ظلَّت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد سلميةً دون الدخولِ مع خصوم الدعوة في أي صدامٍ عسكري منذ الاتفاق التاريخي بين أمير الدرعية والشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1157 إلى هذا العام، حين ابتدأ الصراع العسكري بين الدرعية والرياض، بعد انضمام منفوحة إلى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه السنة، حيث قام دهام بن دواس أميرُ الرياض بالهجوم على المنفوحة الذين لبَّوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودخلوا في طاعة الأمير محمد بن سعود، فعدا عليهم صباحًا على غِرَّة ومعه بعض أهل الرياض وبعض سكان البوادي من آل ظفير، فكمن لهم قرب البلد وأمر البوادي والخيل أن تغير على زرعهم ونخلِهم في أطراف البلدة، فهبَّ المقاتلون من أهل المنفوحة مع أميرِهم علي بن مزروع وردُّوهم على أعقابِهم بعد مقاومةٍ عنيفة، جُرح فيها دهام بن دواس وقُتِل فرَسُه، كما قُتل أحد عشر رجلًا من رجالِه.
سار سعودُ بن عبد العزيز وقَصْدُه بريدة، ومعه آل عليان الذين خرجوا منها سنة 1188 عندما أخذها عريعر بن دجين عنوةً, وفرض عليها حصارًا وبنى تجاهها حِصنًا جعل فيه عدَّةَ رجال عبد الله بن حسن أميرًا عليهم يواصِلُ منه الحصارَ على بريدة، فلما اشتد الأمر بأهل بريدة أرسل أمير البلد راشد الدريبي إلى عبد الله بن حسن الأمانَ لنفسه وأن يخرجَ لوحده فأعطاه الأمان وخرج إليه راشد، ثم دخل عبد الله ومن معه البلد وملكوها، وقُتل في ذلك الحصار 50 رجلًا من قوم الدريبي، واستولى عبد الله على ما فيها من الأموالِ، وبعد هذه الواقعة انقاد أهلُ القصيم وبايعوا على السَّمعِ والطاعة، ووفد عبد الله ومعه رجالٌ من رؤساء القصيم على الشيخِ والإمام عبد العزيز فبايعوهما على السمع والطاعة، واسُتعمل عبد الله بن حسن أميرًا على جميع بلدانِ القصيم.
غزا إبراهيمُ بنُ سُليمان بن عفيصان قطر، وهو أوَّلُ قائدٍ تابِعٍ لدولة الدرعية يقومُ بغزوها، واستطاع إخضاعَ مُعظَم قراها: فريحة والحويلة واليوسفية والرويضة وغيرها، وكتب إلى الدرعية يطلب السماحَ له بمهاجمة الزبارة، فجاءته الموافقةُ مِن الإمام عبد العزيز بن محمد، وحاصر إبراهيمُ فيها العتوب (آل خليفة وجماعتهم) وشدَّد هجماتِه عليها حتى استولى على قلعتِها، فاضطر العتوب إلى الرحيلِ وساروا إلى البحرين بوساطة البحر مُقتَنِعين بأنَّ رحيلَهم هذا ما هو إلا رحيلٌ مؤقَّتٌ يدوم لفترة قصيرةٍ هي فترةُ بقاء قوات الدرعية في قطر؛ ظنًّا منهم أنَّ حُكمَ الدرعية فيها لن يتعَدَّ كَونَه حملةً عابرة تنسحِبُ قواتُ الدرعية بعدها، وعندها يعود العتوب إليها مرةً ثانية، وهكذا دخل أتباعُ دعوة المجدِّد قطر، فأصبحت جزءًا من الدولة السعودية الأولى التي أخذَت تَنشُرُ فيها مبادئَ دعوةِ الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
كانت معاهدةُ خونكار أسكله سي بين روسيا والدولةِ العثمانيةِ بمثابةِ تحالُفٍ دفاعيٍّ بين روسيا والعثمانيين؛ مما أدى إلى مسارعة كلٍّ مِن بريطانيا وفرنسا بالتصدِّي لمحمد علي خشيةَ المزيد من التدخُّلِ الروسي، وفرضت عليه اتفاقيَّةَ لندن سنة 1255هـ / 1840م. وقد ترتَّب على هذه الأحداث إجهاضُ محاولة الإصلاح التي حاول السلطانُ محمود الثاني أن يقومَ بها في الدولة العثمانية، واضطرت الدولةُ العثمانيةُ لقبولِ وصاية الدُّوَل الأوروبية في مقابِلِ حمايتِها مِن أطماع محمد علي، وكان محمد علي قد رفض أولًا هذه المعاهدة، ثم أُجبِرَ تحت ضغوط الإنجليز على توقيعِ المعاهدةِ التي من بنودِها أن يتنازل فيها عن حُكمِ بلاد الشام، وأن يظلَّ حُكمُ مِصرَ وراثيًّا له ولأبنائِه. أن يحَدَّدَ الجيش المصري بثمانية عشرَ ألفًا. ألَّا تَصنَعَ مِصرُ سفنًا للأسطول. ألَّا يعين والي مصر في الجيشِ ضابطًا أعلى من رتبةِ ملازم وأن يدفع للدولة العثمانية ثمانين ألف كيس سنويًّا.
وقَّع محمد بن رشيد مع أهلِ المجمعة حِلفًا دفاعيًّا سريًّا ضد الإمام عبد الله بن فيصل الذي وقع في خلافٍ مع أهالي الوشم والمجمعة الذين ثاروا لتحقيق استقلالِهم عن الرياضِ، ولَمَّا تقدمت جيوشُ عبد الله المؤلَّفة من البوادي والحضر في وادي حنيفة، بادر محمَّد بن رشيد إلى نجدة المجمعة بجيشٍ مؤلَّف من بوادي شمر وقبائل حرب، ولَمَّا وصلت قواتُ ابن رشيد بُرَيدة انضَمَّ إليها أميرُ البلدة حسن آل مهنا أبو الخيل، ومعه جند القصيم، وزحفت قواتُ ابن رشيد إلى الزلفي، وكانت قواتُ عبد الله تعسكر في ضرماء، ولَمَّا عرف عبد الله استعدادَ ابن رشيد للقتال، وعرف أنَّ قواته لا تستطيع مجابهةَ قوَّات خصمه، انسحَب إلى الرياض، ودخل ابنُ رشيد المجمعة وعيَّنَ عليها سليمان بن سامي من أهالي حائل نائبًا عنه، وبذلك انضمت المجمعة إلى ابنِ رشيد وانفصلت نهائيًّا عن الرياضِ.
إنَّ مما قام به الإنجليز في الهند لتوطيدِ بقائهم وسيطرتهم فيها أنْ عَمِلوا على إنشاءِ الفِرَق الضالَّة، أو على الأقلِّ دعمها أو السكوت عنها وتَرْكها تنشُرُ ضلالها، فكان مما عَمِلَته أن شجَّعَت مرزا غلام أحمد القادياني على إحياءِ ما دعا إليه المَلِك المغولي في الهند جلال الدين أكبر شاه المتوفَّى عام 1014ه. فأنشأ مرزا غلام القاديانية، وكتب البراهينَ الأحمدية، ثم تطوَّر أمره فادَّعى عام 1322هـ أنَّه المهدي المنتظَرُ، وأعلن أنَّ الإنجليز هم أولو الأمر، فيَجِبُ طاعتهم، ولا يصِحُّ الخروجُ عليهم ولا قتالُهم ولا الجهاد ضِدَّهم مع أحدٍ، وعَمِلَ على التوفيق بين الأديان، فادعى أنَّه يتقَمَّصُ روح المسيح عليه السلام وروحَ الإله كرشنا ربِّ الخير عند الهندوس!! وأصبح له أتباعٌ, وقَوِيَ أمرُه، وكان البريطانيون يدعمونه ويحمونه، ثم لَمَّا توفِّيَ عام 1326هـ انقَسَمت جماعتُه إلى قسمين: الأحمدية وتدَّعي أنه كان رجلًا مُصلِحًا، والقاديانية: وتقول بنبُوَّتِه وتدعو إلى ما كان عليه من أفكارٍ ومعتقداتٍ باطلةٍ.
كان الفلسطينيون يشكِّلون نسبةً عاليةً من تَعداد سكان الأردن في تلك الفترة، يتمركزون في بلدة الكرامة على الجانب الأردني، وكانوا قد استهدفوا إسرائيلَ مرارًا عبر هَجَمات خلال الحدودِ مِن قِبَل الفدائيين الفلسطينيين. وكرَدِّ فعلٍ على مجموعةٍ من الهجمات التي صدرت من جانب حدود الأردن قام جيشُ الدفاع الإسرائيلي باجتياح بلدة الكرامة في 21 مارس، وقد أعلن رئيسُ الوزراء الإسرائيلي ليفي إشكول في حينها أنَّ الهدفَ من العملية هو منعُ موجة جديدة من الإرهاب؛ فقُتِلَ في ذلك الاجتياح 128 فلسطينيًّا، وقيل 170. وكاد الإسرائيليون أن ينتصروا ويُكمِلوا اجتياحهم لولا تدخُّل الجيش الأردني بقيادة "مشهور حديثة" فقامت معركة كبيرةٌ بين الجيشين عُرِفَت باسم معركة الكرامة. قُتِلَ في المعركة 250 جندي إسرائيلي وجُرح 450، كما فقد جيشُ الدفاع الإسرائيلي مئات الآليات. وقُتِل من جانب الجيش الأردني 60 جنديًّا. وصُنِّف هذا النصرُ على أنَّه أول انتصار لجيش عربي على إسرائيل.
تُوفِّي في العاصمةِ الجزائر الرئيسُ الجزائريُّ الأسبَقُ علي كافي عن عمرٍ تجاوز الـ(85) عامًا، بعد وَعكةٍ صحيَّةٍ أدخلَتْه المستشفى العسكري "عين النعجة"، بعد عمرٍ طويلٍ قضى بعضَه في جبال الأوراس حيثُ معاقِلُ الثَّورةِ الجزائرِيَّة زمنَ الاستِعمارِ الفَرَنسي كعقيدٍ في صفوفِ جيشِ جبهةِ التحريرِ الوطنيِّ. ويُعَدُّ علي كافي سادِسَ رئيسِ دولةٍ للجزائر المستقلَّةِ؛ حيث ترأَّس المَجلِسَ الأعلى للدولة مباشرةً بعد اغتيالِ رئيسِه محمد بوضياف. وينحدِرُ علي كافي من الشَّرق الجزائري، من ولاية "سكيكدة" تحديدًا، وهو واحِدٌ من الشخصيَّات التاريخيَّة والسياسيَّة الجزائريَّة القليلةِ التي أقدَمَت على كتابة مذكِّراتِها والتي أثارَت جدلًا واسعًا. وكان قد اعتَزَل السياسةَ وانزوَى ببيتِه، مثلُه مثلُ الرئيس الراحلِ الشاذلي بن جديد وأحمد بن بلَّة، ولم يَكُن يظهَرُ على شاشةِ التلفزيون إلَّا في المناسباتِ الرسميَّة. وقد قرَّر الرئيسُ بوتفليقة إعلانَ الحداد الوطنيِّ على وفاتِه لمدَّةِ ثمانيةِ أيَّامٍ.
في شهر جمادى الأولى كانت الفتنة الكبيرة بمدينة تعز من بلاد اليمن؛ وذلك أن الملك المنصور عبد الله بن أحمد لما توفي في جمادى الأولى السنة الفائتة، أقيم بعده أخوه الملك الأشرف إسماعيل بن أحمد الناصر بن الملك الأشرف إسماعيل بن عباس، فتغيَّرت عليه نيات الجند كافةً؛ من أجل وزيره شرف الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر العلوي، نسبةً إلى علي بن بولان العكي؛ فإنه أخَّر صرف جوامكهم -مخصَّصاتهم- ومرتَّباتهم، واشتد عليهم، وعنف بهم، فنفرت منه القلوب، وكثُرت حُسَّاده؛ لاستبداده على السلطان، وانفراده بالتصرف دونه، وكان يليه في الرتبة الأمير شمس الدين علي بن الحسام، ثم القاضي نور الدين علي المحالبي مشد -ضابط- الاستيفاء، فلما اشتد الأمر على العسكر وكثرت إهانة الوزير لهم، واطِّراحه جانبهم، ضاقت عليهم الأحوال حتى كادوا أن يموتوا جوعًا، فاتفق تجهيز خزانة من عدن، وبرز الأمر بتوجه طائفة من العبيد والأتراك لنقلِها، فسألوا أن يُنفَق فيهم أربعة دراهم لكلٍّ منهم يرتفق بها، فامتنع الوزير ابن العلوي من ذلك، وقال: ليمضوا غصبًا إن كان لهم غرضٌ في الخدمة، وحين وصول الخزانة يكون خير، وإلا ففَسَح الله لهم، فما للدهر بهم حاجة، والسلطان غني عنهم، فهيج هذا القول حفائِظَهم، وتحالف العبيد والترك على الفتك بالوزير، وإثارة فتنة، فبلغ الخبر السلطان، فأعلم الوزير، فقال: ما يسووا شيئًا، بل نشنق كل عشرة في موضع، وهم أعجَزُ من ذلك، فلما كان يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة هذا قبيل المغرب، هجم جماعةٌ من العبيد والترك دار العدل بتعز، وافترقوا أربع فرق؛ فرقة دخلت من باب الدار، وفرقة دخلت من باب السر، وفرقة وقفت تحت الدار، وفرقة أخذت بجانب آخر، فخرج إليهم الأمير سنقر أمير جندار، فهبروه بالسيوف حتى هلك، وقتلوا معه علي المحالبي مشد المشدين، وعدة رجال، ثم طلعوا إلى الأشرف -وقد اختفى بين نسائه وتزيَّا بزيهن- فأخذوه ومضوا إلى الوزير ابن العلوي، فقال لهم: ما لكم في قتلي فائدة؟ أنا أنفق على العسكر نفقة شهرين، فمضوا إلى الأمير شمس الدين علي بن الحسام بن لاجين، فقبضوا عليه، وقد اختفى، وسجنوا الأشرف وأمَّه وحظيَّته في طبقة المماليك، ووكلوا به، وسجنوا ابن العلوي الوزير وابن الحسام قريبًا من الأشرف، ووكلوا بهما، وقد قيدوا الجميع، وصار كبير هذه الفتنة برقوق من جماعة الترك، فصعد هو في جماعة ليُخرِجَ الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل بن عباس من مدينة ثعبات بتعز، فامتنع أمير البلد من الفتح ليلًا، وبعث الظاهر إلى برقوق بأن يتمهَّل إلى الصبح، فنزل برقوق ونادى في البلد بالأمان والاطمئنان والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وأن السلطان هو الملك الظاهر يحيى بن الأشرف، هذا وقد نهب العسكر عند دخولهم دار العدل جميعَ ما في دار السلطان، وأفحَشوا في نهبهم، فسلبوا الحريم ما عليهن، وانتهكوا ما حرَّم الله، ولم يَدَعوا في الدار ما قيمتُه الدرهم الواحد، وأخذوا حتى الحُصُر، وامتلأت الدار وقت الهجمة بالعبيد والترك والعامة، فلما أصبح يوم الجمعة عاشره اجتمع بدار العدل الترك والعبيد، وطلبوا بني زياد وبني السنبلي والخدم، وسائر أمراء الدولة والأعيان، فلما تكامل جمعهم ووقع بينهم الكلام فيمن يقيموه، قال بنو زياد: ما تمَّ غير يحيى، فاطلَعوا له هذه الساعة، فقام الأمير زين الدين جياش الكاملي والأمير برقوق، وطلعا إلى مدينة ثعبات في جماعة من الخدام والأجناد، فإذا الأبوابُ مغلقة، وصاحوا بصاحب البلد حتى فتح لهم، ودخلوا إلى القصر، فسلموا على الظاهر يحيى بالسلطنة وسألوه أن ينزل معهم إلى دار العدل، فقال: حتى يصل العسكر أجمع، ففكُّوا القيد مِن رِجلَيه، وطلبوا العسكرَ بأسرِهم، فطلعوا بأجمعهم، وأطلعوا معهم بعشرة جنائب من الإسطبل السلطاني في عدة بغال، فتقدَّم الترك والعبيد وقالوا للظاهر: لا نبايعك حتى تحلفَ لنا أنَّه لا يحدث علينا منك سوءٌ بسبب هذه الفعلة، ولا ما سبقَ قبلها،، فحلف لهم ولجميع العسكر، وهم يعيدون عليه الأيمانَ، ويتوثَّقون منه، وذلك بحضرة قاضي القضاة موفق الدين علي بن الناشري، ثم حلفوا له على ما يحبُّ ويختار، فلما انقضى الحلف، وتكامل العسكر، ركب ونزل إلى دار العدل في أهبة السلطنة، فدخلها بعد صلاة الجمعة، فكان يومًا مشهودًا، وعندما استقر بالدار أمر بإرسال ابن أخيه الأشرف إسماعيل إلى ثعبات، فطلعوا به، وقيدوه بالقيد الذي كان الظاهر يحيى مُقيَّدًا به، وسجنوه بالدار التي كان مَسجونًا بها، ثم حُمل بعد أيام إلى الدملوه، ومعه أمه وجاريته، وأنعم السلطان الملك الظاهر يحيى على أخيه الملك الأفضل عباس بما كان له، وخلع عليه وجعله نائب السلطة كما كان في أول دولة الناصر، وخمدت الفتنة، وكان الذي حرَّك هذا الأمر بني زياد، فقام أحمد بن محمد بن زياد الكاملي بأعباء هذه الفتنة، لحنقه على الوزير ابن العلوي؛ فإنه كان قد مالأ على قتل أخيه جياش، وخذل عن الأخذ بثأره وصار يمتَهِنُ بني زياد، ثم ألزم الوزير ابن العلوي وابن الحسام بحمل المال، وعُصِرا على كِعابهما وأصداغهما، ورُبطا من تحت إبطهما، وعُلِّقا منكسَينِ، وضُرِبا بالشيب والعصا، وهما يوردان المال، فأُخِذَ من ابن العلوي -ما بين نقد وعروضٍ- ثمانون ألف دينار، ومن ابن الحسام ثلاثون ألف دينار، وظهر من السلطان نبل وكرم وشهامة ومهابة، بحيث خافه العسكر بأجمعهم؛ فإن له قوة وشجاعة، حتى إن قوسه يعجز من عندهم من الترك عن جَرِّه، وبهذه الحادثة اختَلَّ مُلكُ بني رسول.
هو الخَليفةُ، أَميرُ المُؤمِنين، المُقتَفِي لأَمرِ الله، أبو عبدِ الله، محمدُ بن المُستَظهِر بالله أبي العبَّاسِ أحمدَ بن المُقتَدِي بالله، بن الذَّخيرَةِ محمدِ بن القائمِ بأَمرِ الله عبدِ الله بن القادرِ بالله عبدِ الله أحمدَ بن الأَميرِ إسحاقَ بن المُقتَدِر، الهاشميُّ، العبَّاسيُّ، البغداديُّ، الحَبَشيُّ الأُمِّ. وُلِدَ في رَبيعٍ الأوَّلِ سَنةَ 489هـ. وبُويِعَ بالإمامَةِ في سادس عشر ذي القعدةِ، سَنةَ 530هـ. كان المُقتَفِي عاقِلًا لَبيبًا، عامِلًا مَهيبًا، صارِمًا، جَوادًا، أَسمَرَ، آدَمَ، مَجْدُورَ الوَجْهِ، مَليحَ الشَّيْبَةِ، مُحِبًّا للحَديثِ والعِلمِ، مُكرِمًا لأَهلِه، سَمِعَ المُقتَفِي من: أبي الحَسنِ بن العَلَّافِ، ومن مُؤَدِّبِه أبي البَركاتِ السيبي. قال السَّمعانيُّ: "وأَظُنُّهُ سَمِعَ (جُزءَ ابنِ عَرَفَة) من ابنِ بيان، كَتَبْتُ إليه قِصَّةً أَسأَلُهُ الإنعامَ بالإذِنِ في السَّماعِ منه، فأَنعَمَ، وفَتَّشَ على الجُزءِ، ونَفَذَهُ إليَّ على يَدِ إِمامِه ابنِ الجواليقي، فسَمِعتُه من ابنِ الجواليقي عنه"، وكان حَمِيدَ السِّيرَةِ، يَرجِعُ إلى تَدَيُّنٍ وحُسْنِ سِياسَةٍ، جَدَّدَ مَعالِمَ الخِلافَةِ، وباشَرَ المُهِمَّاتِ بِنَفسِه، وغَزَا في جُيوشِه. كانت أَيامُه نَضِرَةً بالعَدلِ، زَهِرَةً بالخَيرِ، وكان على قَدَمٍ مِن العِبادَةِ قبلَ الخِلافَةِ ومعها، ولم يُرَ مع لِينِه بعدَ المُعتَصِم في شَهامَتِه مع الزُّهْدِ والوَرَعِ، ولم تَزَل جُيوشُه مَنصورَةً. قال الذَّهبيُّ: "كان مِن حَسَناتِه وَزيرُه عَوْنُ الدِّينِ بن هُبيرَة، وقِيلَ: كان لا يَجرِي في دَولتِه شَيءٌ إلا بِتَوقِيعِه"، ووَزَرَ للمُقتَفِي عليُّ بنُ طرادٍ، ثم أبو نَصرِ بنُ جَهيرٍ، ثم عليُّ بن صَدقةَ، ثم ابنُ هُبيرَةَ، وحَجَبَ له أبو المعالي بنُ الصاحِبِ، ثم كامِلُ بنُ مُسافرٍ، ثم ابنُ المُعوَجِّ، ثم أبو الفَتحِ بن الصَّيْقَلِ، ثم أبو القاسمِ بن الصاحِبِ. وهو أَوَّلُ مَن استَبَدَّ بالعِراقِ مُنفَرِدًا عن سُلطانٍ يكونُ معه. مِن أَوَّلِ أَيامِ الدَّيلمِ إلى أَيامِه، وأَوَّلُ خَليفةً تَمَكَّنَ من الخِلافةِ وحَكَمَ على عَسكَرِهِ وأَصحابِه مِن حين تَحَكُّمِ المَماليكِ على الخُلفاءِ مِن عَهدِ المُستَنصِر إلى عَهدِه، إلا أن يكون المُعتَضِد، فأَقامَ المُقتَفِي حِشمةَ الخِلافَةِ، وقَطَعَ عنها أَطماعَ السَّلاطينِ السَّلجوقِيَّة وغَيرِهم، وكان من سَلاطينِ خِلافَتِه صاحِبُ خُراسان سنجر بن ملكشاه، والمَلِكُ نُورُ الدِّينِ صاحِبُ الشامِ، وأَبوهُ قَسيمُ الدَّولةِ. تُوفِّي المُقتَفِي ثانيَ رَبيعٍ الأَوَّل، بِعِلَّةِ التَّراقِي؛ وكانت خِلافَتُه أَربعًا وعِشرينَ سَنَةً وثلاثةَ أَشهُر وسِتَّةَ عشرَ يومًا، ووَافقَ أَباهُ المُستَظهِر بالله في عِلَّةِ التَّراقِي وماتَا جَميعًا في نَفسِ الشَّهرِ، ثم بُويِعَ المُستنجِدُ بالله ابنُه واسمُه يُوسفُ، وكان للمُقتَفِي حَظِيَّةٌ، وهي أُمُّ وَلَدِه أبي عليٍّ، فلمَّا اشتَدَّ مَرضُ المُقتَفِي وأَيِسَت منه أَرسَلَت إلى جَماعَةٍ من الأُمراءِ وبَذَلَت لهم الإِقطاعاتِ الكَثيرةَ والأَموالَ الجَزيلةَ لِيُساعِدوها على أن يكون وَلَدُها الأَميرُ أبو عليٍّ خَليفةً. قالوا: كيف الحِيلَةُ مع وَلِيِّ العَهدِ؟ فقالت: إذا دَخَلَ على والِدِه قَبَضتُ عليه. وكان يَدخُل على أَبيهِ كلَّ يَومٍ. فقالوا: لا بُدَّ لنا مِن أَحَدٍ مِن أَربابِ الدَّولةِ؛ فوَقَعَ اختِيارُهم على أبي المعالي ابن الكيا الهراسي، فدَعوهُ إلى ذلك، فأَجابَهم على أن يكونَ وَزيرًا، فبَذَلوا له ما طَلَبَ، فلمَّا استَقَرَّت القاعِدةُ بينهم وعَلِمَت أُمُّ أبي عليٍّ أَحضَرَت عِدَّةً من الجَواري وأَعطَتهُنَّ السَّكاكِينَ، وأَمَرَتهُنَّ بقَتلِ وَلِيِّ العَهدِ المُستَنجِد بالله. وكان له خَصِيٌّ صَغيرٌ يُرسِلُه كلَّ وَقتٍ يَتَعَرَّف أَخبارَ والِدِه، فرأى الجَوارِي بأَيدِيهِنَّ السَّكاكِينُ، ورَأى بِيَدِ أبي عليٍّ وأُمِّهِ سَيْفَينِ، فعادَ إلى المُستَنجِد فأَخبَرَهُ، وأَرسَلَت هي إلى المُستَنجِد تَقولُ له إن والِدَهُ قد حَضَرَهُ المَوتُ لِيَحضُر ويُشاهِدَه، فاستَدعَى أُستاذَ الدارِ عَضُدَ الدِّينِ وأَخَذَهُ معه وجَماعَةً من الفَرَّاشِين، ودَخَلَ الدارَ وقد لَبِسَ الدِّرْعَ وأَخَذَ بِيَدِه السَّيفَ، فلمَّا دَخلَ ثارَت به الجَوارِي، فضَرَب واحِدةً منهن فجَرَحَها، وكذلك أُخرَى، فصاحَ ودَخلَ أُستاذُ الدارِ ومعه الفَرَّاشون، فهَرَبَ الجَوارِي وأَخَذَ أَخاهُ أبا عليٍّ وأُمَّهُ فسَجَنهُما، وأَخذَ الجَوارِي فقَتَلَ منهن، وغَرَّقَ منهن، ودَفَعَ الله عنه، فلمَّا تُوفِّي المُقتَفِي جَلسَ المُستَنجِد للبَيْعَةِ، فبَايَعَهُ أَهلُه وأَقارِبُه، وأَوَّلُهم عَمُّهُ أبو طالِبٍ، ثم أَخوهُ أبو جَعفرِ بن المُقتَفِي، وكان أَكبرَ من المستنجد، ثم بايعه الوزير بن هبيرة، وقاضي القضاة، وأرباب الدولة والعلماء، وخطب له يوم الجمعة، ونُثرت الدراهمُ والدنانيرُ.
مارست الدولةُ العثمانية سيادتَها على مضيقي البوسفور والدردنيل، وبحر مرمرة، وكانت هذه المضايقُ تصِلُ بين البحر الأسود وبحر إيجة الذي هو جزءٌ من البحر المتوسط، ولم يكن للبحر الأسود مخرجٌ يتَّصِلُ عن طريقه بالبحار العامة إلا عبر هذه المضايق. وقد نجحت الدولةُ العثمانية في فرض سيادتها على هذه المضايق. وبلغ من هيبة الدولةِ العثمانية في فترة قوَّتِها أنَّ الرعايا الروس إذا أرادوا ممارسةَ التجارة بين موانئ البحر الأسود كان عليهم أن ينقلوا بضائِعَهم على سفُنٍ عثمانية تحمِلُ العلم العثماني. ولم يكن لروسيا طريقٌ إلى المياه الدافئة إلا عبر المضايق التي تسيطر الدولةُ العثمانية عليها، وظَلَّ حُلمُ السيطرة على هذه المضايق يراوِدُ روسيا زمنًا طويلًا. وقبل اشتعال الحرب العالمية الأولى ببضعة أشهر حاولت روسيا أن تحتلَّ البوسفور والدردنيل، ولم يكن أمامها سوى افتعالِ أزمة سياسيةٍ مع الدولة العثمانية، ثم تصعيدِها حتى تنقَلِبَ إلى حرب أوروبية تتَّخِذُها روسيا ذريعةً لإرسال قوَّاتِها المسلحة لاحتلال البوسفور والدردنيل في وقتٍ مبكر، ولوضع العثمانيين والأوربيين أمام الأمرِ الواقع، لكِنَّ هذا المخطَّط لم يُكتبْ له التنفيذ؛ لمعارضة بريطانيا له ورغبتِها آنذاك في حلِّ المشكلات الأوربية بالدبلوماسية لا بالحروب. ولَمَّا نشبت الحرب العالمية الأولى انضمَّت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا والنمسا والمجر في مواجهة إنجلترا وفرنسا وروسيا وإيطاليا. وترتَّب على دخول الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا أن قامت بريطانيا وحلفاؤها بهجومٍ على الدردنيل والبوسفور. وكان موقِفُ روسيا في بدايات الحرب حرجًا للغاية بعد الهزائم المنكَرة التي أنزلتها بها القواتُ الألمانية، وأرادت بريطانيا أن تفتحَ الطريق أمام الأساطيل البريطانية والفرنسية إلى البحر الأسود، وكانت منطقةُ المضايق هي التي تفصل بريطانيا وفرنسا عن روسيا وتحولُ دون إمدادِها بالذخائر والأسلحة التي كانت روسيا في أشَدِّ الحاجة إليها بعد أن استنفدت احتياطيَّها من الذخائر، وانعدمت قدرةُ مصانِعِها على تلبية أكثر من ثُلثِ حاجتها من الذخائر. وكانت بريطانيا غيرَ راغبة في خروجِ روسيا من الحرب وتخشى ذلك، ولم يكن أمامها هي وحلفائها سوى بسط السيطرة العسكرية على منطقة المضايق؛ ضمانًا لإرسال الذخائر والأسلحة إلى روسيا وحثِّها على مواصلة الحرب. وفي الوقت نفسِه كان الاستيلاء على المضايق يشدُّ من أزر الروس ويرفَعُ من معنوياتهم التي انهارت أمام القوَّاتِ الألمانية. وفوق ذلك وعدت بريطانيا روسيا في حالة سيطرتها على منطقة المضايق بأنها ستهدي إليها مدينة استانبول؛ لحثِّها على الثبات والصمود، ولم تكن هناك هديةٌ أعظم من أن تكون المدينة التاريخية بين أنياب الروس. وفي (نوفمبر 1914م) اقترب الأسطول البريطاني من مياه الدردنيل، وهو يمنِّي نفسَه بانتصار حاسم وسريع، وقبل أن تتوغَّل بعضُ السفن البريطانية في مياه مضيق الدردنيل، ألقت بعضُ المدمِّرات قنابِلَها على الاستحكامات العسكرية العثمانية، ولم تتحرَّك هذه القوات للردِّ على هذا الهجوم ووقفت دون مقاومةٍ، الأمرُ الذي بثَّ الثقةَ في رجال الأسطول البريطاني، وأيقنوا بضَعفِ القواتِ العثمانية وعَجزِها عن التصدي لهم، وتهيَّؤوا لاستكمال حملتهم البحرية. وبعد مضي شهرين أو أكثر من هذه العملية توجَّهت قِطَعٌ عظيمة من الأسطول البريطاني إلى الدردنيل، وهي لا تشك لحظةً في سهولة مهمَّتِها، واستأنفت ضربَ الاستحكامات العسكرية الأمامية مرةً أخرى، ثم اقتحم الأسطولُ البريطاني المضيقَ لكنه اصطدم بحقلٍ خفيٍّ من الألغام في مياه الدردنيل، وأصيب الأسطول البريطاني بأضرارٍ بالغة بسبب ذلك، وكان لهذا الإخفاق دويٌّ هائل وصدًى واسع في جميع أنحاء العالم، ولم تحاوِلْ بريطانيا اقتحام الدردنيل بحريًّا مرةً ثانية. فعزَّزت بريطانيا الهجومَ البحري على الدردنيل بهجومٍ بري، على أن يكون دورُ القوات البرية هو الدورَ الأساسي، في حين يقتصر دورُ القوات البحرية على إمداد القوات البرية بما تحتاج إليه من أسلحةٍ وذخائرَ وموادَّ تموينية، ومساعدتها على النزول إلى البر، وحماية المواقع البرية التي تنزل بها. لكنَّ القوات العثمانية نجحت في صَدِّ المهاجمين، واسترداد ما تحت أيدي الإنجليز وتكبيدِهم خسائِرَ فادحة. وانتهت الحرب العالمية الأولى دون أن تنجَحَ القوات البريطانية والفرنسية أو غيرهما في اقتحام المضايق.
هو المُستَنصِر بالله أبو تَميمٍ مَعَدُّ بنُ أبي الحَسنِ عليٍّ الظاهر بن الحاكم الفاطِميُّ العُبيديُّ صاحِبُ مصر والشام، وُلِدَ سَنةَ 420هـ, ووَلِيَ الأَمرَ بعدَ أَبيهِ الظاهرِ وله سَبعُ سنين، في شعبان سنة 427هـ، وفي وَسطِ دَولتِه خُطِبَ له بإَمْرَةِ المؤمنين على مَنابرِ العِراقِ. قال ابنُ خلكان: "جَرَى في أَيامِه ما لم يَجرِ على أَيامِ أَحَدٍ مِن أَهلِ بَيتِه ممَّن تَقدَّمهُ ولا تَأخَّرهُ: منها قَضيةُ البساسيري فإنه لمَّا عَظُمَ أَمرُه، وكَبُرَ شأنُه ببغداد قَطعَ خُطبةَ الخَليفةِ العبَّاسيِّ القائمِ بأَمرِ الله، وخَطبَ للمُستَنصِر العُبيديِّ سَنةَ 450هـ، ودَعَا له على مَنابِرِها مُدَّةَ سَنَةٍ, ومنها أنه ثار في أَيامِه عليُّ بنُ محمدٍ الصليحيُّ ومَلَكَ بِلادَ اليَمنِ، ودَعَا للمُستَنصِر على مَنابِرِها, ومنها أنه أقامَ في الأَمرِ سِتِّينَ سَنَةً، وهذا أَمرٌ لم يَبلُغه أَحدٌ مِن أَهلِ بَيتِه ولا مِن بَنِي العبَّاسِ, ومنها أنه وَلِيَ الأَمرَ وهو ابنُ سَبعِ سِنين. ومنها أن دَعوتَهم لم تَزل قائمةً بالمَغربِ منذ قام جَدُّهُم المَهديُّ إلى أَيامِ المُعِزِّ ولمَّا تَوَجَّه المُعِزُّ إلى مصر واستَخلَف بلكين بن زيري، كانت الخُطبةُ في تلك النواحي لا زالت للعُبيديِّين، إلى أن قَطَعَها المُعِزُّ بن باديس في أَيامِ المُستَنصِر سَنةَ 443هـ، وفي سَنةِ 449هـ قُطِعَ اسمُ المُستَنصِر واسمُ آبائِه مِن الخُطبةِ في الحَرَمينِ، وذُكِرَ اسمُ المُقتدِي بأَمرِ الله خَليفةِ بغداد، ومنها أنه حَدَثَ في أَيامِه الغَلاءُ العَظيمُ الذي ما عُهِدَ مِثلُه منذ زَمانِ يوسف عليه السلام، وأقامَ سَبعَ سِنينَ، وأَكلَ الناسُ بَعضُهم بَعضًا، حتى قِيلَ: إنه بِيعَ رَغيفٌ واحدٌ بخَمسين دِينارًا، وكان المُستَنصِر في هذه الشِّدَّةِ يَركَب وَحدَه، وكلُّ مَن معه من الخَواصِّ مُتَرَجِّلون ليس لهم دَوابٌّ يَركَبونَها، وكانوا إذا مَشوا تَساقَطوا في الطُّرُقاتِ من الجُوعِ، وآخِرُ الأمرِ تَوجَّهَت أُمُّ المُستَنصِر وبَناتُه إلى بغداد من فَرْطِ الجُوعِ سَنةَ 462هـ، وتَفَرَّق أَهلُ مصر في البِلادِ وتَشتَّتوا"، وتُوفِّي المُستَنصِر لَيلةَ الخميسِ لاثنتي عشرة لَيلةً بَقِينَ من ذي الحجَّةِ سَنةَ 487هـ وكانت مُدَّةُ حُكمِه سِتِّينَ سَنةً وأربعةَ أَشهُر، ولمَّا مات وَلِيَ بَعدَه ابنُه أبو القاسمِ أحمدَ المُستَعلِي بالله، وكان قد عَهِدَ في حَياتِه لابنِه نزار، فخَلَعهُ الأفضلُ أبو القسمِ شاهنشاه بن أَميرِ الجُيوشِ وبايَعَ المُستَعلِي بالله، وسَببُ خَلعِه أن الأفضلَ رَكِبَ مَرَّةً، أَيامَ المُستَنصِر، ودَخلَ دِهليزَ القَصرِ من بابِ الذَّهبِ راكِبًا، ونزار خارِجٌ، والمَجازُ مُظلِمٌ، فلم يَرَهُ الأفضلُ، فصاحَ به نزار: انزِل، يا أرمني، كلب، عن الفَرَسِ، ما أَقَلَّ أَدَبَك! فحَقَدَها عليه، فلمَّا مات المُستَنصِر خَلَعهُ خَوفًا منه على نَفسِه، وبايَعَ المُستَعلي، فهَرَب نزار إلى الإسكندريةِ، وبها ناصِرُ الدولةِ أفتكين، فبايَعَهُ أَهلُ الإسكندريةِ وسَمَّوهُ المُصطفَى لدِينِ الله، فخَطَبَ الناسَ، ولَعنَ الأَفضلَ، وأَعانَه أيضًا القاضي جَلالُ الدولةِ بنُ عَمَّارٍ، قاضي الإسكندريةِ، فسار إليه الأَفضلُ، وحاصَرَهُ بالإسكندريةِ، فعاد عنه مَقهورًا، ثم ازدادَ عَسكرًا، وسار إليه، فحَصَرهُ وأَخَذهُ، وأَخذَ أفتكين فقَتَلهُ، وتَسلَّم المُستعلِي نزارًا فبَنَى عليه حائِطًا فماتَ، وقَتَلَ القاضيَ جَلالَ الدولةِ بنَ عَمَّارٍ ومَن أَعانَه.
بنو لِحيانَ: هم الذين غدروا بخُبَيبِ بنِ عَديٍّ رَضي اللهُ عنه وأصحابِه يومَ الرَّجيعِ، ولمَّا كانت ديارُهم مُتوغِّلةً في بلاد الحِجازِ إلى حدودِ مكةَ، ولوُجودِ ثاراتٍ بين المسلمين من جهةٍ، وقُريشٍ والأعرابِ من جهة أُخرَى، رأى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ألَّا يَتوغَّلَ في البلادِ القريبةِ من العَدوِّ الأكبَرِ والرَّئيسيِّ قُريشٍ، فلمَّا تَخاذَلَتِ الأحزابُ، وانكَسَرَت عزائِمُهم، رأى أنَّ الوقتَ قد حان لغَزوِ بني لِحيانَ وأخذِ الثَّأرِ لأصحابِ الرَّجيعِ؛ فخَرَج إليهمُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طالِبًا بدِماءِ أصحابِه في مِائَتين من أصحابِه، ومعهم عِشرون فَرَسًا، واستَخلَف على المدينةِ عبدَ اللهِ بنَ أُمِّ مَكتومٍ رَضي اللهُ عنه، وأظهَر رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه يُريدُ الشَّامَ ليُصيبَ بني لِحيانَ غِرَّةً، ثم أسرَع السَّيرَ حتى انتَهَى إلى وادي غُرانَ بين أمَجَّ -مَوضِعٍ بين مكةَ والمدينةِ- وعُسفانَ -قريةٍ بين مكةَ والمدينةِ-، وهي منازِلُ بني لِحيانَ، وفيها كان مُصابُ أصحابِه، فتَرَحَّم عليهم ودعا لهم. وسَمِعت به بنو لِحيانَ، فهَرَبوا واحتَمَوا في رؤوسِ الجِبالِ؛ فلم يَقدِر رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أحدٍ منهم؛ فأقام رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأرضِهم يَومًا أو يومَين، وبَعَث السَّرايا في كلِّ ناحيةٍ فلم يَقدِروا على أحدٍ. ثم سار رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأصحابِه إلى عُسفانَ لتَسمَعَ به قُرَيشٌ فيُداخِلَهمُ الرُّعبُ، وليُريَهم من نَفسِه قُوَّةً؛ فبَعَث أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ رَضي اللهُ عنه في عَشَرةِ فَوارِسَ إلى كُراعِ الغَميمِ -مَوضِعٍ بين مكةَ والمدينةَ-، ثم رَجَع أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضي اللهُ عنه ولم يَلْقَ أحدًا.
هو عُمَرُ بنُ حَفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش بن أذفونش القس, وينتمي عمر بن حفصون لأسرة من المولَّدين قوطيَّة الأصل, فجَدُّه الأعلى وقت الفتح هو القِسُّ ألفونسو، وأوَّلُ من أسلَمَ مِن أسرته هو جدُّه الرابع جعفر, وابنُ حفصون هو رأس الخوارجِ بجزيرة الأندلس, وأحدُ أشهَرِ معارضي سُلطة الدولة الأمويَّة في الأندلس، وكاد أن يغلِبَ على الأندلس، وأتعبَ السَّلاطينَ، وطال أمرُه، وعظُم البلاءُ به، وكان جَلْدًا شُجاعًا فاتكًا، وكان يتحصَّن بقلعةٍ منيعةٍ في جبل ببشتر، فتح باب الشِّقاقِ والخلاف في الأندلس، نُعِت باللَّعينِ والخبيثِ ورأسِ النفاق، أوَّل ما ثار على الأمير محمد بن عبد الرحمن عام 270 واستفحل أمرُه، ثمَّ أظهر النصرانيَّة سنة 286 فاتَّصلَت عليه المغازي. أظهَرَ الطاعات مراتٍ وقُوبِلَ بالعفوِ، ولكنه لم يلبَثْ أن يتمَرَّدْ مَرَّةً أخرى، وكان عُبيد اللهِ الفاطمي العُبَيدي اعترف به وبزعامته وأمَدَّه بالذخائرِ والأسلحة ودعا له في المساجدِ؛ كلُّ ذلك أملًا منه أن ينضمَّ للفاطميِّينَ، عاصَرَ ابنُ حفصون في ثورته أربعةً مِن الأمراء الأمويين، بدأ في عهدِ الأمير محمد بن عبد الرحمن وحتى عهد عبد الرحمن الناصر لدين الله، وسيطر خلالَها على مناطِقَ كبيرةٍ في جنوبِ الأندلس، ولاقت حركتُه ترحيبًا من أعداد كثيرةٍ مِن سُكَّانِ تلك المناطِقِ من المولَّدين والمُستعربين، وقاومتها سُلُطاتُ الدولة بحزمٍ إلى أن أنهى عبدُ الرحمن الناصِرُ لدين الله حركةَ ابن حفصون وخلفائِه تمامًا عام 316، بعد عشرِ سَنواتٍ على وفاة عُمَرَ بنِ حفصون نفسِه, ولما توفِّيَ خَلَفَه ابنُه سُلَيمانُ.
الأتابِكةُ جَمعُ أتابك، وهي كَلِمةٌ مُرَكَّبةٌ مِن لفظينِ تُركيِّينِ «أتا» أي: الأبُ، أو المُرَبِّي، و«بِك» أي: الأمير، فيكون معنى الكلمة «مربي الأمير» ثم صارت مع الأيام تُستعمَلُ لدَلالاتٍ أخرى، بينها: المَلِك، والوزير الكبير، والأُمَراء البارزون الذين يَمُتُّون بصلةِ القَرابةِ إلى السلاجقةِ والأُمراء الأقوياء. كذلك أُطلِقَت في عهد المماليك على من تُعهَدُ إليه إمارةُ العَسكَرِ، ومنه شاع لَقَبُ «أتابِك العسكر». وأوَّلُ مَن لُقِّبَ بهذا اللَّقَبِ نِظامُ الملك وزيرُ السُّلطان ملك شاه السلجوقي، حين فُوِّضَ إليه تدبيرُ المملكةِ سنة 465 فإذا ولَّى السُّلطانُ أحدَ أبنائه حُكْمَ مدينةٍ أو ولاية، أرسَلَ معه أتابِكَه ليكونَ عَونًا له في الحُكمِ. وكثيرًا ما كان الأتابكُ ينزِعُ إلى استِغلالِ نُفوذِه والتسَلُّط على الأمير، وقد استفاد هؤلاء الأتابكةُ مِن ضَعفِ الدَّولةِ وتنازُعِ أبناءِ الأُسرة السلجوقيَّة؛ للاستِئثارِ بالسَّلطَنةِ فعَمِلوا من أجلِ الانفِرادِ بالمناطِقِ التي تحت حُكمِهم، والتوسُّع والسَّيطرة على الأراضي المُجاورة، كما أنَّهم عَمِلوا على توريثِ هذه المناطِقِ لأبنائِهم، فنَشَأت ضِمنَ السَّلطنةِ السلجوقيَّة دُوَيلاتٌ كثيرةٌ مُتَناثِرةٌ عُرِفَت باسمِ دُوَل الأَتابكةِ، وأخذَ نُفوذُها بالازديادِ. وكان الأتابِكةُ يَستَغِلُّونَ نُفوذَهم بين الحينِ والآخَرِ في تحريضِ أفراد البيتِ السُّلجوقي، وإِطماعِهم بالسُّلطةِ. كان الأتابكةُ حتى عَهدِ السُّلطانِ مسعود بنِ مُحمَّد 527-547 يستَتِرونَ وراء السَّلاطين، وبعد وفاتِه أخَذَ نَجمُ هؤلاء الأتابِكةِ بالصُّعودِ، وسَيطَروا على مقاليدِ الأمورِ، وصار سلاطينُ السَّلاجقة أدواتٍ في أيديهم يأتَمِرونَ بأوامِرِهم ويُنَفِّذونَ رَغَباتِهم. وفي الوَقتِ ذاتِه كانت الأتابكيَّات تتنافَسُ فيما بينها وتتصارَعُ؛ مِمَّا مَهَّد السَّبيلَ للمَغولِ لاجتياحِ أقاليمِ بلادِ ما وراءَ النَّهرِ وفارس والعراق وأذربيجان وغيرِها.