هاجت الفتنةُ بدِمشقَ بين المُضَريَّة واليمانية، وكان رأس المضرِيَّة أبو الهيذام، واسمُه عامر بن عمارة بن خريم أحَد الفُرسان المشهورين، وكان سببُ الفتنة أنَّ عامِلًا للرشيد بسجستان قَتَل أخًا لأبي الهيذام، فخرج أبو الهيذامِ بالشام، وجمعَ جمعًا عظيمًا فرثى أخاه بأبياتٍ، ثمَّ إنَّ الرشيد احتال عليه بأخٍ له كتَبَ إليه فأرغَبَه، ثم شَدَّ عليه فكَتَّفه، وأتى به الرشيدَ، فمَنَّ عليه وأطلقه. وقيل: كان أوَّل ما هاجت الفتنةُ في الشام أنَّ رجُلًا من بني القين اقتتل مع رجلٍ مِن لخم أو جذام، فقُتِلَ رجلٌ من اليمانية، وطلبوا بدَمِه، فاجتمعوا لذلك، وكان على دمشق حينئذ عبدُ الصمد بن علي، فلمَّا خاف الناسُ أن يتفاقمَ ذلك اجتمع أهلُ الفَضلِ والرؤساءُ ليُصلِحوا بينهم، فأتوا بني القين فكَلَّموهم، فأجابوهم إلى ما طلَبوا فأتوا اليمانية فكلَّموهم، فقالوا: انصَرِفوا عنا حتى ننظُرَ، ثم ساروا فبيَّتوا بني القين، فقَتَلوا منهم ستَّمائة، وقيل ثلاثمائة، فاستنجَدَت القين قضاعة وسليحا فلم ينجدوهم، فاستنجدت قيسًا فأجابوهم، وساروا معهم إلى الصواليك من أرض البلقاء، فقتلوا من اليمانية ثمانمائة، وكثُرَ القتال بينهم فالتَقَوا مرَّات. وعُزِل عبد الصمد عن دمشق، واستُعمِلَ عليها إبراهيم بن صالح بن علي، فدام ذلك الشَّرُّ بينهم نحو سنتين، والتقَوا بالبثنية، فقُتِلَ من اليمانية نحوُ ثمانمائة، فأعادوا أيامَ الجاهلية، وقد هُدِّمَ سور دمشق حين ثارت الفتنةُ؛ خوفًا من أن يتغلب عليها أبو الهيذام المزِّي رأسُ القيسية، فلمَّا تفاقم الأمرُ بعث الرشيدُ مِن جهته موسى بن يحيى بن خالد ومعه جماعةٌ مِن القُوَّاد ورؤوس الكُتَّاب، فأصلحوا بين الناسِ، وهدأت الفتنةُ واستقام أمرُ الرعيَّة، وحملوا جماعاتٍ من رؤوس الفتنة إلى الرشيد، فرَدَّ أمرَهم إلى يحيى بن خالد، فعفا عنهم وأطلَقَهم.
هو أبو إسحاقَ محمَّد المعتَصِم بالله بن هارون الرَّشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ثامِنُ الخُلَفاءِ العباسيِّينَ، وُلِدَ سنة 179ه يوم الخميسِ لثماني عشرة مَضَت من ربيع الأول، بُويع بالخلافةِ يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلةً بَقِيَت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، وبعد ذلك بأيَّامٍ اجتمع جماعةٌ من الجند وشغَّبوا وتحدَّثوا في بيعةِ العبَّاسِ بنِ المأمونِ وأظهروا خلافَ المعتَصِم، ومَضَوا بأسْرِهم إلى مضارِبِ العبَّاسِ فخرج إليهم وقال لهم: أيَّ شيءٍ تُريدونَ منِّي؟ قالوا: نبايعُك بالخلافةِ، قال: أنا قد بايعتُ عمِّي ورَضيتُ به، وهو كبيرى وعندي بمنزلةِ المأمونِ، فانصرفوا خائبينَ، واستمَرَّت في عهدِه فِتنةُ القَولِ بخَلقِ القُرآن, وإنَّما حثَّ المعتَصِمَ على ذلك وحمَلَه على ما فعل به أحمَدُ بنُ أبى دؤادَ؛ لأنَّه كان معتزليًّا، وكان الإمامُ أحمدُ إمامَ السُّنَّة. وحين أحضَرَه المعتَصِم بين يديه سلَّم وتكلَّم بكلامٍ أعجب النَّاسَ، فالتَفَت المعتَصِمُ إلى ابنِ أبى دؤاد، وقال: ذكرتُم أنَّ الرجُلَ عامِّيٌّ، وأراه يذكُرُ بَيتًا قديمًا وشهد له كلُّ من حضر بأنَّه مِن سُراةِ بني شَيبانَ، ثمَّ قال: وذكَرْتُم لي أنَّه جاهِلٌ، وما أراه إلَّا مُعرِبًا فَصيحًا، فأكرَمَ الإمامَ أحمدَ. وكان الإمامُ أحمَدُ بنُ حنبل إلى أن مات يُثني على المعتَصِم ويذكُرُ فِعلَه به ويترحَّمُ عليه. غزا المعتَصِمُ مدينةَ عَمُّوريَّة، وهي من أعظَمِ مُدُنِ الرُّوم كالقُسطنطينيَّة لرَدِّ عدوانِ مَلِك الرومِ على المسلمينَ في زبطرة، فكانت غزوةً مشهورةً نصر اللهُ فيها الإسلامَ والمُسلِمينَ، وكان بدءُ عِلَّتِه أنَّه احتجم أوَّلَ يومٍ في المحَرَّم، واعتَلَّ عِندَها،وكانت خلافتُه ثماني سنينَ وثمانية أشهُر ويومين، وتوفِّيَ بمدينةِ سامِرَّاء.
كانت أذربيجان بيَدِ ديسمَ بنِ إبراهيمَ الكُرديِّ، وكان مُعظَمُ جيوشِه الأكراد، إلَّا نفرًا يسيرًا من الديلم، من عسكرِ وشمكير، أقاموا عنده حين صَحِبوه إلى أذربيجان، ثمَّ إنَّ الأكراد تقَوَّوا، وتحكَّموا عليه، وتغلَّبوا على بعضِ قلاعِه وأطرافِ بلاده، فرأى أن يستظهِرَ عليهم بالدَّيلم، فاستكثر ذلك منهم، وكان وزيرُه أبا القاسم علي بن جعفر، وهو مِن أهل أذربيجان، فسعى به أعداؤه، فأخافه ديسم، فهرب إلى محمَّد بن مسافر بن السلار، فلما وصلَ عليُّ بن جعفر إلى ابنِ مسافر رأى ابنيه هسوذان والمرزبان قد استوحشا من والدِهما، واستوليَا على بعضِ قلاعه، وكان سببُ وَحشتِهما منه سوءَ معاملتِه معهما ومع غيرِهما، ثمَّ إنهما قبضا على أبيهما محمَّد بن مسافر، وأخذا أموالَه وذخائِرَه، وبقِيَ في حصنٍ آخَرَ وحيدًا فريدًا بغيرِ مالٍ ولا عُدَّة، فرأى عليُّ بن جعفر الحالَ فتقَرَّبَ إلى المرزبان وخَدَمِه وأطمَعَه في أذربيجان، وضَمِنَ له تحصيلَ أموال كثيرةٍ يَعرِفُ هو وجوهَها، فقَلَّدَه وزارتَه، وكان عليُّ بن جعفرٍ مِن دعاة الباطنية، والمرزبان مشهورٌ بذلك، وكان ديسم يذهَبُ إلى مذهَبِ الخوارج في بُغضِ عليٍّ- رضي الله عنه- فنفَرَ عنه مَن عِندَه من الديلم، وابتدأ عليُّ بن جعفر فكاتبَ مَن يعلم أنَّه يستوحِشُ من ديسم يستميلُه، إلى أن أجابه أكثَرُ أصحابِه، وفسَدَت قلوبُهم على ديسم، وخاصَّةً الديلم، وسار المَرزبان إلى أذربيجان، وسار ديسم إليه، فلما التقَيَا للحرب عاد الدَّيلم إلى المرزبان، وتَبِعَهم كثيرٌ من الأكرادِ مستأمِنينَ، فحمَلَ المرزبان على ديسم، فهرَبَ في طائفةٍ يسيرةٍ مِن أصحابه إلى أرمينيَّة، واعتصَمَ بحاجيق بن الديراني؛ لمودًّةٍ بينهما، فأكرمه واستأنف ديسم يؤلِّفُ الأكراد، وكان أصحابُه يشيرون عليه بإبعادِ الديلم لمخالفتِهم إيَّاه في الجنسِ والمذهب، فعصاهم ومَلَك المرزبان أذربيجان، واستقام أمرُه إلى أن فسَدَ ما بينه وبين وزيرِه عليِّ بن جعفرٍ.
كان عبد الرحمن بن معاوية قد انتقل إلى بلاد المغرب؛ فرارًا من عبد الله بن عليِّ بن عبد الله بن عباس، فاجتاز بمن معه من أصحابِه الذين فرُّوا معه بقومٍ يقتتلون على عصبيَّة اليمانية والمُضَرية، فبعث مولاه بدرًا إليهم فاستمالهم إليه، فبايعوه ودخل بهم ففتح بلادَ الأندلس واستحوذ عليها، وانتزعها من يوسف بن عبد الرحمن الفهري آخر ولاة بني أمية في الأندلس، والذي جمع جيشًا فيما بعد، وأعلن العصيانَ وأراد غزو قرطبة، فسار إليه عبد الرحمن وهزمه وقتله، وسكن عبد الرحمن قرطبة، واستمر في خلافتِه في تلك البلاد من هذه السنة إلى سنة 172، وقيل: إنَّه في البداية لم يُعلِن الدَّعوة الأمويَّة، بل قيل: إنه كان يدعو للخليفةِ العباسيِّ. حاول المنصورُ القضاءَ عليه بواسطة العلاء بن مغيث، لكنَّه لم يُفلِح، واستطاع عبد الرحمن أن يقتُلَه، ومِن ثَمَّ ترك عبد الرحمن الدعوة للخليفة العباسي، وسمِّي عبدُ الرحمن هذا بصقر قريش.
هو المنتصر بالله- وقيل المستنصر بالله أبو يعقوب يوسف بن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي. ولد سنة 594، وأمه أم ولد، اسمها قمر الرومية، وكان يشبه بجَدِّه. تولى الملك بعد وفاة أبيه يقول الذهبي: "فملكوه وله ست عشرة سنة، فضيعوا أمرَ الأمة، وكان بديع الحسن، بليغ المنطق، غارقًا في وادي اللهو والبطالة" فغلب عليه وزراؤه واشتغل المنتصرُ بما يستهويه, وفي عهده استولى الأسبان في الأندلس على المعاقل التي كانت للموحِّدين، وكانت في عهده هزائم أخرى أشهرها العقاب في الأندلس، وبدأت دولته في عصره بالهرم، ثم إن المنتصر ظل مقيمًا في مراكش إلى أن توفي ولم يخلف ولدًا، فبويع بعده عم أبيه عبد الواحد بن يوسف الملقب بالمخلوع، لكِبَرِ سنه ووفور عقلِه، فلم يُحسِن التدبير، ولا دارى أهل دولته فخلعوه وخنَقوه بعد تسعة أشهر من ولايته. وبويع ابن أخيه عبد الله العادل بن يعقوب المنصور.
استهل هذا العامُ وسُلطان البلاد المصرية والشاميَّة الملك الناصر ناصر الدين حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، ونائِبُه بالديار المصريَّة الأميرُ سَيفُ الدين يلبغا، ووزيرُه منجك، وقضاتُه عز الدين بن جماعة الشافعي، وتقي الدين الأخنائي المالكي، وعلاء الدين بن التركماني الحنفي، وموفَّق الدين المقدسي الحنبلي، وكاتِبُ سِرِّه القاضي علاء الدين بن محيي الدين بن فضل الله العمري، ونائب الشام المحروس بدمشق الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري، وحاجب الحجَّاب الأمير طيردمر الإسماعيلي، والقضاة بدمشق قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، وقاضي القضاة نجم الدين الحنفي، وقاضي القضاة جلال الدين المسلاتي المالكي، وقاضي القضاة علاء الدين بن منجا الحنبلي، وكاتب سِرِّه القاضي ناصر الدين الحلبي الشافعي، وهو قاضي العساكر بحلب، ومدرس الأسديَّة بها أيضًا، مع إقامته بدمشق المحروسة.
قال ابن إسحاق: «كتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كتابًا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرّهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم» . أي لمّا امتنعوا من إتباعه، وذلك قبل الإذن بالقتال وأخذ الجزية ممن أبى الإسلام، وقد أبى عامَّتُهم إلا الكفر. وكانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وحاربه الثلاثة، فمنَّ على بني قينقاع، وأجلى بني النضير، وقتل بني قريظة، وسبى ذريتهم، ونزلت (سورة الحشر) في بني النضير، و (سورة الأحزاب) في بني قريظة.
نَدَبَ عُمَرُ بن الخطَّاب سُراقةَ بن عَمرٍو، وعبدَ الرَّحمن بن رَبيعةَ للمَسيرِ إلى بِلادِ البابِ، وهي بِلادُ التُّرْكِ خلفَ بابِ الأبوابِ المعروف بالدَّرْبَنْد، وأَمَدَّهُ عُمَرُ بن الخطَّاب بحَبيبِ بن مَسلمةَ، ولكنَّ شَهْرَيراز مَلِكَ تلك البِلادِ طلَب مِن عبدِ الرَّحمن أن يُمْهِلَهُ ففعَل، كما عَبَّرَ له عن كُرْهِهِ للأَرْمَن والقَبْج الذين يُقيمون حول بِلادِه، وأَعرَب عن نَواياهُ الطَّيِّبَة للمسلمين، وطلَب أن يُعْفوهُ مِن الجِزيَة مُقابل أن يُساعِدَهم في حُروبِهم على الأَرْمَن ومَن حولَهم، فقَبِلَ ذلك سُراقةُ، وأَقَرَّهُ عُمَر على ذلك، فَوَجَّه سُراقةُ أربعةَ جُيوشٍ إلى البِلادِ المُحيطَةِ بأَرْمِينِيَة وفَتَحَها.
هو عمرو بنُ عُبيد بن باب التميميُّ ولاءً، من أهل ِالبصرةِ، شيخ المعتزلة في زمانه، اشتُهِر بزهده، أخذ عن واصل بن عطاءٍ، واعتزل معه مجلسَ الحسَن البصريِّ، قال يحيى بن معين: "كان من الدَّهرية الذين يقولونَ إنما الناسُ مِثلُ الزرع"، وقال ابن المبارك: "دعا إلى القدَرِ فتركوه"، قال ابن عُلية: "أوَّلُ من تكلَّم في الاعتزالِ واصِلُ الغزَّال، فدخل معه عمرو بنُ عُبيد، فأُعجِبَ به وزوَّجَه أختَه"، وله كتابُ العدل، والتوحيد، وكتاب الردَّ على القدرية يُريدُ السُّنَّة، مات بمران قرب مكة.
مدينة تيهرت، أسسَّها عبد الرحمن بن رستم بن بهرام، وكان مولًى لعثمانَ بن عفان، وكان خليفةً لأبي الخطاب أيامَ تغلُّبِه على إفريقية، ولما دخل ابن الأشعث القيروان فرَّ عبد الرحمن إلى الغرب بما خلفَ مِن أهله وماله، فاجتمعت إليه الإباضية، وعزموا على بنيان مدينةٍ تجمَعُهم، فنزلوا بموضعِ تيهرت، وهي غَيضة يكثر فيها الشجر بين ثلاثة أنهارٍ، فبنوا مسجدًا من أربع بلاطات، واختَطَّ الناسُ مساكِنَهم، وكانت في الزمان الخالي مدينةً قديمة، فأحدثها عبد الرحمن بن رستم وبقي بها إلى أن مات في سنة 168
وثبَ مُحمَّدُ بنُ هِشامِ بنِ عبد الجبَّار بنِ عبدِ الرَّحمنِ النَّاصر على الأميرِ هِشامِ المُؤَيَّد، ثمَّ خَلَعه وتسمَّى بالمهديِّ، وكان سبَبُ الخَلعِ هو ما قام به المؤَيَّد مِن تولِّيه العهدَ لعبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي عامر، فأمر المهديُّ بهَدمِ مدينةِ الزَّهراء مَعقِلِ بني عامر وسَلَّطَ العامَّةَ عليه فنهبوا ما فيه مِن الأموالِ والأمتعةِ، كما نَهَبوا دُورَ زُعَماء البربر بالرصافة، كما قام المهديُّ بحَجزِ المُؤَيَّد في دارِ أحدِ وُزَرائِه، وأعلن للنَّاسِ أنَّه مات وأخرَجَ لهم جُثَّةَ شابٍّ شَبيهٍ به، وصلَّى عليه ودفَنَه، وقيل: إنَّ هذا الشابَّ كان نصرانيًّا.
هو المَلِكُ الحافِظُ غِياثُ الدين محمَّد بن الملك السعيد معين الدين بن الملك الأمجد بهرام شاه بن المعز عز الدين فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب، وُلِدَ بدمشق أو ببعلبك سنة 616 وقد سَمِعَ الحديثَ وسَمِعَ البخاريَّ من الزبيدي وحدَّث به وأجاز مروياته للشيخِ شمس الدين، وكان أميرًا جليلًا متميزًا، نسَخَ الكثيرَ بخطه المنسوب وخَلَّف عدة أولاد، وكان يحبُّ العُلَماء والفقراء. وتوفِّيَ يوم الجمعة سادس شعبان, ودفن عند جدِّه لأمه ابن المقدم، ظاهر باب الفراديس.
قام عثمانُ بن معمر أمير العيينة بمعاهدة الأمير محمد بن سعود على الحربِ معه، فقاد جيشُ الدرعية ضِدَّ جيش الرياض، وانهزم بعد قتالٍ شديد قُتِل فيه أناس كثيرون، ثم حدثت وقعة أخرى سار فيها عبد العزيز بن محمد بن سعود بأهل الدرعية وضرما، وتولى عثمان بن معمر قيادةَ قوات العُيينة وحريملاء، كما أنه كان الأمير عليهم جميعًا واشتبك مع جيش الرياض في مكان يدعى "الخريزة" قرب الرياض، وكانت النتيجة متكافئة، وتلت ذلك معاركُ كثيرة بين الدرعية والرياض، كان أسلوب الكرِّ والفر ونصْب الكمائن هو الفَنَّ القتاليَّ فيها.
هو سعيدُ بنُ حُسين بن أحمد بن محمَّد بن عبد الله بن عَمْرِو بن ميمون القدَّاح بن دَيصان الأهوازي. قال القاضي عبد الجَبَّار بن أحمد بن عبد الجبار البصري: "اسمُ جَدِّ الخلفاء المصريِّين سعيدٌ، ويلقَّبُ بالمهديِّ". المعروف بالمهديِّ أبو محمَّد عبيدالله، مؤسِّسُ الدولة الفاطمية العُبيدية الباطنيَّة في إفريقيا، كان أبوه يهوديًّا حدَّادًا بسَلَمية. زعم سعيدٌ هذا أنَّه ابنُ الحُسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القدَّاح. وقال بعض دُعاة العُبَيديين: "إنَّ سعيدًا إنما هو ابنُ امرأة الحُسين بن محمد. وإنَّ الحُسين ربَّاه وعلَّمه أسرار الدَّعوة، وزوَّجه ببنت أبي الشَّلَغْلَغ فجاءه ابن سمَّاه عبد الرحمن، فلمَّا دخل المغرب وأخذ سِجِلماسة تسمَّى بعُبَيد الله وتكنى بأبي محمد، وسمَّى ابنَه الحسن". كانت طائفةٌ من أتباعه تزعُمُ أنَّه الخالق الرَّازق، وطائفةٌ تزعم أنَّه نبيٌّ، وطائفة تزعم أنَّه المهدي حقيقة. قال القاضي أبو بكر ابن الباقلَّانيِّ: "إنَّ القدَّاح جدُّ عُبَيد الله كان مجوسيًّا, ودخل عُبَيد الله المغرب، وادَّعى أنَّه علويٌّ، ولم يعرفْه أحد من علماء النَّسَب، وكان باطنيًّا خبيثًا، حريصًا على إزالة مِلَّة الإسلام. أعدَمَ العُلَماء والفقهاء ليتمكَّنَ مِن إغواء الخلْق. وجاء أولادُه على أُسلوبه. أباحوا الخُمور والفُرُوج، وأشاعوا الرَّفْضَ، وبثُّوا دُعاةً فأفسدوا عقائِدَ خلقٍ من جبالِ الشَّام كالنُّصَيْريَّة والدَّرزيَّة. وكان القدَّاح كاذبًا مُمَخْرقًا. وهو أصلُ دُعاة القرامطة. وجدُّ القدَّاح هو دَيصَان أحدُ الثَّنَويَّة. وعُبَيد الله المهدي صاحب القيروان، وجدُّ بني عُبَيدٍ الذينَ تُسَمِّيهم جَهَلَةُ النَّاسِ الخُلَفاء الفاطميِّين". قال الذهبي: "وأهلُ العلم بالأنسابِ المحقِّقينَ يُنكِرونَ دعواه في النَّسبِ لفاطمةَ رضي الله عنها، ويقولون: اسمُه سعيدٌ، ولَقَبه عُبَيدُ الله، وزوج أمِّه الحُسين بنُ أحمد القدّاح. وكان كحَّالًا يقدحُ العينَ". لَمَّا مات عُبيد الله بالمهديَّة أخفى ولدُه أبو القاسم القائِمُ مَوتَه سنةً؛ لتدبيرٍ كان له، وكان يخافُ أن يختَلِفَ النَّاسُ عليه إذا عَلِموا بموته، وكان عمرُ المهديِّ لمَّا توفِّيَ ثلاثًا وستِّينَ سنة، وكانت ولايتُه منذ دخل رقاده ودُعِيَ له بالإمامة إلى أن توفِّيَ أربعًا وعشرينَ سنة وشهرًا وعشرين يومًا، ولمَّا توفِّيَ مَلَك بعدَه ابنُه أبو القاسم محمَّد القائم، وكان أبوه قد عَهِدَ إليه، ولَمَّا أظهرَ وفاة والده كان قد تمكَّنَ وفرغ من جميعِ ما أراده، واتَّبَع سُنَّة أبيه، وثار عليه جماعةٌ، فتمكَّنَ منهم. وكان من أشدِّهم رجلٌ يقال له ابنُ طالوت القرشيُّ، في ناحية طرابلس، ويزعُمُ أنَّه ولد المهديِّ، وزحف بمن معه على مدينة طرابلس، فقاتَلَه أهلها، ثم تبيَّنَ للبربر كَذِبُه، فقتلوه وحملوا رأسَه إلى القائمِ.
هو المُختارُ بن أبي عُبيدٍ الثَّقفيُّ، وكان في الكوفَة، وكان يَدعو إلى إمامةِ المَهْدِيِّ محمَّدِ بن عَلِيٍّ المعروف بابنِ الحَنَفِيَّةِ، فسارت وَراءَهُ جَماعةٌ منها جَماعةٌ كانت مع سُليمان بن صُرَدٍ رضي الله عنه، الذين لَقَّبُوا أَنفُسَهم بالتَّوَّابِينَ، لِيُكَفِّرُوا عن خُذْلانِهم للحُسينِ بن عَلِيٍّ رضي الله عنه في كَرْبَلاء, ولكنَّ ابنَ الحَنفيَّة لم يكُن يَعلَم بأَمرِهِم فضلًا عن أن يَرْضى بِفعلِهم.