الموسوعة التاريخية

عدد النتائج ( 1175 ). زمن البحث بالثانية ( 0.015 )

العام الهجري : 61 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 680
تفاصيل الحدث:

لم يُبايِعْ الحُسينُ بن عَلِيٍّ رضي الله عنه لِيَزيدَ، وبَقِيَ في مكَّة هو وابنُ الزُّبيرِ؛ ولكنَّ أهلَ الكوفَة راسَلوا الحُسينَ لِيَقْدُمَ عليهم لِيُبايِعوهُ ويَنصُروهُ فتكونُ له الخِلافَة، وكان على الكوفَة عُبيدُ الله بن زيادٍ، فبعَث الحُسينُ ابنَ عَمِّهِ مُسلِم بن عَقِيلَ لِيَعلَمَ له صِدْقَ أهلِ الكوفَة، فقَبَضَ عليه ابنُ زيادٍ وقَتَلَهُ، وتَوالَت الكُتُبُ مِن أهلِ الكوفَةِ للحُسينِ لِيَحضُرَ إليهم حتَّى عزَم على ذلك، فناصَحَهُ الكثيرُ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ منهم: ابنُ عُمَر، وأخوهُ محمَّدُ بن الحَنَفِيَّةِ، وابنُ عبَّاسٍ، وأبو سَعيدٍ الخُدريُّ وعبدُ الله بن الزُّبيرِ.... ألَّا يَفْعَلَ، وأنَّهم سَيَخْذُلونَه كما خَذلوا أباهُ وأخاهُ مِن قَبلُ؛ لكنَّ قَدَرَ الله سابقٌ فأَبَى إلَّا الذِّهابَ إليهم، فخرَج مِن مكَّة في ذي الحَجَّة، ولمَّا عَلِمَ ابنُ زيادٍ بمَخْرَجِه جَهَّزَ له مَن يُقابِلهُ، فلمَّا قَدِمَ الحُسينُ وقد كان وَصَلَهُ خبرُ مَوتِ مُسلِم وأخيهِ مِن الرَّضاعِ فقال للنَّاس مَن أَحَبَّ أن يَنْصرِفَ فليَنْصَرِفْ، ليس عليه مِنَّا ذِمامٌ. فتَفَرَّقوا يَمينًا وشِمالًا حتَّى بَقِيَ في أصحابِه الذين جاؤوا معه مِن مكَّة، وقابَلَهم الحُرُّ بن يَزيدَ مِن قِبَلِ ابنِ زيادٍ لِيُحْضِرَ الحُسينَ ومَن معه إلى ابنِ زيادٍ؛ ولكنَّ الحُسينَ أَبَى عليه ذلك، فلم يَقْتُلْه الحُرُّ وظَلَّ يُسايِرُهُ حتَّى لا يَدخُلَ الكوفَة، حتَّى كانوا قريبًا مِن نِينَوَى جاء كتابُ ابنِ زيادٍ إلى الحُرِّ أن يُنْزِلَ الحُسينَ بالعَراءِ بغَيرِ ماءٍ، ثمَّ جاء جيشُ عُمَر بن سعدِ بن أبي وقَّاص كذلك للحُسينِ، إمَّا أن يُبايِع، وإمَّا أن يَرى ابنُ زيادٍ فيه رَأيَهُ، وعرَض الحُسينُ عليهم إمَّا أن يَتركوهُ فيَرجِع مِن حيث أَتَى، أو يَذهَب إلى الشَّام فيَضَعُ يَدَهُ في يَدِ يَزيدَ بن مُعاوِيَة، وإمَّا أن يَسيرَ إلى أيِّ ثَغْرٍ مِن ثُغورِ المسلمين فيكون واحدًا منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم. فلم يَقْبَلوا منه شيئًا مِن ذلك، وأَرسَل ابنُ زيادٍ طائفةً أُخرى معها كِتابٌ إلى عُمَر بن سعدٍ أن ائْتِ بهم أو قاتِلْهُم، ثمَّ لمَّا كان اليومُ العاشر مِن مُحرَّم الْتَقى الصَّفَّانِ، وذَكَّرَهُم الحُسينُ مَرَّةً أُخرى بكُتُبِهم له بالقُدومِ فأنكروا ذلك، ووَعَظَهُم فأَبَوْا فاقْتَتَلوا قِتالًا شديدًا، ومال الحُرُّ إلى الحُسينِ وقاتَل معه، وكان آخِرَ مَن بَقِيَ مِن أصحابِ الحُسينِ سُويدُ بن أبي المُطاعِ الخَثْعَميُّ، وكان أوَّلَ مَن قُتِلَ مِن آلِ بَنِي أبي طالِبٍ يَومئذٍ عَلِيٌّ الأكبرُ ابنُ الحُسينِ، ومكَث الحُسينُ طويلًا مِن النَّهارِ كُلمَّا انتهى إليه رجلٌ مِن النَّاسِ رجَع عنه وَكَرِهَ أن يَتَوَلَّى قَتْلَهُ وعِظَمَ إثْمِهِ عليه.
وكان أصحابُ الحُسينِ يُدافِعون عنه، ولمَّا قُتِلَ أصحابُه لم يَجْرُؤْ أَحَدٌ على قَتْلِه، وكان جيشُ عُمَر بن سعدٍ يَتَدافعون، ويخشى كُلُّ فَردٍ أن يَبُوءَ بِقَتْلِه، وتَمَنَّوْا أن يَسْتَسْلِمَ؛ لكنَّ شِمْرَ بن ذي الجَوْشَنِ صاح في الجُنْدِ: وَيْحَكُم، ماذا تَنتَظِرون بالرَّجُلِ! اقْتُلوهُ، ثَكَلَتْكُم أُمَّهاتُكم. وأَمَرَهُم بِقَتْلِه, فحَمَلوا عليه مِن كُلِّ جانِبٍ، وضَرَبهُ زُرْعَةُ بن شَريكٍ التَّميميُّ, ثمَّ طَعَنَهُ سِنانُ بن أَنَسٍ النَّخَعيُّ واحْتَزَّ رَأسَهُ. ويُقالُ: إنَّ الذي قَتَلَهُ عُروةُ بن بَطَّار التَّغْلِبيُّ وزيدُ بن رُقادٍ الجَنْبِيُّ. ويُقالُ: إنَّ المُتَوَلِّي الإجهازَ عليه شِمْرُ بن ذي الجَوْشَن الضَّبِّيُّ، وحمَل رَأسَهُ إلى ابنِ زيادٍ خَوْلِيُّ بن يَزيدَ الأَصْبَحيُّ. ودُفِنَ الحُسينُ رضي الله عنه وأصحابُه أهلُ الغاضِريَّة مِن بَنِي أَسَدٍ بعدَ قَتلِهم بيَومٍ. قال شيخُ الإسلامِ في قَتلِه رضي الله عنه: قُتِلَ الحُسينُ بن عَلِيٍّ رضِي الله عنهما يومَ عاشوراءَ، قَتَلَتْهُ الطَّائفةُ الظَّالمةُ الباغيةُ، وأَكرَم الله الحُسينَ بالشَّهادةِ، كما أَكرَم بها مَن أَكرَم مِن أهلِ بَيتِه، أَكرَم بها حَمزةَ وجَعفَرًا، وأباه عَلِيًّا، وغَيرَهُم، وكانت شَهادتُه ممَّا رفَع الله بها مَنزِلَتَه، وأَعْلَى دَرَجتَهُ، والمَنازِلُ العاليةُ لا تُنالُ إلَّا بالبَلاءِ، قَتلوهُ مَظلومًا شَهيدًا شَهادةً أَكرَمَهُ الله بها، وأَلْحَقَهُ بأهلِ بَيتِه الطَّيِّبين الطَّاهِرين، وأَهانَ بها مَن ظَلمَهُ واعْتَدى عليه، وأَوْجَبَ ذلك شَرًّا بين النَّاسِ، فصارَت طائِفَة جاهِلَة ظالِمَة: إمَّا مُلْحِدة مُنافِقَة، وإمَّا ضَالَّة غاوِيَة، تُظْهِر مُوالاتِه ومُوالاةِ أهلِ بَيتِه، تَتَّخِذُ يومَ عاشوراء يومَ مَأْتَم وحُزْن ونِياحَة، وتُظْهِر فيه شِعارَ الجاهليَّة مِن لَطْمِ الخُدودِ، وشَقِّ الجُيوبِ، والتَّعَزِّي بِعَزاءِ الجاهليَّة. ومِن كَرامَةِ الله للمؤمنين أنَّ مُصيبةَ الحُسينِ وغَيرِه إذا ذُكِرَت بعدَ طولِ العَهْدِ يُسْتَرْجَعُ فيها، كما أمَرَ الله ورسولُه؛ لِيُعْطَى مِن الأجرِ مِثلُ أَجْرِ المُصابِ يومَ أُصِيبَ بها. وإذا كان الله تعالى قد أَمَرَ بالصَّبْرِ والاحْتِسابِ عند حَدَثان العَهْدِ بالمُصيبَةِ فكيف مع طولِ الزَّمانِ, فكان ما زَيَّنَهُ الشَّيطانُ لأهلِ الضَّلالِ والغِيِّ مِن اتِّخاذِ يومِ عاشوراء مَأتمًا، وما يَصنعون فيه مِن النَّدْبِ والنِّياحَةِ، وإنشادِ قَصائدِ الحُزنِ، ورِوايةِ الأخبارِ التي فيها كَذِبٌ كثيرٌ -والصِّدقُ فيها ليس فيه إلَّا تَجديدُ الحُزنِ- والتَّعَصُّبِ، وإثارةِ الشَّحناءِ والحَرْبِ، وإلقاءِ الفِتَنِ بين أهلِ الإسلامِ؛ والتَّوسُّلِ بذلك إلى سَبِّ السَّابِقين الأوَّلين، وكَثْرَةِ الكَذِبِ والفِتَنِ في الدُّنيا، ولم يَعرِفْ طوائفُ الإسلامِ أكثرَ كَذِبًا وفِتَنًا ومُعاونةً للكُفَّارِ على أهلِ الإسلامِ مِن هذه الطَّائفَةِ الضَّالَّةِ الغاويَةِ، فإنَّهم شَرٌ مِن الخَوارِج المارِقين.

العام الهجري : 479 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1087
تفاصيل الحدث:

وكان المُعتَمِدُ على الله أبو عبدِ الله محمدُ بن عَبَّاد أَعظمَ مُلوكِ الأندلسِ من المسلمين، وكان يَملِك أكثرَ البلادِ مثل قُرطُبة وإشبيلية، وكان يُؤدِّي إلى الفونسو السادس -الأذفونش- ضَريبةً كلَّ سَنَةٍ. فلمَّا مَلَكَ الفونسو طليطلة أَرسلَ إليه المُعتَمِدُ الضَّريبةَ على عادَتِه، فرَدَّها عليه ولم يَقبَلها منه، فأَرسلَ إليه يَتهدَّدهُ ويَتوعَّدهُ أنَّه يَسيرُ إلى مَدينةِ قُرطُبة ويَتملَّكها إلَّا أن يُسلِّم إليه جَميعَ الحُصونِ التي في الجَبلِ، ويُبقِي السهلَ للمُسلمين، وكان الرسولُ في جَمعٍ كَثيرٍ كانوا خمسمائة فارس، فأَنزَله محمدُ بن عبَّاد، وفَرَّقَ أَصحابَه على قُوَّادِ عَسكرِه، ثم أَمَرَ كلَّ مَن عنده منهم رَجُل أن يَقتُلَه، وأَحضرَ الرَّسولَ وصَفَعَهُ، وسَلِمَ من الجَماعةِ ثلاثةُ نَفَرٍ، فعادوا إلى ألفونسو فأَخبَروه الخَبرَ وكان مُتوجِّهًا إلى قُرطُبة لِيُحاصِرَها، فلمَّا بَلَغَهُ الخَبَرُ عادَ إلى طُليطلة ليَجمعَ آلاتَ الحِصارِ، ورَحلَ المُعتمدُ إلى إشبيلية فلمَّا عاد إليها، وسَمِعَ مَشايخَ قُرطبة بما جَرَى، ورأوا قُوَّةَ الفِرنج، وضَعفَ المُسلمين، واستِعانَةَ بَعضِ مُلوكِهم بالفِرنج على بعضٍ، اجتَمَعوا وقالوا: هذه بلادُ الأندلسِ قد غَلَبَ عليها الفِرنجُ، ولم يَبقَ منها إلَّا القليلُ، وإن استَمرَّت الأَحوالُ على ما نَرَى عادت نَصرانيةً كما كانت. وساروا إلى القاضي عبدِ الله بن محمدِ بن أدهم، فقالوا له: ألا تَنظُر إلى ما فيه المسلمون من الصَّغارِ والذِّلَّةِ، وعَطائِهم الجِزيةَ بعدَ أن كانوا يَأخُذونَها، وقد رأينا رَأيًا نَعرِضُه عليك. قال: ما هو؟ قالوا: نَكتُب إلى غَربِ إفريقية ونَبذُل لهم، فإذا وَصَلوا إلينا قاسَمناهُم أَموالَنا، وخَرَجنا معهم مُجاهِدين في سبيلِ الله. قال: نخافُ، إذا وَصَلوا إلينا، يُخَرِّبون بِلادَنا، كما فَعَلوا بإفريقية، ويَتركون الفِرنجَ ويَبدؤون بكم، والمُرابِطون أَصلَحُ منهم وأَقربُ إلينا. قالوا له: فكاتب أَميرَ المُسلمين، وارغَب إليه لِيَعبُرَ إلينا، ويُرسِل بعضَ قُوَّادِه. وقَدِمَ عليهم المُعتمِدُ بن عبَّاد، وهُم في ذلك، فعَرَضَ عليه القاضي ابنُ أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابنُ عبَّاد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتَنَع، وإنَّما أرادَ أن يُبرِّئ نَفسَه من تُهمةٍ، فأَلَحَّ عليه المُعتمِدُ ابنُ عبَّاد وقال: "إنْ دُهِينَا من مُداخَلَةِ الأضدادِ، فأَهْوَنُ الأَمرينِ أَمرُ المُلَثَّمين، ورِعايةُ أولادِنا جِمالَهم أَهوَنُ من أن يَرعوا خَنازيرَ الفِرنج". فسارَ إلى أَميرِ المسلمين يوسفَ بنِ تاشفين، فأَبلغَه الرِّسالةَ، وأَعلَمهُ ما فيه المسلمون من الخَوفِ من ألفونسو. وما زالت وُفودُ الأندلسِ تَفِدُ على يوسفَ بنِ تاشفين مُستَعطِفين مُجهَشِينَ بالبُكاءِ ناشِدينَ بالله, ومُستَنجِدينَ بفُقهاءِ حَضرتِه ووُزراءِ دَولتِه فيَسمَع إليهم ويُصغِي لِقَولِهم وتَرِقُّ نَفسُه لهم, ولمَّا انتَهَت الرُّسُلُ إلى ابنِ تاشفين أَقبلَ عليهم وأَكرمَ مَثواهُم وجَرَت بينه وبينهم مُراوضاتٌ ثم انصَرَفوا إلى مُرسِلِهم ثم عَبَرَ يوسفُ البحرَ عُبورًا سَهلًا حتى أتى الجَزيرةَ الخَضراءَ فخَرجَ إليه أَهلُها بما عندهم من الأقواتِ والضِّيافاتِ وأَقاموا له سُوقًا جَلَبوا إليه ما عندهم من سائرِ المَرافِقِ وأَذِنوا للغُزاةِ في دُخولِ البلدِ والتَّصَرُّفِ فيها, ثم أَرسلَ ابنُ تاشفين لألفونسو يَدعوهُ للإسلامِ أو الجِزيَةِ أو الحَربِ فاختارَ الحربَ، فقام يوسفُ بن تاشفين في الحالِ وكان بمَدينةِ سَبتَة، فأَمرَ بعُبورِ العَساكرِ إلى الأندَلُسِ، وأَرسلَ إلى مراكش في طَلبِ مَن بَقِيَ مِن عَساكرِه، فأَقبلَت إليه يَتلُو بَعضُها بَعضًا، فلمَّا تَكامَلَت عنده عَبَرَ البحرَ وسارَ، فاجتَمعَ بالمُعتَمِدِ بن عبَّاد بإشبيلية، وكان قد جَمعَ عَساكرَه أيضًا، وخَرجَ من أَهلِ قُرطُبة عَسكرٌ كَثيرٌ. وقَصدَهُ المُتَطَوِّعَةُ من سائرِ بلادِ الأندلسِ، ووَصَلت الأَخبارُ إلى ألفونسو فجَمعَ فِرسانَه وسارَ من طُليطلة، وكَتبَ إلى أَميرِ المسلمين كِتابًا كَتَبَهُ له بعضُ أُدباءِ المُسلِمين، يُغلِظ له القَولَ، ويَصِفُ ما عنده من القُوَّةِ والعَددِ، وبالَغَ الكاتِبُ في الكِتابِ. فأَمَرَ أَميرُ المُسلمين أبا بكرِ بن القَصيرَةِ أن يُجيبَهُ، وكان كاتِبًا مُفْلِقًا، فكَتبَ فأَجادَ، فلمَّا قَرأهُ على أَميرِ المُسلِمين قال: هذا كِتابٌ طَويلٌ، أَحضِر كِتابَ ألفونسو واكتُب في ظَهرِه: الذي يكون سترا له الذي سَيكونُ سَتَراهُ. فلمَّا عادَ الكِتابُ إلى ألفونسو ارتاعَ لذلك، وعَلِمَ أنَّه بُلِيَ بِرَجُلٍ له عَزْمٌ وحَزْمٌ، فازداد استِعدادًا, فجَمعَ ألفونسو فِرسانَه ثم سارَ من طُليطِلة، وسارَ أَميرُ المُسلِمين ابنُ تاشفين، والمُعتَمِدُ بن عبَّاد، حتى أَتوا أَرضًا يُقال لها: الزَّلَّاقَة، من بَلدِ بطليوس، فأَرسلَ ابنُ تاشفين للمُعتَمِد يَأمُرُه أن يكونَ في المُقدِّمَةِ، ففَعلَ، وقد ضَربَ الفونسو خِيامَه في لَحْفِ جَبَلٍ، والمُعتَمِدُ في سَفْحِ جَبَلٍ آخرَ، يَتَراءونَ، ويَنزِلُ أَميرُ المُسلِمين ابنُ تاشفين وَراءَ الجَبَلِ الذي عنده المُعتَمِد، وظَنَّ ألفونسو أنَّ عَساكِرَ المُسلِمين ليس إلَّا الذي يَراهُ. وكان الفِرنجُ في خمسين ألفًا، فتَيَقَّنوا الغَلَبَ، ثم أَقبَلَت الجُيوشُ، ونَزلَت تِجاهَ الفِرنجِ، فاختارَ ابنُ عبَّادٍ أن يكونَ هو المُصادِمُ للفِرنجِ أوَّلًا، وأن يكون ابنُ تاشفين رِدْفًا له. ففَعَلوا ذلك، وأَرسلَ ألفونسو إلى المُعتَمِد في مِيقاتِ القِتالِ، فقال: غَدًا الجُمعةُ، وبَعدَه الأحدُ، فيكونُ اللِّقاءُ يومَ الاثنينِ، فقد وَصلنا على حالِ تَعَبٍ، واستَقرَّ الأَمرُ على هذا، وركب ليلة الجمعة سَحَرًا، وصَبَّحَ بجَيشِه جَيشَ المُعتَمِد بُكرَةَ الجُمعَةِ، غَدْرًا، وظَنًّا منه أن ذلك المُخَيَّم هو جَميعُ عَسكرِ المُسلِمين، فوَقعَ القِتالُ بينهم فصَبرَ المسلمون، فأَشرَفوا على الهَزيمَةِ، وكان المُعتَمِد قد أَرسلَ إلى أَميرِ المُسلِمين ابنِ تاشفين يُعلِمه بمَجيءِ الفِرنجِ للحربِ، فقال: احمِلوني إلى خِيامِ الفِرنجِ، فسار إليها، فبينما هُم في القِتالِ وَصَلَ أَميرُ المُسلِمين إلى خِيامِ الفِرنجِ، فنَهَبَها، وقَتَلَ مَن فيها، فلمَّا رأى الفِرنجُ ذلك لم يَتَمالَكوا أن انهَزَموا، وأَخَذَهم السَّيفُ، وتَبِعَهم المُعتَمِدُ مِن خَلفِهم، ولَقِيَهم أَميرُ المُسلِمين من بين أَيدِيهم، ووَضَعَ فيهم السَّيفَ، فلم يُفلِت منهم أَحَدٌ، ونَجَا ألفونسو في نَفَرٍ يَسيرٍ قِيلَ: 30 رَجُلًا, وجَعلَ المُسلِمون من رُؤوسِ القَتلَى كُوَمًا كَثيرةً، فكانوا يُؤذِّنون عليها إلى أن جِيفَت فأَحرَقوها، وكانت الوَقعَةُ يومَ الجُمعةِ في العَشْرِ الأُوَلِ من شَهرِ رَمضان، وغَنِمَ المسلمون غَنيمةً عَظيمةً, وعَفَّ يوسفُ عن الغَنائمِ، وآثَرَ بها مُلوكَ الأندلسِ لِيَتِمَّ له الأَجرُ، فأَحَبُّوه وشَكَروا له, ورَجعَ أَميرُ المُسلِمين إلى الجَزيرةِ الخَضراء، وعَبرَ إلى سَبتَة، وسار إلى مراكش، فأقامَ بها إلى العامِ المُقبِل.

العام الهجري : 658 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1260
تفاصيل الحدث:

لمَّا بلغ الملك المظفَّر سيف الدين قُطز صاحِبَ مِصرَ أنَّ التتارَ قد فعلوا بالشَّامِ ما فعلوه، وقد نهَبوا البلاد كلَّها حتى وصلوا إلى غزَّة، وقد عزم كتبغانوين نائب هولاكو في الشام على الدخولِ إلى مصر، وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار الأشرفَ صاحِبَ حمص والمجير بن الزكي، فأشاروا عليه بأنَّه لا قِبَل له بالمظفَّر حتى يستَمِدَّ هولاكو فأبى إلا أن يناجزه سريعًا، فبادرهم  المظفَّر قطز قبل أن يبادِروه ويبرز إليهم وقد اجتمعت الكلمةُ عليه، فبعد قدومِ الصاحب كمال الدين بن العديم رسولًا من الشام يطلبُ النَّجدةَ على التتار، جمعَ قُطز الأمراءَ‍ والأعيان، وحضر معهم الشيخُ عز الدين بن عبد السلام والقاضي بدر الدين السنجاري، وجلس المَلِكُ المنصور في دَست السلطنة، فاعتمدوا على ما يقولُه الشيخ عز الدين، فكان خلاصته: "إذا طرق العدوُّ البلادَ وجب على العالمَ كُلِّهم قتالُهم، وجاز أن يؤخَذَ مِن الرعيَّة ما يُستعانُ به على جهادِهم، بشرط ألَّا يبقى في بيتِ المال شيءٌ، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائِصِ والآلاتِ، ويَقتَصِر كل منكم على فَرَسِه وسلاحِه، ويتساووا في ذلك هم والعامَّة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاءِ ما في أيدي الجُندِ مِن الأموال والآلاتِ الفاخرةِ فلا"، ثم بعد أيامٍ يسيرةٍ قَبَضَ على المنصور علي بن المعز وقال: هذا صبيٌّ والوقت صعبٌ، ولا بد من أن يقوم رجلٌ شجاع ينتصب للجهادِ فقبض عليه، وتسلطَنَ وتلقَّبَ بالملك المظفر. ثم قَدِمَ الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري من دمشق مهاجرًا إلى مصرَ؛ لخدمة الملك المظفر سيف الدين قطز, فدخل القاهرةَ يوم السبت ثاني وعشرين ربيع الأول سنة ثمان وخمسين، فركب المظفَّر للقائه وأنزله في دارِ الوَزارة وأقطعه قَصبةَ قيلوب لخاصَّتِه، وأشار عليه بيبرس بملاقاة التتار وقَوَّى جأشَه وحَرَّك عزائمه وحرَّضَه على التوجه للقائهم, فخرج المظفَّر قطز يوم الاثنين خامس عشر شعبان بجميع عساكِرِ مِصرَ مع ما انضاف إليهم من العَرَب وغيرهم لقصدِ التتار الذين بالشَّامِ، فلما وصل إلى مرج عكا بلغ بكتبغانوين، مُقَدَّمَ عسكر التتار بالشام خروجُ الملك المظفَّر، وكان في بلد حمص فتوجَّه إلى الغور، وبعث الملك المظفر للأمير ركن الدين البندقداري  في عسكرٍ ليتجَسَّس خبَرَ التتار،  فلما وقعت عينُه عليهم كتب للملك المظفر يعلِمُه بوصولهم ثمَّ انتهز الفرصةَ في مناوشتهم، فلم يزل يستدرجُهم تارة بالإقبال وتارة بالإحجام حتى وافى بهم إلى المَلِك المظفَّر على عين جالوت فكانت الوقعةُ التي أيَّدَ الله بها المُسلِمينَ على التتارِ،  وأخَذَ بها منهم ثأرَ أهلِ الوَبَر والمَدَر، وحاقَ بهم مَكرُ السَّيفِ، وحكَمَ فيهم الحَتفُ بالحَيفِ، وقَتَلوهم وأخذوهم ومعهم مَلِكُهم كتبغانوين، فقُتِلَ وأُخِذَ رأسُه وأُسِرَ ابنه، وكانت الوقعةُ بين المسلمين والتتار  على ((عين جالوت)) يومَ الجمعة خامس وعشرين من شهر رمضان المعظَّم، ووصل الخبَرُ إلى دمشق في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فانهزم بتلك الليلة من كان بدمشقَ مِن التتار وأيل سبان نائب الملك وأتباعهم، وتبعهم النَّاسُ وأهل الضياع ينهبونهم ويقتلونَ مَن ظَفِروا به، فلله الحمدُ والشُّكر, ودخل السلطانُ الملك المظفَّر إلى دمشق يوم الأحد رابع شوال، فأقام بها إلى أن خرج منها طالبًا للدِّيار المصرية, ومن العجائِبِ أن التتار كُسِروا وأُهلِكوا بأبناء جنسِهم المماليكِ، وهم من التركِ!! وعَمِل الشيخُ شهاب الدين أبو شامة في ذلك شِعرًا:
غلبَ التَّتارُ على البلادِ فجاءهم
مِن مِصرَ تركيٌّ يجودُ بنَفسِه
بالشَّامِ بدَّدَهم وفَرَّق شَملَهم
ولكلِّ شَيءٍ آفةٌ مِن جِنسِه
وقد قاتل الملكُ المنصورُ صاحِبُ حماة مع المَلِك المظفَّر قِتالًا شَديدًا، وكذلك الأميرُ فارس الدين أقطاي المستعرب، وكان أتابك العسكَر، وقد أُسِرَ من جماعة كتبغانوين المَلِك السعيد بن العزيز بن العادل فأمَرَ المظفَّر بضَرب عُنُقِه، واستأمن الأشرفُ صاحِبُ حمص، وكان مع التَّتارِ وقد جعله هولاكو خان نائبًا على الشام كُلِّه، فأمنه الملك المظفَّر ورَدَّ إليه حمص، وكذلك ردَّ حماة إلى المنصور وزاده المَعَرَّة وغيرها، وأطلق سلمية للأميرِ شَرَف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب، واتَّبَع الأميرُ بيبرس البندقداري  وجماعةٌ من الشجعان التتارَ يقتُلونَهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفَهم إلى حَلَب، وهرب مَن بدمشقَ منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان، فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلونَ فيهم ويفتِكونَ الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارةُ، ولله الحمدُ على جبرِه إيَّاهم بلُطفِه فجاوبتها دقُّ البشائر من القلعة، وفرح المؤمنون بنصر الله فرحًا شديدًا، وأيَّدَ اللهُ الإسلامَ وأهله تأييدًا وكَبَت الله النصارى واليهودَ والمنافقين، وظهر دينُ الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمونَ إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصَّليبُ فانتَهَبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النَّارَ فيما حولها، فاحترق دُورٌ كثيرةٌ إلى النصارى، وملأ اللهُ بيوتَهم وقبورَهم نارًا، وأُحرِقَ بعضُ كنيسةِ اليعاقبة، وهمَّت طائفةٌ بنَهبِ اليهود، فقيل لهم إنَّه لم يكن منهم من الطغيانِ كما كان من عَبَدة الصُّلبان، وقَتَلَت العامَّة وسطَ الجامِعِ شَيخًا رافضيًّا كان مُصانِعًا للتتار على أموالِ النَّاسِ يقال له الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، كان خبيثَ الطويَّة مشرقيًّا ممالئًا لهم على أموالِ المسلمين- قبَّحه الله- وقَتَلوا جماعةً مِثلَه من المنافقين، فقُطِعَ دابِرُ القَومِ الذين ظَلَموا والحمدُ لله رب العالَمينَ.

العام الهجري : 16 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 637
تفاصيل الحدث:

عزَم سعدُ بن أبي وَقَّاص أن يَعْبُرَ جَيشُه دِجلَة بالخيلِ، فجمَع النَّاس فحمِد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: إنَّ عَدُوَّكُم قد اعْتصَم منكم بهذا البحرِ، فلا تَخْلُصون إليه معه ويَخْلُصون إليكم إذا شاءوا في سُفُنِهم فَيُناوِشُونَكُم، وليس وَراءَكُم شيءٌ تخافون أن تُؤْتَوْا منه، قد كَفاكُم أهلُ الأيَّام وعَطَّلُوا ثُغورَهُم، وقد رأيتُ مِن الرَّأي أن تُجاهِدوا العَدُوَّ قبلَ أن تَحْصُدَكُم الدّنيا، ألا إِنِّي قد عَزمتُ على قَطْعِ هذا البحرِ إليهم. فقالوا جميعًا: عزَم الله لنا ولك على الرُّشْدِ، فافْعَلْ. فندَب النَّاسَ إلى العُبورِ وقال: مَن يَبدأُ ويَحْمي لنا الفِراضَ حتَّى تَتلاحَقَ به النَّاسُ لِكَيْلا يَمنَعوهُم مِن العُبورِ؟ فانْتَدَبَ عاصمُ بن عَمرٍو ذو البَأْسِ، في سِتِّمائةٍ مِن أهلِ النَّجدات لِيَحموا لهم الشَّاطئَ مِن الفُرْسِ حتَّى تَتَلاحقَ الجُنْدُ، ولمَّا رَأى سعدٌ عاصِمًا على الفِراضِ قد مَنَعَها، أَذِنَ للنَّاسِ في الاقتحامِ وقال: قولوا: نَستَعينُ بالله، ونَتوَكَّلُ عليه، حَسبُنا الله ونِعْمَ الوَكيلُ، والله ليَنْصُرَنَّ الله وَلِيَّهُ، وليُظْهِرَنَّ دِينَهُ، وليَهْزِمَنَّ عَدُوَّهُ، لا حولَ ولا قُوَّةَ إلَّا بالله العَلِيِّ العظيمِ. وتَلاحَقَ النَّاسُ في دِجْلة وإنَّهم يَتَحدَّثون كما يَتَحدَّثون في البَرِّ، وطَبَّقوا دِجْلة حتَّى ما يُرى مِن الشَّاطئ شيءٌ. فلمَّا رَأى الفُرْسَ ذلك، وأَتاهُم أَمْرٌ لم يكنْ في حِسابِهم خرَجوا هاربين نحو حُلْوان، وتَركوا في الخَزائنِ مِن الثِّيابِ والمَتاعِ والآنِيَةِ والفُصوصِ والألطافِ ما لا يُدْرَى قِيمتُه، وخَلَّفُوا ما كانوا أَعَدُّوا للحِصارِ مِن البَقر والغَنَم والأطعِمَة، وكان في بيتِ المالِ ثلاثةُ آلافِ ألف ألف ألف، ثلاث مرَّات، وكان أوَّلَ مَن دخَل المدائنَ كَتيبةَ الأهوالِ، وهي كَتيبةُ عاصمِ بن عَمرٍو، ثمَّ كَتيبةُ الخَرْساء، وهي كَتيبةُ القَعقاعِ بن عَمرٍو، فأخذوا في سِكَكِها لا يَلْقون فيها أحدًا يَخْشَوْنَهُ إلَّا مَن كان في القَصرِ الأبيضِ، فأحاطوا بهم ودَعوهم فاستَجابوا على تَأدِيَةِ الجِزيَةِ والذِّمَّةِ، فتَراجَع إليهم أهلُ المدائنِ على مِثلِ عَهدِهم، ليس في ذلك ما كان لآلِ كِسرى، ونزَل سعدٌ القَصرَ الأبيضَ، واتَّخَذ سعدٌ إيوانَ كِسرى مُصَلَّى، ولمَّا دخَل سعدٌ الإيوانَ قرَأ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان: 25]...الآيةَ، وصلَّى فيه صَلاةَ الفَتحِ ثماني رَكعاتٍ، ثمَّ جمَع ما في القَصرِ والإيوانِ والدُّورِ مِن الغنائمِ، وكان أهلُ المدائنِ قد نَهبوها عند الهَزيمةِ، وهَربوا في كُلِّ وَجهٍ، فما أَفْلَتَ أحدٌ منهم بشيءٍ إلَّا أَدْرَكَهُم الطَّلَبُ، فأخذوا ما معهم، ورَأَوْا بالمدائنِ قِبابًا تُرْكِيَّةً مَمْلُؤةً سِلالًا مَختومَةً بِرَصاصٍ فحَسَبوها طعامًا، فإذا فيها آنِيَةُ الذَّهبِ والفِضَّةِ.

العام الهجري : 199 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 815
تفاصيل الحدث:

ظهر أبو عبدِ الله محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، بالكوفةِ، يدعو إلى الرِّضا من آل محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم والعمَل بالكتابِ والسُّنَّة، وهو الذي يُعرَف بابنِ طباطبا، وكان القيِّم بأمرِه في الحرب أبو السَّرايا السَّري بن منصور، وكان سببُ خروجه أنَّه شاع أنَّ الفضلَ بنَ سَهلٍ قد غلب على المأمونِ، وأنَّه يستبِدُّ بالأمر دونه، فغَضِبَ لذلك بنو هاشم ووجوهُ الناس، واجترؤوا على الحسَن بنِ سَهل، وهاجت الفِتَنُ في الأمصار، فكان أوَّلَ مَن ظهر ابنُ طباطبا بالكوفة، وقد اتَّفَق أهلُ الكوفة على موافَقتِه واجتمعوا عليه مِن كُلِّ فجٍّ عميقٍ، وكان النائِبُ عليها من جهةِ الحسَنِ بن سهل سُليمانَ بنَ أبي جعفر المنصور، فبعث الحسَنُ بن سهل لسليمانَ بنِ أبي جعفر يلومُه ويؤنِّبُه على ذلك، وأرسل إليه بعشرةِ آلاف فارسٍ بصحبة زاهرِ بن زهير بن المسيب، فتقاتلوا خارِجَ الكوفةِ، فهَزَمَ أبو السرايا زاهرًا واستباح جيشَه ونهب ما كان معه، فلمَّا كان الغد من الوقعة توفِّيَ ابنُ طباطبا أميرُ الشيعة فجأةً، ويقال: إنَّ أبا السرايا سَمَّه وأقام مكانه غلامًا أمْرَد يقال له محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وانعزل زاهِرٌ بمن بقِيَ معه من أصحابِه إلى قصر ابن هُبيرة، وأرسل الحسَنُ بن سهل مع عبدوس بن محمد أربعةَ آلافِ فارسٍ، صورة مدد لزاهر، فالتقوا هم وأبو السَّرايا، فهزمهم أبو السرايا ولم يُفلِت من أصحاب عبدوس أحدٌ، وانتشر الطالبيُّون في تلك البلاد، وضرب أبو السرايا الدَّراهمَ والدنانير في الكوفة، ونقَشَ عليه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} ثمَّ بعث أبو السرايا جيوشَه إلى البصرة وواسط والمدائن، فهزموا مَن فيها من النوَّاب ودخلوها قهرًا، وقَوِيَت شوكتهم، فأهمَّ ذلك الحسَنَ بنَ سَهلٍ، وكتب إلى هرثمةَ بنِ أعيَنَ يستدعيه لحربِ أبي السرايا، فتمَنَّعَ ثم قَدِمَ عليه فخرج إلى أبي السرايا فهزم أبا السَّرايا غيرَ مَرَّة وطرده حتى ردَّه إلى الكوفة، ووثب الطالبيون على دُورِ بني العباس بالكوفةِ فنَهَبوها وخَرَّبوا ضِياعَهم، وفعلوا أفعالًا قبيحة، وبعث أبو السَّرايا إلى المدائِنِ فاستجابوا، وبعث إلى أهلِ مكةَ حُسَين بن حسن الأفطس ليقيمَ لهم الموسِمَ، فخاف أن يدخُلَها جهرةً، ولَمَّا سمع نائِبُ مكَّةَ- وهو داود بن عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن عباس- هرب من مكة طالبًا أرضَ العراق، ثم دخلها الأفطسُ وحجَّ بها من سنته.

العام الهجري : 231 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 846
تفاصيل الحدث:

هو أبو عبدِ اللهِ أحمَدُ بنُ نصرِ بن مالك بن الهيثم الخُزاعي المروزي، ثم البغدادي، الإمامُ الكبيرُ الشَّهيدُ، ثِقةٌ فاضِلٌ، مِن كبارِ العُلَماء الآمِرينَ بالمعروفِ والنَّاهينَ عن المُنكَر. كان أحمَدُ بنُ نصرٍ يُخالِفُ مَن يقولُ: القُرآنُ مخلوقٌ، ويُطلِقُ لِسانَه فيه، مع غِلظةِ بالواثق، وكان يقولُ- إذا ذكَرَ الواثِقَ: فعَلَ هذا الخِنزيرُ، وقال هذا الكافِرُ، وفشا ذلك، فكان يغشاه رجلٌ يُعرَفُ بأبي هارونَ الشَّداخ وآخَرُ يقال له طالب، وغيرُهما، ودَعَوا الناسَ إليه، فبايعوه على الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكر، وفرَّقَ أبو هارون وطالِبٌ في الناسِ مالًا، فأعطيا كلَّ رجلٍ دينارًا، واتَّعَدوا ليلةَ الخميس لثلاثٍ خَلَت من شَعبانَ لِيَضرِبوا الطبلَ فيها ويثوروا على السُّلطانِ، فافتضحَ أمرُهم فأرسل الواثِقُ إلى أحمدَ بنِ نصرٍ، فأخَذَه وهو في الحمَّامِ، وحمل إليه، وفَتَّش بيته، فلم يوجَدْ فيه سلاحٌ، ولا شيءٌ من الآلاتِ، فسَيَّرَهم محمد بن إبراهيم إلى الواثِقِ مُقَيَّدينَ على أُكُفِ بِغالٍ ليس تحتَهم وِطاءٌ، إلى سامِرَّا وكان قد أعدَّ له مجلِسَ قضاءٍ، فقال الواثِقُ: ما تقولُ بالقرآنِ؟ قال: كلامُ اللهِ، فقال الواثِقٌ: أمخلوقٌ هو؟ قال: كلامُ الله. قال: فما تقولُ في ربِّك أَتَراه يومَ القيامة؟ قال: يا أميرَ المؤمنينَ، قد جاءت الأخبارُ عن رسولِ الله صلى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّه قال: ((تَرَونَ ربَّكم يومَ القيامةِ كما تَرَون القمَرَ- قال- لا تُضامُونَ في رُؤيتِه)) فنحن على الخبَرِ، فقال الواثِقُ لِمَن حوله: ما تقولونَ فيه؟ فقال عبدُ الرحمن بن إسحاق- وكان قاضيًا على الجانبِ الغربيِّ- وعِزِّكَ يا أميرَ المؤمنينَ، هو حلالُ الدَّمِ، وقال بعضُ أصحابِ ابنِ أبي دؤاد: اسقِني دَمَه، وقال ابنُ أبي دؤاد: هو كافِرٌ يُستتابُ، لعلَّ به عاهةً ونقْصَ عَقلٍ، كأنَّه كَرِهَ أن يُقتَلَ بسَببِه، فقال الواثِقُ: إذا رأيتُموني قد قمتُ إليه، فلا يقومَنَّ أحَدٌ، فإنِّي أحتَسِبُ خطايَ إليه، ودعا بالصَّمصامة- سيفِ عمرِو بنِ مَعدِيَكرِب الزبيدي- ومشى إليه، وهو في وسط الدار على نِطعٍ، فضربه على حبلِ عاتِقِه، ثمَّ ضربَ سيما الدمشقيُّ رقبَتَه، وحزَّ رأسَه، وطعنه الواثِقُ بطَرفِ الصمصامة في بطنِه، وحُمِلَ رأسُه إلى بغداد فنُصِبَ بها وأقيمَ عليه الحرَسُ، وكتَبَ في أذُنِه رقعة: هذا رأسُ الكافرِ، المُشرِك الضالِّ، أحمد بن نصر؛ فلم يزَلْ مَصلوبًا ستَّ سنين، ثمَّ حُطَّ وجُمِعَ بين رأسِه وبدنِه، ودفن بالجانبِ الشَّرقيِّ مِن بغداد في عهد المتوكِّل، وتتبَّعَ الواثِقُ أصحابَ أحمدَ بنِ نصر، فجُعِلوا في الحُبُوس، فرحمةُ اللهِ على أحمدَ بنِ نَصرٍ، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ذكره الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل يومًا، فقال: "رَحِمَه اللهُ، ما كان أسخاه بنَفسِه لله! لقد جاد بنَفسِه له".

العام الهجري : 270 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 883
تفاصيل الحدث:

لَمَّا قُتِلَ الذين كانوا يمُدُّون الزنجَ بالميرة، وقُطِعَت تلك الإمدادات واشتَدَّ الحصار على الزنج، ولَمَّا فرغ الموفَّقُ من شأن مدينة صاحبِ الزنج، وهي المختارة، واحتاز ما كان بها من الأموالِ وقَتَل من كان بها من الرجال، وسَبى من وجد فيها من النِّساء والأطفال، وهرب صاحِبُ الزنج عن حومةِ الحرب والجِلاد، وسار إلى بعضِ البلاد طريدًا شريدًا بشَرِّ حال؛ عاد الموفَّق إلى مدينتِه المُوفَّقيَّة مُؤيَّدًا منصورًا، وقَدِمَ عليه لؤلؤة غلام أحمد بن طولون مُنابذًا لسيِّده سميعًا مطيعًا للمُوَفِّق، وكان ورودُه عليه في ثالث المحرم من هذه السنة، فأكرمه وعَظَّمه وأعطاه وخَلَع عليه وأحسَنَ إليه، وبعثه طليعةً بين يديه لقتالِ صاحب الزنج، وركِبَ الموفَّق في الجيوش الكثيفة الهائلة وراءه، فقصدوا الخبيث وقد تحصَّنَ ببلدة أخرى، فلم يزل به محاصِرًا له حتى أخرجه منها ذليلًا، واستحوذ على ما كان بها من الأموالِ والمغانم، ثمَّ بعث السرايا والجيوشَ وراء حاجِبِ صاحب الزنج، فأسروا عامَّة من كان معه من خاصَّته وجماعتِه، منهم سليمان بن جامع، فاستبشر الناسُ بأسره وكبَّرُوا الله وحَمِدوه؛ فرحًا بالنصر والفتح، وحمل الموفَّقُ بمن معه حملةً واحدة على أصحابِ الخبيث فاستحَرَّ فيهم القتل، وما انجلت الحربُ حتى جاء البشيرُ بقتل صاحب الزنج في المعركةِ، وأُتي برأسِه مع غلامِ لؤلؤة الطولوني، فلما تحقَّق الموفَّق أنَّه رأسُه بعد شهادة الأمراء الذين كانوا معه من أصحابِه بذلك، خَرَّ ساجدًا لله، ثم انكفأ راجعًا إلى الموفَّقيَّة، ورأسُ الخبيثِ يُحمَلُ بين يديه، وسليمانُ معه أسير، فدخل البلدَ وهو كذلك، وكان يومًا مشهودًا، وفرح المسلمون بذلك في المغارب والمشارق، ثم جيء بأنكلاني ولد صاحب الزنج، وأبان بن علي المهلبي مُسَعِّر حربِهم مأسورينِ، ومعهم قريبٌ من خمسة آلاف أسير، فتم السرورُ وهرب قرطاس الذي رمى الموفَّق بصدره بذلك السَّهم إلى رامهرمز، فأُخِذَ وبُعِثَ به إلى الموفَّق فقتله أبو العباس أحمد بن الموفَّق، واستتاب مَن بقي من أصحابِ صاحب الزنج وأمَّنَهم الموفَّق، ونادى في الناس بالأمان، وأن يرجِعَ كُلُّ من كان أُخرِجَ من دياره بسبَبِ الزنج إلى أوطانِهم وبلدانهم، ثم سار إلى بغداد وقَدَّمَ ولده أبا العباس بين يديه، ومعه رأسُ الخبيث يُحمَلُ لِيَراه الناس، فدخلها لثنتي عشرة ليلةً بقيت من جمادي الأولى من هذه السنة، وكان يومًا مشهودًا، وانتهت أيامُ صاحب الزنج المُدَّعي الكذَّاب- قبَّحه الله- واسمُه محمد بن علي، وقد كان ظهورُه في يوم الأربعاء لأربعٍ بَقِين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان هلاكُه يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، وكانت دولته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، ولله الحمدُ والمنَّة، وقد قيل في انقضاء دولة الزنجِ وما كان من النصرِ عليهم أشعارٌ كثيرة.

العام الهجري : 334 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 946
تفاصيل الحدث:

تطَلَّعَ بنو بُوَيه الديلم الشِّيعيَّة إلى السيطرةِ على العراقِ مَقَرِّ الخلافة، وقيل: إنَّ أصلَهم يرجِعُ إلى ملوك ساسان الفارسيِّين الذين شُرِّدوا، فاتَّخَذوا من إقليمِ الديلم الواقع في المنطقة الجبليَّة جنوبيَّ بَحرِ قزوين ملجأً لهم ومقرًّا, وسُمُّوا بالدَّيلمة؛ لطُولِ مُجاورتِهم الدَّيلم. تزعَّم أبو شجاع بُوَيه قبائلَ البُويهيِّينَ سنة 322 - 329 والذى ينتهي نسَبُه إلى الملك الفارسي يزد جرد، وقد أنجب ثلاثة من الذكور، هم: أبو الحسن علي (عماد الدولة)، وأبو على الحسن (ركن الدولة)، وأبو الحسين أحمد (معز الدولة). وكانت بدايةُ الدولة البويهيَّة باستيلاءِ أبي الحسن عليِّ بن بويه على أرجان وغيرها، وقد دخل أبو الحسن علي على شيراز سنة 322، وجعلها عاصمةً لدولته الجديدة، كما دخل فارسَ، وأرسل إلى الخليفةِ الراضي أنَّه على الطاعة. واستولى أبو الحُسَين أحمد بن بويه سنة 326 على الأهواز، وكاتبه بعضُ قواد الدولة العباسيَّة، وزيَّنوا له التوجُّهَ نحو بغداد، وفى سنة 334هـ/ 946م، اتَّجه أبو الحسين أحمد بن بويه نحو بغداد بقُوَّة حربيَّة، فلما جاءت الأخبارُ بأنَّه قد أقبل في الجيوشِ قاصِدًا بغداد، اختفى ابن شيرزاد والخليفة المستكفي بالله، فأقبل أحمدُ بن بويه في جحافِلَ عظيمةٍ مِن الجيوش، فلمَّا اقترب من بغداد بعَثَ إليه الخليفة المستكفي بالله الهَدايا والإنزالات، وقال للرَّسول: أخبِرْه أني مسرور به، وأنِّي إنما اختفيتُ مِن شَرِّ الأتراك، وبعث إليه بالخِلَع والتُّحَف، ودخل أحمدُ بن بويه بغداد في جمادى الأولى وافتتَحَها في سهولةٍ ويُسرٍ، فلم تستطِعْ حامَيتُها التركيةُ مُقاومَتَه، ففَرَّت إلى الموصل، نزل الحسينُ بنُ احمد بن بويه بباب الشماسية، ودخَلَ مِن الغَدِ إلى الخليفة فبايعه, ولقَّبَه الخليفةُ المستكفي بمُعِزِّ الدولة، ولقَّبَ أخاه عليًّا عماد الدولة، ولَقَّبَ أخاه الحسن ركن الدولة، وأمر أن تُكتَبَ ألقابهم على الدَّراهم والدنانير، ولكِنَّ أبا الحسين أحمد بن بويه مُعِزَّ الدولة لم يكتَفِ بهذا اللقب الذي لا يزيدُ على كونِه أميرَ الأمراء. وأصَرَّ على ذِكرِ اسمِه مع اسم الخليفةِ في خُطبةِ الجُمعة، وأن يُسَكَّ اسمُه على العملة مع الخليفة. نزل معزُّ الدولة بدار مؤنس الخادم، ونزل أصحابُه من الديلم بدور الناس، فلقِيَ الناس منهم ضائقةً شديدة، وأمَّنَ مُعِزُّ الدولة ابن شيرزاد، فلما ظهر استكتَبَه على الخَراجِ، ورتَّبَ للخليفة نفقاتِه خَمسةَ آلافِ درهم في كلِّ يومٍ.

العام الهجري : 478 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1085
تفاصيل الحدث:

هو السُّلطانُ الأَميرُ شَرفِ الدَّولةِ أبو المَكارِمِ مُسلِمُ بن مَلِكِ العَربِ أبي المعالي قُريشِ بن بدران بن مُقَلَّدٍ حُسام الدَّولةِ أبي حَسَّان بن المُسَيِّب بنِ رافعٍ العقيليُّ, كان يَتَرَفَّض كأَبيهِ, ونَهَبَ أَبوهُ دارَ الخِلافَةِ في فِتنَةِ البساسيري، وأَجارَ القائمَ بالله, وماتَ سَنةَ 453هـ كَهْلًا، فقامَ شَرفُ الدولةِ بعدَه، واستَولَى على دِيارِ رَبيعةَ، ومُضَر، وتَمَلَّكَ حَلَب، وأَخذَ الحملَ والإتاوةَ من بلادِ الرُّومِ في أنطاكية، ونَحوِها. وسار إلى دِمشقَ فحاصَرَها. وكان قد تَهَيَّأَ له أَخذُها، فبَلغَه أنَّ حران قد عَصَى عليه أَهلُها، فسار إليهم، فحارَبَهم وحارَبوهُ، فافتَتَحها وبَذلَ السَّيْفَ، وقَتَلَ بها خِلْقًا من أَهلِ السُّنَّةِ. قال الذهبيُّ: "كان رافِضِيًّا خَبِيثًا، أَظهرَ ببِلادِه سَبَّ السَّلَفِ، واتَّسَعَت مَملكتُه، وأَطاعَتهُ العَربُ، واستَفحلَ أَمرُه حتى طَمِعَ في الاستِيلاءِ على بغداد بعدَ وَفاةِ طُغرلبك. وكان فيه أَدَبٌ، وله شِعرٌ جَيِّدٌ. وكان له في كلِّ قَريةٍ قاضٍ، وعاملٌ، وصاحِبُ خَبَرٍ. وكان أَحْوَلَ، له سِياسَةٌ تامَّةٌ. وكان لِهَيْبَتِه الأَمنُ وبعضُ العَدلِ في أيامِه مَوجودًا. وكان يَصرِف الجِزيةَ في بِلادِه إلى العَلَوِيِّين". وهو الذي عَمَّرَ سُورَ المَوصِل وشَيَّدَها في سِتَّةِ أَشهُر من سَنةِ 474هـ. ثم إنه جَرَى بينه وبين السُّلطانِ سُليمان بن قتلمش السلجوقي مصاف على بابِ أنطاكية، كان سُليمانُ بن قتلمش قد مَلَكَ مَدينةَ أنطاكية، فلمَّا أَرسلَ إليه شَرفُ الدولةِ مُسلمَ بن قريش يَطلُب منه ما كان يَحمِلُه إليه الفردوس من المالِ، أَجابهُ بأن المالَ الذي كان يَحمِلُه صاحِبُ أنطاكية فإنَّما هو لِكَونِه كافرًا، وكان يَحمِل جِزيةَ رَأسِه وأَصحابِه، وهو بِحَمدِ الله مُؤمنٌ، فنَهَبَ شَرفُ الدولةِ بَلدَ أنطاكية، فنَهبَ سُليمانُ أيضًا بَلدَ حَلَب، فلَقِيَهُ أَهلُ السَّوادِ يَشكُون إليه نَهْبَ عَسكرِه، فقال:أنا كنتُ أَشَدَّ كَراهِيةً لما يَجرِي، ولكنَّ صاحِبَكم أَحوَجَني إلى ما فَعلتُ، ولم تَجرِ عادَتي بنَهبِ مالِ مُسلمٍ، ولا أَخْذِ ما حَرَّمَتهُ الشَّريعةُ. وأَمَرَ أَصحابَه بإعادَةِ ما أَخذوهُ منهم، فأَعادَهُ، ثم إن شَرفَ الدولةِ جَمعَ الجُموعَ من العَربِ والتُّركمانِ، وسار إلى أنطاكية لِيَحصرَها، فلمَّا سَمِعَ سُليمانُ الخَبرَ جَمعَ عَساكِرَه وسار إليه، فالتَقَيا في طَرفٍ من أَعمالِ أنطاكية، واقتَتَلوا، فانهَزمَت العَربُ، فتَبِعَهم شَرفُ الدولةِ مُنهَزِمًا، ثم قُتِلَ، وله بِضعٌ وأَربعون سَنَةً. ولما قُتِلَ قَصدَ بَنُو عُقيلٍ أَخاهُ إبراهيمَ بنَ قُريشٍ، وهو مَحبوسٌ، فأَخرَجوهُ ومَلَّكوهُ أَمرَهُم، وكان قد مَكثَ في الحَبسِ سِنينَ كَثيرةً بحيث إنَّه لم يُمكِنهُ المَشيُ والحَركةُ لمَّا أُخرِجَ، ثم سار سُليمانُ بن قتلمش إلى حَلَب فحَصرَها مُستَهلَّ رَبيعٍ الأوَّلِ، فأَقامَ عليها إلى خامسِ رَبيعٍ الآخرَ، فلم يَبلُغ منها غَرَضًا، فرَحلَ عنها.

العام الهجري : 489 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1096
تفاصيل الحدث:

هو أبو المُظَفَّرِ مَنصورُ بنُ محمدِ بنِ عبدِ الجَبَّارِ بنِ أَحمدَ بنِ محمدٍ، السَّمعانيُّ، التَّميميُّ المَروَزِيُّ، الفَقِيهُ الحَنفيُّ ثم الشافعيُّ. الحافِظُ، مِن أَهلِ مَرْو، وُلِدَ في ذي الحجَّةِ 426هـ, وتَفَقَّهَ أَوَّلًا على أَبيهِ في مَذهَبِ أبي حَنيفَةَ، حتى بَرَعَ فيه وبَرَزَ على أَقرانِه, ثم انتَقَل إلى مَذهَبِ الشافعيِّ فأَخَذَ عن أبي إسحاقَ الشِّيرازيِّ وابنِ الصَّبَّاغِ. ذَكرَهُ أبو الحَسنِ عبدُ الغافِر فقال: "هو وَحيدُ عَصرِه في وَقتِه فَضلًا، وطَريقَةً، وزُهْدًا، ووَرَعًا، من بَيتِ العِلمِ والزُّهدِ. تَفَقَّه بأَبيهِ، وصار من فُحولِ أَهلِ النَّظَرِ، وأَخَذَ يُطالِع كُتُبَ الحَديثِ، وحَجَّ، فلمَّا رَجَعَ إلى وَطَنِه تَرَكَ طَريقَتَهُ التي ناظَرَ عليها أَكثرَ من ثلاثين سَنةً، وتَحَوَّلَ شافِعِيًّا. أَظهَرَ ذلك في سَنةِ ثَمانٍ وسِتِّين وأربعمائة. واضطَرَبَ أَهلُ مَرو لذلك، وتَشَوَّشَ العَوامُّ، إلى أن وَرَدَت الكُتُبُ مِن جِهَةِ بلكابك من بَلخ في شَأنِه والتَّشديدِ عليه، فخَرجَ مِن مَرو، ورافَقَهُ ذو المَجدَينِ أبو القاسمِ الموسويُّ، وطائِفةٌ من الأَصحابِ، وخَرجَ في خِدمَتِه جَماعةٌ من الفُقهاءِ وصار إلى طُوس، وقَصَدَ نيسابور، فاستَقبَلَهُ الأَصحابُ استِقبالًا عَظيمًا, وكان في نَوبَةِ نِظامِ المُلْكِ وعَميدِ الحَضرَةِ أبي سعدٍ محمدِ بنِ مَنصورٍ، فأَكرَموا مَورِدَه، وأَنزَلوه في عِزٍّ وحِشمَةٍ، وعُقِدَ له مَجلِسُ التَّذكيرِ في مَدرسةِ الشافعيَّةِ", وكان بَحرًا في الوَعظِ، حافِظًا لكَثيرٍ من الرِّواياتِ والحِكاياتِ والنُّكَتِ والأَشعارِ، فظَهرَ له القَبولُ عند الخاصِّ والعامِّ. واستَحكَمَ أَمرُه في مَذهبِ الشافعيِّ. ثم عاد إلى مَرو، ودَرَّسَ بها في مَدرسةِ أَصحابِ الشافعيِّ، وقَدَّمَهُ نِظامُ المُلْكِ على أَقرانِه، وعَلَا أَمرُه، وظَهرَ له الأَصحابُ. وخَرجَ إلى أصبهان، ورَجعَ إلى مَرو. وكان قَبولُه كلَّ يَومٍ في عُلُوٍّ, وتَعَصَّبَ للسُّنَّةِ والجَماعَةِ وأَهلِ الحَديثِ. وكان شَوْكًا في أَعيُنِ المُخالِفين، وحُجَّةً لأَهلِ السُّنَّةِ. قال أبو المعالي الجُويني: "لو كان مِن الفِقْهِ ثَوْبًا طاوِيًا لكان أبو المُظَفَّر بن السمعاني طَرَّازَهُ".قال الإمامُ أبو عليِّ بن أبي القاسمِ الصَّفَّارِ: "إذا ناظَرتَ أبا المُظَفَّر السمعانيَّ، فكأنِّي أُناظِرُ رَجُلًا من أئِمَّةِ التَّابِعين، ممَّا أَرَى عليه من آثارِ الصَّالِحين سَمْتًا، وحُسْنًا، ودِينًا".كانت له يَدٌ طُولَى في فُنونٍ كَثيرةٍ، وصَنَّفَ التَّفسيرَ وكِتابَ ((الانتصار)) في الحَديثِ، و((البرهان)) و((القواطع)) في أصول الفقه، و((الاصطلام)) وغيرَ ذلك، ووَعَظَ في مَدينةِ نيسابور. كان يقول: "ما حَفِظتُ شَيئًا فنَسيتُه، وسُئِلَ عن أَخبارِ الصِّفاتِ فقال: عليكم بِدِينِ العَجائِزِ وصِبيانِ الكَتاتيبِ. وسُئِلَ عن الاستِواءِ فأَنشدَ قائِلًا:
جِئتُماني لِتَعلَما سِرَّ سُعْدَى
تَجِداني بِسِرِّ سُعْدَى شَحيحا
إن سُعْدَى لَمُنْيَةُ المُتَمَنِّي
جَمَعَت عِفَّةً ووَجْهًا صَبيحا"
دُفِنَ في مَقبَرةِ مَرو.

العام الهجري : 497 العام الميلادي : 1103
تفاصيل الحدث:

كانت حران لمملوك من مماليك ملكشاه اسمه قراجه، فاستخلف عليها إنسانًا يقال له محمد الأصبهاني، وخرج في العام الماضي، فعصى الأصبهاني على قراجه، ثم قُتل محمد الأصبهاني، قتَلَه غلامٌ لقراجه، فعند ذلك سار الفرنج إلى حران وحصروها، فلما سمع مُعين الدولة سقمان وشمس الدولة جكرمش ذلك، وكان بينهما حرب، أرسل كلٌّ منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع معه لتلافي أمر حران، ويُعلِمه أنه قد بذل نفسه لله تعالى وثوابه، فكل واحد منهما أجاب صاحبه إلى ما طلب منه، وسارا فاجتمعا على الخابور وتحالفا، وسارا إلى لقاء الفرنج، فالتقوا على نهر البليخ، وكان المصاف بينهم هناك فاقتتلوا، فأظهر المسلمون الانهزام، فتبعهم الفرنج نحو فرسخين، فعاد عليهم المسلمون فقتلوهم كيف شاؤوا، وامتلأت أيدي التركمان من الغنائم، ووصلوا إلى الأموال العظيمة؛ لأن سواد الفرنج كان قريبًا، وكان بيمند صاحبُ أنطاكية، وطنكري صاحِبُ الساحل، قد انفردا وراء جبل ليأتيا المسلمين من وراء ظهورهم إذا اشتدت الحرب، فلما خرجا رأيا الفرنج منهزمين، وسوادهم منهوبًا، فأقاما إلى الليل وهربا، فتبعهما المسلمون، وقتلوا من أصحابهما كثيرًا، وأسَروا كذلك، وأفلتا في ستة فرسان، وكان القمص كبير القساوسة- بردويل، صاحب الرها، قد انهزم مع جماعةٍ من قمامصتهم، وخاضوا نهر البليخ، فوَجِلت خيولهم، فجاء تركماني من أصحاب سقمان فأخذهم، وحمل بردويل إلى خيم صاحبه، وقد سار فيمن معه لاتباع بيمند، فرأى أصحاب جكرمش أن أصحاب سقمان قد استولوا على مال الفرنج، ويرجعون هم من الغنيمة بغير طائل، فقالوا لجكرمش: أي منزلة تكون لنا عند الناس، وعند التركمان إذا انصرفوا بالغنائم دوننا؟ وحَسَّنوا له أخذَ القُمص، فأنفذ فأخذ القمص من خيم سقمان، فلما عاد سقمان شقَّ عليه الأمر، وركب أصحابُه للقتال، فردَّهم، وقال لهم: لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغَمِّهم باختلافنا، ولا أؤثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين. ورحل لوقته، وأخذ سلاح الفرنج، وراياتهم، وألبس أصحابَه لُبسَهم، وأركبهم خيلَهم، وجعل يأتي حصون شيحان، وبها الفرنج، فيَخرُجون ظنًّا منهم أن أصحابهم نُصِروا، فيقتُلهم ويأخذ الحصن منهم، فعل ذلك بعدة حصون. وأما جكرمش فإنه سار إلى حران فتسلمها، واستخلف بها صاحبه. وسار إلى الرها، فحصرها خمسة عشر يومًا، وعاد إلى الموصل ومعه القمص الذي أخذه من خيام سقمان، ففاداه بخمسة وثلاثين دينارًا، ومائة وستين أسيرًا من المسلمين، وكان عدة القتلى من الفرنج يقارب اثني عشر ألف قتيل!

العام الهجري : 517 العام الميلادي : 1123
تفاصيل الحدث:

كان الأميرُ علي بن يحيى صاحب إفريقية لما استوحش من رجار صاحب صقلية، جدَّد الأسطول الذي له، فكثَّر عَدده وعُدده، وكاتب أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بمراكش بالاجتماع معه على قصد جزيرة صقلية، فلما علم رجار ذلك كفَّ عن بعض ما كان يفعله، فاتفق أن عليًّا مات سنة 515، وولي ابنه الحسن، فلما دخلت سنة 516 سيَّرَ أمير المسلمين أسطولًا، ففتح نقوطرة بساحل بلاد قلورية، فلم يشكَّ رجار أن عليًّا كان سبب ذلك، فجدَّ في تعمير الشواني والمراكب، وحشد فأكثر، ومُنِع من السفر إلى إفريقية وغيرها من بلاد الغرب، فاجتمع له من ذلك ما لم يُعهَد مثله، قيل: كان ثلاثمائة قطعة، فلما انقطعت الطريق عن إفريقية توقَّع الأمير الحسن بن علي خروج العدو إلى المهدية، فأمر باتخاذ العُدد، وتجديد الأسوار، وجَمْع المقاتِلة، فأتاه من أهل البلاد ومن العرب جمع كثير، فلما كان جمادى الآخرة سنة 517 سار الأسطول الفرنجي في ثلاثمائة قطعة، فيها ألف فارس وفرس واحد، إلا أنهم لما ساروا من مرسى علي فرَّقتهم الريح، وغرق منهم مراكب كثيرة، ونازل من سَلِمَ منهم جزيرة قوصرة ففتحوها، وقتلوا من بها، وسَبَوا وغنموا، وساروا عنها، فوصلوا إلى إفريقية، ونازلوا الحصن المعروف بالديماس أواخر جمادى الآخرة، فقاتلهم طائفة من العرب كانوا هناك، والديماس حِصن منيع في وسطه حصن آخر، وهو مُشرِف على البحر، وسيَّر الحسن من عنده من الجموع إلى الفرنج، وأقام هو بالمهدية في جمع آخر يحفظها، وأخذ الفرنج حصن الديماس، وجنود المسلمين محيطة بهم، فلما كان بعد ليال اشتدَّ القتال على الحصن الداخل، فلما كان الليل صاح المسلمون صيحة عظيمة ارتجَّت لها الأرض، وكبَّروا، فوقع الرعبُ في قلوب الفرنج، فلم يشكُّوا أن المسلمين يهجمون عليهم، فبادروا إلى شوانيهم، وقتلوا بأيديهم كثيرًا من خيولهم، وغنم المسلمون منها أربعمائة فرس، ولم يسلم معهم غير فرس واحد، وغنم المسلمون جميع ما تخلَّف عن الفرنج، وقتلوا كلَّ من عجز عن الطلوعِ إلى المراكِبِ، فلما صعد الفرنج إلى مراكِبِهم أقاموا بها ثمانية أيام لا يقدِرون على النزول إلى الأرض، فلما أيسوا من خلاص أصحابهم الذين في الديماس ساروا والمسلمون يكبِّرون عليهم ويَصيحون بهم، وأقامت عساكِرُ المسلمين على حصن الديماس في أُمم لا يُحصَون كثرةً، فحَصَروه، فلم يُمكِنْهم فتحُه لحصانته وقوته، فلما عدم الماء على من به من الفرنج، وضجروا من مواصلة القتال ليلًا ونهارًا، فتحوا باب الحصن وخرجوا، فقُتِلوا عن آخِرِهم، وذلك يوم الأربعاء منتصف جمادى الآخرة من السنة، وكانت مدة إقامتهم في الحصن ستة عشر يومًا، ولما رجع الفرنج مقهورين أرسل الأمير الحسن البشري إلى سائر البلاد.

العام الهجري : 559 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1164
تفاصيل الحدث:

فتح نور الدين محمود بن زنكي قلعة حارم من الفرنج؛ وسببُ ذلك أن نور الدين لَمَّا عاد منهزمًا من البقيعة، تحت حصن الأكراد، مِن قبلُ، واتَّفَق مسير بعض الفرنج مع مَلِكِهم في مصر، فأراد أن يقصِدَ بلادهم ليعودوا عن مصرَ، فأرسل إلى أخيه قطب الدين مودود، صاحِبِ الموصل وديار الجزيرة، وإلى فخر الدينِ قرا أرسلان، صاحبِ حصن كيفا، وإلى نجمِ الدين ألبي، صاحبِ ماردين، وغيرِهم من أصحاب الأطراف يستنجِدُهم؛ فأما قطب الدين فإنه جمعَ عسكَرَه وسار مجِدًّا، وفي مقدمته زين الدين علي أمير جيشه؛ وأما نجم الدين فإنه سيَّرَ عسكرًا، فلما اجتمعت العساكرُ سار نحو حارم فحصرها ونصبَ عليها المجانيق وتابَعَ الزحف إليها، فاجتمع من بقيَ بالساحل من الفرنج، فجاؤوا في حَدِّهم وحديدِهم، ومُلوكِهم وفُرسانِهم، وقِسِّيسِيهم ورهبانهم، وأقبلوا إليه مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلون، وكان المُقَدَّم عليهم البرنس بيمند: صاحب أنطاكية، وقمص: صاحب طرابلس وأعمالِها، وابن جوسلين، وهو من مشاهير الفرنج، والدوك، وهو مُقَدَّم كبيرٌ من الروم، وجمعوا الفارِسَ والراجِلَ، فلمَّا قاربوه رحلَ عن حارم إلى أرتاح؛ طمعًا أن يَتبَعوه فيتمَكَّنَ منهم؛ لبُعدِهم عن بلادِهم إذا لَقُوه، فساروا، فنزلوا على غمر ثم عَلِموا عجزَهم عن لقائه، فعادوا إلى حارم، فلما عادوا تَبِعَهم نورُ الدين في أبطال المسلمينَ على تعبئةِ الحرب، فلما تقاربوا اصطفُّوا للقتال، فبدأ الفرنج بالحملة على ميمنةِ المسلمين، وفيها عسكَرُ حلب وصاحِبُ الحصن، فانهزم المسلمون فيها، وتبِعَهم الفرنج، فقيل كانت تلك الهزيمةُ من الميمنة على اتِّفاق ورأيٍ دَبَّروه، فكان الأمرُ على ما دبَّروه؛ فإن الفرنج لَمَّا تبعوا المنهزمين عطف زينُ الدين علي في عسكر الموصل على راجل الفرنج فأفناهم قتلًا وأسرًا، وعاد خيَّالتهم، ولم يُمعِنوا في الطلَبِ خوفًا على راجِلِهم، فعاد المنهَزِمون في آثارهم، فلما وصل الفرنجُ رأوا رجالهم قتلى وأسرى، فسُقِطَ في أيديهم، ورأوا أنهم قد هلكوا وبَقُوا في الوسط قد أحدق بهم المسلمون من كل جانب، فاشتدَّت الحربُ، وقامت على ساق، وكثُرَ القتل في الفرنج، وتمَّت عليهم الهزيمة، فعدل حينئذ المسلمون من القتل إلى الأسر، فأسَروا ما لا يُحَدُّ، وفي جملة الأسرى صاحِبُ أنطاكية، والقمص، صاحب طرابلس، وكان شَيطانَ الفرنج، وأشَدَّهم شكيمةً على المسلمين، والدوك مقدم الروم، وابن جوسلين، وكانت عدة القتلى تزيد على عشرة آلاف قتيل. ثم سار إلى حارم فملكها في شهر رمضان من السنة، وبثَّ سراياه في أعمال أنطاكية، فنَهَبوها وأسروا أهلها، وباع البرنس بمال عظيم وأسرى من المسلمين.

العام الهجري : 590 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1194
تفاصيل الحدث:

هو الشَّيخُ الإمامُ العالمُ العامِلُ، القُدوةُ سيد القراء: أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، من طبقات الشافعية, ولد سنة 538 ببلدة شاطبة- وهي مدينة كبيرة بشرق الأندلس، خرج منها جماعة من العلماء- كان الشاطبي يتوقد ذكاءا، مع الورع والتقوى والتأله والوقار. وهو مصنِّف الشاطبية في القراءات السبع، فلم يُسبَق إليها ولا يُلحَق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كلُّ ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير. قال عنها ابن خلكان: " الشاطبي هو صاحب القصيدة التي سمَّاها حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات، وعِدَّتُها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتًا، ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم؛ فقَلَّ مَن يشتَغِلُ بالقراءات إلا ويُقَدِّمُ حِفظَها ومعرفتها، وهي مشتَمِلةٌ على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنُّه سُبِقَ إلى أسلوبها". وله قصيدة دالية في خمسمائة بيت مَن حَفِظَها أحاط علمًا بكتاب التمهيد لابن عبد البر. كما له الباعُ الأطول في فن القراءات والرسم والنحو والفقه والحديث. قرأ القرآن الكريم ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله بن أبي العاص النفري، ورحل إلى بلنسية، فقرأ القراءات على أبي الحسن بن هذيل. وقراءة بالسبع على غيرهما, فقد كان عالِمًا بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرًا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبَرَّزًا فيه، وكان إذا قُرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تُصحَّحُ النسخُ من حفظه، ويُملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحدَ في علم النحو واللغة، عارفًا بعلم الرؤيا، حَسَن المقاصِدِ. كان دَيِّنًا خاشعًا ناسكًا كثير الوقار، لا يتكَلَّمُ فيما لا يعنيه. يجتَنِبُ فُضولَ الكلام ولا ينطقُ إلا على طهارةٍ في هيئةٍ حَسَنةٍ وتخَشُّع واستكانة، وكان يعتَلُّ العلةَ الشديدةَ فلا يشتكي ولا يتأوَّه. انتقل من بلده إلى مصر، قال السخاوي: "سببُ انتقاله من بلده أنَّه أريد على الخطابة، فاحتج بالحَجَّ، وترك بلده، ولم يعُدْ إليه تورُّعًا مما كانوا يُلزِمونَ الخُطَباء مِن ذِكرِهم الأمراءَ بأوصافٍ لم يَرَها سائغة، وصَبَرَ على فقرٍ شديد".  سمع بمصرَ من السِّلَفي، وولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته في مصر، فأجاب على شروطٍ، فتصَدَّر وعَظُمَ شأنه، وبَعُدَ صِيتُه، وانتهت إليه رياسةُ الإقراء بمصر، وقد انتفع به وبعِلمِه خَلقٌ كثير. زار بيت المقدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، فكانت وفاتُه بها في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضليَّة، وله أولاد رووا عنه، منهم أبو عبد الله محمد, وهذا الإمام الشاطبي صاحب الشاطبية يختلف عن الشاطبي صاحب المُوافقات الذي توفي سنة 970.

العام الهجري : 623 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1226
تفاصيل الحدث:

فتح جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة تفليس من الكرج في ثامن ربيع الأول، وقد كانت الحرب بينه وبينهم من السنة الماضية، وقد انهزموا منه، ثم عاد إلى تبريز بسبب الخلاف الواقع فيها، فلما استقرَّ الأمر في أذربيجان عاد إلى بلد الكرج هذه السنة، فقصد بلادَهم، وقد عادوا فحشدوا وجمعوا من الأمم المجاورة لهم اللان واللكز وقفجاق وغيرهم، فاجتمعوا في جمعٍ كثير لا يحصى، فطمعوا بذلك، فلَقِيَهم وجعل لهم الكمينَ في عدة مواضع، والتَقَوا واقتَتَلوا، فولى الكرج منهزمين وأخذتهم سيوفُ المسلمين من كل جانبٍ، فلم ينجُ منهم إلا اليسيرُ الشاذُّ الذي لا يعبأ به، وأمر جلال الدين عسكَرَه ألَّا يُبقوا على أحدٍ، وأن يقتلوا من وجدوا، فتبعوا المنهزمين يقتلونهم، وأشار عليه أصحابُه بقصد تفليس دار مُلكِهم، فقال: لا حاجة لنا إلى أن نقتُلَ رجالَنا تحت الأسوار، إنَّما إذا أفنيت الكرج أخذت البلاد صفوًا عفوًا، ولم تزل العساكرُ تَتبَعُهم وتستقصي في طلبِهم إلى أن كادوا يفنونَهم، فحينئذ قصد تفليس ونزل بالقرب منها، وسار في بعض الأيامِ في طائفة من العسكر، وقصدها لينظُرَ إليها، ويبصر مواضِعَ النزول عليها، وكيف يقاتِلُها، فلما قاربها كمن أكثرُ العسكر الذي معه في عدة مواضع، ثم تقدَّم إليها في نحو ثلاثة آلاف فارس، فلمَّا رآه من بها من الكرج طَمِعوا فيه لقِلَّةِ من معه، ولم يعلموا بمن معه، فظهروا إليه فقاتلوه، فتأخر عنهم، فقويَ طَمَعُهم فيه لقِلَّةِ من معه، فظنُّوه منهزمًا، فتبعوه، فلما توسطوا العساكِرَ خرجوا عليهم ووضعوا السيف فيهم، فقُتِل أكثَرُهم، وانهزم الباقون إلى المدينة فدخلوها، وتبعهم المسلمون، فلمَّا وصلوا إليها نادى المسلمون من أهلها بشعار الإسلام، وباسمِ جلال الدين، فألقى الكرج بأيديهم واستسلموا؛ لأنهم كانوا قد قتل رجالهم في الوقعات السابقة، فقل عددُهم، وملئت قلوبُهم خوفًا ورعبًا، فملك المسلمون البلد عَنوةً وقهرًا بغير أمان، وقُتِلَ كلُّ من فيه من الكرج، ولم يبق على كبير ولا صغير إلا من أذعن بالإسلام، وأقرَّ بكلمتي الشهادة، فإنَّه أبقى عليه، وأمرهم فتختَّنوا وتركهم، ونهب المسلمون الأموال، وسَبَوا النساء واستَرَقُّوا الأولاد، ووصل إلى المسلمين الذين بها بعض الأذى من قتلٍ ونهب وغيره، وتفليس هذه من أحصَنِ البلاد وأمنعها، وهي على جانبي نهر الكر، وهو نهر كبير، ولقد جلَّ هذا الفتح وعظُمَ مَوقِعُه في بلاد الإسلامِ وعند المسلمين؛ فإنَّ الكرجَ كانوا قد استطالوا عليهم، وفعلوا بهم ما أرادوا، فكانوا يقصِدونَ أيَّ بلاد أذربيجان أرادوا، فلا يمنَعُهم عنها مانع، ولا يدفَعُهم عنها دافعٌ.