شرفُ الدين أبو عبد الله محمَّدُ بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري المصري، وبوصيرُ هي بين الفيوم وبني سويف بمصرَ، وُلِدَ البوصيري ببني سويف في مصرَ سنة 608 من أسرةٍ ترجع أصولُها إلى قبيلةِ صِنهاجةَ التي كانت تسكُنُ شَمالَ أفريقية, فهو شاعِرٌ صنهاجي له شعرٌ غايةٌ في الحسن واللطافة عذب الألفاظ منسجم التركيب. تنقَّل بين القدس والمدينة ومكَّة، ثم عاد إلى مصر وعَمِلَ كاتبًا في الدولةِ ثم أصبح يعلِّمُ الصبيانَ القرآن، وكان صوفيًّا على الطريقة الشاذليَّة، اشتهر بقصيدته المشهورة بالبُردة، واسمها (الكواكِبُ الدُّرِّيَّة في مدح خير البَريَّة)، ويقال إنَّ سَبَبَ نَظمِها أنَّه مَرِضَ مَرَضًا شديدًا فرأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في منامه فشكا له مرضَه فألقى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم البُردةَ، فقام من نومِه وقد شُفِيَ، فعَمِلَ القصيدة، ولكنَّ هذه القصيدة فيها كثيرٌ مِن الأبيات المخالِفةِ للعقيدةِ الصحيحةِ وغُلوٌّ في الثناءِ النَّبَويِّ حتى وصف النبيَّ صلى الله عليه وسلم ببعضِ أوصاف الربوبيَّة! وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمامُ البخاريُّ في صحيحِه: عن ابنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ رضي الله عنه يقولُ على المنبر: سمعتُ النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم يقولُ: ((لا تُطرُوني، كما أطرَتِ النصارى ابنَ مريمَ؛ فإنَّما أنا عبدُه، فقولوا عبدُ اللهِ ورَسولُه)).
قاضي القُضاةِ العالِمُ شَيخُ الإسلام بدر الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخِ الإمام الزاهد أبي إسحاق إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن حازم بن صخر الكناني الحموي الأصل، وُلِدَ ليلة السبت رابع ربيع الآخر سنة 639 بحماة، وسَمِعَ الحديثَ واشتغل بالعلم، وحصَّل علومًا متعَدِّدة، وتقَدَّم وساد أقرانَه، وباشر تدريسَ القيمرية، ثم وليَ الحُكمَ والخَطابة بالقُدسِ الشريف، ثم نُقِلَ منه إلى قضاء مصر في الأيام الأشرفية، ثم وليَ قضاء الشامِ وجُمِعَ له معه الخطابةُ ومشيخةُ الشيوخِ وتدريسُ العادليَّة وغيرها مدة طويلة، كل هذا مع الرياسةِ والديانةِ والصِّيانةِ والوَرَع، وكَفِّ الأذى، وله التصانيفُ الفائقة النافعة، أشهَرُها تذكِرةُ السامع والمتكَلِّم في أدب العالم والمتعلم، وله غرر البيان في مبهمات القرآن، والمنهل الرَّوِيِّ في الحديث النبويِّ، وغيرها، وجمع له خطباً كان يخطُبَ بها، ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية بعد وفاة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فلم يَزَل حاكِمًا بها إلى أن كُفَّ بَصَرُه وكَبِرَ وضَعُفَت أحواله، فاستقال فأقيل، ورُتِّبَت له الرَّواتِبُ الكثيرة الدارَّة إلى أن توفي ليلة الاثنين بعد عشاء الآخرة حادي عشرين جمادى الأولى، وقد أكمل أربعًا وتسعين سنة وشهرًا وأيامًا، وصُلِّيَ عليه من الغَدِ الظهر بالجامع الناصري بمصر، ودُفِنَ بالقرافة، وكانت جنازتُه حافلةً هائلةً رحمه الله.
هو الشَّيخُ الإمامُ العالم شهابُ الدين أبو العباس أحمد بن حمدان بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد الغني بن محمد بن أحمد بن سالم بن داود الأذرعي الشافعي، نزيلُ حَلَب، وُلِدَ سنة 707، وتفَقَّه بدمشق قليلًا، وناب في بعض النواحي في الحُكمِ بها، ثم تحوَّل إلى حلب فقَطَنَها، وناب في الحُكم بها، ثم ترك وأقبَلَ على الاشتغال والتصنيف والفتوى والتدريس، وجمع الكتبَ حتى اجتمع عنده منها ما لم يحصُلْ عند غيره، وظَفِرَ من النقولِ ما لم يحصُلْ لأهل عصره، وذلك بيِّنٌ في تصانيفه، وتعَقَّب "المهمات" للإسنوي بقدر حَجمِها، والذي بيَّضَه منها إلى النكاح في أربع مجلداتٍ، وهو ثَبْتٌ في النقل وسَطٌ في التصرفات، قاصِرٌ في غير الفقهِ، وأجاز له القاسم بن عساكر والحجَّار وغيرهما، وسمع من الكمال بن عبد وطائفة، وجمع له شهاب الدين بن حجي مشيخة، وتفقه بشيوخ عصره ومهر في الفن، وكان اشتغالُه على كِبَر، وكان عديمَ النَّظِير، فقيهًا عالِمًا، وسأل السبكي أسئلةً شهيرة اسمها الحلبية، وصنف شرحين على المنهاج، وجمع على الروضة كتابًا سماه التوسط والفتح بين الروضة والشرح، أكثَرَ فيه من النقولاتِ المفيدة، وانتهت إليه رئاسةُ العلم بحلب، مات بها في نصف جمادى الآخرة عن نيف وسبعين سنة بعد أن حصل له عَرَجٌ وقليلُ صَمَمٍ وضَعفُ بَصَر، وله شِعرٌ، فمنه ما حكاه ابنه عبد الرحمن عنه.
لما كان النصف من شهر ربيع الثاني من هذا العام خرج ملك قشتالة إلى أرض المسلمين قاصدًا مدينة بلش مالقة، فلما سمع ملك غرناطة محمد الزغل بنزوله على مدينة بلش ندب أهل غرناطة ومن أطاعه من أهل تلك الجهات وترك طائفةً تقاتل أهل البيازين، وخرج يريد نصرة أهل بلش، وذلك يوم السبت الرابع والعشرين لربيع الثاني من عام التاريخ، فلما سار قريبًا منها وجد العدو قد سبقه بالنزول عليها، ودار بها من كل الجهات فقصد الأمير حصن منتميس فنزله بحملته وأقام به بعض الأيام فطلبه الناس أن يسير بهم نحو العدو للقائه فتوجه بهم إليه فرتبهم، وكان ذلك عشية النهار فدخل عليهم الليل بالطريق فبينما هم سائرون إذ قامت كرَّة ودهشة فانهزموا في ظلام الليل من غير لقاء عدو ولا قتال، وكانت على ذمة أمير غرناطة فنزلها فرجعوا منهزمين مفلولين إلى محلتهم، فباتوا ليلتهم تلك وفي الغد أتاهم الخبر أن العدو استخلص مدينة بلش فسُقط في أيديهم وانهزموا من غير أن يلقوا عدوًّا، ورجع كل واحد منهم إلى وطنه, ولما استولى العدو على مدينة بلش دخلت في ذمته جميع القرى التي تلي بلش وقرى جبل منتميس وحصن قمارش، وخرج أهل بلش من بلدهم مؤمَّنين وحملوا ما قدروا عليه، وذلك بعد قتال شديد وحرب عظيمة، فمنهم من جوزه العدو إلى أرض العدوة، ومنهم من أقام في بعض تلك القرى، ومنهم من سار إلى أرض المسلمين التي بقيت بالأندلس.
أمر المهديُّ ببناء القصورِ في طريق مكَّة، وأمر بتوسيعِ القُصور التي كان بناها السفَّاح، كما قام بتجديد الأميال والبِرَك ومصانع المياه، وحفر الرَّكايا؛ كلُّ ذلك تسهيلًا للمسافرينَ في طُرُقِهم، كما أمرَ أن تُقصَّرَ كُلُّ المنابرِ إلى قَدْرِ ارتفاعِ مِنبرِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا يُزادَ على ذلك.
أقام خالدُ بن الوَليد بالفِراضِ عشرةَ أيَّامٍ، ثمَّ أَذِنَ بالقُفولِ إلى الحِيرَةِ، لِخَمْسٍ بَقِينَ مِن ذي القَعدةِ، وأَمَر عاصمَ بن عَمرٍو أن يَسيرَ في المُقدِّمة، وأَمَر شَجَرةَ بن الأعَزِّ أن يَسيرَ في السَّاقَةِ، وأظهرَ خالدٌ أنَّه يَسيرُ في السَّاقَةِ, ثمَّ انطلق في كَوْكَبَةٍ مِن أصحابِه، وقصَد شَطْرَ المسجدِ الحرامِ، وسار إلى مكَّةَ في طريقٍ لم يُسْلك قبلَهُ قَطُّ، وتَأتَّى له في ذلك أَمرٌ لم يقع لغيرِهِ، فجعَل يَسيرُ مُعْتَسِفًا على غيرِ جادَّةٍ، حتَّى انتهى إلى مكَّةَ فأدرك الحَجَّ, ثمَّ عاد فأدرك أَمْرَ السَّاقَةِ قبلَ أن يَصِلوا الحِيرَةَ، ولم يَعلمْ أبو بكرٍ الصِّدِّيق بذلك أيضًا إلَّا بعدَ ما رجَع أهلُ الحَجِّ مِن المَوْسِم، فبعَث يَعْتِبُ عليه في مُفارقتِه الجيشَ، وأَمرهُ بالذِّهابِ إلى الشَّامِ مُمِدًّا جُموعَ المسلمين.
هو مَلِكُ الأَندلسِ المُعتَمِدُ على الله أبو القاسمِ محمدُ بنُ المُعتَضِد بالله أبي عَمروٍ عَبَّادِ بنِ الظافرِ المُؤيَّدِ بالله أبي القاسمِ محمدِ قاضي إشبيلية بن أبي الوليدِ إِسماعيلَ بن قُريشِ بن عَبَّاد بنِ عَمرِو بن أَسلمَ بنِ عَمرِو بنِ عَطَّاف بنِ نعيمٍ، اللخميُّ، مِن وَلَدِ النُّعمانِ بن المُنذِر اللخميِّ، آخرِ مُلوكِ الحِيرَةِ؛ كان المُعتَمِدُ صاحِبَ قُرطبةَ وإشبيلية وما والاهُما مِن جَزيرةِ الأندلسِ. كان بِدءُ أَمرِ عائِلَةِ المُعتَمِد في بِلادِ الأندلسِ أن نعيمًا وابنَه عَطَّافًا أَوَّلُ مَن دَخلَ إليها من بِلادِ المَشرقِ، وهُما مِن أَهلِ العريشِ، المَدينَة القَديمَة الفاضِلَة بين الشامِ والدِّيارِ المِصريَّة في أَوَّلِ الرَّملِ من جِهَةِ الشامِ، وأقامَا بها مُستَوطِنين بقَريَةٍ بقُربِ يَومينِ مِن إقليم طشانة من أَرضِ إشبيلية. نَشأَ المُعتَمِدُ بنُ عبَّادٍ في الأَندلسِ كغَيرِه مِن أَبناءِ المُلوكِ على المُيولِ والدِّعَةِ والتَّرَفِ، كان مَوصوفًا بالكَرمِ والأَدَبِ والحِلمِ، حَسَنَ السِّيرَةِ والعِشرَةِ والإحسانِ إلى الرَّعيَّةِ، والرِّفقِ بهم. تُوفِّي والدُه المُعتَضِد سَنةَ 464هـ فخَلَفَهُ في الحُكمِ، فكان فارِسًا شُجاعًا، عالِمًا أَديبًا، ذَكِيًّا شاعِرًا، مُحسِنًا جَوادًا مُمْدَحًا، كَبيرَ الشَّأنِ، خَيرًا مِن أَبيهِ. كان أَندَى المُلوكِ راحَةً، وأَرحَبَهُم ساحَةً، كان بابُه مَحَطَّ الرِّحالِ، وكَعبَةَ الآمالِ, ومَألَفَ الفُضلاءِ، حتى إنه لم يَجتمِع ببابِ أَحدٍ مِن مُلوكِ عَصرِه مِن أَعيانِ الشُّعراءِ وأَفاضِلِ الأُدباءِ ما كان يَجتَمِع ببابِه. قال أبو بكر محمدُ بن اللَّبَّانة الشاعِرُ: "مَلَكَ المُعتَمِدُ مِن مُسَوَّراتِ البِلادِ مائتي مُسَوَّر، ووُلِدَ له مائةٌ وثلاثةٌ وسبعون وَلَدًا، وكان لِمَطبَخِه في اليوم ثَمانيةُ قَناطيرَ لَحمٍ، وكُتَّابُه ثَمانية عشر". ولمَّا قَوِيَ أَمرُ الأذفونش بعدَ أَخذِه طُليطلة، اجتَمعَ العُلماءُ، واتَّفَقوا مع ابنِ عَبَّادٍ على أن يُكاتِبوا الأَميرَ ابنَ تاشفين صاحِبَ مراكش لِيُنجِدَهُم، فقال جَماعةٌ لابنِ عبَّادٍ: نَخافُ عليك من استِمدادِه. فقال: رَعْيُ الجِمالِ خَيرٌ مِن رَعْيِ الخَنازيرِ. فلمَّا عَبَرَ ابنُ تاشفين بجُيوشِه إلى الجَزيرَةِ، اجتَمعَ به المُعتَمِد، وأَقبَلَت المُطَّوِّعَةُ من النَّواحي، وقاتَلَ المُعتَمِدُ بن عبَّادٍ في الزَّلَّاقَةِ وثَبَتَ في ذلك اليوم ثَباتًا عَظيمًا، وأَصابَهُ عِدَّةُ جِراحاتٍ في وَجهِه وبَدَنِه، وشُهِدَ له بالشَّجاعَةِ، وغَنِمَ المسلمون دَوابَّ الفِرنجَةِ وسِلاحَهم، ورَجَعَ ابنُ تاشفين إلى بِلادِه والمُعتَمِد إلى بِلادِه. ثم إن الأَميرَ يوسفَ عادَ إلى الأندلسِ بعدَ أن وَصلَتهُ فَتاوَى العُلماءِ بخَلعِ مُلوكِ الطَّوائفِ قال ابنُ خلدون: "وأَفتاهُ الفُقهاءُ وأَهلُ الشُّورَى من المَغربِ والأَندلسِ بِخَلْعِهِم وانتِزاعِ الأَمرِ مِن أَيدِيهم، وصارَت إليه بذلك فَتاوَى أَهلِ الشَّرقِ الأَعلامِ مثل: الغزاليِّ والطَّرطوشيِّ". فلمَّا أَجازَ ابنُ تاشفين انقَبَضوا عنه إلَّا ابنَ عَبَّادٍ فإنه بادَرَ إلى لِقائِه. استَعانَ بالأذفونش مَلِكُ اشتاله وطَلَبَ منه المَدَدَ، فقَدَّمَ ابنُ تاشفين سيرَ بنَ أبي بكر الأندلسي، فوَصَلَ إلى إشبيلية وبها المُعتَمِدُ فحاصَرَهُ أَشَدَّ مُحاصَرةٍ، وظَهرَ مِن مُصابَرةِ المُعتَمدِ وَشِدَّةِ بَأسِه وتَرامِيه على المَوتِ بنَفسِه ما لم يُسمَع بمِثلِه، والناسُ بالبلدِ قد استَولَى عليهم الفَزَعُ وخامَرَهُم الجَزَعُ, فلمَّا كان يومُ الأَحدِ العشرين من رجب سَنةَ 484هـ هَجَمَ عَسكرُ الأَميرِ ابنِ تاشفين البَلدَ وشَنُّوا فيه بالغاراتِ، وقُبِضَ على المُعتَمِد وأَهلِه، وكان قد قُتِلَ له وَلدانِ قبلَ ذلك، أَحدُهما: المأمون، نائِبُه في قُرطبة والثاني الرَّاضي، كان نائِبًا عن أَبيهِ في رندة، وهي مِن الحُصونِ المَنيعَةِ, ولمَّا أُخِذَ المُعتَمِد قَيَّدوهُ من ساعَتِه، وأُودِعَ سِجْناً في أغمات بالعَدوَةِ وتَشَرَّدَ أَهلُه وافتَقَروا في بلادِ المَغربِ, ودَخَلَ عليه يَومًا بَناتُه السِّجنَ، وكان يَومَ عِيدٍ، وكُنَّ يَغزِلنَ للناسِ بالأُجرَةِ في أغمات، فرآهُنَّ في أَطمارٍ رَثَّةٍ وحالَةٍ سَيِّئَةٍ، فصَدَّعنَ قَلبَه وأَنشدَ:
"فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فساءك العيد في أغمات مأسور
نرى بناتك في الأطمار جائعةً
يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعةً
أبصارهن حسيراتٍ مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافيةٌ
كأنها لم تطأ مسكًا وكافورا"
زالت دَولةُ المُعتَمِد بن عبَّادٍ على يَدِ شَريكِه في النَّصرِ بعدَ أن دَخلَ قُرطبة، ومات غَريبًا في مَنفاهُ بـأغمات بالمغربِ, وقد حَزِنَ الناسُ عليه، وقال في مُصابِه الشُّعراءُ فأَكثَروا, ويُعتَبر مِن أَشهرِ مُلوكِ دَولةِ الطَّوائفِ التي قامَت في الأَندلسِ في القَرنِ الخامسِ الهِجريِّ، بعدَ انهِيارِ دَولةِ الخِلافةِ الأُمويَّة.
بعد أن أنهى الله فتنةَ بابك الخرمي، وقضى عليه وعلى جيشِه الأفشينُ ومن معه، وقبض على بابك وحَبَسه وراسَلَ المعتَصِمَ فأمره بتسييرهم إليه, فدخل الأفشينُ وبِصُحبتِه بابك على المعتَصِم سامرَّا، ومعه أيضًا أخو بابك في تجمُّلٍ عظيم، وقد أمر المعتَصِمُ ابنَه هارونَ الواثِقَ أن يتلقَّى الأفشين، وأمَرَ بابك أن يركَبَ على فيلٍ ليُشهَرَ أمرُه ويعرفوه، وعليه قباءُ ديباج وقَلَنْسُوة سمور مدورة، وقد هيؤوا الفيل وخَضَبوا أطرافَه ولَبَّسوه من الحرير والأمتعة التي تليق به شيئًا كثيرا، ولَمَّا أُحضِرَ بين يدي المعتَصِم أمر بقطعِ يَدَيه ورجليه وجَزِّ رأسِه وشَقِّ بَطنِه، ثم أمرَ بحَملِ رأسِه إلى خراسانِ وصَلبِ جُثَّته على خشبةٍ بسامِرَّا، وكان بابك قد شَرِبَ الخمرَ ليلةَ قَتلِه. لَمَّا قتَلَ المعتَصِمُ بابك الخرميَّ توَّجَ الأفشينَ وقلَّدَه وِشاحَينِ مِن جوهرٍ، وأطلق له عشرينَ ألفَ ألف درهمٍ، وكتب له بولايةِ السِّندِ، وأمَرَ الشعراءَ أن يدخُلوا عليه فيمدحوه على ما فعلَ مِن الخيرِ إلى المسلمين، وعلى تخريبِه بلادَ بابك التي يقال لها البذُّ، وتَرْكِه إيَّاها قِيعانًا وخَرابًا.
غزا الإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود الرياضَ في صفَر, فنازل أهلَها أيامًا عديدة وضيَّق عليهم واستولى على بعضِ برودِها وهدم أكثَرَها وهدم المرقابَ، وحصل بينهم قتالٌ قُتِل فيه عددٌ من أهل الرياض، وكانت هذه الغزوةُ. يقول ابن بشر: "بعد هذه الوقعة دخل قلبَ دهام الرعبُ والخجَلُ، ودخله الخوفُ والوجَلُ، فلم تستقرَّ له عينٌ, وقام يحاول الانهزامَ، وجمع رؤساءَ بلَدِه وأخبَرَهم بحقيقة مقصِدِه وأنه ملئَ خوفًا ورعبًا، فصاحوا عليه بأجمَعِهم وقالوا: خذ منا العهدَ والميثاقَ، فقال لهم: دعوني، فليست هذه البلدُ لي وطنًا، ولا أجد لي بها أنسًا ولا سكنًا" فلما انتصف ربيع الثاني من هذا العام سار عبد العزيز للمرَّةِ الثانية في هذا العام لغزوِ الرياضِ، فلمَّا قَرُب منها جاءه البشير بأنَّ ابنَ دواس قد هرب من الرياض، فحَثَّ عبد العزيز السيرَ إليها فدخلها بعد أن ألقى اللهُ في قلب دهام الرعبَ، فخرج منها هو ونساؤه وعياله وأعوانه. يصف ابنُ بشر خروجَ ابن دواس من الرياض ودخولَ الإمام عبد العزيز بن محمد بقوله: "وهذا شيء حدث، فإنَّه ما خاف من أهل بلدِه خيانةً، بل كلُّهم صادقون معه، ولا حصل عليه تضييقٌ يُلجِئه إلى ذلك، والحرب بينه وبين المسلمين له وعليه، ولكنَّ الله سبحانه جعلها آيةً لِمن افتكر، وعبرةً لمن اعتبر. قيل إنه انتفخ سَحرُه وطاش قلبُه ولبُّه، فقام فزعًا مرعوبًا وركب خيلَه وركابَه، فلما ظهر من القصر، قال: يا أهل الرياض، هذا لي مدة سنين أحارب ابنَ سعود، والآن سئمت من الحرب، فمن أراد أن يتبعني فليفعَلْ, ففَرَّ أهل الرياض في ساقتِه الرجال والنساء، هربوا على وجوههم إلى البَرِّ، وقصدوا الخرجَ، وهلك منهم خلقٌ كثير عطشًا وجوعًا.. والرجل من أهل الرياض يأخذُ الغرب- نوع من الدلو كبير-يجعل فيه ماء ويحمله على ظهرِه، والغرب لا يمسِكُ الماء، والإبل عنده لا يركَبُها، وتركوها خاويةً على عروشها: الطعام واللحم في القدور، والسواني في المناحي، والأبواب لم تغلق, وفي البلدِ مِن الأموال ما يعجِزُ عنه الحصر, فلما دخل عبد العزيز الرياضَ نادى فيها بالأمانِ، فرجع كثيرٌ منهم وسكنوها، وحاز عبد العزيز ما فيها من أموالِ الهاربين من السلاحِ والطعام والأمتعة وغير ذلك، ومات ممَّن مع دهام في هزيمتِه أربعمائة.. وقد أقام هذه الحرب سبعة وعشرين سنة، وذكر لي أنَّ القتلى في هذه المدة نحو أربعة آلاف رجل: من أهل الرياض ألفان وثلاثمائة, ومن المسلمين ألف وسبعمائة". وقد ترتَّب على خروج دهام بن دواس نهائيًّا من الرياض منهزمًا, وقُضِيَ على أعتى خصوم الدعوة في نجدٍ, ودخول الرياض تحتَ حُكمِ دولة الدرعية.
لَمَّا قُبِضَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ارتدَّت العَرَبُ، واشرأَبَّ النِّفاقُ، وعَظُمَ الخَطْبُ واشتدَّت الحالُ، وأنفذ الصِّديقُ جَيشَ أُسامةَ، فقَلَّ الجندُ عند الصِّدِّيقِ، فطمَعِتَ كثيرٌ من الأعرابِ في المدينةِ، وراموا أن يَهجُموا عليها، فجَعَل الصِّدِّيقُ على أنقابِ المدينةِ حُرَّاسًا يبَيتون بالجُيوشِ حولَها، وجعَلَت وفودُ العَرَبِ تَقدَمُ المدينةَ يُقِرُّونَ بالصَّلاةِ ويمتنعون من أداء الزكاةِ، ومنهم من امتَنَع مِن دَفْعِها إلى الصِّدِّيقِ، وقد تكلَّم الصَّحابةُ مع الصِّدِّيقِ في أن يترُكَهم وما هم عليه مِن مَنْعِ الزَّكاةِ ويتألَّفَهم حتى يتمكَّنَ الإيمانُ في قلوبِهم، ثم هُم بعد ذلك يزكُّونَ، فامتنع الصِّدِّيقُ من ذلك وأباه، فقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ لأبي بكرٍ: علامَ تقاتِلُ النَّاسَ؟ وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أُمِرتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتى يَشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، فإذا قالوها عصَمَوا مني دِماءَهم وأموالَهم إلَّا بحَقِّها؟ فقال أبو بكرٍ: واللهِ لو منعوني عَناقًا -وفي روايٍة: عِقالًا- كانوا يؤدُّونه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لأقاتِلَنَّهم على مَنْعِها؛ إنَّ الزكاةَ حقُّ المالِ، واللهِ لأقاتِلَنَّ مَن فَرَّق بين الصَّلاةِ والزكاةِ. قال عُمَرُ: فما هو إلَّا أن رأيتُ اللهَ قد شَرَح صَدْرَ أبي بكرٍ للقِتالِ، فعَرَفْتُ أنَّه الحَقُّ، وقاتلهم الصِّدِّيق رضي الله عنه حتى لم يَبْقَ بجزيرةِ العَرَبِ إلَّا أهلُ طاعةٍ لله ولرَسولِه، وأهلُ ذِمَّةٍ مِن الصِّدِّيقِ، كأهلِ نجرانَ وما جرى مجراهم، وعامَّةُ ما وقع من هذه الحروبِ كان في أواخِرِ سنةِ إحدى عَشْرةَ وأوائِلِ سنةِ اثنتي عَشْرةَ.
كتب المعتزُّ لعلي بن الحسين بن شبل بولاية كرمان، وكتبَ إلى يعقوبَ بن الليث بولايتها أيضًا يلتمِسُ إغراءَ كُلِّ واحدٍ منهما بصاحبه؛ ليُسقِطَ مؤونةَ الهالكِ عنه، وينفرِدَ بالآخر، وكان كلُّ واحد منهما يُظهِرُ طاعةً لا حقيقةَ لها، والمعتز يعلم ذلك منهما. أرسل عليُّ بن الحسين طوقَ بن المغلس إلى كرمان، وسار يعقوبُ إليها فسَبَقه طوقٌ واستولى عليها وأقبل يعقوبُ حتى بقيَ بينه وبين كرمان مرحلةٌ، فأقام بها شهرينِ لا يتقَدَّمُ إلى طوق، ولا طوقٌ يخرج إليه، فلما طال ذلك عليه أظهَرَ الارتحال إلى سجستان، فارتحل مرحلتينِ، وبلغ طوقًا ارتحالُه فظَنَّ أنَّه قد بدا له في حربه، وترك كرمان، فوضع آلةَ الحربِ، وقعد للأكلِ والشُّرب والملاهي، وبلغ يعقوبُ إقبالَ طوقٍ على الشرب، فكرَّ راجعًا فطوى المرحلتينِ في يومٍ واحد، فلم يشعُرْ طوقٌ إلا بغبرةِ عَسكرِ يعقوب، فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحابُه يريدون المناهضةَ والدفعَ عن أنفُسِهم، فقال يعقوبُ لأصحابه: أفرِجوا للقَومِ، فمرُّوا هاربينَ، وخَلَّوا كلَّ ما لهم، وأسَر يعقوبُ طَوقًا، وكان علي بن الحسين قد سَيَّرَ مع طوقٍ في صناديقَ قيودًا ليقَيد بها من يأخُذُه من أصحابِ يعقوب، وفي صناديقَ أطوِقةٌ وأسورة ليعطيَها أهلَ البلاء من أصحابِ نفسِه، فلما غنِمَ يعقوب عسكَرَهم رأى ذلك، فقال: ما هذا يا طوقُ؟ فأخبره، فأخذ الأطوِقةَ والأسورة فأعطاها أصحابَه، وأخذ القيودَ والأغلال فقيَّدَ بها أصحابَ عليٍّ، ثم دخل كرمان وملكَها مع سجستان.
هو صاحب دمشق شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك بوري بن طغتكين التركي. تملَّك بعد أبيه في رجب سنة 526، وكان بطلًا شجاعًا شهمًا مِقدامًا كآبائه، فخافته الفرنج واستنقذ بانياس منهم في يومين، وكانت الإسماعيلية باعوها لهم من سبع سنين، وسعر بلادهم وأوطأهم ذلًّا، ففرح الناس بشهامته وفَرْط شجاعته، واحتملوا ظلمه. قُتِل في ربيع الآخر، وكان سبب قتله أنه ركب طريقًا شنيعًا من الظلم ومصادرات العمال وغيرهم من أعمال البلد، وبالغ في العقوبات لاستخراج الأموال، ثم ظهر عنه أنه كاتَبَ عماد الدين زنكي يسلِّمُ إليه دمشق ويحثُّه على سرعة الوصول، ويقول له: إن أهملتَ المجيء سلَّمتُها إلى الفرنج، وظهر الخبر بذلك في دمشق فامتعض أصحاب أبيه وجده لذلك وأقلقهم، ثم إن أمه ارتقبت الفرصة في الخلوة من غلمانه، فلما رأته على ذلك أمرت غلمانَها بقتله فقُتِل، وأمرت بإلقائه في موضع من الدار ليشاهِدَه غلمانه وأصحابه، فلما رأوه قتيلًا سُروا لمصرعه وبالراحة من شَرِّه، وقيل: كان سبب قتله أن والده كان له حاجب اسمه يوسف بن فيروز وكان متمكِّنًا منه حاكمًا في دولته، ثم في دولة شمس الملوك، فاتُّهِم بأم شمس الملوك، ووصل الخبر إليه بذلك، فهَمَّ بقتل يوسف فهرب منه إلى تدمر، وتحصَّن بها، وأظهر الطاعة لشمس الملوك، فأراد قَتلَ أمه، فبلغها الخبر فقتلته خوفًا منه، ولما قُتِل ملك بعده أخوه شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري، وجلس في منصبه وحلف له الناسُ كُلُّهم واستقَرَّ في الملك.
قام السلطانُ المؤيد شيخ المحمودي في شهر ذي الحجة باستدعاء داود بن المتوكل على الله من داره، وهو أخو الخليفة العباسي العباس المستعين بالله، فحضر بين يديه بقلعة الجبل، وقد حضر قضاة القضاة الأربعة، فعندما رآه قام له، وقد ألبسه خِلعةً سوداء، وأجلسه بجانبه، بينه وبين قاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين البلقيني، فدعا القضاة، وانصرفوا على أن داود بن المتوكل على الله استقَرَّ في الخلافة، ولم يقع خلع الخليفة المستعين بالله، ولا أقيمت بينه بما يوجب شغور الخلافة عنه، ولا بويع داود هذا، بل خُلِعَ عليه فقط، ولُقِّبَ بأبي الفتح المعتضد بالله أمير المؤمنين، أما الخليفة المستعين بالله فأُخِذ إلى قلعة الجبل في دار بالقلعة مدة، ثم نُقِل إلى برج بالقلعة إلى يوم عيد النحر من سنة 819، فأُنزل من القلعة نهارًا إلى ساحل النيل على فرس، وصحبته أولاد الملك الناصر فرج ابن الظاهر برقوق، وهم: فرج، ومحمد، وخليل، وتوجه معهم الأمير كزل الأرغون شاوي إلى الإسكندرية، فدام الخليفة المستعين هذا مسجونًا بالإسكندرية إلى أن نقله الملك الأشرف برسباي إلى قاعة بثغر الإسكندرية، فدام بها إلى أن توفي بالطاعون في يوم الأربعاء لعشرين بقين من جمادى الأولى سنة 833، ولم يبلغ الأربعين سنة من العمر، ومات وهو في زعمه أنه مستمِرٌّ على الخلافة، وأنه لم يُخلَع بطريق شرعي؛ ولذلك عهد بالخلافة لولده يحيى، فلما مات المعتضد داود في يوم الأحد رابع شهر الأول من سنة 845، تكلم يحيى المذكور في الخلافة، وسعى سعيًا عظيمًا، فلم يتِمَّ له ذلك.
فشا الموت بالطاعون في إقليمي الشرقية والغربية وجميع الوجه البحري، وكان ابتداؤه بالقاهرة ومصر منذ حلت الشمس في برج الحمل، في يوم الأحد الخامس عشر صفر، فبلغت عدة من يرد الديوان من الأموات ما بين العشرين والثلاثين في كل يوم، وبلغت عدة من ورد من الأموات بالقاهرة إلى الديوان نحو الخمسين، أكثرهم أطفال، وذلك سوى المارستان، وموتهم بأمراض حادة، وحبة الموت قَلَّ من يمرض منهم ثلاثة أيام، بل كثير منهم يموت ساعة يمرض، أو من يومه، وبلغت عدة من ورد الديوان من الأموات في ربيع الأول بمدينة بلبيس ألف إنسان، وبناحية بردين من الشرقية خمسمائة نفس، وبناحية ديروط من الغربية ثلاثة آلاف إنسان، سوى بقية القرى، وهي كثيرة جدًّا، وفي شهر ربيع الآخر أوله الخميس في ثالثه بلغت عدة من يرد الديوان من الأموات بالقاهرة إلى مائة وستة وتسعين، سوى المارستان، ومصر، وبقية المواضع التي لا ترد الديوان، وما تقصر عن مائة أخرى، هذا مع شناعة الموتان بالأرياف، وخلو عدة قرى من أهلها، وكان عدة من مات بالقاهرة وورد اسمه إلى الديوان من العشرين من صفر إلى آخر شهر ربيع الآخر 7652؛ من الرجال: ألف وخمسة وستون رجلًا، والنساء 669 امرأة، والصغار 3969 صغيرًا، والعبيد 544، والإماء 1369، والنصارى 69، واليهود 32، وذلك سوى المارستان، وسوى ديوان مصر، وسوى من لا يَرِدُ اسمه إلى الديوانين، ولا يقصر ذلك عن تتمة العشرة آلاف، ومات بقرى الشرقية والغربية مثل ذلك وأزيدُ!
وكان المُعتَمِدُ على الله أبو عبدِ الله محمدُ بن عَبَّاد أَعظمَ مُلوكِ الأندلسِ من المسلمين، وكان يَملِك أكثرَ البلادِ مثل قُرطُبة وإشبيلية، وكان يُؤدِّي إلى الفونسو السادس -الأذفونش- ضَريبةً كلَّ سَنَةٍ. فلمَّا مَلَكَ الفونسو طليطلة أَرسلَ إليه المُعتَمِدُ الضَّريبةَ على عادَتِه، فرَدَّها عليه ولم يَقبَلها منه، فأَرسلَ إليه يَتهدَّدهُ ويَتوعَّدهُ أنَّه يَسيرُ إلى مَدينةِ قُرطُبة ويَتملَّكها إلَّا أن يُسلِّم إليه جَميعَ الحُصونِ التي في الجَبلِ، ويُبقِي السهلَ للمُسلمين، وكان الرسولُ في جَمعٍ كَثيرٍ كانوا خمسمائة فارس، فأَنزَله محمدُ بن عبَّاد، وفَرَّقَ أَصحابَه على قُوَّادِ عَسكرِه، ثم أَمَرَ كلَّ مَن عنده منهم رَجُل أن يَقتُلَه، وأَحضرَ الرَّسولَ وصَفَعَهُ، وسَلِمَ من الجَماعةِ ثلاثةُ نَفَرٍ، فعادوا إلى ألفونسو فأَخبَروه الخَبرَ وكان مُتوجِّهًا إلى قُرطُبة لِيُحاصِرَها، فلمَّا بَلَغَهُ الخَبَرُ عادَ إلى طُليطلة ليَجمعَ آلاتَ الحِصارِ، ورَحلَ المُعتمدُ إلى إشبيلية فلمَّا عاد إليها، وسَمِعَ مَشايخَ قُرطبة بما جَرَى، ورأوا قُوَّةَ الفِرنج، وضَعفَ المُسلمين، واستِعانَةَ بَعضِ مُلوكِهم بالفِرنج على بعضٍ، اجتَمَعوا وقالوا: هذه بلادُ الأندلسِ قد غَلَبَ عليها الفِرنجُ، ولم يَبقَ منها إلَّا القليلُ، وإن استَمرَّت الأَحوالُ على ما نَرَى عادت نَصرانيةً كما كانت. وساروا إلى القاضي عبدِ الله بن محمدِ بن أدهم، فقالوا له: ألا تَنظُر إلى ما فيه المسلمون من الصَّغارِ والذِّلَّةِ، وعَطائِهم الجِزيةَ بعدَ أن كانوا يَأخُذونَها، وقد رأينا رَأيًا نَعرِضُه عليك. قال: ما هو؟ قالوا: نَكتُب إلى غَربِ إفريقية ونَبذُل لهم، فإذا وَصَلوا إلينا قاسَمناهُم أَموالَنا، وخَرَجنا معهم مُجاهِدين في سبيلِ الله. قال: نخافُ، إذا وَصَلوا إلينا، يُخَرِّبون بِلادَنا، كما فَعَلوا بإفريقية، ويَتركون الفِرنجَ ويَبدؤون بكم، والمُرابِطون أَصلَحُ منهم وأَقربُ إلينا. قالوا له: فكاتب أَميرَ المُسلمين، وارغَب إليه لِيَعبُرَ إلينا، ويُرسِل بعضَ قُوَّادِه. وقَدِمَ عليهم المُعتمِدُ بن عبَّاد، وهُم في ذلك، فعَرَضَ عليه القاضي ابنُ أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابنُ عبَّاد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتَنَع، وإنَّما أرادَ أن يُبرِّئ نَفسَه من تُهمةٍ، فأَلَحَّ عليه المُعتمِدُ ابنُ عبَّاد وقال: "إنْ دُهِينَا من مُداخَلَةِ الأضدادِ، فأَهْوَنُ الأَمرينِ أَمرُ المُلَثَّمين، ورِعايةُ أولادِنا جِمالَهم أَهوَنُ من أن يَرعوا خَنازيرَ الفِرنج". فسارَ إلى أَميرِ المسلمين يوسفَ بنِ تاشفين، فأَبلغَه الرِّسالةَ، وأَعلَمهُ ما فيه المسلمون من الخَوفِ من ألفونسو. وما زالت وُفودُ الأندلسِ تَفِدُ على يوسفَ بنِ تاشفين مُستَعطِفين مُجهَشِينَ بالبُكاءِ ناشِدينَ بالله, ومُستَنجِدينَ بفُقهاءِ حَضرتِه ووُزراءِ دَولتِه فيَسمَع إليهم ويُصغِي لِقَولِهم وتَرِقُّ نَفسُه لهم, ولمَّا انتَهَت الرُّسُلُ إلى ابنِ تاشفين أَقبلَ عليهم وأَكرمَ مَثواهُم وجَرَت بينه وبينهم مُراوضاتٌ ثم انصَرَفوا إلى مُرسِلِهم ثم عَبَرَ يوسفُ البحرَ عُبورًا سَهلًا حتى أتى الجَزيرةَ الخَضراءَ فخَرجَ إليه أَهلُها بما عندهم من الأقواتِ والضِّيافاتِ وأَقاموا له سُوقًا جَلَبوا إليه ما عندهم من سائرِ المَرافِقِ وأَذِنوا للغُزاةِ في دُخولِ البلدِ والتَّصَرُّفِ فيها, ثم أَرسلَ ابنُ تاشفين لألفونسو يَدعوهُ للإسلامِ أو الجِزيَةِ أو الحَربِ فاختارَ الحربَ، فقام يوسفُ بن تاشفين في الحالِ وكان بمَدينةِ سَبتَة، فأَمرَ بعُبورِ العَساكرِ إلى الأندَلُسِ، وأَرسلَ إلى مراكش في طَلبِ مَن بَقِيَ مِن عَساكرِه، فأَقبلَت إليه يَتلُو بَعضُها بَعضًا، فلمَّا تَكامَلَت عنده عَبَرَ البحرَ وسارَ، فاجتَمعَ بالمُعتَمِدِ بن عبَّاد بإشبيلية، وكان قد جَمعَ عَساكرَه أيضًا، وخَرجَ من أَهلِ قُرطُبة عَسكرٌ كَثيرٌ. وقَصدَهُ المُتَطَوِّعَةُ من سائرِ بلادِ الأندلسِ، ووَصَلت الأَخبارُ إلى ألفونسو فجَمعَ فِرسانَه وسارَ من طُليطلة، وكَتبَ إلى أَميرِ المسلمين كِتابًا كَتَبَهُ له بعضُ أُدباءِ المُسلِمين، يُغلِظ له القَولَ، ويَصِفُ ما عنده من القُوَّةِ والعَددِ، وبالَغَ الكاتِبُ في الكِتابِ. فأَمَرَ أَميرُ المُسلمين أبا بكرِ بن القَصيرَةِ أن يُجيبَهُ، وكان كاتِبًا مُفْلِقًا، فكَتبَ فأَجادَ، فلمَّا قَرأهُ على أَميرِ المُسلِمين قال: هذا كِتابٌ طَويلٌ، أَحضِر كِتابَ ألفونسو واكتُب في ظَهرِه: الذي يكون سترا له الذي سَيكونُ سَتَراهُ. فلمَّا عادَ الكِتابُ إلى ألفونسو ارتاعَ لذلك، وعَلِمَ أنَّه بُلِيَ بِرَجُلٍ له عَزْمٌ وحَزْمٌ، فازداد استِعدادًا, فجَمعَ ألفونسو فِرسانَه ثم سارَ من طُليطِلة، وسارَ أَميرُ المُسلِمين ابنُ تاشفين، والمُعتَمِدُ بن عبَّاد، حتى أَتوا أَرضًا يُقال لها: الزَّلَّاقَة، من بَلدِ بطليوس، فأَرسلَ ابنُ تاشفين للمُعتَمِد يَأمُرُه أن يكونَ في المُقدِّمَةِ، ففَعلَ، وقد ضَربَ الفونسو خِيامَه في لَحْفِ جَبَلٍ، والمُعتَمِدُ في سَفْحِ جَبَلٍ آخرَ، يَتَراءونَ، ويَنزِلُ أَميرُ المُسلِمين ابنُ تاشفين وَراءَ الجَبَلِ الذي عنده المُعتَمِد، وظَنَّ ألفونسو أنَّ عَساكِرَ المُسلِمين ليس إلَّا الذي يَراهُ. وكان الفِرنجُ في خمسين ألفًا، فتَيَقَّنوا الغَلَبَ، ثم أَقبَلَت الجُيوشُ، ونَزلَت تِجاهَ الفِرنجِ، فاختارَ ابنُ عبَّادٍ أن يكونَ هو المُصادِمُ للفِرنجِ أوَّلًا، وأن يكون ابنُ تاشفين رِدْفًا له. ففَعَلوا ذلك، وأَرسلَ ألفونسو إلى المُعتَمِد في مِيقاتِ القِتالِ، فقال: غَدًا الجُمعةُ، وبَعدَه الأحدُ، فيكونُ اللِّقاءُ يومَ الاثنينِ، فقد وَصلنا على حالِ تَعَبٍ، واستَقرَّ الأَمرُ على هذا، وركب ليلة الجمعة سَحَرًا، وصَبَّحَ بجَيشِه جَيشَ المُعتَمِد بُكرَةَ الجُمعَةِ، غَدْرًا، وظَنًّا منه أن ذلك المُخَيَّم هو جَميعُ عَسكرِ المُسلِمين، فوَقعَ القِتالُ بينهم فصَبرَ المسلمون، فأَشرَفوا على الهَزيمَةِ، وكان المُعتَمِد قد أَرسلَ إلى أَميرِ المُسلِمين ابنِ تاشفين يُعلِمه بمَجيءِ الفِرنجِ للحربِ، فقال: احمِلوني إلى خِيامِ الفِرنجِ، فسار إليها، فبينما هُم في القِتالِ وَصَلَ أَميرُ المُسلِمين إلى خِيامِ الفِرنجِ، فنَهَبَها، وقَتَلَ مَن فيها، فلمَّا رأى الفِرنجُ ذلك لم يَتَمالَكوا أن انهَزَموا، وأَخَذَهم السَّيفُ، وتَبِعَهم المُعتَمِدُ مِن خَلفِهم، ولَقِيَهم أَميرُ المُسلِمين من بين أَيدِيهم، ووَضَعَ فيهم السَّيفَ، فلم يُفلِت منهم أَحَدٌ، ونَجَا ألفونسو في نَفَرٍ يَسيرٍ قِيلَ: 30 رَجُلًا, وجَعلَ المُسلِمون من رُؤوسِ القَتلَى كُوَمًا كَثيرةً، فكانوا يُؤذِّنون عليها إلى أن جِيفَت فأَحرَقوها، وكانت الوَقعَةُ يومَ الجُمعةِ في العَشْرِ الأُوَلِ من شَهرِ رَمضان، وغَنِمَ المسلمون غَنيمةً عَظيمةً, وعَفَّ يوسفُ عن الغَنائمِ، وآثَرَ بها مُلوكَ الأندلسِ لِيَتِمَّ له الأَجرُ، فأَحَبُّوه وشَكَروا له, ورَجعَ أَميرُ المُسلِمين إلى الجَزيرةِ الخَضراء، وعَبرَ إلى سَبتَة، وسار إلى مراكش، فأقامَ بها إلى العامِ المُقبِل.