قامت إسرائيل بشنِّ غارةٍ على سوريا انتقامًا من الفدائيِّين الذين دخلوا فلسطينَ من الجبهة السورية، وأسقطت بعضَ الطائرات السورية فوق ضواحي دمشق، فأمر جمال عبد الناصر القواتِ المصريَّة أن تزحَفَ إلى سيناء، وطلب إنهاءَ عمل قوات الطوارئ الدوليَّة فيها، وأعلنت مصرُ إغلاقَ خليج العقبة أمامَ السُّفُن الإسرائيلية والسُّفُن التي تحمِلُ البضائع لها، ونصحت روسيا مصر ألَّا تبدأ هي بالهجومِ حتى يكونَ الإسرائيليون هم البادئين، وصدَّق جمال النصيحةَ فباغتةَ اليهود في صباح 27 صفر 1387هـ / 5 حزيران 1967م واستهدفوا المطاراتِ بغاراتٍ خاطفة وما هي إلا ساعة، وغدا الطيرانُ المصري مشلولًا عاجزًا! وجاءت الأوامرُ بالانسحابِ من سيناء، وكان الطيرانُ الإسرائيلي يتصيَّد المنسحبين، وطلبت مصرُ وقف إطلاق النار، وتوقَّفت الحربُ على الجبهة المصرية بعد أن خَسِرَت مصر غزة وسيناء، ودُمِّر ثمانون بالمائة من أسطولها الجوي الذي استغرق بناؤه نحو 15 سنة، ثم التفَّتْ إسرائيلُ على الجبهة الأردنية التي كانت هادئة، فاحتلَّت الضفةَ الغربية، ثم طَلَبت الأردن وقفَ إطلاق النار، فكان ذلك، فاتجَهت إسرائيلُ إلى الجبهة السورية فسقطت الجولان بأيدي اليهود، وتصيَّد اليهودُ الذين انسحبوا بشكلٍ عشوائي، واحتلَّت إسرائيلُ القنيطرة، وتوقَّف القتال، وانتصرت إسرائيلُ على الجبهات الثلاث واحدةً تِلوَ الأخرى!! وتُعرَفُ هذه الحرب في كلٍّ من سوريا والأردن باسمِ نكسة حزيران، وفي مِصرَ باسم نكسة 67، وتسمَّى في إسرائيل "حرب الأيَّام السِّتة".
لَمَّا خُلِعَ إبراهيمُ بن المهدي واختفى وانقطعت الفِتَن، قَدِمَ المأمونُ بغداد، وكان قد أقام بجرجان شَهرًا وجعل يقيمُ بالمنزل اليومَ واليومينِ والثلاثةَ، وأقام بالنهروان ثمانيةَ أيام، فخرج إليه أهلُ بيته والقوَّاد، ووجوهُ الناس، وسَلَّموا عليه. وكان قد كتب إلى طاهرِ بنِ الحُسين، وهو بالرقَّة، ليوافيَه بالنهروان، فأتاه بها ودخل بغدادَ مُنتصَفَ صفر، ولباسُه ولباسُ أصحابِه الخُضرة، فلمَّا قَدِمَ بغدادَ نزل الرصافةَ، ثمَّ تحوَّل ونزل قصرَه على شاطئِ دِجلةَ، وأمر القوادَ أن يقيموا في مُعسكَرِهم. وكان الناسُ يدخلونَ عليه في الثياب الخُضر، وكانوا يَخرقونَ كلَّ ملبوسٍ يرونه من السَّوادِ على إنسان، فمكثوا بذلك ثمانية أيام، فتكلَّم بنو العباس وقوَّاد أهل خراسان، وقيل: إنَّه أمر طاهر بن الحسين أن يسألَه حوائِجَه، فكان أوَّلَ حاجةٍ سأله أن يلبَسَ السوادَ، فأجابه إلى ذلك، وجلس للنَّاسِ، وأحضر سوادًا فلَبِسَه، ودعا بخِلعةٍ سوداءَ فألبسَها طاهِرًا، وخلع على قوَّادِه السَّوادَ، فعاد الناسُ إليه.
سارت جيوشُ المُسلِمينَ بصقليَّة، وأميرُهم حينئذ أحمدُ بن الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي، إلى قلعةِ طبرمين من صقليَّة أيضًا، وهي بيدِ الرومِ، فحصروها، وهي مِن أمنع الحصون وأشَدِّها على المسلمين، فامتنع أهلُها، ودام الحصارُ عليهم، فلما رأى المسلمونَ ذلك عَمَدوا إلى الماءِ الذي يدخُلُها فقطعوه عنها، وأجروه إلى مكانٍ آخَرَ، فعَظُمَ الأمر عليهم، وطَلَبوا الأمان، فلم يُجابوا إليه، فعادوا وطَلَبوا أن يُؤمَّنوا على دمائِهم، ويكونوا رقيقًا للمُسلمين، وأموالُهم فيئًا، فأُجيبوا إلى ذلك، وأُخرِجوا من البلد، ومَلَكه المسلمون في ذي القعدة، وكانت مدة الحصار سبعة أشهر ونصفًا، وأُسكِنَت القلعةُ نفرًا من المسلمين، وسُمِّيَت المعزِّية؛ نسبةً إلى المعِزِّ العُبيدي الفاطمي صاحِبِ إفريقية، وسار جيشٌ إلى رمطة مع الحسن بن عمار، فحصروها وضيَّقوا عليها.
اجتَمَعت عَسكَرُ أتابك زنكي، صاحِبِ حَلَب وحَماة، مع الأميرِ أسوار نائِبِه بحَلَب، وقَصَدوا بلدَ الفِرنجِ على حين غفلةٍ منهم، وقَصَدوا أعمالَ اللاذقيَّة بَغتةً، ولم يتمَكَّنْ أهلُها مِن الانتقالِ عنها والاحترازِ، فنَهَبوا منها ما يزيدُ عن الوَصفِ، وقتلوا وأسَروا وفعلوا في بلدِ الفِرنجِ ما لم يَفعَلْه غَيرُهم، وكان الأسرى سبعةَ آلافِ أسيرٍ ما بين رجُلٍ وامرأةٍ وصَبيٍّ، ومِئة ألفِ رأسٍ مِن الدوابِّ ما بينَ فَرَسٍ وبَغلٍ وحِمارٍ وبَقَرٍ وغَنَم، وأما ما سوى ذلك مِن الأقمِشةِ والعَينِ والحُلِيِّ فيَخرُجُ عن الحَدِّ، وخَرَّبوا بلدَ اللاذقيَّة وما جاورها ولم يَسلَمْ منها إلَّا القليلُ، وخرجوا إلى شيزر بما معهم من الغنائِمِ سالِمينَ، مُنتصَفَ رَجَب، فامتلأ الشامُ مِن الأُسارى والدوابِّ، وفرح المُسلِمونَ فَرَحًا عظيمًا، ولم يَقدِرْ الفِرنجُ على فِعلِ شَيءٍ مُقابِلَ هذه الحادثة؛ عَجْزًا ووَهْنًا.
توفِّيَ السلطانُ المَلِكُ الصالح شمس الدين صالح ابن الملك المنصور نجم الدين غازي ابن الملك المظفَّر قرا أرسلان ابن الملك السعيد غازي بن أرتق بن أرسلان بن إيل بن غازي بن ألبي بن تمرداش بن إيل بن غازي بن أرتق الأرتقي صاحب ماردين بها، وقد ناهز السبعينَ سنةً مِن العمر، بعد أن دام في سلطنة ماردين أربعًا وخمسين سنة، وتولَّى ماردين بعده ابنُه الملك المنصور أحمد، وكان المَلِكُ الصالح من أجَلِّ ملوك بني أرتق حزمًا وعزمًا ورأيًا وسؤددًا وكرمًا ودهاءً وشجاعة وإقدامًا، وكان يحِبُّ الفقهاء والفضلاء وأهل الخير، وكان له فضلٌ وفَهمٌ وذوق للشعر والأدب، وكان يحِبُّ المديح ويجيز عليه بالجوائزِ السَّنِيَّة.
تولى السلطانُ مصطفى الحكمَ للمرة الثانية إثرَ فتنة الانكشارية، وصارت الحكومةُ ألعوبةً بأيديهم، ينصبون الوزراء ويعزلونهم بحسَبِ أهوائهم، وأصبحت المناصب تُباعُ جِهارًا، وارتكبوا أنواعَ المظالم، وتغير الوزراء الصدورُ في مدَّتِه هذه سبعَ مرَّات خلال عام واحد وأربعة شهور، وكان الخلافُ قد دبَّ بين أمراء الأناضول وفرقة السباهية- الخيالة- على استمرار الوزراء الصدور، حتى إن بعضهم لم يُكمِل شهرًا واحدًا، ونظرًا لضعف السلطانِ وعجزه عن إدارة شؤون البلاد، واستمرارًا لهذا العبثِ، قام الانكشارية بعزل السلطان مصطفى الأول وولَّوا مكانه ابن أخيه السلطان مراد الرابع، ولصغر سنه صارت والدته كوسم نائبةَ السلطنة، تقوم بالأمر دونَه، لكن مقاليد الأمور كانت بيد الانكشارية التي علا شأنُها وازداد نفوذُها!
كانت كشمير تحت حكم المغول المسلمين، ثم سيطر الأفغانُ عليها بعد المغول، ثم بعد التدخُّل الإنجليزي استطاع السيخُ أن يتحكَّموا بالإقليم الكشميري، وكانت أيامُهم فيها من أسوأ الأيام على المسلمين من إراقة الدماء وهدمِ المساجِدِ، ثم أخذها الإنجليزُ مِن السيخ عام 1262هـ / 1846م ثم قاموا ببيعِها بموجِبِ اتفاقية أمريتسار (وهي المدينة التي تعد قاعدة السيخ) بمبلغ سبعة ملايين ونصف مليون روبية إلى أسرة الدوغرا الشيخية لمدة مائة عام من 1846 إلى 1946م، ولم ينس الإنجليز (لتمُرَّ هذه الصفقة على المسلمين) أن يجعَلوا أسرة الدوغرا تتعهَّدُ بأن تحكُمَ رعيتها المسلمةَ بالعدل، وكان -كما هو مشهور- حبرًا على ورق، وإلَّا فالواقع خيرُ شاهد على ما قام به الدوغرا تجاهَ المسلمين الذين ظلُّوا طيلة قرن من الزمن مكَبَّلين بأغلال العبودية والاضطهاد والتنكيل، رغم أنهم الأكثرية؛ فهم يشكلون ثمانين بالمائة من السكان!
احتلَّت إيطاليا الحبشة عام 1354هـ / 1935م رغم مُعارضة الأمم المتحدة وفَرْض العقوبات الاقتصادية، ثم لَمَّا قامت الحرب العالمية الثانية قامت الثورات في الحبشة ضِدَّ الطليان بتحريضٍ مِن البريطانيين وباقي الحلفاء، وزحفت القوات البريطانية من السودان إلى الحبشة، وخرج الطليان من البلاد ودخل الإنجليز أديس أبابا عام 1360هـ / 1941م، وأعيد الإمبراطور هيلا سيلاسي من منفاه في العام نفسِه، وبعد أن استسلمت آخِرُ الحاميات الإيطالية في غوندار عام 1361هـ / 1942م أعلنت الحبشةُ الحرب على دول المحور، ووقفت بجانب الحلفاء، وانتهت الحرب، وفَصَلت الأمم المتحدة التي تشكلت بعد الحرب بين الحبشة وأريتريا، فعادت الحبشة دولةً مستقلةً، وهكذا لم تخضع الحبشةُ للاستعمار إلا لمدة سبع سنوات، بخلاف ما حدث لبقية الدول الأوربية وما ذلك إلا لنصرانيَّتِها.
أحمد فاضل نزال الخلايلة، المشهور بأبي مصعب الزرقاوي، سافَرَ إلى أفغانستانَ في ثمانينيَّات القرن العشرين لمحارَبة القوات السوفييتة، ومكَثَ الزرقاوي سبعَ سنواتٍ في السجون الأردنية، وذلك بعد القبض عليه في الأُردُنِّ بتُهمة التخطيط لمهاجمة إسرائيلَ، وبعد مغادرة الزرقاوي السجنَ، غادرَ مرةً أُخرى إلى أفغانستانَ، ومكَثَ فيها حتى أوائل عام 2000م، وكان أمير تنظيم "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"، الذي هو فرع تنظيم القاعدة في العراق، الذي قامَ بالعديد من العملياتِ في العراقِ كتفجيرِ مَبْنى الأممِ المتحدةِ وغيرها من العمليات العسكرية والتفجيرية ضدَّ قوات التحالُفِ، والشيعة، والأكراد، وقوات الأمن العراقية، وفي صباح 7 يونيو 2006م أَعْلن رئيسُ الحكومة العراقية نوري المالكي عن مَقتَلِ زَعيم تنظيمِ القاعدة في العراقِ أبي مُصعبٍ الزرقاوي في غارة أمريكية.
لمَّا رأى المسلمون مُطاوَلةَ الرُّومِ لهم بالشَّام اسْتمَدُّوا أبا بكرٍ، فكتَب إلى خالدِ بن الوَليد يأمُرهُ بالمَسيرِ إليهم وبالحَثِّ، وأن يَأخُذَ نِصفَ النَّاس ويَسْتخلِفَ على النِّصفِ الآخرِ المُثَنَّى بن حارِثةَ الشَّيبانيَّ، ولا يَأْخُذَنَّ مَن فيه نَجْدَةٌ إلَّا وَيَتْرك عند المُثَنَّى مِثْلَهُ، وإذا فتَح الله عليهم رجَع خالدٌ وأصحابُه إلى العِراقِ. اتَّجَه خالدٌ مِن العِراقِ إلى الشَّام وفتَح عددًا مِن المُدُنِ، وصالَح بعضَها، وصل شَرقِيَّ جَبَلِ حَوْرانَ، ثمَّ تَدْمُرَ، ثمَّ القَرْيَتينِ مِن أَعمالِ حِمْصَ، ثمَّ قاتَل غَسَّانَ في مَرْجِ راهِطٍ وانتصر عليهم، ثمَّ سار إلى بُصْرى الشَّامِ وكانت أوَّلَ مدينةٍ افتتَحها مِن بِلادِ الشَّامِ حتَّى بلَغ جموع المسلمين في اليرموك، وكان ممَّا مَرَّ به خالدٌ مع جَيْشِهِ مَفازَة بين قُراقِر وسُوَى لا ماءَ فيها ولا كَلَأ، الدَّاخِلُ فيها مَفقودٌ، والخارِجُ منها مَولودٌ، لكنَّ خالدًا استعان بدَليلٍ يُقال له: رافِعُ بن عُميرَةَ الطَّائيُّ، ساعَدهُ على تَجاوُزِ المَفازةِ بسَلامٍ مع جَيشٍ قِوامُه تِسعةُ آلافِ مُقاتلٍ.
لمَّا فتَح أبو عُبيدةَ الجابِيَةَ مِن أعمالِ دِمشقَ وقِنَّسرينَ وحاصَر أهلَ مَسجدِ إيليا -أي بيت المَقدِس- فأَبَوْا أن يَفتَحوا له، وسَألوه أن يُرْسِلَ إلى صاحِبِه عُمَرَ لِيَقْدُمَ فيكون هو الذي يَتوَلَّى مُصالحَتَهُم، فكتَب بذلك إلى عُمَرَ فاسْتخلفَ علِيَّ بن أبي طالبٍ على المدينةِ, ثمَّ قَدِمَ للشَّامِ, وكتَب إلى أُمراءِ الأجنادِ أن يُوافُوه بالجابِيَةِ ليومٍ سَمَّاهُ لهم في المُجَرَّدَةِ، ويَستخلِفوا على أعمالِهم، وكان أوَّلَ مَن لَقِيَهُ فيها أبو عُبيدةَ, فلمَّا دخَل الجابِيَةَ قال له رجلٌ مِن اليَهودِ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّك لا تَرجِع إلى بِلادِك حتَّى يفتحَ الله عليك إيلياء. فبينما عُمَر مُعسكرٌ بالجابِيَةِ فزَع النَّاسُ إلى السِّلاحِ، فقال: ما شَأنُكم؟ فقالوا: ألا ترى إلى الخيلِ والسُّيوفِ؟ فنظَر فإذا جَمْعٌ يلمعون بالسُّيوفِ. فقال عُمَرُ: مُسْتَأْمِنَةً فلا تُراعُوا، فأَمِّنُوهُم. وإذا أهلُ إيلياء، فصالَحهُم على الجِزيةِ, وعلى أن لا يَهْدِمَ كَنائِسَها، ولا يُجْلِيَ رُهْبانَها، ففَتَحوها له، وبَنَى بها مَسجِدًا، وأقام أيَّامًا ثمَّ رجَع إلى المدينةِ.
دخل جيش الخبيثِ الزنجيِّ إلى البصرة قهرًا، فقتل من أهلِها خَلقًا، وهرب نائبُها بغراج ومن معه، وأحرَقَت الزنج جامعَ البصرة ودورًا كثيرة، وانتهبوها، ثم نادى فيهم إبراهيم بن المهلبي أحدُ أصحاب الزنجي الخارجي: من أراد الأمانَ فلْيَحضُر، فاجتمع عنده خلقٌ كثير من أهل البصرة، فرأى أنه قد أصاب فرصةً، فغدر بهم وأمَرَ بقَتلِهم، فلم يُفلِتْ منهم إلَّا الشاذ، كانت الزنجُ تحيط بجماعةٍ من أهل البصرة، ثم يقول بعضهم لبعض: كيلوا- وهي الإشارة بينهم إلى القتل- فيَحمِلون عليهم بالسيوفِ، فلا يُسمَعُ إلَّا قَولُ أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، من أولئك المقتولين, وضجيجُهم عند القتل- أي صراخ الزِّنج وضَحِكهم - وهكذا كانوا يفعلونَ في كل محالِّ البصرة في عِدَّة أيام، وهرب الناسُ منهم كلَّ مَهرَبٍ، وحرَقوا الكلأ من الجبَل إلى الجبل، فكانت النارُ تحرِقُ ما وجدت من شيءٍ؛ من إنسانٍ أو بهيمة أو غير ذلك، وأحرقوا المسجِدَ الجامع، وقد قتَل هؤلاء جماعةً كثيرةً من الأعيان والأُدَباء والفُضَلاء والمحَدِّثين والعلماء.
كان إبراهيم بن محمَّد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن أبي طالب المعروف "بابن الصوفي العَلَوي" قد ظهر بمصر سنة ست وخمسين، فدعا لنفسه ثم هرب إلى الواحات، ثم عاد هذا العام، فدعا الناسَ إلى نفسه، فتَبِعَه خلق كثير، وسار بهم إلى الأشمونين، فوُجِّه إليه جيش عليهم قائد يعرف بابن أبي الغيث، فوجده قد أصعد إلى لقاء أبي عبد الرحمن العمري، فلما وصل العَلَوي إلى العُمري التقيا، فكان بينهما قتالٌ شديد، أجْلَت الوقعةُ عن انهزام العلوي، فولى منهزمًا إلى أسوان، فعاث فيها وقطع كثيرًا من نَخلِها. فسيَّرَ إليه ابن طولون جيشًا، وأمرهم بطلبه أين كان، فسار الجيش في طلبه، فولى هاربًا إلى عيذاب، وعبَرَ البحر إلى مكَّة، وتفَرَّق أصحابه، فلما وصل إلى مكة بلغ خبَرُه إلى واليها فقبض عليه وحبَسَه، ثم سيَّرَه إلى ابن طولون، فلما وصلَ إلى مصر أمر به فطِيفَ به في البلد، ثم سجَنَه مُدَّة وأطلقه، ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى أن مات.
كان المسترشد بالله خرج من بغداد لنصرة السلطان مسعود في قتاله مع عمه سنجر, فلما بلغه أن عماد الدين ودبيس بن صدقة يسيران إلى بغداد، وبلغه انهزام السلطان مسعود، عزم على العود إلى بغداد، فأتاه الخبر بوصول عماد الدين زنكي إلى بغداد، ومعه دبيس بن صدقة، وكان السلطان سنجر قد كاتبهما وأمرهما بقصد العراق، والاستيلاء عليه، فلما علم الخليفة بذلك أسرع العود إليها، وعبر إلى الجانب الغربي، وسار فنزل بالعباسية، ونزل عماد الدين بالمنارية من دجيل، والتقيا بحصن البرامكة في السابع والعشرين من رجب، فابتدأ زنكي فحمل على ميمنة الخليفة، وبها جمال الدولة إقبال، فانهزموا منه، وحمل نصر الخادم من ميسرة الخليفة على ميمنة عماد الدين ودبيس، وحمل الخليفة بنفسه واشتد القتال، فانهزم دبيس، وأراد عماد الدين الصبر، فرأى الناس قد تفرقوا عنه، فانهزم أيضًا، وقُتِل من العسكر جماعة، وأسر جماعة، وبات الخليفة هناك ليلته، وعاد من الغد إلى بغداد.
قَصَدت الكرجُ في جموعها ولايةَ خلاط من أرمينيَّة، ونهبوا وقتلوا، وأسَروا وسَبَوا أهلَها كثيرًا، وجاسُوا خلالَ الديار آمنين، ولم يخرُجْ إليهم من خلاط من يمنَعُهم فبَقُوا متصرفين في النهب والسبي، والبلادُ شاغرة لا مانع لها، لأنَّ صاحِبَها صبيٌّ، والمدبِّر لدولتِه ليست له تلك الطاعة على الجُندِ، فلما اشتَدَّ البلاء على الناس تذامَروا، وحَرَّض بعضُهم بعضًا، واجتمعت العساكِرُ الإسلاميَّة التي بتلك الولاية جميعها، وانضاف إليهم من المتطوِّعة كثيرٌ، فساروا جميعُهم نحو الكرج وهم خائفونَ، فوصلت الأخبارُ إلى الكرج، فعزموا على كبسِ المسلمين، فانتقلوا من موضِعِهم بالوادي إلى أعلاه، فنزلوا فيه ليكبِسوا المسلمين إذا أظلَمَ اللَّيلُ، فأتى المسلمين الخبَرُ، فقصدوا الكرج وأمسكوا عليهم رأسَ الوادي وأسفَلَه، وهو وادٍ ليس إليه غيرُ هذين الطريقين، فلما رأى الكرجُ ذلك أيقنوا بالهلاك، وسُقِطَ في أيديهم، وطَمِعَ المسلمون فيهم، وضايقوهم، وقاتلوهم، فقَتَلوا منهم كثيرًا، وأسَروا مِثلَهم، ولم يُفلِتْ مِن الكرجِ إلَّا القليلُ، وكفى الله المسلمينَ شَرَّهم بعد أن كانوا أشرفوا على الهَلاكِ.