كان بَدءُ الدَّعوَة مِن قِبَل محمَّد بن عَلِيِّ بن عبدِ الله بن عَبَّاس، ووَصَلت الدَّعوة إلى خُراسان، ثمَّ لمَّا تُوفِّي محمَّد بن عَلِيٍّ في عام 124 هـ سار بالأَمرِ مِن بَعدِه ابنُه إبراهيمُ وساعَد في قُوَّةِ الأَمرِ ظُهورُ أبي مُسلِم الخُراساني الذي كان يَخدِمُ في سِجْنِ يُوسُف بن عُمَر أَحدَ المَسجونين بِتُهمَةِ الدَّعوَة العَبَّاسِيَّة وكان بُكيرُ بن ماهان أَحَدَ الدُّعاة الكِبار للدَّعوَةِ العَبَّاسِيَّة في خُراسان قد اشْتَراهُ أبا مُسلِم وأَرسلَه إلى إبراهيم بن محمَّد فأَعطاهُ لأبي موسى السَّرَّاج لِيُؤَدِّبَه فسَمِعَ منه وحَفِظ، وقِيلَ غير ذلك في نَسَبِ أبي مُسلِم، وقِيلَ: إنَّ إبراهيم طَلَب منه تَغيير اسْمِه حتَّى تَتَمكَّن الدَّعوة العَبَّاسِيَّة فالله أعلم.
هو أبو مُحمَّد عبد الله بن جعفر بن دُرُسْتوَيه بن المرزبان أبو محمَّد الفارسي الفسوي النحوي. ولد سنة 258، بفَسا ثم انتقلَ في صباه إلى بغداد, واستوطنها, وبرع في العربية، وصنَّف التصانيفَ, ورُزِقَ الإسنادَ العاليَ, وكان ثِقةً. كان أبوه من كبارِ المحَدِّثين وأعيانِهم. ودُرُسْتُويه: بضم الدال والراء وسكون السين، وضم التاء، وقيل: بفتح الدال والراء والواو، كان عالِمًا فاضلًا أخذ فَنَّ الأدب عن عبَّاسِ الدوريِّ وابنِ قتيبة والمبَرِّد، وأخذ عنه جماعةٌ من الأفاضِلِ كالدارقطني وغيرِه مِن الحُفَّاظ، وأثنى عليه غيرُ واحدٍ، منهم أبو عبد الله بن مَنْدَه. وذكَرَ له ابنُ خَلِّكانَ مُصَنَّفاتٍ كثيرةً مُفيدةً فيما يتعَلَّقُ باللغةِ والنحو وغيرِهما.
سار عز الدين فرخشاه نائب صلاح الدين بدمشق إلى أعمال الكرك ونَهَبها، وسببُ ذلك أن البرنس صاحب الكرك، كان من شياطين الفرنج ومَرَدتهم، وأشدِّهم عداوة للمسلمين، فتجهز وجمع عسكره ومن أمكنه الجمع، وعزم على المسيرِ في البر إلى تيماء، ومنها إلى مدينة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، للاستيلاء على تلك النواحي الشريفة، فسَمِعَ فرخشاه ذلك، فجمع العساكِرَ الدمشقية وسار إلى بلده ونهبه وخربه، وعاد إلى طرف بلادِهم، وأقام ليمنع البرنس من بلاد الإسلام، فامتنع بسببِه عن مقصده، فلما طال مقامُ كل واحد منهم في مقابلة الآخر عَلِمَ البرنس أنَّ المسلمين لا يعودون حتى يُفَرِّق جمعَه، ففَرَّقهم وانقطع طمَعُه من الحركة، فعاد فرخشاه إلى دمشق، وكفى الله المؤمنين شَرَّ الكفار.
بعث عبد الله بن ثنيان قوةً بقيادة عبد الله بن بتال المطيري لاحتلال الأحساء، فاستولى عليها، ثم عيَّن عمر بن عفيصان أميرًا على الأحساء وكلَّفه بالسير إلى القطيف فأخضعها، وهدَمَ سور سيهات، وقبض على أميرها ابن عبد الرحيم، كما أشخص أميرَ القطيف علي بن غانم إلى نجد لمقابلة ابن ثنيان، فوجَّه إليه تهمة الخيانة العظمى بالتواطؤِ مع آل خليفة، فسجنه وصادر أموالَه وأملاكه، ثم عيَّنَ أحمد السديري أميرًا على القطيف، وكتب إلى ابن عفيصان بالرجوعِ إلى الأحساء، كما بعث قوةً إلى ميناء العقير، فاستخلصه من أيدي آلِ خليفة، وكان أهل الأحساء قد رحَّبوا بحكم ابن ثنيان في البدايةِ إلَّا أنهم سخطوا عليه أخيرًا بسبب أعمالِه في القطيف.
عاد الأميرُ عبد العزيز المحمد أبو عليان إلى إمارته في بُريدةَ بعد أن استرضى الإمامَ فيصل بن تركي، ولكنْ لم تكن الثقةُ بينهما تامةً، فالوحشةُ لم تفارِقْ عبد العزيز بل ازدادت؛ ذلك لأن الإمام لا ينظرُ إليه بالعين التي كان ينظرُه فيها، وما زال متَّهمًا عنده لكثرةِ نزعاته وعدم استقامته، ويزيد الإمامَ ما يتواترُ عليه من مهنَّا الصالح من أخبارٍ عن عبد العزيز لم تكُن في مصلحته، ومهنا كان طامِعًا بمركز عبد العزيز، فأثَّرت تلك الأخبار في الإمام، فاستدعى عبد العزيز إلى الرياض فقَدِمَ ومعه ابناه علي وعبد الله، فأمرهم بالبقاء عنده وجعَلَ عبد الله بن عبد العزيز بن عدوان أميرًا في بريدة، وهو من بني عم عبد العزيز المحمد.
في إساءةٍ مقصودةٍ ثانيةٍ كرَّرت صَحيفةٌ فرنسيةٌ نشرَ الصورِ الكاريكاتوريةِ المُسيئةِ لنبيِّ الأمةِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على صفحاتِ جرائدِها، رغمَ ما ظهَر من غضبٍ عارمٍ اجتاحَ الأمةَ الإسلاميةَ بعد نشرِ ذاتِ الرسوماتِ في صحيفةٍ دنماركيةٍ سابقًا، وزادت الصحيفةُ الفرنسيةُ من إثارةِ نفوس المسلمين في إيرادها تعليقاتٍ على بعض الرسومات بأنَّها "رسوماتٌ طريفةٌ"، زاعمةً أنَّ نشرَ هذه الرسومات الكاريكاتورية لا يحمِلُ أيَّ نيةٍ عنصريةٍ، أو رغبةٍ في تحقيرِ أيِّ مجموعةٍ، وأنَّ ذلك يندرجُ تحت بند حرية التعبير في بلد عِلْماني، وشهِدَت الدول العربية والإسلامية غَضْبةً عارمةً من الإساءة التي تحاوِلُ النيْلَ من شخصِ النبيِّ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي يُعَدُّ قُدوةَ ومرجِعَ الأمة الإسلامية في جميع شؤونها الخاصَّة والعامَّة.
تُوفِّي بالسُّعودية الشَّيخُ الدكتور محمد روَّاس قلعجي السُّوريُّ الأصلُ، عن عُمر يناهز الـ(80) عامًا، قضى الكثيرَ منها في التأليفِ والفقهِ والتعليمِ، وفي البُحوث العلميَّة الإسلاميَّة. والدُّكتور محمد رواس قلعجي -رحمه الله- من مواليدِ مدينةِ حَلَب عامَ (1934م)، وحَصَل على الدكتوراه من جامعةِ الأزهرِ بمصرَ في عامَ (1975). وقد تأثَّر كثيرًا بمحدِّث حلبَ الشَّيخِ محمد راغب الطباخ -رحمه الله- كما تأثَّر بالشَّيخِ منتصر الكتاني في كلِّيَّة الشريعةِ بجامعة دِمَشق. تولَّى التفتيشَ في مديرية أوقافِ حلبَ، ثم تنقَّل بين الكُويت والسعودية أستاذًا جامِعيًّا وباحِثًا أكاديمِيًّا. وانشَغَل كثيرًا بجَمْع مَعاجمَ لفقهِ كبارِ الصَّحابة وكبارِ السَّلف، وجمع ذلك بلُغَة علميَّةٍ معاصِرَة.
لَمَّا مات السُّلطان مسعود، قال خاص بك لملكشاه: "سأقبِضُ عليك صُورةً، وأطلُبُ أخاك محمَّدًا لأُمَلِّكَه، فإذا جاء أمسَكْناه، وتستَقِلَّ أنت. قال: فافعَلْ. فما نَفَقَ خُبثُه على محمَّدٍ، وجاء إلى همذان، فبادر العَسكَرُ إليه، فقال: كلامُكم مع خاص بك فهو الوالِدُ، فوصل هذا القَولُ إلى خاص بك، فاطمَأَنَّ، وتلَقَّاه، وقَدَّمَ له تُحَفًا، ثمَّ قُتِلَ خاص بك، وخَلَّفَ أموالًا جزيلةً مِن بعضِها سبعون ألفَ ثوب أطلس. قال المؤيَّدُ: بَدَرَه السُّلطانُ مُحمَّد ثاني يوم مِن قُدومِه، وقتَلَه"، وقَتَلَ معه زنكي الجاندار، وألقى برأسَيهما، فتفَرَّقَ أصحابُهما، ولم ينتَطِحْ فيهما عَنزانِ، وأخذ مُحمَّدٌ مِن أموالِ خاص بك شيئًا كثيرًا واستقَرَّ مُحمَّدٌ في السلطنة وتمكَّنَ، وبَقِيَ خاص بك مُلقًى حتى أكلَتْه الكِلابُ، وكان صبيًّا تُركمانيًّا اتصل بالسُّلطانِ مَسعود، فتقَدَّمَ على سائر الأمراءِ، وكانت هذه خاتِمةَ أمْرِه.
جرت حروب بأفريقية من بلاد المغرب، وذلك أنه لما مات أبو فارس عبد العزيز، وقام من بعده حفيده المنتصر أبو عبد الله محمد بن أبى عبد الله، ولى عمه أبا الحسن على بن أبي فارس بجاية وأعمالها، فلما مات المنتصر، وقام من بعده أخوه أبو عمرو عثمان بن أبي عبد الله، امتنع عمه أبو الحسن من مبايعته، ورأى أنه أحق منه، ووافقه فقيه بجاية منصور بن علي بن عثمان وله عصبة وقوة، فاستبد بأمر بجاية وأعمالها، فسار أبو عمرو من تونس في جمع كبير لقتاله، فالتقيا قريبًا من تبسة وتحاربا، فانهزم أبو الحسن إلى بجاية، ورجع أبو عمرو إلى تونس، ثم خرج أبو الحسن من بجاية، وضم إليه عبد الله بن صخر من شيوخ إفريقية، ونزل بقسنطينة وحصرها وقاتل أهلها مدة، فسار إليه أبو عمرو من تونس في جمع كبير، فلما قرب منه سار أبو الحسن عائدًا إلى جهة بجاية، فتبعه أبو عمرو حتى لقيه وقاتله، فانهزم أبو عمرو بعدما قتل أبو الحسن عدةً من أصحابه، وعاد كل منهما إلى بلده، فلما كان في هذه السنة أعمل أبو عمرو الحيلةَ في قتل عبد الله بن صخر حتى قتله، وحُمِل رأسه إليه بتونس، ففَتَّ ذلك في عضد أبي الحسن، ثم جهز أبو عمرو العساكر من تونس في إثر ذلك، فنازلت العساكر بجاية عدة أيام، حتى خرج الفقيه منصور بن علي إلى قائد العسكر، وعقد معه الصلح ودخل به إلى بجاية، وعبر الجامع وقد اجتمع به الأعيان، وجاء أبو الحسن ووافق على الصلح، وأن تكون الخطبة لأبي عمرو، ويكون هو ببجاية في طاعته، وترجع العساكر عن بجاية إلى تونس، فلما تم عقد الصلح أقيمت الخطة باسم أبي عمرو، وعادت العساكر تريد تونس، فبلغهم أن أبا عمرو خرج من تونس نحوهم لقتال أبي الحسن، فأقاموا حتى وافاهم، ووقف على ما كان من أمر الصلح، فرضي به، وأخذ في العود إلى جهة تونس، فورد عليه الخبر بأن أبا الحسن خاف على نفسه من أهل بجاية، فخرج ليلًا حتى نزل جبل عجيسة، فأقر عساكرَه حيث ورد عليه الخبر، وسار جريدة في ثقاته، ودخل مدينة بجاية، فسُرَّ أهلها بقدومه، وزينوا البلد، فرتب أحوالها واستخلف بها أصحابه، وعاد إلى معسكره، واستدعي شيوخ عجيسة، فأتاه طائفة منهم فأرادهم على تسليم أبى الحسن إليه، وبذل لهم المال، فأبوا أن يسلموه، فتركهم وعاد إلى تونس، فكثُرَ جمع أبي الحسن بالجبل، وأقام به مدة، ثم خاف من عجيسة أن تغدر به، ولم يأمنهم على نفسه، فسار ونزل جبل عياض قريبًا من الصحراء.
هو الشَّيخُ العلَّامة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب التميمي مفتي الديار السعودية. وُلِدَ يوم عاشوراء من عام 1311هـ، ونشأ نشأةً عِلميَّةً في بيتِ عِلمٍ ودين، فحَفِظَ القرآنَ مبكرًا، ثم بدأ الطلَبَ على العلماء قبل أن يبلُغَ السادسة عشرة، ثم أصيب بمرَضٍ في عينيه وهو في هذه السن ولازمه حتى فَقَد بصَرَه وهو في سن السابعة عشرة، وكان يَعرِفُ القراءة والكتابة قبل فَقدِه لبصرِه. كان متوسِّطَ الطول، مليءَ الجِسم، متوسِّط اللون، ليس بالأبيض ولا بالأسمر، خفيفَ شعرِ العارِضَين جدًّا، يوجَدُ شَعرٌ قليل على ذَقَنِه، إذا مشى يمشي بوقارٍ وسكينة، وكان كثيرَ الصَّمت، وإذا تكلَّم لا يتكلَّم إلَّا بما يفيد، وكان ذكيًّا، و كان صاحِبَ غَيرة شديدة على دين الله، مع حزمٍ وشِدَّة يرهب لها الجميع، وكان رغمَ شِدَّتِه وحزمه وهيبةِ الناسِ له صاحِبَ دُعابةٍ خُصوصًا مع خاصَّته، ومن مشايخِه الذين تعَلَّم عليهم عَمُّه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخُ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع. ومن أعمالِه أنَّه تولى القضاءَ في الغطغط، وكان إمامًا وخطيبًا للجامع الكبير بالرياض، ولما افتُتِحَت رئاسةُ المعاهد والكليات كان هو الرئيسَ، ولما تأسَّسَت رئاسةُ القضاء عُمِّد رسميًّا برئاسةِ القضاء، ولما افتُتِحَت رئاسةُ البنات كان هو المشرفَ العامَّ عليها، وكان هو مفتي البلاد، ولما افتُتِحَت رابطةُ العالم الإسلامي كان هو رئيسَ المجلس التأسيسي لها، وكان أمينُ الرابطة وقتها محمد سرور الصبان، ولما افتُتِحَت الجامعة الإسلامية في المدينة كان هو المؤسِّسَ لها، وعَيَّن نائبًا له الشيخ عبد العزيز بن باز, وفي سنة 1373 هـ أنشأ المكتبةَ السعودية العامة في الرياض، وجمع فيها حوالي 15.000 كتابٍ مطبوعٍ، و 117 مخطوطًا، وأملى من تأليفِه كُتُبًا، منها: ((الجواب المستقيم))، و ((تحكيم القوانين))، ومجموعة من أحاديث الأحكام، والفتاوى في عدة مجلَّدات، وكان الملكُ عبد العزيز قد أمر بجَمعِها وطباعتها. ومن تلاميذه: الشيخ عبد الله بن حُمَيد، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ سليمان بن عبيد، والشيخ صالح بن غصون، والشيخ عبد الله بن جبرين. وقد أصيب الشيخُ بمرضٍ، فصدر أمرٌ ملَكيٌّ بنقله إلى لندن لمواصلة العلاج، فلما وصل لندن أجرَوا له الفحوصاتِ اللازمةَ فرأوا أنَّ المرضَ بلغَ غايةً لا ينفَعُ معها علاجٌ، ثم دخل في غيبوبة وهو هناك، فأُتيَ به إلى الرياضِ على طائرة خاصة، وبَقِيَ في غيبوبة حتى وافته المنيَّةُ -رحمه الله- صباحَ يوم الأربعاء 24 رمضان، وصلِّيَ عليه بعد صلاة الظهر من نفس اليوم، وأمَّ النَّاسَ عليه الشيخُ ابن باز، وامتلأ المسجِدُ وجميعُ الطُّرُقات المؤدية إليه، حتى إن كثيرًا من النَّاسِ لم يُدركوا الصلاةَ عليه، ودُفِن في مقبرة العود.
كان دخولُ الرُّومِ إلى حَلَب بصحبة الدُّمُسْتُق مَلِك الروم، في مائتي ألفِ مقاتل، وكان سببُ ذلك أنَّه ورَدَ إليها بغتةً فنهَضَ إليه سيفُ الدولة بن حمدان بمن حضَرَ عنده من المقاتِلة، ولم يتمَكَّنوا من مقاوَمتِه لكثرةِ جُنودِه، وقَتَلَ مِن أصحاب سيف الدولة خلقًا كثيرًا، وكان سيفُ الدولة قليلَ الصبرِ ففَرَّ منهزمًا في نفرٍ يسيرٍ مِن أصحابه، فأوَّل ما استفتح به الدُّمُسْتُق- قبَّحه الله- أن استحوذ على دار سيفِ الدولة، وأخذ ما فيها من النِّساءِ والولدان وغيرِهم، ثمَّ حاصَرَ سُورَ حَلَب فقاتل أهلُ البلد دونه قتالًا عظيمًا، وقَتَلوا خلقًا كثيرًا من الروم، وثَلَمت الرومُ بسور حلب ثُلمةً عظيمة، فوقف فيها الرومُ فحمل المسلمون عليهم فأزاحوهم عنها، فلمَّا جَنَّ الليلُ جَدَّ المسلمون في إعادتِها، فما أصبح الصباحُ إلا وهي كما كانت، وحَفِظوا السورَ حِفظًا عظيما، ثم بلغ المسلمونَ أنَّ الشُّرَط والبلاحية قد عاثُوا في داخل البلد ينهَبونَ البُيوتَ، فرجع الناسُ إلى منازلهم يمنعونها منهم قبَّحهم الله؛ فإنَّهم أهلُ شَرٍّ وفساد، فلما فعلوا ذلك غَلَبت الرومُ على السور فعَلَوه ودخلوا البلد يقتلونَ مَن لَقُوه، فقتلوا من المسلمينَ خلقًا كثيرًا وانتهبوا الأموالَ وأخذوا الأولاد والنساء، وخَلَّصوا من كان بأيدي المُسلمين من أسارى الروم، وكانوا ألفًا وأربعمائة، فأخذ الأُسارى السيوفَ وقاتَلوا المسلمين، وكانوا أضَرَّ على المسلمينَ مِن قَومِهم، وخَرَّبوا المساجِدَ وأحرقوها، وكلُّ شيءٍ لا يَقدِرونَ على حَملِه أحرقوه، وأسَرُوا نحوًا مِن بضعة عشر ألفًا ما بين صبيٍّ وصبيَّةٍ، ومن النساء شيئًا كثيرا، ومن الرجال الشَّباب ألفينِ، وأقاموا في البلد تسعةَ أيام يفعلون فيها الأفاعيلَ الفاسدةَ العظيمة، كلُّ ذلك بسببِ فِعلِ البلاحية والشُّرطِ في البلد- قاتَلَهم الله. ثم عزم الدُّمُسْتُق على الرحيلِ عنهم؛ خوفًا من سيف الدولة، ثمَّ إن الدُّمُسْتُق أمر بإحضارِ مَن في يديه من أُسارى المسلمين الرِّجال، وكانوا قريبًا من ألفينِ فضُرِبَت أعناقُهم بين يديه- لعنه الله- ثم كَرَّ راجِعًا.
وَلِيَ الأندلُسَ عليُّ بنُ حَمُّود بنِ أبي العَيشِ بنِ ميمون بنِ أحمَدَ بنِ عليِّ بنِ عبد اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ إدريس بن إدريسَ بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وقيل في نَسَبِه غيرُ ذلك، مع اتِّفاقٍ على صِحَّةِ نَسَبِه إلى أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه، وكان سَبَبُ تَوَلِّيه أنَّ الفتى خيرانَ العامريَّ لم يكُنْ راضيًا بولايةِ سُلَيمانَ بنِ الحاكِمِ الأُمويِّ؛ لأنَّه كان من أصحابِ المؤيَّدِ، فلمَّا مَلَك سُلَيمانُ قُرطُبةَ انهزم خيرانُ في جماعةٍ كثيرةٍ مِن الفتيان العامريِّينَ، ثمَّ هَرَب وقَوِيَ أمرُه، وكان عليُّ بنُ حمود بمدينةِ سبتة، وكان أخوه القاسمُ بنُ حمود بالجزيرةِ الخَضراءِ مُستَوليًا عليها، فحَدَثَ لعليِّ بنِ حمود طَمَعٌ في مُلكِ الأندلُسِ لِمَا رأى من الاختلافِ، وكان خيرانُ يُكاتِبُ النَّاسَ، ويأمُرُهم بالخُروجِ على سُلَيمانَ، فوافَقَه جَماعةٌ منهم عامِرُ بنُ فتوح وزيرُ المؤَيَّد، وهو بمالقةَ، وكاتَبوا عليَّ بنَ حَمُّود، وهو بسبتة؛ لِيَعبُرَ إليهم ليقوموا معه ويَسيروا إلى قُرطبة، فعَبَرَ إلى مالقة في سنة 405، ثم تجَهَّزوا وجَمَعوا مَن وافقهم، وساروا إلى قُرطبةَ وبايعوا عليًّا على طاعةِ المُؤَيَّد الأمويِّ، فلمَّا بلغوا غرناطةَ وافَقَهم أميرُها، وسار معهم إلى قُرطبة، فخرج سُلَيمانُ والبربَرُ إليهم، فالتَقَوا واقتتلوا، فانهزم سُلَيمانُ والبربَرُ، وقُتِلَ منهم خَلقٌ كثيرٌ، وأُخِذَ سُليمانَ أسيرًا، فحُمِلَ إلى عليِّ بنِ حمُّود ومعه أخوه وأبوه الحاكِمُ بنُ سُلَيمانَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ الناصر، ودخَلَ عليُّ بنُ حمود قُرطُبةَ في المحَرَّم سنة 407 ودخل خيرانُ وغَيرُه إلى القَصرِ؛ طمعًا في أن يجدوا المؤيَّدَ حَيًّا، فلم يَجدِوه، فأَخَذَ عليُّ بنُ حَمُّود سليمانَ وقَتَلَه سابعَ المحَرَّم، وقتَلَ أباه وأخاه، واستولى عليُّ بنُ حمود على قُرطُبة، ودعا النَّاسَ إلى بيعتِه، فبُويِعَ، واجتَمَعَ له المُلْكُ، ولُقِّبَ المتوكِّلَ على الله.