خلَّفَ المعتَضِدُ بالموصِلِ نصرًا القشوريَّ يَجبي الأموالَ ويُعينُ العُمَّال على جبايتها، فخرج عامل معلثايا - معلثايا قريةٌ غَربَ مدينة دهوك- إليها ومعه جماعةٌ مِن أصحاب نصرٍ، فوقع عليهم طائفةٌ مِن الخوارجِ، فاقتتلوا إلى أن أدرَكَهم الليلُ وفَرَّقَ بينهم، وقُتِلَ من الخوارج إنسان اسمُه جعفر، وهو من أعيان أصحابِ هارون، فعَظُم عليه قتلُه، وأمر أصحابَه بالإفسادِ في البلادِ، فكتب نصرٌ القشوري إلى هارونَ الخارجيِّ كتابًا يتهدَّدُه بقُرب الخليفة، فلما قَدِمَ المعتَضِد، جَدَّ في قَصدِه، وولَّى الحسَنَ بن عليٍّ كورةَ المَوصِل، وأمره بقصدِ الخوارج، وأمرَ مُقدَّمِي الولاياتِ والأعمالِ كافةً بطاعتِه، فجَمَعَهم، وسار إلى أعمال المَوصِل، وخندقَ على نفسِه، وأقام إلى أن رفعَ النَّاسُ غُلاتَهم، ثم سار إلى الخوارج، وعبَرَ الزابَ إليهم، فلَقِيَهم قريبًا من المغلَّة، وتصافُّوا للحرب، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وانكشف الخوارجُ عنه ليفَرِّقوا جمعيَّتَه ثم يَعطِفوا عليه، فأمر الحسَنُ أصحابَه بلزومِ مواقِفِهم، ففعلوا فرجعَ الخوارِجُ وحَمَلوا عليهم سبعَ عشرةَ حملةً، فانكشفت ميمنةُ الحسَنِ، وقُتِلَ من أصحابه، وثبت هو، فحمَلَ الخوارجُ عليه حملةَ رجلٍ واحدٍ، فثبت لهم وضُرِبَ على رأسِه عِدَّةُ ضربات فلم تؤثِّرْ فيه. فلما رأى أصحابُه ثباتَه تراجعوا إليه وصبَرُوا، فانهزم الخوارجُ أقبَحَ هزيمةٍ، وقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، وفارقوا موضِعَ المعركة، ودخلوا أذربيجان. وأمَّا هارون فإنَّه تحيَّرَ في أمره، وقصَدَ البرِّية، ونزل عند بني تغلِب، ثم عاد إلى معلثايا ثم عاد إلى البرِّية، ثم رجع عبْرَ دجلة إلى حزةَ، وعاد إلى البرية. وأمَّا وجوهُ أصحابه، فإنَّهم لَمَّا رأوا إقبالَ دولة المعتَضِد وقوَّتَه، وما لَحِقَهم في هذه الوقعةِ، راسلوا المعتضِدَ يطلُبون الأمانَ فأمَّنَهم، فأتاه كثيرٌ منهم، يبلُغون ثلاثَمائة وستينَ رجُلًا، وبقي معه بعضُهم يجولُ بهم في البلادِ، إلى أن قُتِلَ سنة 383هـ، حيث لاحَقَه الحسينُ بنُ عبدانَ التغلِبيُّ حتى قبَضَ عليه وأرسلَه للمعتَضِد الذي قتله وصَلَبه.
بعد أن قام إبراهيمُ بنُ الأغلب بقَمعِ تمَرُّدِ تمَّام بن تميم في أفريقيا، ولَّاه الرشيد، فانقمع الشَّرُّ، وضُبطَ الأمر، وسَيَّرَ تمامًا وكُلَّ مَن يتوثَّبُ الوُلاة إلى الرَّشيد، فسَكَنت البلاد، وابتنى مدينةً سمَّاها العباسيَّة بقُرب القيروان، وانتقَلَ إليها بأهلِه وعَبيدِه.
لمَّا أراد الله عزَّ وجلَّ إظهارَ دينهِ، وإعزازَ نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وإنجازَ مَوعِدِه له خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مَوسمِ الحجِّ يَعرِضُ نَفْسَهُ على قبائلِ العربِ، كما كان صنع في كُلِّ مَوسمٍ. فبينما هو عند العَقبةِ لَقِيَ رهطًا مِنَ الخَزرجِ أراد الله بهم خيرًا فقال لهم مَن أنتم؟ قالوا: نَفرٌ مِنَ الخَزرجِ، قال أمِن موالي يَهودَ؟ قالوا: نعم. قال أفلا تَجلِسون أُكلِّمكُم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ، وعرض عليهم الإسلامَ، وتلا عليهم القُرآنَ. وكان مما صنع الله لهم به في الإسلامِ أنَّ يَهودَ كانوا معهم في بلادِهم، وكانوا يتَوعَّدونَهُم بِقُربِ ظُهورِ نَبِيٍّ يتَّبِعونهُ ثمَّ يَقتلون معه العربَ قتلَ إِرَمَ, فلمَّا كلَّمهُم صلَّى الله عليه وسلَّم ودعاهم إلى الله قال بعضُهم لبعضٍ: يا قومُ، تعلموا والله إنَّه للنَّبيُّ الذي تَوعَّدكُم به يَهودُ فلا تَسْبِقَنَّكُم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه وقالوا له: إنَّا قد تركنا قومَنا، ولا قومٌ بينهم مِنَ العَداوةِ والشَّرِّ ما بينهم، وعسى أن يجمعَهُم الله بكَ. فَسنَقدَمُ فنَدعوهُم إلى أمرِك، ونعرِضُ عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدِّينِ، فإن يَجمعْهُم الله عليك فلا رجلَ أعزُّ منك. ثمَّ انصرفوا راجِعين إلى بلادِهم، قد آمنوا وصدَّقوا". فلمَّا قَدِموا المدينةَ إلى قومِهم ذكروا لهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ودَعوهُم إلى الإسلامِ حتَّى فَشا فيهِم فلمْ يَبْقَ دارٌ مِن دورِ الأنصارِ إلَّا وفيها ذِكْرٌ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
أرسل حمود بن ربيعان ومَن تَبِعَه من عتيبة وعُربان الحجاز إلى الإمام عبد العزيز وطلبوا منه البيعةَ على دينِ الله ورسولِه والسَّمعِ والطاعة، وأداءِ الزكاة وألَّا يعترِضوا سُبُلَ المسلمين، وبَذَلوا دراهِمَ معلومةً نكالًا، فأجابَهم عبد العزيز إلى ذلك، وأخذ على كل بيتٍ عِدَّةَ دراهِمَ معلومة، فلمَّا بلغ الشريف غالب ذلك الخبَرُ، أفزعه وأهمَّه، فجهَّز العساكِرَ مِن مكَّةَ وما حولها، فخرج بنفسِه وقصد هادي بن قرملة أتباعه من قحطان وغيرهم، فنازلهم وحصل بينهم بعضُ القتال، فأخذ هادي جملةً مِن أثقاله، ثم نزل الشريفُ على الماء المعروف بالقنصلية قرب بلد تربة، ونزل هادي بن قرملة بلدَ رنية، فسار الشَّريفُ إليه فيها، فنازلهم ووقع بينهم قتالٌ شديد قُتِلَ بين الجميعِ عِدَّةُ رِجالٍ.
لما بلغ فيصلًا خَبَرُ مقتل والده، جمع الأمراء والرؤساء الذين معه في الغزو، وهم رئيس جبل شمر: عبد الله بن علي بن رشيد، ورئيس بريدة: عبد العزيز بن محمد، ورئيس الحريق: تركي الهزاني، وحمد بن يحي أمير بلدان سدير، وغيرهم من الرؤساء والرجال، ورؤساء العربان، أخبَرَهم بمقتل والده فوعَظَهم وذكَّرَهم، فبايعوه جميعًا على السمعِ والطاعةِ، ثم رحل مِن الأحساء بجنوده وأمرائِه إلى الرياض فدخلها وحاصَرَ مشاري في قصرِ الرياضِ، حتى تمكَّن من قَتلِه بعد أن تخاذَلَ عنه كثيرٌ مِن أهل الرياض، فلمَّا قُتِلَ مشاري دخل فيصل القصرَ وجلس على سريرِ المُلكِ، فوفد عليه أمراء البلدان ورؤساء العربان من كلِّ جهةٍ، فبايعوه، وأقر القضاةَ على أعمالِهم في بلدانهم.
أعلن الشيخ محمد إبراهيم في 19 ذي القعدة تشكيلَ حُكومةِ كشمير الحرَّة (آزاد كشمير)، وتأليف الجيش الكشميري الذي استطاع أن يسيطرَ على كثير من المناطق ويقيمَ حكومة، وذلك بعد انعقادِ مؤتمر الفلَّاحين الكشميريين، والمطالبة بانضمام الولاية إلى باكستان، لكِنَّ المهراجا الهندوسي "هري سنغ" حاكِمَ كشمير المسلِمةِ رفض هذا الطلب، وقام بتوزيعِ الأسلحة على الهنادكة؛ فسارع رجالُ القبائل من باكستان لنجدة إخوانهم الكشميريين، ولَمَّا رأى محمد عبد الله -الذي أفرج عنه المهراجا، وهو زعيم حزب "المؤتمر الوطني الإسلامي" الذي أُسِّس في كشمير نتيجة اشتداد اضطهاد الهنادكة للمسلمين- تأزُّمَ الأوضاع خَشِيَ من انفلات الأمور، فأعلن وقوفه بجانب المهراجا، وتسلَّم رئاسة الحكومة، وقُتِلَ يومها من المسلمين حوالي (62) ألفًا على يدِ الهنادكة، وفي هذه الأثناء فرَّ المهراجا سنغ إلى الهند، واستقر في دلهي العاصمة تاركًا كشمير تغرق في بحار الدماء. وعندما وجد المهراجا أنَّ الأمور خرجت عن سيطرته وقدرته أراد أن يضربَ ضربته الأخيرة ضِدَّ المسلمين الكشميريين، فعقد مع الهند أثناء وجودِه في دلهي اتفاقية في (12 من ذي الحجة/ 27 من أكتوبر) تتضمَّنُ انضمام الولاية إلى الهندِ، ورغم أنَّ هذه الاتفاقية المجحِفة لا يوافقُ عليها أغلبية الشعب، وتتناقَضُ مع اتفاقيته السابقة مع باكستان، بالإضافةِ إلى عدم تمتُّعِه بالشرعية لانتهاء المائة عام من الحماية التي نَصَّت عليها اتفاقية أمريتسار لأسرته؛ فإنه أعلن انضمامَه للهند لتبدأ فصولُ مأساة جديدة!!
عَصَى مَلِكُ كرمان، وهو "قرا أرسلان"، على السُّلطانِ ألب أرسلان، وسببُ ذلك أنَّه كان له وَزيرٌ جاهلٌ سَوَّلَت له نَفسُه الاستِبدادَ بالبِلادِ عن السُّلطانِ، وأن صاحِبَه إذا عَصَى احتاجَ إلى التَّمَسُّكِ به، فحَسُنَ لصاحِبِه الخِلافُ على السُّلطانِ، فأجابَ إلى ذلك، وخَلعَ الطَّاعةَ، وقَطعَ الخُطبةَ، فسَمِعَ ألبُ أرسلان، فسارَ إلى كرمان، فلمَّا قارَبَها وَقعَت طَليعَتُه على طَليعَةِ قرا أرسلان، فانهزمت طَليعَةُ قرا أرسلان بعدَ قِتالٍ، فلمَّا سَمِعَ قرا أرسلان وعَسكرُه بانهِزامِ طَليعَتِهم، خافوا وتَحَيَّرُوا، فانهَزَموا لا يَلوِي أَحدٌ على آخر، فدَخلَ قرا أرسلان إلى جيرفت وامتَنعَ بها، وأَرسلَ إلى السُّلطانِ ألب أرسلان يُظهِر الطَّاعةَ ويَسألُ العَفْوَ عن زَلَّتِه، فعَفَا عنه، وأَعادهُ إلى مَملَكتِه، ولم يُغَيِّر عليه شيئًا مِن حالِه، ثم سار منها إلى فارس فوَصلَ إلى إصطخر، وفَتحَ قَلعتَها، واستَنزلَ وَالِيَهَا، فحَملَ إليه الوالي هَدايا عَظيمةً جَليلةَ المِقدارِ، وأَطاعهُ جَميعُ حُصونِ فارس، وبَقِيَت قَلعةٌ يُقالُ لها: بهنزاد، فسار نِظامُ المُلْكِ إليها، وحَصرَها تحتَ جَبلِها، وأعطى كُلَّ مَن رَمَى بسَهمٍ وأصابَ قَبضةً مِن الدَّنانيرِ، ومَن رَمَى حَجرًا ثَوْبًا نَفيسًا، ففَتحَ القَلعةَ في اليومِ السادس عشر مِن نُزولِه، ووَصلَ السُّلطانُ إليه بعدَ الفَتحِ، فعَظُمَ مَحَلُّ نِظامِ المُلْكِ عِندَه، فأَعلَى مَنزِلَتَهُ، وزادَ في تَحكِيمِه.
هو الشَّيخُ الإمامُ العالمُ العامِلُ، القُدوةُ سيد القراء: أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، من طبقات الشافعية, ولد سنة 538 ببلدة شاطبة- وهي مدينة كبيرة بشرق الأندلس، خرج منها جماعة من العلماء- كان الشاطبي يتوقد ذكاءا، مع الورع والتقوى والتأله والوقار. وهو مصنِّف الشاطبية في القراءات السبع، فلم يُسبَق إليها ولا يُلحَق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كلُّ ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير. قال عنها ابن خلكان: " الشاطبي هو صاحب القصيدة التي سمَّاها حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات، وعِدَّتُها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتًا، ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم؛ فقَلَّ مَن يشتَغِلُ بالقراءات إلا ويُقَدِّمُ حِفظَها ومعرفتها، وهي مشتَمِلةٌ على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنُّه سُبِقَ إلى أسلوبها". وله قصيدة دالية في خمسمائة بيت مَن حَفِظَها أحاط علمًا بكتاب التمهيد لابن عبد البر. كما له الباعُ الأطول في فن القراءات والرسم والنحو والفقه والحديث. قرأ القرآن الكريم ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله بن أبي العاص النفري، ورحل إلى بلنسية، فقرأ القراءات على أبي الحسن بن هذيل. وقراءة بالسبع على غيرهما, فقد كان عالِمًا بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرًا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبَرَّزًا فيه، وكان إذا قُرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تُصحَّحُ النسخُ من حفظه، ويُملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحدَ في علم النحو واللغة، عارفًا بعلم الرؤيا، حَسَن المقاصِدِ. كان دَيِّنًا خاشعًا ناسكًا كثير الوقار، لا يتكَلَّمُ فيما لا يعنيه. يجتَنِبُ فُضولَ الكلام ولا ينطقُ إلا على طهارةٍ في هيئةٍ حَسَنةٍ وتخَشُّع واستكانة، وكان يعتَلُّ العلةَ الشديدةَ فلا يشتكي ولا يتأوَّه. انتقل من بلده إلى مصر، قال السخاوي: "سببُ انتقاله من بلده أنَّه أريد على الخطابة، فاحتج بالحَجَّ، وترك بلده، ولم يعُدْ إليه تورُّعًا مما كانوا يُلزِمونَ الخُطَباء مِن ذِكرِهم الأمراءَ بأوصافٍ لم يَرَها سائغة، وصَبَرَ على فقرٍ شديد". سمع بمصرَ من السِّلَفي، وولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته في مصر، فأجاب على شروطٍ، فتصَدَّر وعَظُمَ شأنه، وبَعُدَ صِيتُه، وانتهت إليه رياسةُ الإقراء بمصر، وقد انتفع به وبعِلمِه خَلقٌ كثير. زار بيت المقدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، فكانت وفاتُه بها في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضليَّة، وله أولاد رووا عنه، منهم أبو عبد الله محمد, وهذا الإمام الشاطبي صاحب الشاطبية يختلف عن الشاطبي صاحب المُوافقات الذي توفي سنة 970.
هو الإمامُ الحافِظُ، الناقِدُ العَلَّامة، شيخُ المُحَدِّثين، أبو عبدِ اللهِ مُحمَّدُ بنُ عبدِ الله بن محمَّد بن حمدويه بنِ نعيم بن الحكم، بن البيع الحاكم الضَّبِّي الطهماني النيسابوري، ويُعرَفُ بابن البيع، مِن أهل نيسابور. ولِدَ في يوم الاثنين, ثالثَ شهر ربيع الأول، سنة 321ه بنيسابور. قال الذهبي: "طلب الحديثَ في صِغَرِه بعنايةِ والِدِه وخالِه، وأوَّلُ سَماِعِه كان في سنةِ ثلاثين، في التاسعة مِن عُمُرِه، وقد استملى على أبي حاتمِ بنِ حِبَّان في سنة 334ه وهو ابنُ ثلاث عشرة سنة. ولحِقَ الأسانيدَ العاليةَ بخُراسان والعراق وما وراء النَّهر، وسَمِعَ مِن نحو ألفَي شَيخٍ، ينقُصونَ أو يزيدون، فإنَّه سَمِعَ بنيسابورَ وَحدَها مِن ألفِ نَفسٍ، وارتحَلَ إلى العراقِ وهو ابنُ عشرينَ سنة"، فكان من أهلِ العِلمِ والحِفظِ والحَديثِ، سَمِعَ الكثيرَ وطاف الآفاقَ، وصَنَّفَ الكُتُبَ الكِبارَ والصِّغارَ، أشهَرُها المُستَدرَكُ على الصَّحيحَينِ، وعلومُ الحديثِ، والإكليلُ، وتاريخُ نَيسابور، وقد روى عن خَلقٍ، ومن مشايخِه الدَّارَقُطنيُّ وابنُ أبي الفوارس وغيرهما، وقد كان مِن أهلِ الدِّينِ والأمانةِ والصِّيانةِ، والضَّبطِ والتَّجَرُّدِ والوَرَع، حدَّثَ عنه الدَّارَقُطنيُّ وأبو الفتحِ بنُ أبي الفوارسِ وهما من شيوخِه، قال الذهبيُّ عن الحاكم: "صَنَّف وخَرَّج، وجرَحَ وعَدَّل، وصَحَّحَ وعَلَّل، وكان مِن بحورِ العِلمِ على تَشَيُّعٍ قليلٍ فيه". وأكَّدَ الذهبيُّ أنَّ الحاكِمَ شِيعيٌّ وليس رافضيًّا، فقال: "أمَّا انحرافُه عن خصومِ عليٍّ فظاهِرٌ، وأمَّا أمرُ الشَّيخَينِ فمُعظِّمٌ لهما بكلِّ حالٍ, فهو شِيعيٌّ لا رافِضيٌّ" وقال: "هو شيعيٌّ مشهورٌ بذلك, من غيرِ تعرُّضٍ للشَّيخَينِ" قال ابنُ خَلِّكان: "تقَلَّدَ الحاكِمُ القضاءَ بنَيسابور في سنة 359ه في أيام الدَّولةِ السَّامانيَّة ووزراءِ أبي النَّصرِ مُحمَّدِ بن عبد الجبار العتيبي، وقُلِّدَ بعد ذلك قضاءَ جُرجان فامتنع، وكانوا يُنفِذونَه في الرَّسائِلِ إلى مُلوكِ بني بُوَيه, ثم قال: إنَّما عُرِفَ بالحاكِمِ لتقَلُّدِه القضاء ". دخل الحاكِمُ الحَمَّام، فاغتَسَل، وخرج. وقال: آه. وقُبِضَت روحُه وهو مُتَّزِرٌ لم يلبَسْ قَميصَه بعدُ، ودُفِنَ بعد عصرِ يوم الأربعاء، وصلَّى عليه القاضي أبو بكرٍ الحيري. توفِّي عن أربعٍ وثمانين سنةً.
كان قد رُسِم لتغري بردي بنيابة دمشق، ثم في محرم سنة 804 كتب الأمراء بمصر لأمراء دمشق بالقبض على الأمير تغري بردي، فكَتَب له بذلك بعضُ أعيان أمراء مصر، فسبق كتابُه كتابَ الأمراء، فركب من دار السعادة بدمشق في نفرٍ من مماليكه في ليلة الجمعة ثاني عشرين المحرم وخرج إلى حلب، فتعيَّن لنيابة دمشق عوضًا عنه الأمير آقبغا الجمالي الأطروش أتابك دمشق، وكتب بانتقال دقماق نائب صفد إلى نيابة حلب عوضًا عن دمرداش المحمدي بحُكم عصيانه وانضمامه إلى تغري بردي لَمَّا قدم عليه من دمشق، واستقر الأمير تمربغا المنجكي في نيابة صفد عوضًا عن دقماق، وأما تغري بردي فإنه لما سار إلى حلب وجد الأمير دمرداش نائب حلب قد قبض على الأمير خليل بن قراجا بن دلغادر أمير التركمان، فأمره تغري بردي بإطلاقه، فأطلقه، واتفق الجميعُ على الخروج عن طاعة السلطان بسبب مَن حوله من الأمراء، واجتمع عليهم خلائِقُ من التركمان وغيرهم؛ فإن دقماق جمع جموعَه من العساكر والتركمان لقتال تغري بردي ودمرداش نائب حلب، وسار إلى جهة حلب، فخرج إليه تغري بردي وعلى مقدمته دمرداش، وصدموه صدمة واحدة انكسر فيها بجموعه وولَّوا الأدبار، ونهب ما معهم، وعاد دقماق منهزمًا إلى دمشق، واستنجد بنائبها الأمير آقبغا الجمالي الأطروش، وكتب أيضًا دقماق لجميع نواب البلاد الشامية بالحضور والقيام بنصرة السلطان، وجمع من التركمان والعربان جمعًا كبيرًا، وخرج معه غالب العساكر الشامية، وعاد إلى جهة حلب بعساكر عظيمة، وتغري بردي ودمرداش في مماليكهم لا غير، مع جدب البلاد الحلبية، وخراب قراها؛ فإنه كان عقيب توجه تيمورلنك بسنة واحدة وأشهر، فلما قارب دقماق بعساكره حلب أشار دمرداش على تغري بردي بالتوجه إلى بلاد التركمان من غير قتال، فقال تغري بردي: لا بد من قتالنا معه، فإن انتصرنا وإلا توجهنا إلى بلاد التركمان بحقٍّ، فبرزا لدقماق بمماليكهما، وقد صفَّ دقماق عساكره، واقتتلا قتالًا شديدًا، وثبت كل من الفريقين، وقد أشرف دقماق على الهزيمة، وبينما هو في ذلك خرج من عسكر تغري بردي ودمرداش جماعة إلى دقماق، فانكسرت عند ذلك الميمنة، ثم انهزم الجميع إلى نحو بلاد التركمان، فلم يتبعهم أحد من عساكر دقماق، وملك دقماق حلب، واستمر تغري بردي ودمرداش ببلاد التركمان، وكانت الأخبار وردت بجمع التركمان ونزولهم مع دمرداش إلى حلب، وأن دقماق نائب حلب اجتمع معه نائب حماة والأمير نعير، ثم في السنة التالية في محرم قدم تغري بردي إلى دمشق بأمان كان كُتِبَ له من قِبَل السلطان مع كُتُب جميع الأمراء، وقد فارق دمرداش ورغب في الطاعة، ثم انتقل منها إلى مصر فوصلها في آخر الشهر.
حصَرَ أتابك زنكي دمشقَ مَرَّتين؛ فأمَّا المرَّة الأولى فإنَّه سار إليها في ربيعٍ الأوَّل مِن بعلبَكَّ بعد الفراغِ مِن أمرِها، وتقريرِ قواعِدِها وإصلاحِ ما تَشَعَّثَ منها، ليَحصُرَها، فنزل في البقاعِ، وأرسل إلى جمالِ الدِّينِ صاحِبِها يبذُلُ له بلدًا يقتَرِحُه ليُسَلِّمَ إليه دمشق، فلم يجِبْه إلى ذلك، فرحل وقصَدَ دمشق، فنزل على داريا ثالثَ عَشَرَ ربيع الأول فالتفَّت الطلائِعُ واقتَتَلوا، وكان الظَّفَرُ لعَسكرِ زنكي، وعاد الدِّمشقيُّونَ مُنهَزمِينَ، فقُتِلَ كثيرٌ منهم، ثم تقَدَّمَ زنكي إلى دمشق، فنزل هناك، ولَقِيَه جمعٌ كثيرٌ مِن جُندِ دِمشقَ وأحداثِها ورجَّالةِ الغوطة، فقاتلوه، فانهزم الدمشقيُّونَ، وأخَذَهم السَّيفُ، فقَتَلَ فيهم وأكثَرَ، وأسَرَ كذلك، ومن سَلِمَ عاد جريحًا. وأشرف البلدُ ذلك اليومَ على أن يُملَكَ، لكِنْ عاد زنكي عن القِتالِ وأمسك عنه عِدَّةَ أيام، وتابع الرُّسُلَ إلى صاحب دمشق، وبذل له بعلبَكَّ وحمص وغيرهما ممَّا يختاره من البلاد، فمال إلى التَّسليم، وامتنع غيرُه من أصحابِه مِن ذلك، وخَوَّفوه عاقِبةَ فِعلِه، وأن يَغدِرَ به كما غدَرَ بأهلِ بعلبك، فلمَّا لم يُسَلِّموا إليه عاود القتالَ والزَّحفَ، ثم إنَّ جمالَ الدين صاحب دمشق مَرِضَ ومات ثامِنَ شعبان، وطَمِعَ زنكي حينئذ في البلدِ، وزحف إليه زحفًا شديدًا؛ ظنًّا منه أنَّه ربَّما يقَعُ بين المُقَدَّمينَ والأمراء خلافٌ فيَبلُغُ غَرَضَه، وكان ما أمَّلَه بعيدًا، فلما مات جمالُ الدين ولي بعده مجيرُ الدين أبق وَلَدُه، وتولى تدبيرَ دَولَتِه مُعينُ الدين أنر فلم يَظهَرْ لِمَوتِ أبيه أثرٌ مع أنَّ عَدُوَّهم على باب المدينة، فلما رأى معين الدين أنَّ زنكي لا يفارِقُهم، ولا يزول عن حَصرِهم، راسَلَ الفِرنجَ، واستدعاهم إلى نُصرتِه، وأنْ يتَّفِقوا على مَنعِ زنكي عن دِمشقَ، وبذل لهم بُذولًا من جُملَتِها أن يَحصُرَ بانياس ويأخُذَها ويُسَلِّمَها إليهم، وخوَّفَهم مِن زنكي إنْ مَلَك دمشق، فعَلِموا صِحَّةَ قَولِه إنَّه إن مَلَكَها لم يَبقَ لهم معه بالشَّامِ مَقامٌ، فاجتَمَعَت الفِرنجُ وعَزَموا على السَّيرِ إلى دمشق ليَجتَمِعوا مع صاحِبِها وعَسكَرِها على قتالِ زنكي، فحين عَلِمَ زنكي بذلك سار إلى حوران خامِسَ رمضان، عازمًا على قتالِ الفِرنجِ قبل أن يجتَمِعوا بالدِّمشقيِّينَ، فلمَّا سَمِعَ الفرنجُ خَبَرَه لم يفارقوا بلادَهم، فلما رآهم كذلك عاد إلى حَصرِ دمشقَ ونزل بعذرا شماليَّها سادس شوال، فأحرَقَ عِدَّةَ قُرًى من المرج والغوطة، ورحل عائدًا إلى بلادِه، ووصل الفِرنجُ إلى دِمشقَ واجتمعوا بصاحِبِها وقد رحل زنكي، فعادوا، فسار مُعين الدين أنر إلى بانياس في عَسكرِ دِمشقَ، وهي في طاعةِ زنكي، لِيَحصُرَها ويُسَلِّمَها إلى الفرنج؛ وكان واليها قد سار قبل ذلك منها في جَمعٍ مِن جَمْعِه إلى مدينة صور للإغارةِ على بلادها، فصادفه صاحِبُ أنطاكيةَ وهو قاصِدٌ إلى دمشق نجدةً لصاحِبِها على زنكي، فاقتتلا، فانهزم المُسلِمونَ وأخَذوا واليَ بانياس فقُتِلَ، ونجا مَن سَلِمَ منهم إلى بانياس، وجمعوا معهم كثيرًا من البِقاعِ وغيرِها، وحَفِظوا القلعة، فنازلها مُعين الدين، فقاتلهم، وضَيَّقَ عليهم، ومعه طائفةٌ مِن الفِرنجِ، فأخذها وسَلَّمَها إلى الفرنج، وأمَّا الحَصرُ الثاني لدمشق، فإنَّ زنكي لَمَّا سَمِعَ الخبَرَ بحِصارِ بانياس عاد إلى بعلبك ليدفَعَ عنها مَن يحصُرُها، فأقام هناك، فلمَّا عاد عسكر دمشق، بعد أن مَلَكوها وسَلَّموها إلى الفرنج، فَرَّق أتابك زنكي عَسكَرَه على الإغارة على حوران وأعمالِ دمشق، وسار هو جريدة مع خواصِّه، فنازل دمشقَ سَحَرًا ولم يعلَمْ به أحَدٌ مِن أهلِها، فلمَّا أصبح النَّاسُ ورأوا عَسكَرَه خافوا، وارتَجَّ البَلَدُ، واجتمع العسكَرُ والعامَّةُ على السورِ وفُتِحَت الأبوابُ وخَرَج الجندُ، والرجَّالة فقاتلوه، فلم يتمَكَّن عسكرُ زنكي من الإقدامِ في القِتالِ؛ لأنَّ عامَّةَ عَسكَرِه تفَرَّقوا في البلاد للنَّهِب والتَّخريب، وإنَّما قصد دمشقَ لِئلَّا يَخرُجَ منها عَسكَرُه إلى عَسكَرِهم وهم متفَرِّقون، فلما اقتتلوا ذلك اليومَ قُتِلَ بينهم جماعةٌ ثم أحجم زنكي عنهم وعاد إلى خيامِه، ورحل إلى مرج راهط، وأقام ينتَظِرُ عودةَ عَسكَرِه، فعادوا إليه وقد ملؤوا أيديَهم من الغنائِم؛ لأنَّهم طرقوا البلادَ وأهلُها غافلونَ، فلَمَّا اجتمعوا عنده رحَلَ بهم عائدًا إلى بلادِهم.
هو الأستاذُ الفيلسوف محمد بن زكريا الرازي، من أهلِ الرَّيِّ، فيها تعلَّمَ ونشأ، ثم سافر إلى بغداد, أشهرُ أطبَّاءِ الإسلامِ وأكثَرُهم ابتكارًا، صاحب التصانيف، من أذكياءِ أهلِ زمانِه، كان كثيرَ الأسفارِ، واسِعَ المعرفةِ، مليحَ التأليف، وكان في بصَرِه رطوبةٌ؛ لكثرةِ أكلِه الباقلَّى، عمِيَ آخِرَ عُمُره. قال عنه الذهبي: "أخذَ عن البلخي الفيلسوفِ، فبلغ الغايةَ في علوم الأوائل. نسأل اللهَ العافية". كان في شبيبته يضرِبُ بالعودِ، فلما التحى قال: "كلُّ غناءٍ يخرجُ مِن بين شاربٍ ولحيةٍ لا يُستحسَنُ، فتركه وأقبل على دراسةِ الطِّبِّ والفلسفة بعد الأربعينَ، وعُمِّرَ وبلغ في علومه الغايةَ حتى أشيرَ إليه في الطبِّ"، اشتغل على الطبيبِ أبي الحسن علي بن ربن الطبري الذي كان مسيحيًّا، فأسلم، تولى تدبيرَ مارستان الريِّ ثم رئاسة الأطباءِ في بيمارستان بغداد زمنَ المكتفي، كان واسِعَ الاطِّلاعِ وله مشاركاتٌ في الحساب والكيمياء والفلسفة والفَلَك، وله تصانيفُ كثيرةٌ أكثَرُها في الطبِّ، تُرجِمَ أكثَرُها إلى اللاتينية، منها كتاب الأسرار في الكيمياء، والطب المنصوري، والفصول في الطب، ومقالة في الحصى والكلى والمثانة، وتقسيم العلل، والمدخل إلى الطب، وأشهرها الحاوي في الطب، وكتاب الجدري والحصبة، وغيرها كثير. كان يجلِسُ في مجلسِه للتعليم ودونَه التلاميذُ ودونَهم تلاميذُهم ودونهم تلاميذُ أُخَرُ, فكان يجيءُ الرجُلُ فيَصِفُ ما يجِدُ مِن المرض لأوَّلِ مَن يلقاه من تلاميذِه، فإن كان عندهم علمٌ وإلَّا تعدَّاهم إلى غيرهم، فإن أصابوا وإلَّا تكلَّم الرازي في ذلك. كان وافِرَ الحُرمة، صاحِبَ مروءة وإيثار، كريمًا متفضِّلًا بارًّا بالناس، حسن الرأفة بالفقراءِ والأعِلَّاء، حتى كان يُجري عليهم الجِرايات الواسعة ويُمَرِّضُهم. وللرازي أخبارٌ كثيرة وفوائِدُ متفرقة فيما حصل له من التمَهُّر في صناعة الطب وفيما تفرَّدَ به في مداواة المرضى، وفي الاستدلال على أحوالهم، وفيما خَبَرَه من الصفات والأدوية التي لم يصِلْ إلى عملها كثيرٌ من الأطباء. فكان إمامَ وَقتِه في علم الطبِّ، متقِنًا لهذه الصناعةِ حاذقًا فيها عارفًا بأوضاعِها وقوانينها، والمشارَ إليه في ذلك العصرِ، فتُشَدُّ إليه الرحالُ في أخذها عنه، ومن كلامِه في الطبِّ: "مهما قدرتَ أن تعالجَ بالأغذيةِ، فلا تعالجْ بالأدوية"، "مهما قدرتَ أن تعالجَ بدواءٍ مُفرَد فلا تعالجْ بدواءٍ مركَّب"؛ "إذا كان الطبيبُ عالِمًا والمريضُ مُطيعًا، فما أقلَّ لُبثَ العِلَّة"؛ "عالجْ في أوَّلِ العلَّة بما لا تَسقُط به القُوَّة". توفِّي في بغداد، وقد اختلف كثيرًا في سَنة وفاتِه مع شهرتِه، فقيل: توفِّي سنة 313، وقيل 317، وقيل 320، وقيل 360.
سار طغرلبك إلى خوارزم فحصرها وملكها واستولى عليها، وانهزم شاه ملك بين يديه، واستصحَبَ أموالَه وذخائِرَه، ومضى في المفازةِ إلى دهستان، ثم انتَقَل عنها إلى طبس، ثمَّ إلى أطراف كرمان، ثمَّ إلى عمال التيز ومكران، فلمَّا وصَلَ إلى هناك عَلِمَ خلاصَه ببُعدِه، وأمِنَ في نفسه، ثمَّ خرجَ طغرلبك من خراسانَ إلى الريِّ بعد فراغِه مِن خوارزم، وجرجان، وطبرستان، فلمَّا سَمِعَ أخوه إبراهيمُ ينال بقدومِه سار إليه فلَقِيَه، وتسَلَّم طغرلبك الريَّ منه، وتسَلَّمَ غيرَها من بلد الجبل وسار إبراهيمُ إلى سجستان، وأخذ طغرلبك أيضًا قلعةَ طبرك من مجدِ الدَّولة بن بُوَيه، وأقام عنده مُكَرَّمًا، وأمَرَ طغرلبك بعمارةِ الرَّيِّ وكانت قد خَرِبَت، ثمَّ ساروا إلى قزوين، فامتنعَ عليه أهلُها، فزحف إليهم ورماهم بالسِّهامِ والحجارة، فلم يَقدِروا أن يَقِفوا على السورِ، وقُتِلَ مِن أهل البلد برشق، وأخذ ثلاثَمِئَة وخمسين رجلًا، فلمَّا رأى كامرو ومرداويج بن بسو ذلك خافوا أن يملِكَ البلد عَنوةً ويَنهَب، فمنعوا الناسَ مِن القتال، وأصلحوا الحالَ على ثمانينَ ألف دينار، وصار صاحبُها في طاعته، ثمَّ إنه أرسل إلى كوكتاش وبوقا وغيرهما من أمراء الغز، الذين تقَدَّم خروجُهم، يُمَنِّيهم ويدعوهم إلى الحضورِ في خدمته، وأرسل طغرلبك إلى ملك الديلمِ يدعوه إلى الطاعة، ويطلُبُ منه مالًا، ففعل ذلك، وحَمَل إليه مالًا وعُروضًا، وأرسل أيضًا إلى سلار الطرم يدعوه إلى خدمتِه، ويطالبُه بحمل مِئَتي ألفِ دينار، فاستَقَرَّ الحالُ بينهما على الطاعةِ وشَيءٍ مِن المال. وأرسلَ سَريَّةً إلى أصبهان، وبها أبو منصور فرامرز بن علاء الدَّولة، فأغارت على أعمالِها وعادت سالِمةً، وخرج طغرلبك من الريِّ، وأظهر قصدَ أصبهان، فراسلَه فرامرز، وصانَعَه بمالٍ، فعاد عنه وسار إلى همذان فمَلَكَها من صاحِبِها كرشاسف بن علاء الدَّولة، ثمَّ عاد إلى الريِّ، واستناب بهمذان ناصرًا العَلويَّ، وسَيَّرَ طغرلبك طائفةً من أصحابِه إلى كرمان مع أخيه إبراهيم ينال، بعد أن دخل الريَّ، وقيل إنَّ إبراهيمَ لم يقصِدْ كرمان، وإنَّما قصد سجستان، وكان مُقَدَّم العساكِرِ التي سارت إلى كرمان غيره، فلما وصلوا إلى أطراف كرمان نَهَبوا، ولم يُقدِموا على التوغُّلِ فيها، فلم يَرَوا من العساكِرِ مَن يَكُفُّهم، فتوسَّطوا ومَلَكوا عِدَّةَ مواضعَ منها ونَهَبوها، فبلغ الخبَرُ إلى الملك أبي كاليجار، صاحِبِها، فسَيَّرَ وزيرَه مُهذَّب الدَّولة في العساكِرِ الكثيرة، فخرجت الغزُّ إلى الجِمالِ والبغال والميرة ليأخُذوها، وسَمِعَ مهذَّب الدَّولة ذلك، فسيَّرَ طائفةً مِن العسكر لمنعِهم، فتواقعوا واقتَتلوا، وتكاثرَ الغز، فسَمِعَ مُهَذَّب الدَّولة الخبَرَ، فسار في العساكِرِ إلى المعركة، وهم يقتَتِلون، وقد ثبَتَت كل طائفة لصاحبتِها واشتَدَّ القتال، فلما وصل مهذَّب الدَّولة إلى المعركة انهزم الغُزُّ وتركوا ما كانوا ينهَبونَه، ودخلوا المفازةَ، وتَبِعَهم الديلم إلى رأسِ الحدِّ، وعادوا إلى كرمان فأصلحوا ما فسَدَ منها.
هو السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق العلائي الظاهري الشركسي، السلطان الرابع والثلاثون من ملوك الترك، والعاشر من الجراكسة، ويذكر في أصله أنه أخذ من بلاده صغيرًا فاشتراه خواجا كزلك وجلبه إلى الديار المصرية، فابتاعه منه الأتابك إينال اليوسفي، وقيل: ولده أمير علي بن إينال وهو الأصح، وربَّاه عنده، فطلبه الملك الظاهر منه في سرحة سرياقوس، وأخذه وأعطاه لأخيه جاركس، وقد اختلفت الأقوال في أمر عتقه؛ فمن الناس من قال: إن أمير علي كان أعتقه قبل أن يطلُبَه الملك الظاهر منه، فلما طلبه الملك الظاهر سكت أمير علي عن عتقه لتنال جقمق السعادة بأن يكون من جملة مشتريات الملك الظاهر. تسلطن يوم خُلِعَ الملك العزيز يوسف، وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ربيع الأول سنة 842. كان قد خرج عن طاعة الظاهر جقمق الأمير قرقماس، فواقعه الملك الظاهر، فانهزم قرقماس واختفى، ثم ظُفِرَ به وضُرِبَ عنقه. ثم خرج عن طاعته تغرى برمش نائب حلب، ثم أينال الجكمي نائب الشام؛ فجهز إليهما العساكر، فقاتلوهما واحدًا بعد الآخر، فظَفِرَ بهما وقتلهما. وبعد قتل هؤلاء صفا الوقت للملك الظاهر، وأخذ وأعطى، وقرب أقوامًا وأبعد آخرين. ولم يزل في ملكه والأقدارُ تساعدُه، إلى أن بدأ المرض به في آخر السنة الماضية وما زال يزداد به حتى قويَ عليه جدًّا في أواخر شهر محرم من هذه السنة، ثم لما كان يوم الأربعاء العشرون من المحرم، تكلم السلطان مع بعض خواصِّه في خلع نفسه من السلطنة، وسلطنة ولده المقام الفخري عثمان في حياته، فروجِعَ في ذلك فلم يقبَلْ، ورسم بإحضار الخليفة والقضاة والأمراء من الغد بالدهيشة، فلما كان الغد، وهو يوم الخميس الحادي والعشرين محرم حضر الخليفة والقضاة وجميع الأمراء، وفي ظنِّ الناس أنه يعهد لولده عثمان بالملك من بعده كما هي عادة الملوك، فلما حضر الخليفة والقضاة عنده بعد صلاة الصبح، خلع نفسَه من السلطنة، وقال للخليفة والقضاة: الأمر لكم، انظروا فيمن تُسلطِنوه، أو معنى ذلك؛ لعِلمِه أنهم لا يعدلون عن ولده عثمان؛ فإنَّه كان أهلا للسلطنة بلا مدافعة، فلما سمع الخليفةُ كلام السلطان، لم يعدِلْ عن المقام الفخري عثمان، لِما كان اشتمل عليه عثمان من العلم والفضل، وإدراكِه سِنَّ الشبيبة، وبايعه بالسَّلطنة، وتسلطن في يوم الخميس ولقِّبَ بالملك المنصور، وعمره يومئذ نحو الثماني عشرة سنة تخمينًا، واستمرَّ الملك الظاهر مريضًا ملازمًا للفراش، وابنه الملك المنصور يأخذ ويعطي في مملكتِه، ويعزِلُ ويولي، والملك الظاهر في شُغلٍ بمرضه، وما به من الألم في زيادة، إلى أن مات في قاعة الدهيشة الجوانية بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء ثالث صفر وقرئ حوله القرآن العزيز، إلى أن أصبح وجُهِّزَ وغُسِّلَ وكُفِّن من غير عجلة ولا اضطراب، حتى انتهى أمرُه وحُمِل على نعشه، وأُخرِج به، وأمام نعشه ولده السلطان الملك المنصور عثمان ماشيًا وجميع أعيان المملكة إلى أن صلِّيَ عليه بمصلاة باب القلعة من قلعة الجبل، وصلى عليه الخليفة القائم بأمر الله أبو البقاء حمزة، وخلفه السلطان المنصور عثمان والقضاة وجميع الأمراء والعساكر، ثم حمل بعد انقضاء الصلاة عليه وأُنزِلَ من القلعة، حتى دفِنَ بتربة أخيه الأمير جاركس القاسمي المصارع، ولم يشهد ولده الملك المنصور دفنَه، وكانت مدة سلطنته أربع عشرة سنة وعشرة شهور ويومين.
هي ثاني دولة مستقِلَّة تقوم في اليمَنِ ويُنسَبُ اليعفريون إلى الملوك الحِمْيَريين، ويعتبر يعفرُ بن عبد الرحيم المؤسِّسَ الفعليَّ لهذه الدولة، وكان الخليفةُ المعتَمِد قد عيَّنه عاملًا على صنعاءَ قبل أن يستقِلَّ بالسلطة ويؤسِّسَ الدولة، ولكِنَّ الخلافاتِ نَشَبت بين أفراد الأسرة اليعفريَّة، فضَعُف مركزُها لتنتهي لاحقًا وتدخُلَ في طاعة دولة الأئمَّة. في آخِرِ عهدِ المتوكِّلِ ابتدأت الدولةُ اليعفرية بصنعاء، وكان جَدُّهم عبدُ الرحيم بن إبراهيم الحوالي نائبًا عن جعفرِ بنِ سليمان بن علي الهاشميِّ، الذي كان واليًا للمعتَصِم على نجدٍ واليمَنِ وصَنعاءَ وما إليها، ولَمَّا توفي عبد الرحيم قام في الولايةِ مقامَه ابنُه يعفر بن عبد الرحيم، وهو رأس الدولة ومبدأُ استقلالِها إلَّا أنَّه كان يهابُ آلَ زياد ويدفَعُ لهم خَراجًا يُحمَلُ إلى زَبيدٍ، كأنَّه عامِلٌ لهم ونائبٌ عنهم، وكان ابتداءُ استقلالِ يعفر بن عبد الرحيم سنة 247هـ، واستمَرَّ مُلْكُ صنعاءَ في أعقابِه إلى سنة 387هـ