كان المنصورُ الفاطميُّ- صاحِبُ إفريقيَّةَ- قد استعمَلَ على صقليَّة سنة 336 الحسَنَ بنَ علي بن أبي الحسين الكلبي، فدخلها واستقَرَّ بها، وغزا الرومَ الذين بها عدَّةَ غَزَوات، فاستمَدُّوا مَلِكَ قسطنطينيَّة فسيَّرَ إليهم جيشًا كثيرًا، فنزلوا أذرنت، فأرسل الحسَنَ بنَ علي إلى المنصور يعَرِّفه الحال، فسيَّرَ إليه جيشًا كثيفًا مع خادِمِه فرح، فجمع الحسَنُ جُندَه مع الواصلين وسار إلى ريو، وبثَّ السَّرايا في أرض قلورية، وحاصر الحسَنُ جراجةَ أشَدَّ حِصارٍ، فأشرف أهلُها على الهلاكِ مِن شِدَّةِ العَطَشِ، ولم يبقَ إلَّا أخذُها، فأتاه الخبَرُ أنَّ عسكرَ الرومِ واصِلٌ إليه، فهادن أهلَ جراجة على مالٍ يؤدُّونَه، وسار إلى الرومِ، فلمَّا سَمِعوا بقُربِه منهم انهزموا بغيرِ قِتالٍ، وتركوا أذرنت، ونزل الحسَنُ على قلعة قسانة، وبثَّ سراياه تَنهَبُ، فصالحه أهلُ قسانة على مالٍ، ولم يزَلْ كذلك إلى شَهرِ ذي الحجة، وكان المصافُّ بين المسلمين وعسكَرَ قسطنطينية ومن معه من الرومِ الذين بصقلية، ليلةَ الأضحى، واقتتلوا، واشتدَّ القتال، فانهزم الروم ورَكِبَهم المسلمون يقتلونَ ويأسِرونَ إلى اللَّيلِ، وغَنِمُوا جميعَ أثقالهم وسلاحِهم، ودوابِّهم، وسيَّرَ الرؤوسَ إلى مدائن صقلية، وإفريقية، وحصر الحسَنُ جراجة، فصالحوه على مالٍ يَحمِلونه، ورجع عنهم، وسيَّرَ سَرِيَّة إلى مدينة بطرقوقة، ففتحوها وغَنِموا ما فيها، ولم يزَل الحسن بجزيرةِ صقليَّة إلى سنة إحدى وأربعين، فمات المنصورُ، فسار عنها إلى إفريقيَّة، واتصل بالمعزِّ بن المنصور، واستخلف على صقليَّة ابنَه أبا الحُسين أحمد.
وَلِيَ الأندلُسَ عليُّ بنُ حَمُّود بنِ أبي العَيشِ بنِ ميمون بنِ أحمَدَ بنِ عليِّ بنِ عبد اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ إدريس بن إدريسَ بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وقيل في نَسَبِه غيرُ ذلك، مع اتِّفاقٍ على صِحَّةِ نَسَبِه إلى أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه، وكان سَبَبُ تَوَلِّيه أنَّ الفتى خيرانَ العامريَّ لم يكُنْ راضيًا بولايةِ سُلَيمانَ بنِ الحاكِمِ الأُمويِّ؛ لأنَّه كان من أصحابِ المؤيَّدِ، فلمَّا مَلَك سُلَيمانُ قُرطُبةَ انهزم خيرانُ في جماعةٍ كثيرةٍ مِن الفتيان العامريِّينَ، ثمَّ هَرَب وقَوِيَ أمرُه، وكان عليُّ بنُ حمود بمدينةِ سبتة، وكان أخوه القاسمُ بنُ حمود بالجزيرةِ الخَضراءِ مُستَوليًا عليها، فحَدَثَ لعليِّ بنِ حمود طَمَعٌ في مُلكِ الأندلُسِ لِمَا رأى من الاختلافِ، وكان خيرانُ يُكاتِبُ النَّاسَ، ويأمُرُهم بالخُروجِ على سُلَيمانَ، فوافَقَه جَماعةٌ منهم عامِرُ بنُ فتوح وزيرُ المؤَيَّد، وهو بمالقةَ، وكاتَبوا عليَّ بنَ حَمُّود، وهو بسبتة؛ لِيَعبُرَ إليهم ليقوموا معه ويَسيروا إلى قُرطبة، فعَبَرَ إلى مالقة في سنة 405، ثم تجَهَّزوا وجَمَعوا مَن وافقهم، وساروا إلى قُرطبةَ وبايعوا عليًّا على طاعةِ المُؤَيَّد الأمويِّ، فلمَّا بلغوا غرناطةَ وافَقَهم أميرُها، وسار معهم إلى قُرطبة، فخرج سُلَيمانُ والبربَرُ إليهم، فالتَقَوا واقتتلوا، فانهزم سُلَيمانُ والبربَرُ، وقُتِلَ منهم خَلقٌ كثيرٌ، وأُخِذَ سُليمانَ أسيرًا، فحُمِلَ إلى عليِّ بنِ حمُّود ومعه أخوه وأبوه الحاكِمُ بنُ سُلَيمانَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ الناصر، ودخَلَ عليُّ بنُ حمود قُرطُبةَ في المحَرَّم سنة 407 ودخل خيرانُ وغَيرُه إلى القَصرِ؛ طمعًا في أن يجدوا المؤيَّدَ حَيًّا، فلم يَجدِوه، فأَخَذَ عليُّ بنُ حَمُّود سليمانَ وقَتَلَه سابعَ المحَرَّم، وقتَلَ أباه وأخاه، واستولى عليُّ بنُ حمود على قُرطُبة، ودعا النَّاسَ إلى بيعتِه، فبُويِعَ، واجتَمَعَ له المُلْكُ، ولُقِّبَ المتوكِّلَ على الله.
هو القائد البحار التركي عروج باشا بن يعقوب بن يوسف، وهو أخو خير الدين بربروسا باشا, ويرجع أصلُ الأخوين المجاهدينِ إلى الأتراك المسلمين الذين استقرُّوا في جزيرة مدللي إحدى جزر الأرخبيل, وأمهم سيدة مسلمة أندلسية كان لها الأثر على أولادها في تحويل نشاطهم شطرَ بلاد الأندلس التي كانت تئن في ذلك الوقت من بطش الإسبان والبرتغال, وكان لعروج وخير الدين أخوان مجاهدان أيضًا هما إسحاق ومحمد إلياس. قُتل عروج باشا عن عمر يناهز الثمانية والأربعين عامًا على يد الإسبان وهو يدافع عن تلمسان؛ حيث قتلوه وفصلوا رأسه عن جسده وأرسلوه إلى إسبانيا. وعروج باشا أحد كبار القادة البحريين الأتراك الذين كان لهم الدور الأكبر في الحفاظ على الوجود الإسلامي في شمال إفريقيا ومقاومة الهجمات الصليبية على تلك السواحل.
تمكَّن خير الدين بربروسا من طرد الإسبان من الجيوبِ التي أقاموها في الجزائر، فضمَّ إليه عنابة وقالة في شرقي الجزائر، ثم حقق انتصارًا باهرًا على الإسبانيين حين استولى في هذا العام على حصن بينون الإسباني على الجزيرة المواجهة لبلدة الجزائر، وقد كان قد استمر يقصِفُ الحصنَ بقذائف مدافعه طوال عشرين يومًا حتى تداعت جوانبه، ثم اقتحم الحصنَ مع قوات كثيفة العدد كانت تحملُها خمس وأربعون سفينة جاءت من الساحل، وأُسِرَ قائد الحصن مع كبار ضباطه. إنَّ استيلاء خير الدين على البينون يعدُّ بداية تأسيس ما عرف باسم نيابة الجزائر، ومنذ ذلك التاريخ أصبح ميناء الجزائر عاصمةً عثمانية كبرى للمغرب الأوسط، بل ولكل شمال إفريقيا فيما بعد، وبدأ استخدامُ مصطلح الجزائر؛ للدَّلالة على إقليم الجزائر.
قام خير الدين بربروسا بالهجومِ على جزر البليار الإسبانية وعلى سواحلها الجنوبية، فاجتاز مَضِيقَ جبل طارق، وأطلق العِنانَ لنفسِه بالانقضاض على السفُن الإسبانية والبرتغالية العائدة من الأراضي الأمريكية، والمحمَّلة بالذهب والفضة، فاهتَزَّت لتلك الأحداث جميعُ الأوساط النصرانية، وأقلقت شارل الخامس ملك إسبانيا الذي اعتقد أنَّ خير الدين لن يقوى شأنُه بعد حادثة تونس السابقة، ويُعتبَر ذلك هو ردَّ الفعل على الهجوم المضادِّ الذي قام به الإسبان على تونس، وبدا وكأن الإمبراطوريةَ الرومانيةَ المقدَّسة قد طُوِّقت من قِبَل خصومها الفرنسيين والعثمانيين؛ مما أدى إلى استئناف الحروب بينهما من جديدٍ، كما صارت أهداف إسبانيا والبرتغال واحدةً، وذلك في احتلال مراكزَ في بلاد المغرب بالإضافة إلى خوفهم من تقدُّم العثمانيين داخلَ شِبه الجزيرة الأيبيرية.
ثار أبو عصامٍ ومَن وافقه على إبراهيمَ بن الأغلب، أميرِ إفريقيَّة، فحاربهم إبراهيمُ، فظَفِرَ بهم. واستعمل ابنُ الأغلب ابنَه عبدالله على طرابلس الغرب، فلما قدِمَ إليها ثار عليه الجُندُ، فحصروه في داره، ثم اصطَلَحوا على أن يخرُجَ عنهم، فخرج عنهم، فلم يُبعِد عن البلد حتى اجتمع إليه كثيرٌ من الناس، ووضَعَ العطاء، فأتاه البربرُ من كل ناحية، فاجتمع له عددٌ كثير، فزحف بهم إلى طرابلس، فخرج إليه الجُند، فاقتتلوا فانهزمَ جُند طرابلس، ودخل عبد الله المدينةَ، وأمَّنَ الناسَ وأقام بها؛ ثمَّ عزله أبوه، واستعمل بعده سُفيانَ بن المضاء، فثارت هوارة بطرابلُس، فخرج الجندُ إليهم، والتَقَوا واقتتلوا، فهُزِمَ الجند إلى المدينة، فتَبِعَهم هوارة، فخرج الجندُ هاربين إلى الأميرِ إبراهيم ابن الأغلب، ودخلوا المدينةَ فهَدَموا أسوارها. وبلغ ذلك إبراهيمَ ابن الأغلب، فسيَّرَ إليها ابنَه أبا العباس عبد الله في ثلاثة عشر ألف فارس، فاقتتل هو والبربر، فانهزم البربرُ، وقُتِل كثيرٌ منهم، ودخل طرابلس وبنى سورها. وبلغ خبَرُ هزيمة البربر إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، وجمع البربرَ وحَرَّضَهم، وأقبل بهم إلى طرابلس، وهم جمعٌ عظيم، غضبًا للبربر ونصرةً لهم، فنزلوا على طرابلس، وحصروها. فسدَّ أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بابَ زناتة، ولم يزل كذلك إلى أن توفِّي أبوه إبراهيم بن الأغلب، وعَهِدَ بالإمارة لولده عبد الله، فأخذ أخوه زيادةُ الله بن إبراهيم له العهودَ على الجند، وسيَّرَ الكتاب إلى أخيه عبد الله، يخبِرُه بموت أبيه، وبالإمارة له، فأخذ البربرُ الرسولَ والكتابَ، ودفعوه إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، فأمر بأن يناديَ عبد الله بن إبراهيم بموت أبيه، فصالَحَهم على أن يكونَ البلدُ والبحر لعبد الله، وما كان خارجًا عن ذلك يكونُ لعبد الوهاب، وسار عبدُ الله إلى القيروان، فلقيه الناس، وتسلَّمَ الأمرَ، وكانت أيَّامُه أيامَ سُكونٍ ودَعةٍ.
كانت إيران قد احتلَّت الأحواز (عربستان) في عهد رضا بهلوي عام 1925 بعد أن منحته بريطانيا هذا الإقليمَ العربيَّ مكافأة له على مساندتِه لها في الحرب العالمية الأولى، وقد بلغ غضبُ الأحوازيين بعد الأوضاع الشاذة التي تعرَّض لها على أيدي السلطات الإيرانية المحتلَّة ذِروتَه هذا العامَ، فأخذ أحرارُ الأحواز يحَرِّضون العشائِرَ على الثورة ورَفْع الذلِّ الذي نكَّس رؤوسَهم طوال هذه السنوات, وغسل عار استعبادهم. وبات البركانُ يغلي، والشعبُ الأحوازي يريد الفرصةَ المواتية له حتى يُظهِرَ استياءَه من الوضع، ويعلِنَ غَضَبَه على التنكيل والتعسُّف اللذين يتعَرَّضُ لهما، والاحتقار والازدراء اللذين يلاقيهما من السلطات العسكرية الفارسية؛ فهو صاحب الأرض، ولكن لا مكان لسكناه، وهو صاحِبُ الخيرات إلا أن الجوعَ نصيبُه, وفي 10 فبراير من هذه السنة تفجَّر بركانُ غضب الأحوازيين، وكانت منطقةُ الميناو محلَّه، وعشائر كعب العربية (حكام الإقليم قبل الاحتلال) هم من فجَّر الثورة بإعلان ثورتِهم على الاستعباد، وغضبِهم على سالبي حريتِهم وكرامتِهم وحقوقِهم، وكان قادةُ هذه الثورة زعماء كعب، ومنهم: حيدر بن طُلَيل، وهو القائد الحقيقي للثورة؛ لذا سمِّيَت باسمه "ثورة الشيخ حيدر"، وطُلَيل تصغيرٌ لطلالٍ. ومن القادة مهدي بن علي بن عمير: رئيس عشيرة كعب منان. ومسلم السلمان: أحد شيوخ كعب آل حاجي. وكاطع الشذر: شيخ طوائف مزرعة العشائر العربية الموجودة في الميناو. وداود الحمود: من شيوخ بني كعب. وأبريج: شيخ خزرج. وكان هدفهم القضاءَ على حاميات الفُرس الموجودة في المنطقة، وقد تمكَّنوا من إزالة تلك الحاميات. وسيطروا على ثكناتِها سيطرةً كاملةً، وقد دامت السيطرةُ العربية مدةً طويلة على المنطقة جاوزت الأربعة أشهر، لكن استطاعت سلطاتُ الفرس الإيرانية بعد ذلك أن تلقيَ القبض على الشيخ حيدر وجماعته، وفورَ اعتقالِهم نُقِلوا إلى منطقة تدعى (قلعة سهر)؛ حيث نُصِبَت لهم محكمةٌ عسكرية قضت بإعدام: حيدر طليل، ومهدي بن علي، وأبريج شيخ خزرج.
انتصر الجيشُ العثماني بقيادة القائدِ أحمد مختار باشا على الجيشِ الروسي في معركة "يخنيلر"، واستطاع إحرازَ هذا الانتصار بجيش قوامه 34 ألف جندي على الجيش الروسي المكوَّن من 740 ألف جندي، وخَسِرَ الروس في هذه المعركة 10 آلاف قتيل.
اجتمع الشَّاكرية وأصحابُ الفروض إلى دار محمَّد بن عبدالله بن طاهر أميرِ العراق يطلبونَ أرزاقَهم، فكتب إلى أمير المؤمنين بذلك، فكتب الخليفة في الجواب: إن كنتَ تريد الجندَ لنفسِك فأعطِهم أرزاقَهم، وإن كنتَ تريدُهم لنا فلا حاجة لنا فيهم؛ فشَغَّبوا عليه، وأخرجَ لهم ألفي دينارٍ، ففُرِّقَت فيهم فسكتوا، ثم اجتمعوا مرَّةً أخرى بالسِّلاح والأعلام والطبول، وجمع محمَّد أصحابَه في داره, واجتمع إلى أولئك (المشغِّبين) خلقٌ كثير، وكان رئيسَهم أبو القاسم عبدون بن الموفَّق، وكان من نوَّاب عبيدالله بن يحيى بن خاقان، فحثَّهم على طلب أرزاقِهم، فحصل بينهم وبين أصحابِ محمدٍ قتالٌ، وظهروا على أصحابِه، ولَمَّا رأى ابن طاهر أنَّ الجندَ قد ظهروا على أصحابِه أمرَ بالحوانيت التي على باب الجِسرِ أن تُحرَق، فاحترق للتجَّار متاعٌ كثير، فحالت النارُ بين الفريقين، ورجع الجندُ إلى مُعسكرهم, ثم إنَّ ابنَ طاهر أتاه في بعض الأيامِ رجُلان من الجند، فدلَّاه على عورةِ القومِ، فأمر لهما بمئتي دينارٍ، وأمر الشاه بن ميكال وغيرَه من القواد في جماعةٍ بالمسيرِ إليهم، فسار إلى تلك الناحية، وكان أبو القاسم، وابن الخليل- وهما المقَدَّمان على الجند- قد خافا مُضِيَّ ذَينك الرجُلين، وقد تفرق الناسُ عنهما، فسار كلُّ واحد منهما إلى ناحية، وأما ابن الخليل فإنَّه لقي الشاه بن ميكال ومن معه، فصاح بهم، وصاح أصحابُ محمد، وصار في وسَطِهم، فقُتِل، وأما أبو القاسم فإنَّه اختفى فدُلَّ عليه، فأُخذ وحُمل إلى ابن طاهر، وتفَرَّق الجند من باب حرب، ورجَعوا منازِلَهم، وقُيِّدَ أبو القاسِم وضُرِبَ ضربًا مبرِّحًا فمات منه.
كان البرنس أرناط، صاحب الكرك، من أعظَمِ الفِرنجِ وأخبَثِهم، وأشدِّهم عداوةً للمُسلِمينَ، وأعظَمِهم ضررًا عليهم، فلمَّا رأى صلاح الدين ذلك منه قَصَدَه بالحَصرِ مَرَّةً بعد مرة، وبالغارة على بلاده كَرَّةً بعد أخرى، فذَلَّ وخضع، وطلب الصُّلحَ من صلاحِ الدين، فأجابه إلى ذلك، وهادنه وتحالفا، وترددت القوافل من الشامِ إلى مصر، ومِن مِصرَ إلى الشام، فلما كان هذه السَّنة اجتاز به قافلةٌ عظيمة غزيرة الأموال، كثيرةُ الرِّجالِ، ومعها جماعةٌ صالحةٌ من الأجناد، فغَدَر اللعينُ بهم، وأخَذَهم عن آخِرِهم، وغَنِمَ أموالَهم ودوابَّهم وسلاحَهم، وأودع السُّجونَ مَن أسَرَه منهم، فأرسل إليه صلاحُ الدين يلومُه، ويُقَبِّحُ فِعْلَه وغَدْرَه، ويتهَدَّدُه إن لم يُطلِقِ الأسرى والأموال، فلم يجِبْ إلى ذلك، وأصرَّ على الامتناع، فنذر صلاح الدين نذرًا أن يقتُلَه إن ظَفِرَ به.
توجَّه الأميرُ بيدمر نائِبُ الشام في تاسع عشر من ذي القعدة بعساكِرِ حَلَب إلى سيس، وهي كرسي الأرمن فنازلها، وحصر التكفور متمَلِّكَها مدةَ شهرين حتى طلب الأمانَ؛ مِن فَناءِ أزوِدَتِهم، وعَجْزِهم عن العسكر، فتسَلَّمَ الأمير أشَقتمُر قلعَتَها، وأعلن في مدينةِ سيس بكلمة التوحيد، ورتَّبَ بها عسكرًا، وأخذ التكفورَ وأمراءَه، من أجناد وعاد إلى حلب، وجَهَّزَهم إلى القاهرة، فبعث السلطانُ الأميرَ يعقوب شاه لنيابة سيس، وأزال الله منها دولة الأرمن عُبَّاد الصليب، وقال الأدباء في ذلك شعرًا كثيرا. وفي العشرين منه سقط الطائِرُ بالبشارة بفَتحِ سيس بعث به الأميرُ بيدمر نائب الشام، ثم قَدِمَ من الغد البريد من النوَّاب بذلك، فدُقَّت البشائر بقلعة الجبل ثلاثة أيامٍ بمِصرَ، وحُمِلَ إلى الأمير أشَقتمُر المارديني نائِبِ حلب تشريفٌ جليل.
لما توفِّيَ أبو عبد الله محمد السعدي حاكِمُ المغرب اجتمع الناسُ على بيعة ابنه ووليِّ عهده السلطان أبي العباس الأعرج من سائر الآفاق، وآتوه طاعتهم عن رضًا منهم، فاستقام أمره وصرف عزمه إلى تمهيد البلاد واقتناء الأجناد، وتعبئة الجيوش إلى الثغور وشن الغارات على العدو في الآصال والبكور، في أحواز تيلمست وآسفي وغيرهما. وكان النصارى قد خيَّموا بشاطئ البحر وعاثُوا في تلك السواحل فأجلاهم عنها وطهَّر تلك البقاع من رِجسِهم، وأراح أهلَها مِن شؤمهم ونحسِهم، وهنا بَعُدَ صيتُه وانتشر في البلاد ذِكرُه، وهُرِع الناسُ إليه من كل جانب، ودخلت في طاعته سائرُ البلاد السوسية، فعند ذلك كاتَبه أمراء هنتاتة ملوك مراكش يخطبون أمرَه ويرومون الدخولَ في طاعته، فأجاب داعيَهم، وانتقل إلى مراكش فدخلها واستولى عليها.
قام خير الدين بربروسا والي الجزائر في هذا العام بتوجيه ست وثلاثين سفينة خلال سبع رحلات إلى السواحل الإسبانية في الحوض الغربي للبحر المتوسط، وبفضل الله ثمَّ مساعدات الدولة العثمانية وموارد خزينة الجزائر المتنوِّعة من ضرائبَ وسبيٍ ومغانمَ وزكاة والعُشر والجِزية والفيء والخراج، وما يقوم به الحكَّام ورؤساء القبائل والعشائر من دفْعِ العوائد وغيرها- أصبحت دولة الجزائر لها قاعدةٌ اقتصادية قوية، لقد تضرَّرت إسبانيا من نجاح خير الدين في الشمال الإفريقي، وكانت إسبانيا يتزعَّمها شارل الخامس إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة، والتي كانت تضم وقتذاك إسبانيا وبلجيكا وهولندا وألمانيا والنمسا وإيطاليا، وكانت الدولة الرومانية المقدَّسة تدفع عن أوروبا النصرانية الخطرَ العثماني؛ لذا يمكن القول بأن الصراع بين شارل الخامس وبين ببليربكية الجزائر كان بمثابة فتح جبهة حربية جديدة ضِدَّ الدولة العثمانية في الشمال الإفريقي.
عزم السلطانُ سليمان القانوني- بعد أن استولى على بلغراد، السَّفَرَ بسائر جنوده إلى إسبانيا للاستيلاء عليها، وبدا للسلطان سليمان القانوني أنَّه لا بد له من رجلٍ يعتمد عليه في دخول تلك البلاد على أن يكون عالِمًا بأحوالها، فوقع اختياره على خير الدين بربروسا؛ لما يعرفه عنه من شجاعة وإقدام، وكثرة هجومِه على تلك النواحي، وما استردَّه من بلاد المسلمين في شمال إفريقيا، وكيف أقَرَّ الحكم العثماني فيها، فوجه إليه خطابًا يطلبه فيه إلى حضرته ويأمُره باستنابة بعضِ مَن يأمنه في الجزائر، فعزم خير الدين على السفرِ إلى إستانبول في هذه السنة، وعيَّن مكانَه حسن آغا الطوشي، ولَمَّا وصل إلى إستانبول احتُفل به واستُقبِل بكلِّ حفاوة، وفوَّض إليه الخليفةُ سليمان النظرَ في دار الصناعة، ومنحه لقب قبودان باشا وزير بحرية، حتى تظَلَّ له السلطة الكاملة لمساندةِ النظام في الجزائر؛ لتحقيق هدف الدولة في استعادة الأندلس.
هو القائد أمير البحر طرغد باشا العثماني، يسمى عند النصارى درغوث، وعند العرب طرغول. من أشهر قادة البحر العثمانيين، خلَفَ خيرَ الدين في قيادة الأسطول العثماني في شمال إفريقيا، ولِدَ طرغد عام 1485م، في قرية تابعة للواء منتشة موغلة. التحق بالبحرية العثمانية كجنديٍّ بحري عاديٍّ في سن مبكرة جدًّا، ثم اندفع في شبابه إلى حياة البحر بدافع حب المغامرات، فاشتغل كملَّاح بسيط ثم مِدفَعي، ثم ذاع صيتُه، وأظهر تفوقًا ومقدرة عالية في الأعمال العسكرية البحرية، فوجَّه غزواته ناحية البحار الشرقية للبحر المتوسط ضِدَّ السفن البندقية, وسرعان ما انضمَّ إلى الأخوين عروج وخير الدين بربروسا, فخاض معارك بحرية ناجحة ضد النصارى الإسبان في البحر المتوسط. حتى أصبح الذراع الأيمن لخير الدين بربروسا أميرِ الأسطول العثماني، إلى أن خلَفَه في قيادة الأسطول بعد وفاته, وقد قام بغارةٍ كبيرة على شواطئ إسبانيا، تمكَّن خلالها من إنقاذ آلاف من الموركسيين المسلمين الغرباء في الأندلس. حاز طرغد شهرةً عظيمة في الحروب البحرية وخافت بأسَه جميعُ دول الإفرنج المعادية للدولة العثمانية، وحَفِظَ اسم البحرية العثمانية من السقوطِ بعد موت رئيسِها ومؤسِّسها خير الدين بربروسا في البحر المتوسط, وقد شارك طرغد في تعزيز الحماية العثمانية للجزائر وطرابلس الغرب من خطر الإسبان الذين يطمحون في استرجاعها والسيطرة عليها. توفي طرغد أثناء غزو جزيرة مالطة، وكان عمره حين توفي يناهز الثمانين عامًا، ودُفِن في طرابلس الليبية.