وجَّه الملك عبد العزيز بعد دخولِه مكَّةَ دعوةً لمجموعة من العلماء والأعيان فاجتمعوا، فقال يخاطبهم:"إنَّ ديارًا كديارِكم تحتاجُ إلى اهتمامٍ زائدٍ في إدارة شؤونها، وعندنا مَثَلٌ يعرِفُه الناسُ جميعًا: أهلُ مكَّةَ أدرَى بشِعابِها. فأنتم أعلم ببلدِكم من البعيدين عنكم، وما أرى لكم أحسَنَ مِن أن تُلقى مسؤوليات الأعمال على عواتِقِكم، وأريد منكم أن تعَيِّنوا وقتًا تجتَمِعُ فيه نخبةٌ من العلماء والأعيان والتجَّار، وينتَخِبُ كُلُّ صِنفٍ مِن هؤلاء عددًا معيَّنًا كما ترتضون وتقرِّرون، وذلك بأوراق تمضونَها من المجتمعين بأنهم ارتضَوا أولئك النفر لإدارة مصالحهم العامة، والنظرِ في شؤونهم، ثم يستلمُ هؤلاء الأشخاص زمامَ الأمر، فيعيِّنون لأنفسهم أوقاتًا يجتمعون فيها، ويقرِّرون ما فيه المصلحة للبلد، وشكاياتُ الناسِ ومطالبُهم يجب أن يكونَ مرجِعُها هؤلاء النخبةَ من الناس. ويكونون أيضًا الواسطةَ بين الأهلين وبيني، فهم عيون لي وآذانٌ للناس يسمعون شكاويهم وينظرون فيها، ثم يراجعونني، وإني أريد ممن سيجتمعون لانتخاب الأشخاص المطلوبين أن يتحَرَّوا المصلحةَ العامة ويقدِّموها على كل شيء، فينتخبوا أهل الجدارة واللياقة الذين يغارون على المصالح العامة، ولا يقَدِّمون عليها مصالحهم الخاصة، ويكونون من أهل الغَيرة والحميَّة والتقوى، تجِدون بعض الحكومات تجعل لها مجالِسَ للاستشارة، ولكِنَّ كثيرًا من تلك المجالس وهمية أكثَرَ منها حقيقية، تشكَّلُ ليقال إنَّ هنالك مجالسَ وهيئات، ويكون العمل في يدٍ شخصٍ واحدٍ ويُنسَب العمل إلى العموم!! أمَّا أنا فلا أريد من هذا المجلس الذي أدعوكم لانتخابه أشكالًا وأوهامًا، وإنما أريد شكلًا حقيقيًّا يجتَمِعُ فيه رجال حقيقيون يعملون جهدَهم في تحرِّي المصلحة العامة. لا أريد أوهامًا، وإنما أريد حقائقَ. أريد رجالًا يعملون. فإذا اجتمع أولئك المنتَخَبون وأشكل عليَّ أمر من الأمور، رجعت إليهم في حَلِّه وعملتُ بمشورتهم. وتكون ذمتي سالمةً من المسؤوليات، وأريدُ منهم أن يعملوا بما يجِدون فيه المصلحة، وليس لأحدٍ مِن الذين هم أطرافي سلطةٌ عليهم ولا على غيرهم. أريد الصراحة في القول؛ لأن ثلاثةً أكرهُهم ولا أقبلُهم: رجلٌ كذابٌ يكذِبُ عليَّ عن عمدٍ، ورجلٌ ذو هوًى، ورجلٌ متمَلِّقٌ؛ فهؤلاء أبغضُ الناس عندي" فعُقِد بعد ذلك اجتماع أسفر عن انتخاب 12 شخصًا تألف منهم مجلسٌ سمِّي المجلسَ الأهلي، وصدر بيان ملكي عُهِدَ فيه إلى المجلس بالنظر في نظام المحاكِمِ الشرعية، وتدقيق مسائل الأوقاف، ووضْع نظام للأمن الداخلي، وسَنِّ لوائح للبلدية والصحة العامة، ونشر التعليم الديني، وتعميم القراءة والكتابة، وتنظيم التجارة ووسائل البرق والبريد. واستمر العمَلُ في هذا المجلس إلى مطلع عام 1345هـ حيث حُلَّ المجلسُ الأهلي وشُكِّل بدلًا عنه مجلسٌ للشورى.
تَبوكُ مَوضِعٌ بين وادي القُرى والشَّامِ، قال أبو موسى الأَشعريُّ رضي الله عنه: (أَرسلَني أَصحابي إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَسأَلُه الحُمْلانَ لهم إذ هُم معه في جَيشِ العُسْرَةِ، وهي غَزوةُ تَبوكَ..). وحديث أبي موسى رضي الله عنه فيه دِلالةٌ على ما كان عليه الصَّحابةُ مِنَ العُسْرِ الشَّديدِ في المالِ والزَّادِ والرَّكائِبِ، كما رَوى مُسلمٌ أيضًا عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه ما وقع للمسلمين في طَريقِ هذه الغَزوةِ مِن نَقْصٍ في الزَّادِ حتَّى مَصُّوا النَّوَى وشَرِبوا عليه الماءَ، وفي رِوايةٍ أُخرى لمُسلمٍ: أنَّهم اسْتأذَنوا الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم في نَحْرِ مَطاياهُم لِيأكُلوا. وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]. قال ابنُ كَثيرٍ: فعزَم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قِتالِ الرُّومِ؛ لأنَّهم أَقربُ النَّاسِ إليه؛ وأَوْلى النَّاسِ بالدَّعوَةِ إلى الحقِّ لقُربِهِم إلى الإسلامِ وأَهلِه، وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]. وقد بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم وِجْهَةَ هذه الغَزوةِ، فعن مُعاذٍ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (سَتأْتون غدًا إن شاء الله عَيْنَ تَبوكَ، وإنَّكم لن تَأْتوها حتَّى يَضْحى النَّهارُ، فمَن جاءَها مِنكم فلا يَمَسَّ مِن مائِها شيئًا حتَّى آتي). والمشهورُ والرَّاجحُ أنَّ جَيشَ تَبوكَ كان ثلاثين ألفًا، ولكنَّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَلْقَ حَربًا مِنَ الأعداءِ، فرجَع إلى المدينةِ مُنتصِرًا بعدَ أن أقامَ بتَبوكَ عِشرين ليلةً.
كان العباسُ بنُ المأمون مع عَمِّه المعتَصِم في غزوةِ عَمُّورية، وكان عجيفُ بن عنبسة قد نَدَّمَه إذ لم يأخُذ الخلافةَ بعد أبيه المأمونِ، ولامَه على مبايعتِه عَمَّه المعتصِمَ ولم يزل به حتى أجابه إلى الفتك بعمِّه وأخذِ البيعةِ من الأمراء له، وجهَّزَ رجلًا يقال له الحارِثُ السَّمَرقندي وكان نديمًا للعبَّاسِ، فأخذ له البيعةَ مِن جماعةٍ مِن الأمراء في الباطنِ، واستوثَقَ منهم وتقَدَّم إليهم أنَّه يلي الفتكَ بعَمِّه، فلما فتحوا عَمُّوريَّة واشتغل الناسُ بالمغانم، أشار عليه أن يقتُلَه، فوعده مَضِيقَ الدَّربِ إذا رجَعوا، فلما رجعوا فَطِنَ المعتَصِمُ بالخبَرِ، فأمر بالاحتفاظِ وقُوَّةِ الحَرَس وأخذَ بالحَزمِ، واجتهد بالعزمِ، واستدعى بالحارِثِ السَّمرقنديِّ فاستقَرَّه فأقَرَّ له بجُملةِ الأمر، وأخْذِ البيعةِ للعبَّاسِ بنِ المأمون من جماعةٍ مِن الأمراء أسماهم له، فاستكثَرَهم المعتَصِمُ واستدعى بابنِ أخيه العبَّاسِ فقَيَّده وغَضِبَ عليه وأهانه، ثم أظهَرَ له أنه قد رَضِيَ عنه وعفا عنه، فأرسَلَه مِن القيدِ وأطلق سراحَه، فلما كان من اللَّيلِ استدعاه واستحكاه عن الذي كان قد دبَّرَه من الأمر، فشرَحَ له القضيَّةَ، وذكر له القِصَّةَ، فإذا الأمرُ كما ذكر الحارِثُ السمرقندي. فلما أصبح استدعى بالحارثِ فأخلاه وسأله عن القضيَّة ثانيًا فذكَرَها له كما ذكرها أوَّلَ مَرَّة، فقال: وَيحَك، إنِّي كنتُ حريصا على ذلك، فلم أجِدْ إلى ذلك سبيلًا بصِدقِك إيَّأي في هذه القِصَّة. ثم أمر المعتَصِمُ حينئذٍ بابن أخيه العبَّاسِ فقُيِّدَ وسُلِّمَ إلى الأفشين، وأمر بعجيف وبقيَّة الأمراءِ الذين ذكرهم فاحتفظَ عليهم، ثم أخَذَهم بأنواعِ النِّقْمات التي اقتَرَحها لهم، فقتَلَ كُلَّ واحدٍ منهم بنوعٍ لم يَقتُل به الآخرَ، ومات العباسُ بنُ المأمون بمنبج، فدفن هناك، وكان سبَبُ موتِه أنَّه أجاعه جوعًا شديدًا، ثم جيءَ بأكلٍ كثيرٍ، فأكلَ منه وطلَبَ الماءَ فمُنِعَ حتى مات، وأمر المعتَصِمُ بلَعْنِه على المنبرِ وسمَّاه اللَّعينَ.
ارتحل زكرَوَيه من نهر المثنية يريد الحاجَّ، فبلغ السَّلمان، وأقام ينتَظِرُهم، فبلغت القافلةُ الأولى واقصةَ سابِعَ المحرَّم، فأنذرهم أهلُها وأخبَروهم بقرب القرامطة، فارتحلوا لساعتِهم، وسار القرامطةُ إلى واقصة، فسألوا أهلَها عن الحاجِّ، فأخبَروهم أنَّهم ساروا فاتَّهَمهم زكرويه، فقتل العلافةَ، وأحرق العلَف، وتحصَّن أهل واقصة في حِصنِهم، فحصرهم أيامًا ثم ارتحل عنهم نحو زبالة، ولقيَ زكرَوَيه القرمطيُّ قافلةَ الخراسانية بعُقبة الشيطان راجعينَ مِن مكة، فحاربهم حربًا شديدةً، فلما رأى شدةَ حَربِهم سألهم: هل فيكم نائبُ للسلطان؟ فقالوا: ما معنا أحَدٌ. قال: فلستُ أريدكم؛ فاطمأنُّوا وساروا، فلما ساروا أوقع بهم، وقتَلَهم عن آخِرِهم، ولم ينجُ إلَّا الشريد، وسَبَوا من النَّاسِ ما أرادوا وقَتَلوا منهم، وكتب من نجا من الحُجَّاج من هذه القافلةِ الثانية إلى رؤساءِ القافلة الثالثة من الحُجَّاج يُعلِمونهم ما جرى من القرامطة، ويأمرونَهم بالتحَذُّر، والعدولِ عن الجادَّة نحو واسط والبصرة، والرجوعِ إلى فيد والمدينةِ إلى أن تأتيَهم جيوش السلطان، فلم يسمعوا ولم يُقيموا، وسارت القرامطةُ مِن العَقَبة بعد أخذِ الحاجِّ، وقد طموا الآبار والبِرَك بالجِيَف، والأراب، والحجارة، بواقصة، والثعلبية، والعقبة، وغيرها من المناهِل في جميع طريقِهم، وأقام بالهيبر ينتظر القافلةَ الثالثة، فساروا فصادفوه هناك، فقاتَلَهم زكرويه ثلاثة أيام، وهم على غيرِ ماء، فاستسلموا لشدةِ العطش، فوضع فيهم السَّيفَ وقتلهم عن آخرهم، وجمع القتلى كالتَلِّ، وأرسل خلف المنهزمينَ مَن يبذلُ لهم الأمان، فلما رجعوا قتَلَهم، وكان نساء القرامطة يَطُفنَ بالماء بين القتلى يَعرِضْنَ عليهم الماء، فمن كلَّمَهنَّ قَتَلْنَه، فقيلَ إنَّ عدة القتلى بلغت عشرين ألفًا ولم ينجُ إلَّا من كان بين القتلى فلم يُفطَنْ له فنجا بعد ذلك، ومن هرب عند اشتغالِ القرامطة بالقتل والنهب، فكان من مات من هؤلاء أكثَرُ ممَّن سلم ومن استعبدوه، وكان مبلغُ ما أخذوه من هذه القافلة ألفي ألف دينارٍ.
هو أبو منصورٍ محمَّدُ بنُ المعتضد بن طلحة بن المتوكل. أمُّه أمُّ ولدٍ اسمُها فتنة، لَمَّا قُتِلَ المقتَدِرُ أُحضِرَ هو ومحمَّد بن المكتفي، فسألوا ابنَ المكتفي أن يتولَّى، فقال: لا حاجة لي في ذلك، وعمِّي هذا أحَقُّ به، فكلم القاهِر فأجاب، فبويعَ ولُقِّبَ القاهِرَ بالله، فأوَّلُ ما فعَلَ أنْ صادَرَ آلَ المُقتَدِر وعَذَّبهم، وضربَ أمَّ المُقتَدِر حتى ماتت في العذابِ، على الرغمِ أنَّها كانت تُحسِنُ إليه عندما حُبِسَ في بيتها بعد فشَلِ محاولةِ عَزلِ المُقتَدِر عام 317 وتعيينِه خليفةً بدلًا منه. وفي سنة إحدى وعشرين شغَّبَ عليه الجُندُ، واتَّفَقَ مُؤنِسٌ وابن مقلة وآخرون على خَلعِه بابن المكتفي، فتحيَّلَ القاهِرُ عليهم إلى أن أمسَكَهم وذبَحَهم وطيَّنَ على ابنِ المُكتفي بين حائِطَينِ، وأما ابنُ مُقلةَ فاختفى، فأُحرِقَت دارُه، ونُهِبت دورُ المُخالِفينَ، ثم أطلَقَ أرزاقَ الجُندِ فسَكَنوا، واستقام الأمرُ للقاهر، وعَظُم في القلوب، أمَرَ بتحريم القيان والخَمر، وقبَضَ على المغنِّين، ونفى المخانيثَ، وكسَرَ آلات اللهو، وأمر ببيعِ المُغَنِّيات من الجواري على أنَّهن سواذج، وكان مع ذلك هو لا يصحو مِن السُّكرِ، ولا يَفتُرُ عن سَماع الغناء, أهوجَ، سفَّاكًا للدِّماء، قبيحَ السِّيرةِ، كثيرَ التلَوُّنِ والاستحالة، مُدمِنًا للخمر، وفي عام 322 قَتَل القاهِرُ إسحاقَ بنَ إسماعيل النوبختي الذي كان قد أشار بخلافةِ القاهر، ألقاه على رأسِه في بئرٍ وطُمَّت، قيل: إنَّ ذَنبَه أنَّه زايدَ القاهِرَ قبل الخلافةِ في جاريةٍ، واشتراها فحَقَدَ عليه. تحَرَّك الجند عليه؛ لأنَّ أمير الأمراء ابنَ مُقلةٍ كان يوحشُ الجندَ مِن القاهر، ويقول لهم: إنَّه بنى لكم المطاميرَ ليَحبِسَكم، فأجمعوا على الفَتكِ به، فدخلوا عليه بالسُّيوفِ، فهرب، فأدركوه وقَبَضوا عليه وبايعوا أبا العبَّاس محمد بن المُقتَدِر ولقَّبوه: الراضي بالله، كان سببُ خلعِ القاهر سوءَ سيرته، وسَفكَه الدماءَ، فامتنع من الخَلعِ، فسَمَلوا عينيه حتى سالَتا على خَدَّيه، وتعَرَّض لصُنوفٍ من العذاب حتى مات في هذه السَّنةِ.
هو سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب جزيرة ابن عمر، وهو ابن عم نور الدين، صاحب الموصل، قتله ابنه غازي، وسبب ذلك أن سنجر كان سيئَ السيرة غشومًا ظلومًا لرعيته وجندِه وحَرَمِه وولَدِه، كثيرَ القهر لهم والانتقام منهم، فاقِدَ الشفقة على بنيه حتى غرَّب ابنيه محمودًا ومودودًا إلى قلعة فرح من بلاد الزوزان لتوهُّمٍ توهَّمه فيهما, ثم أخرج ابنه غازي إلى دار بالمدينة, ووكل به فساءت حاله، وكانت الدار كثيرة الخشاش فضَجِرَ من حاله, فأعمل غازي الحيلة حتى نزل من الدار التي كان قد حبسه أبوه بها واختفى، ثمَّ إن غازي بن سنجر تسلَّقَ إلى دار أبيه، واختفى عند بعضِ سراريِّه، وعلم به أكثَرُ من بالدار، فسَتَرت عليه بغضًا لأبيه، وتوقعًا للخلاصِ منه لشِدَّتِه عليهن، فبقي كذلك، وترك أبوه الطَّلبَ له ظنًّا منه أنَّه بالشام، فاتفق أنَّ أباه، في بعض الأيام شرب الخمر بظاهرِ البلد مع نُدَمائه، فلم يزل كذلك إلى آخر النهار، وعاد إلى داره، فلما دخل الخلاءَ، دخل عليه ابنه غازي فضربه بالسكينِ أربع عشرةَ ضربةً، ثم ذبحَه، وتركه مُلقًى، فاتفق أن بعض الخدم الصغار خرج إلى البابِ وأعلم أستاذ دار سنجر الخبَرَ، فأحضر أعيان الدولة وعرَّفَهم ذلك، وأغلق الأبوابَ على غازي، واستحلف الناسَ لمحمود بن سنجر شاه، وأرسل إليه فأحضره من قلعةِ فرح ومعه أخوه مودود، فلما حلفَ الناس وسكنوا فتحوا باب الدارِ على غازي، ودخلوا عليه ليأخُذوه، فمانعهم عن نفسِه، فقتلوه وألقَوه على باب الدار، فأكلت الكلابُ بعضَ لحمه، ثم دُفِنَ باقيه، ووصل محمودٌ إلى البلد ومَلَكَه، ولُقِّبَ بمعز الدين، لَقَب أبيه، فلما استقَرَّ عمد الى الجواري اللواتي واطأنَ على قتل أبيه فغرَّقَهن في دجلةَ.
لما انهزم جلال الدين من التتر على آمد نهب التتر سوادَ آمد وأرزن الروم وميافارقين، وقصدوا مدينةَ أسعرد، فقاتلهم أهلُها، فبذل لهم التترُ الأمان، فوَثِقوا منهم واستسلَموا، فلما تمكَّنَ التتر منهم وضَعُوا فيهم السيفَ وقتلوهم حتى كادوا يأتونَ عليهم، فلم يسلَمْ منهم إلَّا من اختفى، وقليل ما هم، ومدَّة الحصار كانت خمسة أيام، ثمَّ ساروا منها إلى مدينة طنزة، ففعلوا فيها كذلك، وساروا من طنزة إلى وادٍ بالقرب من طنزة يقال له وادي القريشية، فيه مياه جارية، وبساتين كثيرة، والطريق إليه ضيق، فقاتلهم أهل القريشية، فمنعوهم عنه، وامتنعوا عليهم، وقُتل بينهم كثيرٌ، فعاد التتر ولم يبلغوا منهم غرضًا، وساروا في البلاد لا مانع يمنَعُهم، ولا أحدَ يقِفُ بين أيديهم، فوصلوا إلى ماردين فنهبوا ما وجدوا من بلدها، واحتمى صاحِبُ ماردين وأهل دنيسر بقلعة ماردين، وغيرهم ممن جاور القلعة احتمى بها أيضًا، ثم وصلوا إلى نصيبين الجزيرة، فأقاموا عليها بعضَ نهار، ونهبوا سوادَها وقتلوا مَن ظَفِروا به، وغُلِّقَت أبوابها، فعادوا عنها، ومَضَوا إلى بلد سنجار، ووصلوا إلى الجبال من أعمال سنجار، فنهبوها ودخلوا إلى الخابور، فوصلوا إلى عرابان، فنَهَبوا وقتلوا وعادوا، ومضى طائفة منهم على طريق الموصل، فوصل القومُ إلى قرية تُسمَّى المؤنسة، وهي على مرحلة من نصيبين، بينها وبين الموصِل، فنهبوها واحتمى أهلُها وغيرهم بخان فيها، فقَتَلوا كلَّ من فيه، ومضى طائفةٌ منهم إلى نصيبين الروم، وهي على الفرات، وهي من أعمال آمد، فنهبوها وقتلوا من فيها، ثم عادوا إلى آمد، ثم إلى بلد بدليس، فتحصَّن أهلها بالقلعة وبالجبال، فقتلوا فيها يسيرًا، وأحرقوا المدينةَ، ثم ساروا من بدليس إلى خلاط، فحَصَروا مدينة من أعمال خلاط يقال لها: باكرى، وهي من أحصن البلاد، فملكوها عنوةً، وقتلوا كلَّ من بها، وقصدوا مدينة أرجيش من أعمال خلاط، وهي مدينة كبيرة عظيمة، ففعلوا كذلك.
لم تنجح محاكم التفتيش التي أقامها الصليبيون الإسبان ولا الأساليب التي اتبعوها في إجبار المسلمين على ترك دينهم كما تريد الكنيسة التي أدركت مدى عمق الإيمان بالعقيدة الإسلامية في نفوس الموريسكيين، فقررت إخراجهم من إسبانيا، فأصدر مجلس الدولة بالإجماع في (30/1/1608م) قرارًا بطرد جميع الموريسكيين من إسبانيا، ولم يحُلَّ شهر أكتوبر عام (1609م) حتى عمَّت موانئَ المملكة وبلنسية من لقنت جنوبًا إلى بني عروس شمالًا حركةٌ كبيرة، فرحل بين (9/1606م) إلى (1/1610م) نحو 120 ألف مسلم من موانئ لقنت ودانية والجابية ورصافة وبلنسية وبني عروس وغيرها, وفي (5/1611م) صدر قرار إجرامي للقضاء على المتخلِّفين من المسلمين في بلنسية، يقضي بإعطاء جائزة ستين ليرة لكل من يأتي بمسلم حي، وله الحق في استعباده، وثلاثين ليرة لمن يأتي برأس مسلم مقتول، وقد بلغ عدد من طُرِد من إسبانيا في الحقبة بين سنتي (1609 و1614م) نحو 327 ألف شخص، مات منهم 65 ألف غرقًا في البحر، أو قُتلوا في الطرقات، أو ضحية المرض والجوع والفاقة، وقد استطاع 32 ألف شخص من المطرودين العودة إلى ديارهم في الأندلس، بينما بقي بعضهم متسترًا في بلاده بعد الطرد العام لهم، وقد استمرَّ الوجود الإسلامي بشكل سري ومحدود في الأندلس في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وهكذا حكمت محاكم التفتيش في غرناطة سنة (1726م) على ما لا يقل عن 1800 شخص، بتهمة اتباع الدين الإسلامي، وفي (9/5/1728م) احتفلت غرناطة بأوتوداف ضخم؛ حيث حكمت محاكم التفتيش على 64 غرناطيًّا بتهمة الانتماء للإسلام، وفي (10/10/1728م) حكمت محكمة غرناطة مرة أخرى على ثمانية وعشرين شخصًا بتهمة الانتماء إلى الإسلام، وتابعت محاكم غرناطة القبض على المتهمين بالإسلام إلى أن طلبت بلدية المدينة من الملك سنة (1729م) طرد كل الموريسكيين حتى تبقى المملكة نقية من الدم الفاسد.
كانت وقعةُ دلقة من غير رضاء أمير العُيينة ابن معمر ولم يشاوَرْ فيها؛ لذلك لم يحضُرْها. يقول ابن غنام: "لما رأى ابنُ معمر عودةَ الجماعة من الحرب خَشِيَ أن ينكشف نفاقُه وأن تظهر خيانته, فأرسل إلى الشيخ وإلى محمد بن سعود يستشفع إليهما, ويطلب منهما الصفحَ عن تخلُّفِه، فقبلا عذره رجاءً منهما ألا يعودَ إلى مكره, ثم قَدِمَ عليهما ومعه وجوهُ أهل حريملاء والعُيينة، وعاهدهما على الجهاد والقيام بنصرة الدين، ولو في أي مكان, فتوهَّما فيه الصدق والوفاء، فرأَّسوه ورفعوه على المسلمين وأمَّروه, وكان من أعظم ما أظهر نفاق عثمان بن معمر أنَّه أرسل إلى إبراهيم بن سليمان أمير ثرمداء وأمَرَه أن يركب إلى دهام بن دواس مع جماعتِه ويزين له الاتِّفاقَ مع عثمان والقدوم عليه إلى العُيينة على أن يُظهِرَ في أحاديثه بمجالِسِه أنه اهتدى وانضم إلى الجماعة, فقدم مع دهام مع إبراهيم بن عثمان، وكان ذلك من غير مشورة الشيخ وابن سعود، فحين رأى أهل العيينة دهامًا وعَلِموا بما حدث شَقَّ عليهم ذلك واجتمعوا جميعًا وساروا إلى عثمان, فلما رأى حالَهم مَوَّه عليهم وقال لهم: ليس لي مرادٌ إلا الإرسال للشيخ ليحضُرَ عقد الصلح ويدخُلَ دهام في دائرة الإسلامِ، فاطمأنت نفوسُ القوم, ثم أرسل إلى الشيخ وألحَّ عليه في القدوم، ولكن الله ألقى في رُوعِ الشيخ ما استبان به خيانةَ عثمان وغدره، فامتنع عن الذهاب فلمَّا رجع الرسول وأخبرهم بذلك عرف أهل البلد مكرَ عثمان، فحصروا ابن دواس في القصرِ وهَمُّوا أن يفتكوا به، لكن دهام هرب منهم تحت جنح الظلام، وعاد إبراهيم بن سليمان إلى ثرمداء وفارق منهج الحق, وكان هذا كلُّه قبل أن يفِدَ عثمان على الشيخ وابن سعود ويأخذ منهما العهد المجدد, ولكنه مع ذلك لم يخلِصِ النية ولم يعقِدْ على الوفاء، وسيتبين غدرُه "
في ليلةِ عشرين من رمضان أنزل اللهُ من الغيث العظيم على نجدٍ، فسالت منه الوديان، وضاقت من جَورِ سَيلِه الشعبان، وعمَّ جميع الأوطان والبلدان حتى أشفقوا من الغرق، فتضَرَّعوا إلى الله خوفًا من الغرق، فكان هذا السيلُ رحمة من الله للعباد والبلدان، وإنقاذًا من بعد السنين الشداد، فجرى به كلُّ وادٍ، وكان قد مضى على وادي سدير نحو أربع عشرة سنة ما عَمَّ بلدانَه سَيلُه، وغارت آبارُه وهلك كثيرٌ من نخله، فأخذ وادي منيخ أكثَرَ من خمسة أيام وجرت الأودية كلُّها بسيلٍ لم يُعرَفْ مِثلُه منذ أعوام، ونزل على الوشم مسيلٌ عظيم لم يُعرَف له نظير منذ ثلاثين سنة، حتى قيل: إن وادي بلد القرابين شال صخرةً عظيمة في مجراه ولا يدري أحد أين رماها، وجرى وادي حنيفة وخرب العامِرَ وخرب السيل في الفرع والخرج والجنوب، وجعل كلَّ عامرٍ
دامرًا، وعم الضِّرابَ والآكامَ، وابتهج به جميعُ الأنام، وهذه المنة الجسيمة كلها في هذه الليلة العظيمة، وذلك في الوسمي لسبعٍ مضين من حلول الشمس برج العقرب، وكان الناس في غاية الضعفِ مِن قلة البَذرِ وقِلَّة العوامل والرجال بعد سنين القحط، والوقت الشديد والجَدب المبيد، وغَور الآبار، وموت النخيل والأشجار، حتى جلا أهلُ البلدان ولم يبقَ في كُلِّ بلد إلا عُشرُ أهلِها، وتتابعت المصائب عليها، وتشتَّت شَملُها وتفَرَّقوا في الأقطارِ، وأكثَرُهم جَلَوا إلى البصرة وما حولها من الديار، ودام هذا الوقتُ كلَّ سنة بزيادةِ شِدَّةٍ إلى أن مضت تسعُ سنين، فأنزل الله لهم هذه السنة هذا السيلَ العظيم البركة، فكانوا على أوفَقِ التيسير في البَذرِ والعوامل والمحترفين، وسخَّر الله الغنيَّ للفقير، والمستأجِرَ للأجير، والمُعير للمستعير، حتى لم يحتَجْ حاجةً أحدٌ تلجِئُه إلى ترك الزرع، فضاقت كلُّ بلد بزروع أهلها، وزرعوا وَعْرَها وسهلها، وأعشبت الأرض من أوانها، وأربعت المواشي في وسط بلدانها وتزخرفت.
هو فلاح بن مانع بن حثلين العجمي أميرُ قبيلة العجمان، قام في السنة الماضية ومعه بعض العُجمان وعربان من سبيع بالغارة على حاجِّ الأحساء والقطيف والبحرين وسيف البحر، فطلبه الإمام فيصل بن تركي ففَرَّ إلى ديرة بن خالد، فأجلى الإمام فيصل العجمانَ من ديرة بني خالد، ففَرَّ ابن حثلين إلى محمد بن هاد بن قرملة بعد أن انسلخ منه العجمان وتبرؤوا منه، ثم إنَّ فلاح بن حثلين قام يدير الرأيَ في الحيلة للرجوعِ إلى ديرة بني خالد، ووقع في نفسِه أنَّه لا يَقدِرُ على ذلك إلَّا بمصافاة الدويش وأتباعه، فرحل من مكانِه وقصَدَهم في ديرة بني خالد، ومعه قطعةٌ قليلة من العجمان، فنزل على منديل بن غنيمان رئيسِ من الملاعبة من مطير، وطلبه أن يجيره ويجمع بينه وبين الدويش، فأبى ابن غنيمان وقال: لا نقدِرُ على ذلك، ونحن بيدِ الإمام فيصل، ولا يجسرُ يجيرُ عليه أحد، وأرسل منديل إلى الحميدي الدويش وأخبره بالأمر، فركب من ساعته بعَدَدِه وعُدَّتِه وألفى عند ابن غنيمان ورحل معه بابن حثلين ومن تَبِعَه وأدخلهم مع عُربانه، وأرسل إلى فيصل يخبره، وركب وافدًا عليه ومعه رؤساء قومِه فلما دخلوا على الإمام ذكَرَ لهم ما فعل ابن حثلين بالمسلمين، وقال: لا بدَّ من إمساكه وأخْذِه من عندكم وأخذ الثأر منه للمسلمين، وألزمه بذلك فلم يجِدْ بدًّا من طاعته، فأمر الإمامُ على رجال من خدَّامه يركبون معهم ويأخذون ابن حثلين من عند الدويش، وقصدوا به الأحساءَ وأدخلوه قصرَ الكوت عند أحمد السديري، فقطعوا رأسَه، وعندما قُتِلَ فلاح بن حثلين خلفه أخوه العجمان الشيخ حزام بن حثلين عمُّ راكان بن فلاح حوالي خمسة عشرة عامًا في زعامة قبيلة العجمان، ثم تنازل عن زعامته لابن أخيه الشيخ راكان بن فلاح بن حثلين، عام 1276هـ.
هو الإمامُ العلَّامة الفقيه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان بن خميس، الملقَّب كأسلافه أبا بُطَيْن -بضم الباء وفتح الطاء وسكون الياء- من عوائل قحطان، العائذي نسبًا، الحنبلي مذهبًا، النجدي بلدًا، فقيه الديار النجديَّة في عصرِه، وإمامٌ من أئمة العلم في زمنه, ولِدَ الشيخ في بلدة الروضة من بلدان سدير، لعشر بقين من ذي القعدة سنة 1194هـ, ونشأ بها وقرأ على عالمها محمد بن الحاج عبد الله بن طراد الدوسري الحنبلي، فمَهَر في الفقه، ثم رحل إلى شقراء عاصمةِ الوشم بنجد واستوطنها، وقرأ على قاضيها الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله الحُصين تلميذِ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، قرأ عليه في التفسير والحديث والفِقهِ وأصول الدين، حتى برع في ذلك كله، وأخذ عن العلَّامة أحمد بن حسن بن رشيد العفالق الأحسائي الحنبلي، وعن الشيخ العلامة حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر التميمي. رحل إلى الشام، ثمَّ عاد في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، فولَّاه قضاء الطائفِ، وبقي فيها مدة ثم رجع إلى شقراء وصار قاضيًا لها ولجميع بلدان الوشم، ولَمَّا تولى الإمام فيصل الحكمَ رغب إليه أهلُ القصيم أن يبعَثَ إليهم الشيخ أبا بطين قاضيًا لهم ومدرسًا، فبعثه الإمام فيصل وبَقِيَ عندهم إلى سنة 1370هـ حين رجع من عنيزة إلى شقراء، ومكث فيها إلى أن توفي فيها سنة 1383هـ. له "مجموعة رسائل وفتاوى" و"مختصر بدائع الفوائد" و"الانتصار للحنابلة" و"تأسيس التقديس في كشف شبهات ابن جرجيس". وقد أخذ عنه العلمَ بالقصيم وشقراء كثيرٌ من طلبة العلم.
وقفت الدولةُ العثمانية في الحرب إلى جانب دول المحور، بينما أعلن الشريف حسين الثورةَ على الدولة العثمانية ووقف إلى جانب دول الحلفاء، وتمكنت قواتُ الشريف حسين مدعومةً من قوات الحلفاء -وخاصة بريطانيا- من السيطرة على معظم بلاد الحجاز عدا المدينة، فحوصرت حصارًا يعدُّ واحدًا من أطول الحصارات في التاريخ؛ حيث استمَرَّ الحصار لمدة سنتين وسبعة أشهر حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكان والي المدينة هو فخري باشا أحد قادة الاتحاديين نائب جمال باشا قائد الفيلق الرابع في الشام، كان يتبَعُ فخري باشا جيشٌ مجهَّز بالأسلحة الخفيفة والمدفعيَّة التقليدية، وأثناء حصار المدينة هجر معظم أهالي المدينة المنورة، فلحق بعضُهم بالبدو حول المدينة، أو بمدن حجازية كمكة وجدة وينبع، ومنهم من ارتحل إلى حائل، بينما لحِقَ بمصر والشام والعراق وتركيا والهند واليمن، ولعب قطار الحجاز دورًا كبيرًا في نقل المدنيين إلى بلدان آمنة، وبعد هزيمة الدولة العثمانية واستسلامها للحلفاء صدرت الأوامِرُ لفخري باشا من استانبول بتسليمِ المدينة فرفض الاستسلامَ، واستمَرَّ في المقاومة نحو خمسة أشهر إلا أنه اضطر بعدها للاستسلام بعد أن سلم قيادةَ المدينة إلى قائد الفوج العثماني في المدينة، والذي استسلم بدوره لقوات الثوار العرب، ثم خرج فخري باشا بقواته البالغ عددهم 8000 جندي إلى معسكر القوات المحاصرة خارج المدينة في بير درويش بالفريش، وسلَّم نفسه لهم فاستقبله الشريف عبد الله بن الحسين فأكرمه، ثم أرسله إلى مصر حيث اعتُقِلَ فيها، وبعد استسلام الحامية العثمانية في المدينة لقوات الأشراف عاد بعضُ من تم تهجيرُهم من أهل المدينة إلى المدينة، في حين أن بعضَهم فُقد أو مات في دار هجرتِه، أو فضَّل البقاء هناك، أو عجز عن العودة إلى المدينة، وفقد كثيرٌ من الأهالي أموالهم وبيوتهم.
قامت الثورة البلشفية في روسيا عام 1335هـ / 1917م، حيث تظاهر العمَّالُ نتيجة المفاسد وانهيار الأوضاع الاقتصادية وكثرة البطالة، فتشكَّلت حكومةٌ مؤقتة اشترك فيها الاشتراكيون والحزب الديمقراطي الدستوري، كان من نتيجتها تنازُلُ القيصر نقولا الثاني عن العرش لأخيه الأكبر ميخائيل، الذي سرعان ما تنازل هو أيضًا، وخوَّل الحكومةَ المؤقَّتة تسييرَ شؤون البلاد، ولم يجِدِ المسلمون لهم ناصرًا بين الروس، وقد حضروا المؤتمرات وأسَّسوا الجمعيات، لكن دون جدوى، ثم عاد لينين إلى روسيا في جمادى الأولى من العام نفسه / آذار 1917م بعد أن كان في سويسرا، وأخذ ينادي بمبدأ تقرير المصير للأقليَّات؛ ممَّا حدا ببعض المسلمين الانضمام لهذه الثورة البلشفية، بدافِعِ كرههم للروس وما فعلوه بهم، واتحد الزعماءُ المسلِمون المؤيِّدون وقرروا في مؤتمر موسكو التوفيقَ بين الإسلام والاشتراكية!، ثم أعطى لينين عام 1336هـ / 1917م أوامِرَه بصراحة لجماعته البلاشفة، فتسلَّموا السلطة دون مقاومة، ودعمها الطلاب الضبَّاط في الكلية الحربية ثم تشكَّلت الحكومة الجديدة برئاسة لينين، وهرب رئيس الحكومة المؤقتة، ثم تمَّ تأميمُ الأراضي وطلب الصلح فورًا مع الألمان، وتمَّ إلغاء المِلْكية الشخصية، ووقف المسلمون بجانب البلاشفة، أما تركستان فقد أعلنت استقلالَها بعد الانقلاب البلشفي حيث أعلن مجلِسُ الشعب الإسلامي في مدينة خوقند استقلالَ تركستان الذاتي، فسار إليها سوفييت طاشقند فاقتحموا المدينةَ ونهبوها وحرَّقوها وقَتَلوا أكثَرَ من مئة ألف من سكانها، وأما شمال القفقاس أو القوقاز فأعلن اتحادُ الجبلين أن بلادَ القفقاس جزءٌ من روسيا البيضاء، أما الداغستان والشيشان فأعلنوا قيامَ حكومة مستقلة، وأما أذربيجان فتأخَّر صدامُهم مع البلاشفة لِبُعدِ الشُّقَّة، ولكن بعد أن وقع جرت المذابِحُ التي ذهب ضحيَّتها ثلاثة آلاف مسلم، وهكذا لم يبق للمسلمين نفوذٌ ولا سلطةٌ إلا في أربعة مراكز، هي: داغستان، وشيشان، وحكومة غاندكا في أذربيجان، وإمارة بخارى، وإمارة خوارزم.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى توقَّعت إنجلترا بدءَ مستعمراتها في طلب الاستقلال، فأخذت تظهِرُ اللينَ، وأبدت استعدادَها للموافقة، وأوحت إلى سعد زغلول ورفاقه بالتحرك، فبدأ في عقد اجتماعات ولقاءات أسفرت عن طلب الاستقلالِ، وتم تشكيلُ وفد للسفر إلى الخارج لعرض القضية على العالم، وتشكَّل هذا الوفد من سعد زغلول، وعلي شعراوي، وعبد العزيز فهمي، وطلبوا مقابلةَ المندوب السامي البريطاني «وينجت» وطلبوا منه السماح لهم بالسفر إلى إنجلترا؛ لعرض طلباتهم باستقلال مصر، فرفض المندوبُ ذلك الطلب، فاستعدَّ سعد زغلول ورفاقُه إلى السفر إلى جهة أخرى، وهي باريس؛ وذلك لعرض قضية مصر على مؤتمر الصلح، فاعتبرت إنجلترا هذا تمردًا منهم، فألقت القبضَ عليهم، ومعهم آخرون، منهم: محمد محمود، وحمد الباسل، وإسماعيل صدقي، ثم ما لبثت أن أفرجت عنهم، فلما لم يحقِّقْ هذا القبضُ الهدفَ منه -ألا وهو أن يُتوَّجَ هؤلاء زعماءَ جُددًا لمصر- وكان مصطفى كامل وخليفته محمد فريد ما زالا يمثِّلان الزعامة الوطنية للمصريين، قامت إنجلترا بالقبضِ عليهم مرة أخرى ونفيِهم إلى مالطة. وعندما وصلت أخبار النفي للشعب المصري ثار ثورةً عارمة يملؤها الإحساسُ بالعدوان والطغيان الصليبي الذي أرهق المصريين لسنوات طويلة، وبدأت الثورةُ يوم 7 جمادى الآخرة 9 مارس بتظاهُرِ طلبة كلية الحقوق والهندسة والزراعة والطب والتجارة، وتصدى الجنودُ الإنجليز للمظاهرات، وأوقعوا عددًا كبيرًا من القتلى والجرحى. امتدت الثورةُ بعد ذلك لتشمل جميعَ شرائح وقطاعات الشعب المصري من محامين وعمال وموظفين وصحفيين ونساء، وتحوَّلت من ثورة سِلمية إلى ثورة عنيفة وقعت خلالها أعمالُ تخريب وسلب ونهب، ونجحت الثورةُ في تحقيق أهدافها الخفيَّة، وأصبح سعد زغلول هو زعيمَ الأمة المتحَدِّث باسمها؛ ليبدأ فصلًا جديدًا في مصرَ تختفي فيه الشعاراتُ والهُوية الإسلامية، وتحلَّ محلَّها الوطنيةُ والقوميَّةُ!!