسرَ منهم والنهبَ؛ لجودة خيلهم ودبر خيل الرومِ، فلما وصل إليه أصحابُه منهزمين لم يثبت، بل ولى على أعقابِه يطوي المراحِلَ إلى بلاده خائفًا يترقَّبُ، فلما وصل إلى أطرافها أقام، فسار حينئذ الأشرف، فملك رغبان، وحصر تل باشر، وبها جمعٌ مِن عسكر كيكاوس، فقاتلوه حتى غُلِبوا، فأُخِذَت القلعة منهم، وأطلَقهم الأشرف، وسَلَّم الأشرف تل باشر وغيرها من بلد حلب إلى شهابِ الدين أتابك، صاحب حلب، وكان عازمًا على اتباعِ كيكاوس، ودخول بلاده، فأتاه الخبَرُ بوفاة أبيه الملك العادل، فاقتضت المصلحةُ العودَ إلى حلب.
هو أبو عامر عبد الله بن السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن المريني ملك المغرب صاحب فاس، وأقيم بعده أخوه أبو سعيد عثمان بن أبي العباس، والشيخ أبو العباس أحمد بن علي القبايلي هو القائم بتدبير الدولة على عادته منذ موت السلطان أبي العباس أحمد في أيام أبي فارس عبد العزيز، وأبي عامر عبد الله.
بعد مَقتلِ الملك عبد الله تُوِّجَ ابنُه الأكبر طلال بن عبد الله خلفًا لوالِدِه، ولكن خلال عام أجبره البرلمان الأردني على التنحِّي عن المُلكِ بدعوى أنَّه مصاب بمرض عقليٍّ أو نفسي، فأُعلن ابنُه الأمير حسين ملكًا على الأردن، وذلك في 11 أغسطس 1952 وكان عمره آنذاك 17 سنة، ولم يكنْ يبلغ السن القانونية، فشُكِّلَ مجلِسٌ للوصاية على العرشِ، وتم تتويجُه ملِكًا في 2 مايو عام 1953.
في ليلةِ عشرين من رمضان أنزل اللهُ من الغيث العظيم على نجدٍ، فسالت منه الوديان، وضاقت من جَورِ سَيلِه الشعبان، وعمَّ جميع الأوطان والبلدان حتى أشفقوا من الغرق، فتضَرَّعوا إلى الله خوفًا من الغرق، فكان هذا السيلُ رحمة من الله للعباد والبلدان، وإنقاذًا من بعد السنين الشداد، فجرى به كلُّ وادٍ، وكان قد مضى على وادي سدير نحو أربع عشرة سنة ما عَمَّ بلدانَه سَيلُه، وغارت آبارُه وهلك كثيرٌ من نخله، فأخذ وادي منيخ أكثَرَ من خمسة أيام وجرت الأودية كلُّها بسيلٍ لم يُعرَفْ مِثلُه منذ أعوام، ونزل على الوشم مسيلٌ عظيم لم يُعرَف له نظير منذ ثلاثين سنة، حتى قيل: إن وادي بلد القرابين شال صخرةً عظيمة في مجراه ولا يدري أحد أين رماها، وجرى وادي حنيفة وخرب العامِرَ وخرب السيل في الفرع والخرج والجنوب، وجعل كلَّ عامرٍ
دامرًا، وعم الضِّرابَ والآكامَ، وابتهج به جميعُ الأنام، وهذه المنة الجسيمة كلها في هذه الليلة العظيمة، وذلك في الوسمي لسبعٍ مضين من حلول الشمس برج العقرب، وكان الناس في غاية الضعفِ مِن قلة البَذرِ وقِلَّة العوامل والرجال بعد سنين القحط، والوقت الشديد والجَدب المبيد، وغَور الآبار، وموت النخيل والأشجار، حتى جلا أهلُ البلدان ولم يبقَ في كُلِّ بلد إلا عُشرُ أهلِها، وتتابعت المصائب عليها، وتشتَّت شَملُها وتفَرَّقوا في الأقطارِ، وأكثَرُهم جَلَوا إلى البصرة وما حولها من الديار، ودام هذا الوقتُ كلَّ سنة بزيادةِ شِدَّةٍ إلى أن مضت تسعُ سنين، فأنزل الله لهم هذه السنة هذا السيلَ العظيم البركة، فكانوا على أوفَقِ التيسير في البَذرِ والعوامل والمحترفين، وسخَّر الله الغنيَّ للفقير، والمستأجِرَ للأجير، والمُعير للمستعير، حتى لم يحتَجْ حاجةً أحدٌ تلجِئُه إلى ترك الزرع، فضاقت كلُّ بلد بزروع أهلها، وزرعوا وَعْرَها وسهلها، وأعشبت الأرض من أوانها، وأربعت المواشي في وسط بلدانها وتزخرفت.
لم تنته الفتنة بين أبناء فيصل بموت سعود، بل استمَرَّت إلى أبعَدَ من ذلك؛ ففي عام 1291 هـ تولى عبد الرحمن بن فيصل إمامةَ نجدٍ بعد وفاة أخيه سعود، ومضى في حكمِه على أتمِّ وجه حوالي السنة، وبعدها اضطربت الأوضاعُ بالنسبة لعبد الرحمن؛ إذ جاء أخوه عبد الله الإمامُ الشرعي ومعه أخوه محمد من بادية العجمان -حيث كانا لاجئينِ سياسيينِ هناك- إلى الرياض ومعهما قوات من بدوِ عتيبة ومِن حَضَرِ الوشم، والتقيا بقواتِ عبد الرحمن الذي رفض التنازلَ لأخيه الكبير في بلدة ثرمدا، ونشبت الحرب بين الطرفين لم يصِلْ أحدهما إلى نصرٍ حاسم، فتفاوضا ونتج عن هذا التفاوض صُلحٌ مؤقت تمركزت فيه قواتُ عبد الله في الشمالِ، وظلت قوات عبد الرحمن تسيطِرُ على الرياض والجنوب.أمَّا بالنسبة لأولاد سعود فقد وقفوا بجانبِ عَمِّهم عبد الرحمن؛ لأنه كان يؤيِّدُ والدهم سعودًا في آخر أيامه، ومع هذا فلم يهدأ الوضعُ المتأزِّم؛ إذ ثار أبناء سعود ضِدَّ عمهم عبد الرحمن وأخذوا يطالبونَه بالحكم، وانقلبوا عليه بعد أن كانوا يؤيِّدونَه. ولم يستطع عبد الرحمن الصمودَ أمام ثورتهم، بل اضطرَّ تحت ضغطهم أن يخرجَ مِن الرياض ويلتجئ عند أخيه عبد الله في بادية عتيبة، وعاهده أن يتعاونَ معه ضِدَّ أولاد سعود!! وهكذا انعكس الوضعُ السياسي في نجد، فأصبح الحكمُ بيَدِ أولاد سعود بدلًا من عَمَّيْهم الشَّرعِيَّينِ، وكان لا بدَّ للعمَّينِ أن يقاوما أولادَ أخيهما حتى يستردَّا السلطة، فجمع عبد الله قواتٍ اتَّجَهت من الشمال نحو الرياض، إلَّا أن أولاد سعود لَمَّا رأوا تصميم عمَّيهم على الحرب، وضَعْفَ قوتهم، تركوا الرياض واتجهوا إلى مركزهم الأول الخَرج، وهكذا استطاع عبد الله وأخوه دخولَ الرياض بدون قتال عام 1293ه / 1876م.
كلف ملك البرتغال مانويل الأول فاسكو دي جاما القيامَ برحلة للبحث عن طريق آخر يوصل بالهند دون المرور على بلاد المسلمين، فقام فاسكو بالسير جنوبًا بمحاذاة السواحل الغربية ووصل إلى رأس الزوابع في جنوب أفريقيا وسماها رأس الرجاء الصالح، ثم استدار شمالًا إلى السواحل الشرقية فوصل إلى موزمبيق وماليندي، وكانوا قد التقوا بسفن عربية أدهشتهم صناعتها، وكذلك أدوات الملاحة التي مع بحاريها من بوصلة وخرائط والمزاول، فأراد الاستفادة منهم للوصول إلى الهند، وكان من أبرز نتائجِ هذا الاكتشاف إضعافُ المسلمين اقتصاديًّا بانقطاع مرور التجارة ببلادهم بين الشرق والغرب؛ مما أدى إلى تدهورِ اقتصاد الدولة المملوكية، وكان أحدَ أسباب سقوطِها. أما ما أُشيع من أن ابن ماجد أرشد قائد الأسطول البرتغالي فاسكو دي غاما إلى طريق الهند، فهو باطل؛ قال أحمد علاونة: "هو قول باطل مدارُه على النهروالي في كتابه (البرق اليماني في الفتح العثماني)، وقد ذكر هذه الأسطورةَ بعد ثمانين سنة من حدوثها، ولم يذكر أيُّ مؤرخ بعد النهروالي هذه الأسطورةَ، ثم جاء المستشرق فران عام 1922 ونفخ فيها من روحه، وتابعه عليها كثيرون، منهم الزِّرِكْلي". وقد أورد العلاونة بعضَ الأدلةِ على بطلان إرشاد ابن ماجد لدي غاما، منها: أ / أن ابن ماجد أرشد دي غاما وهو سكران، وهذا غير معقول أن يطمَئِنَّ قائدٌ عسكري لفاقد الوعي ليدُلَّه على طريق محفوف بالمخاطر. ب/ لم تكن لابن ماجد خبرة في الساحل الأفريقي. ج/ لم يَرِدْ ذكرُ هذه الحادثة في أيٍّ من أعمال ابن ماجد النثرية والشعرية. د/ كان ابن ماجد يَعرِفُ حقَّ المعرفة نوايا البرتغاليين وما يضمرونه من شر للمسلمين. هـ/ لا يوجد مؤرخ برتغالي ممن عاصروا دي غاما وعُنُوا بتاريخ رحلاته، أو ممن جاؤوا على أثارهم ذكروا أحمد بن ماجد. و/ عاصر وصول البرتغاليين إلى المحيط الهندي عددٌ من المؤرخين العرب، ومنهم من عاصر ابن ماجد، ولم يذكر أيٌّ منهم صلةَ ابن ماجد بالبرتغاليين.ا.
هو أميرُ المؤمنينَ أبو محمَّد علي المكتفي باللهِ بنُ الخليفة المعتَضِد بن الأمير أبي أحمد الموفَّق بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بن الرشيد العباسي، وليس من الخلفاءِ مَن اسمُه عليٌّ سواه بعد عليِّ بنِ أبي طالبٍ، وليس من الخُلَفاء مَن يُكنَّى بأبي محمَّد سوى الحسَنِ بن علي بن أبي طالب وهو، ولِدَ سنة 264، وكان يُضرَبُ المثَلُ بحُسنِه في زمانه. كان معتَدِلَ القامةِ، أسودَ الشَّعرِ، حسَنَ اللِّحيةِ، جميلَ الصورة. بويع بالخلافةِ عند موت والده في جمادى الأولى سنة 289، وفي أيَّامِه فُتِحَت أنطاكية وكان فيها من أُسارى المسلمين بشَرٌ كثيرٌ وجَمٌّ غفير، ولَمَّا حضرته الوفاةُ سأل عن أخيه أبي الفضلِ جعفرِ بنِ المعتضد، فأحضره في يوم الجمعة لإحدى عشرةَ ليلةً خلت من ذي القعدة منها، وأحضَرَ القضاةَ وأشهدهم على نفسِه بأنَّه قد فوَّضَ أمرَ الخلافة إليه مِن بَعدِه، ولقبه بالمُقتَدِر بالله، ثم مات بعد عِدَّة أيام، وكانت خلافته سِتَّ سنين وستة أشهر وتسعة عشر يومًا. مات شابًّا في الثلاثين من عمُرِه، ثم تولى الخلافةَ المقتَدِرُ باللهِ أبو الفَضلِ جعفرُ بن المعتضد، فجُدِّدَت له البيعةُ بعد موت أخيه وقتَ السَّحَر لأربعَ عشرةَ ليلةً خلت من ذي القَعدةِ مِن هذه السنة، وعمُرُه إذ ذاك ثلاثَ عشرةَ سنةً وشهرٌ واحد وإحدى وعشرون يومًا، ولم يل الخلافةَ أحَدٌ قبله أصغَرُ منه.