هو الأَميرُ أبو حَفْص قُتيبةُ بن مُسلِم بن عَمرِو بن حُصَين بن رَبيعَة الباهلي، أَحَدُ الأَبطال والشُّجْعان، ومِن ذَوِي الحَزْمِ والدَّهاءِ والرَّأْيِ والغَنَاءِ، كان مِن سادات الأُمَراء وخِيارِهم، وكان مِن القادَة النُّجَباء الكُبَراء، والشُّجْعان وذَوِي الحُروبِ والفُتوحات السَّعيدَة والآراء الحَميدَة، وهو الذي فَتَح خَوارِزْمَ وبُخارَى، وسَمَرْقَنْد، وكانوا قد نَقَضوا وارْتَدُّوا، ثمَّ إنَّه افْتَتَح فَرْغانَة، وبِلادَ التُّرْك، وقد هَدَى الله على يَديهِ خَلْقًا لا يُحصِيهم إلَّا الله، فأَسلَموا ودانوا لله عَزَّ وجَلَّ، وفَتَح مِن البِلادِ والأقاليم الكِبار والمُدُن العِظام شَيْئًا كَثيرًا، والله سُبحانَه لا يُضَيِّع سَعْيَهُ ولا يُخَيِّب تَعَبَه وجِهادَه, وكانت وَفاتُه بِفَرْغانَه مِن أَقصى بِلادِ خُراسان، كان قُتيبَة يَفتَح في بِلادِ المَشرِق, وموسى بن نُصيَر يَفتَح في بِلادِ المَغرِب، فجَزاهُما الله خيرًا، فكِلاهُما فَتَح مِن الأقاليم والبُلْدان شَيْئًا كَثيرًا، كان فيمَن قُتِلَ أَبوهُ مع مُصعَب بن الزُّبير، وكانت وِلايتُه على خُراسان عَشر سِنين، وله رِوايَة عن عِمْران بن حُصَين، وأبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ. لمَّا بَلَغَه مَوتُ الوَليد نَزَعَ الطَّاعَة، فاخْتَلَفَ عليه جَيْشُه، وقام عليه وَكيعُ بن حَسَّان التَّميمي وأَلَّبَ عليه، ثمَّ شَدَّ عليه في عَشرة مِن فُرْسان تَميم فقَتَلوه, وكان عُمُرُهُ ثَمانِيًا وأربعين سَنَة، وقد سَبَق له مِن الأعمال الصَّالِحَة ما قد يُكَفِّر الله به سَيِّئاته، ويُضاعِف به حَسَناته، والله يُسامِحه ويَعفُو عنه، ويَتَقَبَّل منه ما كان يُكابِده مِن مُناجَزة الأعداء.
انتفض الوجهُ البحري بمصرَ بزعامة عبدوس الفهري وانضم الأقباطُ إليهم، وحَشَدوا وجمعوا فكثُرَ عددُهم وساروا نحو الديارِ المصرية، فتجهَّزَ عيسى بن منصور وجمعَ العساكِرَ والجندَ لقتالهم، فضَعُف عن لقائِهم وتقهقر بمن معه، فدخلت الأقباطُ وأهل الغربيَّة مصرَ، وأخرجوا منها عيسى هذا على أقبَحِ وجهٍ؛ لسُوءِ سِيرتِه، وخرج معه أيضًا مُتولِّي خَراجِ مِصرَ وخلعوا الطاعةَ، فقدم الأفشين حيدر بن كاوس من بُرقةَ وتهيَّأ لقتال القوم، وانضمَّ إليه عيسى بنُ منصور ومن انضاف إليه، وتجمَّعوا وتجهَّزوا لقتال القوم وواقعوهم فظَفِروا بهم بعد أمورٍ وحروبٍ، وأسَروا وقَتَلوا وسَبَوا، ثم مضى الأفشين إلى الحوفِ وقاتَلَهم أيضًا لِمَا بلغه عنهم، وبدَّدَ جَمعَهم وأسَرَ منهم جماعةً كبيرةً بعد أن بضعَ فيهم وأبدَع، ودامت الحروبُ في السنة المستمرة بمصرَ في كل قليلٍ إلى أن قَدِمَها أميرُ المؤمنين عبد الله المأمونُ لخَمسٍ خلون من المحرَّم سنة سبع عشرة ومائتين، فسَخِطَ على عيسى بن منصور وحَلَّ لواءه وعزَلَه ونسب له كلَّ ما وقع بمصرَ ولِعُمَّاله؛ ثم جهَّزَ العساكِرَ لقِتالِ أهلِ الفساد، وأحضرَ بين يديه عبدوس الفهري فضُرِبَت عنُقُه ثم سار عسكرُه لقتال أسفَلِ الأرضِ أهلِ الغربيَّة والحوف، وأوقعوا بهم وسَبَوا القبطَ وقتلوا مقاتِلَتَهم وأبادوهم، وقمعوا أهلَ الفسادِ مِن سائِرِ أراضي مصرَ بعد أن قتَلوا منهم مقتلةً عظيمةً، ثم رحل الخليفةُ المأمون من مصر.
وصل تقليدُ الأمير سيف الدين بيدمر بنيابة دمشق، ورُسِمَ له أن يركَبَ في طائفةٍ مِن جيش حَلَب ويقصد الأميرَ خيار بن مهنا ليُحضِرَه إلى خدمة السلطان، وكذلك رُسِمَ لنائب حماة وحمص أن يكونا عونًا للأمير سيف الدين بيدمر في ذلك، فلمَّا كان يومُ الجمعة رابِعَ هذا الشهر التَقَوا مع خيار عند سلمية، فكانت بينهم مناوشات، فأحاط الأعرابُ بسيف الدين بيدمر ومَن معه من الترك من كل جانبٍ؛ وذلك لكثرة العرب وكانوا نحو الثمانمائة، وكانت التركُ مِن حماة وحمص وحلب مائةً وخمسين، فرَمَوا الأعراب بالنشَّاب فقتلوا منهم طائفةً كثيرةً، ولم يُقتَلْ من الترك سوى رجلٍ واحد، رماه بعضُ الترك ظانًّا أنه من العرب بناشجٍ فقَتَله، ثم حجز بينهم الليل، وخرجت التركُ مِن الدائرة، ونُهِبَت أموالٌ من الترك ومِن العَرَب، وجرت فتنةٌ وجُرِّدَت أمراء عدة مِن دمشق لتدارُكِ الحال، وأقام نائِبُ السلطنة هناك ينتَظِرُ ورودهم، وقَدِمَ الأمير عمر الملقب بمصمع بن موسى بن مهنا من الديار المصرية أميرًا على الأعراب وفي صُحبَتِه الأمير بدر الدين بن جماز أميرانِ على الأعراب، فنزل مصمع بالقَصرِ الأبلق، ونزل الأميرُ رملة بالتوزية على عادته ثم توجَّها إلى ناحية خيار بن مهنا بمن معهما من عرب الطاعةِ مِمَّن أضيف إليهم من تجريدة دمشق ومَن يكون معهم من جيش حماة وحمص؛ لتحصيل الأمير خيار، وإحضاره إلى الخدمة الشريفةِ.
بعد وفاةِ محمد بردي بك أمير أذربيجان سنة 762 وقد كان ولَدُه توقتاميش صغيرًا على الملك فعَمَّت الفوضى البلاد فاستقَلَّ الحاج جركس بمنطقة استراخان، واستقَلَّ ماماي بمنطقة القرم، وأما منطقة سراي فحَكَمَها خضر بك وهرب توقتاميش إلى سمرقند إلى تيمورلنك، فاستغَلَّ الروس هذا الاختلاف فانقَضُّوا على التتار والتَقَوا مع ماماي وانتصروا عليه، فقام توقتاميش بالرجوع إلى سراي وحكَمَها بمساعدة تيمورلنك، ثم في هذه السنة 783 بعد أن استطاع توقتاميش خان السيطرةَ على أمور التتار والجلوس على عرش الحكم فيها، حيث استقَلَّ بسلطنة دشت القفجاق وسراي، بعد أن قتل تيمر ملك خان في حدود سنة 780 فأرسل إلى حكام الروسية ليدينوا له بالطاعةِ، ولكن حصل منهم تباطؤ وممالأة، فسار إليهم توقتاميش إلى موسكو في أوائل سنة 783 من طريقِ البلغار وعبَرَ نَهرَ أدل (أولغا) ففَرَّ منها حاكمُها ديمتري وهرب معه كثيرٌ مِن أهل موسكو، وبَقِيَ مَن بقي للمدافعة والقتال مغترين بسور المدينة العظيم، ثم وصل التتار وبدؤوا الحصار والرمي ثلاثة أيام، ثم بدأت المحاربة في اليوم الرابع وقال لهم توقتاميش: إن همه هو ديمتري ثم استقَرَّ رأي أهل البلد أن يفتحوا الأبوابَ، فلما فعلوا دخل التتار وقتلوا كلَّ من رأوا أمامَهم من الأهالي ونَهَبوا الأموال وأسَروا من أسَروا ثم عادوا إلى بلادهم بما حصَّلوه من أموال.
أُطلِعَ صالح رايس- والي الجزائر من قِبَل العثمانيين- على تلك المؤامرةِ التي كانت تُحاك ضِدَّ الدولة العثمانية بين ملكِ المغرب السلطانِ الشيخ المهدي أبي عبد الله محمد السعدي والإسبان، والتي كان هدفُها طردَ العثمانيين من الجزائر؛ لأنَّه طالما أن الدولة في الجزائر معناه خطرٌ على إسبانيا، فبعث صالح رايس للباب العالي يخبرُه بشأن تلك المحادثات، فكان جوابُ السلطان سليمان سريعًا وحاسمًا بوجوبِ مهاجمة وهران قبل أن تسفِرَ المحادثات بين الجانبين السعدي والإسباني عن نتيجةٍ عملية، فأرسل السلطانُ سليمان أربعين سفينة لمساعدة رايس في الاستيلاءِ على وهران والمرسى الكبير، ومنذ ذلك الوقت كانت الهجرةُ والتجنيدُ الطوعي من مختلِفِ أنحاء الدولة العثمانية، فاستعَدَّ صالح رايس لفتح وهران، وضَمَّ أسطوله الى جانب أسطول السلطان، وصار لديه نحو سبعين سفينة، واجتمع لديه من الجند ما يقارب من أربعين ألف جندي، وكان ينوي من إتمام زحفه هذا بالمسير الى مراكش للقضاء على الفِتَن والاضطرابات وإخضاعها لسلطانه، ولكن القَدَر لم يمهِلْه، فتوفِّي صالح رايس بالطاعون في شهر رجب 963هـ وقام القائد يحيى بإكمال خطة صالح رايس، فأبحر نحو وهران، وفي الطريق وصلت الأوامر السلطانية بتعيين حسن قورصو لمنصب بيلرباي، ووصلت الجيوش البرية والبحرية إلى وهران، وحوصرت حصارًا شديدًا، إلَّا أنها لم تُفتحْ رغم استعدادات العثمانيين الكبيرة؛ وذلك بسبب النجدات المتواصلة التي كانت تبعثُها إسبانيا إلى المدينة المحاصَرة.
بَلَغ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن بني المُصطَلِقِ -وهم بَطنٌ من قَبيلةِ خُزاعةَ الأزديَّةِ اليَمانيَّةِ- يَجمَعون لقِتالِه، وقائِدُهمُ الحارِثُ بن أبي ضِرارٍ؛ فلمَّا سَمِع رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهم خَرَج إليهم حتَّى لَقيَهم على ماءٍ لهم يُقال له: (المُرَيسيعُ)، ولذلك تُسَمَّى هذه الغَزوةُ أيضًا: بغَزوةِ المُرَيسيعِ. فتَزاحَفَ النَّاسُ واقتَتَلوا، فهَزَمَ اللهُ بني المُصطَلِقِ وقُتِلَ مَن قُتِلَ منهم، ونَفَلَ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبناءَهم ونِساءَهم وأموالَهم فأفاءَهم عليه، وكان فيمَن سُبي جُوَيريةُ رَضي اللهُ عنها بنتُ الحارِثِ بنِ أبي ضِرارٍ سيِّدِ بني المُصطَلِقِ، التي تزوَّجَها رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين جاءَته تَستَعينُه في كِتابَتِها، وجَعَل صَداقَها رَضي اللهُ عنها أربَعينَ أسيرًا مِن قَومِها، فأعتَقَ النَّاسُ ما بأيديهِم من الأسرَى؛ لمَكانِ جُويريةَ رَضي اللهُ عنها. وأثناءَ الرُّجوعِ من هذه الغَزوةِ تكلَّم أهلُ الإفكِ بما تَكَلَّموا به في حقِّ أُمِّ المؤمنين عائِشةَ رَضي اللهُ عنها، الصِّدِّيقةِ بنتِ الصِّدِّيقِ المُبَرَّأةِ من فَوقِ سَبعِ سمواتٍ. وفيها أيضًا قال ابنُ أبيٍّ ابنُ سَلولَ قَوْلَتَه: "لَئِن رَجَعنا إلى المَدينةِ ليُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ!"، فسَمِعَه زيدُ بن أرقَمَ، ونَزَلت سورةُ "المنافقون".
هو جُنْدُب بن جُنادة أبو ذَرٍّ الغِفاريُّ كان طُوالًا آدمَ، وكان يَتعبَّدُ قبلَ مَبعثِ رسولِ الله. صلَّى الله عليه وسلَّم، وأَسلمَ بمكَّةَ قديمًا، وقال: كنتُ في الإسلامِ رابعًا. ورجَع إلى بلادِ قومِه فأقام بها حتَّى مَضَتْ بدرٌ وأُحُدٌ والخندقُ، ثمَّ قدِم المدينةَ، كان أبو ذَرٍّ شُجاعًا يَنفَرِد وحدَه فيقطعُ الطَّريقَ ويُغِيرُ على الصِّرْمِ كأنَّه السَّبُعُ، ثمَّ إنَّ الله قذَف في قَلبِه الإسلامَ وسمِع بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمكَّةَ فأَتاهُ، تُوفِّيَ أبو ذَرٍّ رضِي الله عنه بالرَّبْذَةِ، وكان قد أَوْصى امْرأَتَه وغُلامَه: إذا مِتُّ فاغْسِلاني, وكَفِّناني, ثمَّ احْمِلاني فَضَعاني على قارعةِ الطَّريقِ، فأوَّلُ رَكْب] يَمُرُّون بكم فقولوا: هذا أبو ذَرٍّ. فلمَّا مات فعلوا به كذلك، فطلَع رَكْبٌ, فما عَلِموا به حتَّى كادت رَكائبهم تَطَأُ سَريرَهُ، فإذا ابنُ مَسعودٍ في رَهْطٍ مِن أهلِ الكوفةِ، فقال: ما هذا؟ فقِيلَ: جِنازةُ أبي ذَرٍّ، فاسْتَهَلَّ ابنُ مَسعودٍ يبكي، ثمَّ غَسَّلوهُ وكَفَّنوهُ وصَلُّوا عليه ودَفَنوه، فلمَّا أرادوا أن يَرتَحِلوا قالت لهم ابنتُه: إنَّ أبا ذَرٍّ يقرأُ عليكم السَّلامَ, وأَقْسَمَ ألَّا تَركبوا حتَّى تَأكُلوا. ففعلوا، وحَمَلوهم حتَّى أَقدَموهُم إلى مكَّةَ، ونَعَوْهُ إلى عُثمانَ رضِي الله عنه فضَمَّ ابنتَه إلى عِيالِه.
كانت الرَّها بيدِ نَصرِ الدَّولة بن مروان، فلمَّا قُتِلَ عَطير الذي كان صاحِبَها، شَفَعَ صالحُ بنُ مرداس، صاحِبُ حَلَب، إلى نَصرِ الدَّولة ليُعيدَ الرَّها إلى ابنِ عطير، وإلى ابنِ شبلٍ، بينهما نِصفَينِ، فقَبِلَ شَفاعَتَه، وسَلَّمَها إليهما، وكان في الرَّها برجانِ حَصينانِ أحَدُهما أكبَرُ من الآخر، فتَسَلَّمَ ابنُ عطير الكبير، وابنُ شبل الصَّغيرَ، وبَقِيَت المدينةُ معهما إلى هذه السَّنة، فراسل ابنُ عطير أرمانوس مَلِكَ الروم، وباعَه حِصَّتَه من الرَّها بعشرينَ ألف دينار، وعِدَّة قُرًى من جملتِها قريةٌ تُعرَفُ إلى الآن بسن ابن عطير، وتسَلَّموا البرُجَ الذي له، ودخلوا البلَدَ فمَلَكوه، وهرب أصحابُ ابنِ شبل من البُرجِ الآخَر، وقَتَل الرُّومُ المُسلِمين، وخَرَّبوا المساجِدَ، وسَمِعَ نَصرُ الدَّولة الخبَرَ، فسَيَّرَ جيشًا إلى الرها، فحصَروها وفتَحوها عَنوةً، واعتصم مَن بها مِن الرُّومِ بالبُرجَينِ، واحتمى النَّصارى بالبيعةِ التي لهم، وهي من أكبَرِ البِيَعِ وأحسَنِها عِمارةً، فحَصَرهم المسلمونَ بها، وأخرَجوهم، وقَتَلوا أكثَرَهم، ونَهَبوا البلدَ، وبَقِيَ الرومُ في البرجين، وسَيَّرَ إليهم عسكرًا نحو عشرةِ آلاف مقاتل، فانهزم أصحابُ ابنِ مَروانَ مِن بينِ أيديهم، ودخَلوا البلدَ وما جاوَرَهم من بلادِ المُسلِمينَ، وصالحهم ابنُ وَثَّاب النميري على حَرَّان وسروج وحمَلَ إليهم خراجًا.
جَمعَ تاجُ الدولةِ تتش جَمْعًا كَثيرًا، وسار عن بغداد، وقَصدَ بِلادَ الرُّومِ أنطاكية وما جاوَرَها، فسَمِعَ صاحِبُ حَلَب، شَرفُ الدولةِ أبو المَكارِم مُسلمُ بن قُريشٍ أَميرُ بَنِي عُقيلٍ الخَبرَ، فخافَهُ، فجَمعَ العَربَ من عُقيلٍ، والأَكرادَ، وغَيرَهم، فاجتَمعَ معه جَمْعٌ كَثيرٌ، فراسَلَ صاحِبَ مصر الفاطميَّ يَطلُب منه إِرسالَ نَجدَةٍ إليه لِيَحصُرَ دِمشقَ، فوَعَدهُ ذلك فسار إليها. فلمَّا سَمِعَ تتش الخَبرَ عاد إلى دِمشقَ، فوَصلَها أَوَّلَ المُحرَّم سَنةَ 476هـ، ووَصلَ شَرفُ الدولةِ أواخِرَ المُحرَّم، وحَصرَ المدينةَ وقاتَلَهُ أَهلُها، وفي بَعضِ الأيامِ خَرجَ إليه عَسكرُ دِمشقَ وقاتَلوهُ، وحَملَ على عَسكرِه حَملةً صادِقةً، فانكَشَفوا وتَضَعْضَعوا، وانهَزمَت العَربُ، وثَبَتَ شَرفُ الدولةِ، وأَشرَفَ على الأَسْرِ، وتَراجَع إليه أَصحابُه، فلمَّا رَأى شَرفُ الدولةِ ذلك، ورَأى أيضًا أنَّ مصر لم يَصِل إليه منها عَسكرٌ، وأَتاهُ عن بِلادِه الخَبرُ أنَّ أَهلَ حران عَصَوا عليه رَحَلَ عن دِمشقَ إلى بِلادِه، وأَظهرَ أنَّه يُريدُ البِلادَ بفِلسطين، فرَحلَ أوَّلًا إلى مرج الصفرِ، فارتاعَ أَهلُ دِمشقَ وتتش واضطَرَبوا، ثم إنَّه رَحلَ من مرج الصفرِ مُشَرِّقًا في البَرِّيَّةِ وجَدَّ في مَسيرِه، فهَلَكَ من المواشي الكَثيرُ مع عَسكرِه، ومن الدَّوابِّ شَيءٌ كَثيرٌ، وانقَطعَ خَلْقٌ كَثيرٌ.
احتَلَّ الفِرنجُ طرابلسَ الغَربِ، وسَبَبُ ذلك أنَّ رجار مَلِك صقليَّةَ جَهَّزَ أسطولًا كبيرًا وسَيَّرَه إلى طرابلُس الغَربِ، فأحاطوا بها برًّا وبحرًا، ثالِثَ المُحَرَّم، فخرج إليهم أهلُها وأنشَبوا القِتالَ، فدامَت الحَربُ بينهم ثلاثةَ أيَّامٍ، فلمَّا كان اليومُ الثَّالثُ سَمِعَ الفِرنجُ بالمدينةِ ضَجَّةً عَظيمةً، وخَلَت الأسوارُ مِن المُقاتِلة، وسَبَبُ ذلك أنَّ أهلَ طرابلُس كانوا قبل وصولِ الفرنجِ بأيَّامٍ يَسيرةٍ قد اختلفوا، فأخرج طائفةٌ منهم بني مطروح، وقَدَّموا عليهم رجُلًا مُلَثَّمًا قَدِمَ يُريدُ الحَجَّ ومعه جماعةٌ، فوَلَّوه أمْرَهم، فلمَّا نازَلهم الفِرنجُ أعادت الطَّائفةُ الأخرى بني مطروح، فوقَعَت الحَربُ بين الطائِفَتينِ، وخَلَت الأسوارُ، فانتهَزَ الفِرنجُ الفُرصةَ ونَصَبوا السَّلالِمَ، وصَعِدوا على السُّورِ، واشتَدَّ القِتالُ فمَلَكَت الفِرنجُ المدينةَ عَنوةً بالسَّيفِ، فسَفَكوا دماءَ أهلِها وسَبَوا نساءَهم، وهرب مَن قَدَر على الهرَبِ، والتجأ إلى البربَرِ والعَرَب، فنودِيَ بالأمانِ في النَّاسِ كافَّةً، فرجع كلُّ من فَرَّ منها، وأقام الفرنجُ سِتَّةَ أشهُرٍ حتى حَصَّنوا أسوارَها وحَفَروا خَندَقَها، ولَمَّا عادوا أخَذوا رهائِنَ أهلِها، ومعهم بنو مطروح والمُلَثَّم، ثمَّ أعادوا رهائِنَهم، ووَلَّوا عليها رجلًا من بني مطروح، واستقامت أمورُ المدينةِ وأُلزِمَ أهلُ صقلية والرُّوم بالسَّفَرِ إليها فانعَمَرت سريعًا وحَسُنَ حالُها.
هو الشَّيخُ جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن إبراهيم الأرموي الإسنوي نزيلُ القاهرة، ولِدَ في العشر الأواخر من ذي الحجة سنة 704. وقدِمَ القاهرة سنة 721 وحَفِظَ التنبيه وسَمِعَ الحديث من الدبوسي والصابوني وغيرهما، وحدث بالقليل، وأخذ العلمَ عن الجلال القزويني، والقونوي، وغيرهما، وأخذ العربية عن أبى حيَّان، ثم لازم بعد ذلك التَّدريسَ والتصنيفَ, فدرَّسَ بالملكية والأقبغاوية والفاضلية، ودرس التفسير بالجامع الطولوني, وصنف التصانيف المفيدة منها: "المهمات والتنقيح فيما يرد على الصحيح" و"الهداية إلى أوهام الكفاية" و"طبقات الشافعية" وغير ذلك. كان فقيهًا ماهرًا، ومعلمًا ناصحًا، ومفيدًا صالحًا، مع البر والدين والتودد والتواضع، وكان يقَرِّبُ الضعيف المستهان به من طَلَبتِه، ويحرص على إيصال الفائدةِ إلى البليد، وله مثابرةٌ على إيصال البر والخير إلى كل محتاجٍ، مع فصاحةِ عبارة وحلاوة محاضرةٍ ومروءة بالغةٍ، كان بحرًا في الفروع والأصول محقِّقًا لِما يقول من النقول، تخرج به الفضلاءُ، وانتفع به العلماء, وقد ولِيَ وكالة بيت المال والحِسبة، ثم عزل نفسه عن الحِسبةِ؛ لكلام وقع بينه وبين الوزير في سنة 762 ثم عزَلَ نَفسَه من الوكالة في سنة 766، وكانت وفاتُه ليلة الأحد ثامن عشر من جمادى الأولى من هذه السنةِ.
ظهر التترُ إلى بلاد الإسلام، وهم نوع كثير من الترك، ومساكنُهم جبالُ طمغاج من نحو الصين، وكان السبب في ظهورِهم أنَّ مَلِكَهم- ويسمى بجنكيزخان، المعروف بتموجين- كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان، وسيَّرَ جماعة من التجار والأتراك، ومعهم شيءٌ كثير من النقرة- قطع مذابةُ من الذَّهب أَو الفِضَّة- وغيرِها، إلى بلاد ما وراء النهر سمرقند وبخارى؛ ليشتروا له ثيابًا للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى أوترا، وهي آخرُ ولاية خوارزم شاه محمد، وكان له نائب هناك، فلما ورد عليه هذه الطائفةُ مِن التَّتَر أرسل إلى خوارزم شاه يُعلِمُه بوصولهم ويذكُرُ له ما معهم من الأموالِ، فبعث إليه خوارزم شاه يأمُرُه بقتلِهم وأخْذِ ما معهم من الأموالِ وإنفاذِه إليهم، فقتلهم، وسيَّرَ ما معهم، وكان شيئًا كثيرًا، فلمَّا وصل إلى خوارزم شاه فرَّقه على تجار بخارى، وسمرقند، وأخذ ثمَنَه منهم، وكان بعد أن ملك ما وراء النهر من الخطا قد سدَّ الطرقَ عن بلاد تركستان وما بعدها من البلادِ، وإنَّ طائفةً من التتر أيضًا كانوا قد خرجوا قديمًا والبلادُ للخطا، فلمَّا ملك خوارزم شاه البلادَ بما وراء النهر من الخطا، قتَلَهم. استولى التتَرُ على تركستان: كاشغر، وبلاساغون وغيرهما، وصاروا يحاربونَ عساكِرَ خوارزم شاه، فلذلك منعَ الميرة عنهم من الكسوات وغيرها، فلما قتَلَ نائبُ خوارزم شاه أصحابَ جنكيزخان أرسل جواسيس إلى جنكيزخان لينظُرَ ما هو، وكم مقدارُ ما معه من الترك، وما يريدُ أن يعمل، فمضى الجواسيسُ، وسلكوا المفازةَ والجبال التي على طريقِهم، حتى وصلوا إليه، فعادوا بعد مدَّةٍ طويلة وأخبَروه بكثرةِ عَدَدِهم، وأنَّهم يخرجون عن الإحصاء، وأنَّهم من أصبر خلقِ الله على القتال لا يعرفونَ هزيمةً، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاحِ بأيديهم، فندم خوارزم شاه على قَتلِ أصحابهم وأخْذِ أموالهم، وكان جنكيزخان قد سار إلى تركستان، فملكها، وأزال عنها التترَ الأولى، فلم يظهر لهم خبَرٌ، ولا بقي لهم أثر، بل بادوا كما أصاب الخطا، وتجهز خوارزم شاه، وسار مبادرًا ليسبِقَ خبره ويكبِسَهم، فأدمن السير، فمضى، وقطع مسيرة أربعة أشهر، فوصل إلى بيوتهم، فلم يرَ فيها إلا النِّساءَ والصبيان والأثقال، فأوقع بهم وغنم الجميع، وسبى النساء والذرية، وكان سببُ غيبة الكفار عن بيوتهم أنَّهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان، فقاتلوه، وهزموه، وغَنِموا أمواله وعادوا، فلَقِيَهم في الطريق الخبر بما فعل خوارزم شاه بمخَلَّفيهم، فجدُّوا السير، فأدركوه قبل أن يخرجَ عن بيوتهم، وتصافُّوا للحرب، واقتتلوا قتالًا لم يُسمَعْ بمثله، فبَقُوا في الحرب ثلاثة أيام بلياليها، فقُتِلَ من الطائفتين ما لا يُعَدُّ، ولم ينهزم أحد منهم، أما المسلمون فإنهم صبروا حميَّةً للدين، وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبقَ للمسلمين باقية، وأنهم يؤخَذون لبُعدِهم عن بلادهم، وأما الكفَّار فصبروا لاستنقاذ أهليهم وأموالهم، واشتدَّ بهم الأمر، حتى إنَّ أحدهم كان ينزل عن فرسِه ويقاتل قرنَه رَجِلًا، ويتضاربون بالسكاكين، وجرى الدمُ على الأرض، حتى صارت الخيلُ تزلق من كثرته، واستنفذ الطائفتان وُسعَهم في الصبر والقتال، هذا القتالُ جميعه مع ابن جنكيزخان ولم يحضُر أبوه الوقعة، ولم يشعرْ بها، فأحصِيَ من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفًا، وأما من الكفَّار فلا يحصى من قُتِل منهم، فلما كان الليلة الرابعة افترقوا، فنزل بعضُهم مقابل بعض، فلما أظلم الليلُ أوقد الكفار نيرانهم وتركوها بحالها وساروا، وكذلك فعل المسلمون أيضًا، كل منهم سَئِمَ القتال؛ فأما الكفار فعادوا إلى مَلِكهم جنكيزخان؛ وأما المسلمون فرجعوا إلى بخارى، فاستعدَّ صاحبها للحصار لعلمه بعجزه؛ لأنَّ طائفة عسكره لم يقدر على أن يظفَرَ بالتتر، فكيف إذا جاؤوا جميعُهم مع ملكهم؟ فأمر أهل بخارى وسمرقند بالاستعداد للحصار، وجمعَ الذخائرَ للامتناع، وجعلَ في بخارى عشرين ألف فارس من العسكر يحمونَها، وفي سمرقند خمسين ألفًا، وقال لهم: احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر وأستنجد بالمسلمين وأعود إليكم.
هو الحافِظُ أبو بكرٍ أَحمدُ بن عليِّ بن ثابتِ بن أَحمدَ بن مَهدِيٍّ، الخَطيبُ البغداديُّ، أَحدُ الحُفَّاظِ الأَعلامِ المَشهورِينَ، صاحبُ ((تاريخ بغداد)) وغَيرِه من المُصنَّفاتِ العَديدةِ المُفيدةِ، وُلِدَ سَنةَ 392هـ، وكان أبوه أبو الحَسنِ الخَطيبُ قد قَرأَ على أبي حَفصٍ الكِتَّانيِّ، وصار خَطيبَ قَريةِ درزيجان، إحدى قُرى العِراقِ، فحَضَّ وَلدَه أبا بكرٍ على السَّماعِ في صِغَرِه، فسَمِعَ وله إحدى عشرة سَنةً، نَشأَ ببغداد، وتَفَقَّهَ على أبي طالبٍ الطَّبريِّ وغَيرِه من أَصحابِ الشيخِ أبي حامدٍ الأسفراييني، وسَمِعَ الحَديثَ الكَثيرَ، ورَحلَ إلى البَصرةِ, ونيسابور, وأصبهان، وهمذان, والشامِ, والحِجازِ. وسُمِّيَ الخَطيبَ لأنه كان يَخطُب بدرزيجان، ولمَّا وقعت فِتنةُ البساسيري ببغداد سَنةَ 450هـ خَرجَ الخَطيبُ إلى الشامِ فأَقامَ بدِمشقَ بالمأذَنةِ الشرقيَّةِ مِن جامِعِها، وكان يَقرأُ على الناسِ الحَديثَ، وكان جَهورِيَّ الصوتِ، يُسمَع صَوتُه من أَرجاءِ الجامعِ كُلِّها، فاتَّفَق أنه قَرأَ على الناسِ يومًا فَضائلَ العبَّاسِ فثَارَ عليه الرَّوافِضُ من أَتباعِ الفاطِميِّين، فأَرادوا قَتْلَه فتَشَفَّعَ بالشَّريفِ الزَّينبيِّ فأَجارَهُ، وكان مَسكَنُه بدارِ العقيقي، ثم خَرجَ من دِمشقَ فأَقامَ بمَدينةِ صور، فكَتبَ شَيئًا كَثيرًا من مُصنَّفاتِ أبي عبدِ الله الصوري بِخَطِّهِ كان يَستَعيرُها من زَوجَتِه، فلم يَزَل مُقيمًا بالشامِ إلى سَنةِ 462هـ، ثم عاد إلى بغداد فحَدَّثَ بأَشياءَ من مَسمُوعاتِه، وله مُصنَّفاتٌ كَثيرةٌ مُفيدةٌ، نحو من سِتِّينَ مُصَنَّفًا، ويُقالُ: بل مائة مُصَنَّف، منها كتاب ((تاريخ بغداد))، وكتاب ((الكفاية))، و((الجامع))، و((شرف أصحاب الحديث))، و((المتفق والمفترق))، و((السابق واللاحق))، و((تلخيص المتشابه في الرسم))، و((اقتضاء العلم للعمل))، و((الفقيه والمتفقه))، وغير ذلك، ويُقال: إن هذه المُصَنَّفات أَكثرُها لأبي عبدِ الله الصوري، أو ابتَدأَها فتَمَّمَها الخَطيبُ، وجَعَلَها لِنَفسِه، قال الذهبيُّ: "ما الخَطيبُ بِمُفْتَقِرٍ إلى الصوري، هو أَحْفَظُ وأَوْسَعُ رِحلةً وحَديثًا ومَعرِفةً" كان الخَطيبُ أولا أَوَّلَ أَمرِهِ يَتكلَّم بمَذهبِ الإمامِ أَحمدَ بن حَنبلٍ، فانتَقلَ عنه إلى مَذهبِ الشافعيِّ. كان مَهيبًا وَقورًا، ثِقَةً مُتَحَرِّيًا، حُجَّةً، حَسَنَ الخَطِّ، كَثيرَ الضَّبْطِ، فَصيحًا، خُتِمَ به الحُفَّاظِ، قال ابنُ ماكولا: "كان أبو بكرٍ آخِرَ الأَعيانِ، ممَّن شاهَدناه مَعرِفةً، وحِفظًا، وإتقانًا، وضَبطًا لِحَديثِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَفَنُّنًا في عِلَلِهِ وأَسانيدِه، وعِلمًا بصَحيحِه وغَريبِه، وفَرْدِه ومُنكَرِه ومَطروحِه، ولم يكُن للبَغداديِّينَ بعدَ أبي الحَسنِ الدَّارقطنيِّ مِثلُه". كان الخَطيبُ يقول: "مَن صَنَّفَ فقد جَعلَ عَقلَهُ على طَبَقٍ يُعرِضُه على الناسِ", "كان للخَطيبِ ثَروةٌ من الثِّيابِ والذَّهبِ، وما كان له عَقِبٌ، فكَتبَ إلى القائمِ بأَمرِ الله قال له: إنَّ مالي يَصيرُ إلى بَيتِ مالٍ، فَأْذَنْ لي حتى أُفَرِّقَهُ فيمَن شِئتُ. فأَذِنَ له، ففَرَّقَها على المُحَدِّثين". تُوفِّيَ يومَ الاثنين ضُحًى، وله ثِنتانِ وسَبعون سَنةً، في حُجرَةٍ كان يَسكُنها بِدَربِ السلسلةِ، جِوارَ المَدرسةِ النِّظاميَّةِ، واحتَفلَ الناسُ بجِنازَتِه، وكان فيمَن حَملَ نَعشَه الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، ودُفِنَ إلى جانبِ قَبرِ بِشْرٍ الحافيِّ.
أبو عبد الله محمد بن عبدالله بن تومرت المصمودي، الهرغي، الخارج بالمغرب. لقَّبه أتباعه بالمهدي، وهو زعيم الموحِّدين ومؤسس دولتهم، قال الذهبي عنه: "المدعي أنه علوي حَسَني، وأنه الإمام المعصوم المهدي، محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن صفوان بن جابر بن يحيى بن رباح بن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب. رحل من السوس الأقصى شابًّا إلى المشرق، فحجَّ وتفقَّه، وحصَّل أطرافًا من العلم، وكان أمَّارًا بالمعروف نهَّاءً عن المنكر، قويَّ النفس، زعرًا شُجاعًا، مَهيبًا قوالًا بالحق، عمَّالًا على المُلك، غاويًا في الرياسة والظهور، ذا هيبة ووقار، وجلالة ومعاملة وتألُّه، انتفع به خلق، واهتدوا في الجملة، وملكوا المدائن، وقهروا الملوك. أخذ عن: الكيا الهراسي، وأبي حامد الغزالي، وأبي بكر الطرطوشي، وجاور سنةً. وكان لهِجًا بعلم الكلام، خائضًا في مزالِّ الأقدام، ألَّف عقيدة لقَّبها (بالمرشدة) فيها توحيد وخير بانحراف، فحمل عليها أتباعه، وسمَّاهم الموحِّدين، ونبز مَن خالف (المرشدة) بالتجسيم، وأباح دمه -نعوذ بالله من الغي والهوى- وكان خَشِن العيشِ فقيرًا، قانعا باليسير، مقتصرًا على زي الفقر، لا لذة له في مأكل ولا منكح،ولا مال، ولا في شيءٍ غير رياسة الأمر، حتى لقي الله تعالى. لكنه دخل -والله- في الدماء لنيل الرياسة المُرْدِية. وكان غرامُه في إزالة المنكر والصدع بالحق، وكان يتبسَّم إلى من لقيه. وله فصاحةٌ في العربية والبربرية، وكان يُؤذى ويُضرَب ويَصبِر، فقَدِمَ المهدية وعليها يحيى بن باديس، فنزل بمسجد مُعلَّق، فمتى رأى منكرًا أو خمرًا كسَّر وبدَّد، فالتفَّ عليه جماعة، واشتغلوا عليه، فطلبه ابنُ باديس، فلما رأى حاله وسمع كلامه، سأله الدعاء، فقال: أصلحك اللهُ لرعيتك. وسار إلى بجاية، فبقي ينكر كعادته، فنُفي، فذهب إلى قرية ملالة، فوقع بها بعبد المؤمن وكان أمرد عاقلًا، فقال: يا شابُّ، ما اسمك؟ قال: عبد المؤمن. قال: الله أكبر، أنت طلبتي، فأين مقصدك؟ قال: طلب العلم. قال: قد وجدتَ العِلمَ والشرف، اصحَبْني. ونظر في حِليتِه، فوافقت ما عنده, وكان في صحبته الفقيه عبد الله الونشريسي، وكان جميلًا نحويًّا، فاتفقا على أن يُخفيَ عِلمَه وفصاحته، ويتظاهرَ بالجَهلِ واللَّكنِ مدةً، ثم يجعَلَ إظهار نفسه معجزةً، ففعل ذلك، ثم عمد إلى ستة من أجلاد أتباعه، وسار بهم إلى مراكش، وهي لابن تاشفين، فأخذوا في الإنكار، فخوَّفوا المَلِك منهم، لكنه لم يسمع منهم لما رأى فيه الديانة", حدثت بينه وبين المرابطين معارك، وكان على مقربة من مراكش، وقد مرض ابن تومرت بعد هذه الوقعة وتوفي في مدينة تينملل من بلاد السوس، وكان مرشحه للخلافة بعده عبد المؤمن.
هو أَصْحَمَةُ بنُ أَبْجَرَ مَلِكُ الحَبشةِ، والنَّجاشيُّ لَقبٌ له ولمُلوكِ الحَبشةِ، ومَعْنى: أَصْحَمَةَ: عَطِيَّةُ، وقِيلَ: عَطِيَّةُ الله، وقِيلَ: عَطاءٌ.
تَوَلَّى الحُكمَ بعدَ مَوتِ عَمِّهِ، وبعدَ سَنواتٍ مِن حُكمِهِ وانْتِشارِ عَدْلِه أَسلمَ في عَهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأَحسنَ إلى المسلمين الذين هاجَروا إلى أَرضِه، قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأَصحابِه عن النَّجاشيِّ: لو خَرجتُم إلى أرضِ الحَبشةِ فإنَّ بها مَلِكًا لا يُظْلَمُ عنده أحدٌ، وهي أرضُ صِدْقٍ، حتَّى يَجعلَ الله لكم فَرَجًا. ولمَّا ماتَ صلَّى عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ صَلاةَ الغائِبِ، فعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَعى لهم النَّجاشيَّ صاحِبَ الحَبشةِ، في اليَومِ الذي مات فيه، وقال: «اسْتَغْفِروا لأَخيكُم». وعن جابرٍ رضي الله عنه: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حين مات النَّجاشيُّ: «مات اليَومَ رَجلٌ صالِحٌ، فقوموا فصَلُّوا على أَخيكُم أَصْحَمَةَ».