الموسوعة التاريخية

عدد النتائج ( 1037 ). زمن البحث بالثانية ( 0.088 )

العام الهجري : 456 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1064
تفاصيل الحدث:

هو الإمامُ الأَوحدُ، البَحرُ، ذو الفُنونِ والمَعارِف، العَلَّامَةُ أبو مُحمدٍ عليُّ بن أحمدَ بن سَعيدِ بن حَزْمِ بن غالبِ بن صالحِ بن خَلَفِ بن معد بن سُفيانَ بن يَزيدَ (مَولى يَزيدَ بن أبي سُفيانَ) الأُمَويُّ الفَقيهُ الحافظُ، المُتَكَلِّمُ، الأَديبُ، الوَزيرُ، الظَّاهريُّ، صاحبُ التَّصانيفِ. أَصلُ جَدِّهِ يَزيدَ من فارس، وهو أَوَّلُ مَن أَسلَم من أَجدادِه، وجَدُّهُ خَلَفٌ أَوَّلُ مَن دَخَلَ بِلادَ المَغرِب من آبائهِ زَمنَ عبدِالرحمن الدَّاخِل، وكانت بَلدُهم قُرطبةَ، ووُلِدَ ابنُ حَزمٍ بها في رمضان، سنة 384هـ، وكان والِدُه من كُبَراءِ أَهلِ قُرطُبة؛ عَمِلَ في الوِزارةِ للدَّولةِ العامِريَّة، فنَشأَ ابنُ حَزمٍ في تَنَعُّمٍ ورَفاهِيَةٍ، ورُزِقَ ذَكاءً مُفرِطًا، وذِهْنًا سَيَّالًا. فقَرأَ القُرآنَ واشتَغَلَ بالعُلومِ النَّافِعَةِ الشَّرعيَّةِ، وبَرَزَ فيها وَفاقَ أَهلَ زَمانِه. كان حافِظًا عالِمًا بعُلومِ الحَديثِ وفِقْهِهِ، مُستَنبِطًا للأَحكامِ من الكِتابِ والسُّنَّةِ بعدَ أن كان شافِعيَّ المَذهبِ، انتَقلَ إلى مَذهبِ أَهلِ الظَّاهرِ، وكان مُتَفَنِّنًا في عُلومٍ جَمَّةٍ، عامِلًا بِعِلمِه، زاهِدًا في الدُّنيا بعدَ الرِّياسَةِ التي كانت له ولأَبيهِ مِن قَبلِه في الوزارةِ وتَدبيرِ المَمالِكِ، مُتواضِعًا ذا فَضائلَ جَمَّةٍ. قال الذَّهبيُّ: "كان قد مَهَرَ أوَّلًا في الأَدبِ والأَخبارِ والشِّعْرِ، وفي المَنطِقِ وأَجزاءِ الفَلسفَةِ، فأَثَّرَت فيه تَأثيرًا لَيْتَهُ سَلِمَ من ذلك، ولقد وَقفتُ له على تَأليفٍ يَحُضُّ فيه على الاعتِناءِ بالمَنطِقِ، ويُقَدِّمُه على العُلومِ، فتَألَّمتُ له، فإنَّه رَأسٌ في عُلومِ الإسلامِ، مُتَبَحِّرٌ في النَّقْلِ، عَديمُ النَّظيرِ على يُبْسٍ فيه، وفَرْطِ ظاهِريَّةٍ في الفُروعِ لا الأُصولِ". وله تَصانيفُ وكُتُبٌ مَشهورةٌ كَثيرةٌ أَهَمُّها ((المُحَلَّى))، و((الفَصلُ في المِلَل والنِّحَل)).  ويُقال: إنَّه صَنَّفَ أربعمائةَ مُجَلَّدٍ في قَريبٍ من ثمانين ألف وَرَقَةٍ. وكان أَديبًا طَبيبًا شاعِرًا فَصيحًا، له في الطِبِّ والمَنطِقِ كُتُبٌ، كان مُصاحِبًا للشَيخِ أبي عُمرَ بن عبدِ البَرِّ النمري، ومُناوِئًا للشيخِ أبي الوليدِ سُليمانَ بن خَلفٍ الباجيِّ، وقد جَرَت بينهما مُناظراتٌ كَثيرةٌ، وكان ابنُ حَزمٍ كَثيرَ الوَقيعةِ في العُلماءِ بِلِسانِه وقَلَمِه لا يَكادُ يَسلَمُ أَحَدٌ من لِسانِه من العُلماءِ المُتقَدِّمين والمُتأخِّرين، حتى قيلَ: "كان لِسانُ ابنِ حَزمٍ وسَيفُ الحَجَّاجِ بن يوسفَ شَقِيقَينِ, لكَثرةِ وُقوعِه في الأئمةِ" فنَفَرَت عنه القُلوبُ،، فتَمالَأَ العُلماءُ على بُغضِه ورَدُّوا قَولَه واجمَعوا على تَضليلِه وشَنَّعُوا عليه, وحَذَّروا السَّلاطِينَ من فِتنَتهِ, ونَهوا عَوامَّهُم عن الدُّنُوِّ إليه والأَخذِ منه, فأَورَثَهُ ذلك حِقدًا في قُلوبِ أَهلِ زَمانِه، وما زالوا به حتى بَغَّضوهُ إلى مُلوكِهم، فطَردوهُ عن بلادِه حتى تَشَرَّدَ في الباديةِ ومع ذلك لم يرجِع عن أَقوالِه وأَفعالِه. كان ظاهِريًّا لا يقولُ بشيءٍ من القِياسِ لا الجَلِيِّ ولا غَيرِه، وهذا الذي وَضَعهُ عند العُلماءِ، وأَدخَلَ عليه خَطأً كَبيرًا في نَظَرِه وتَصرُّفِه وكان مع هذا مِن أَشَدِّ الناسِ تَأويلًا في باب الأُصولِ، وآياتِ الصِّفاتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ، لأنَّه كان أَوَّلًا قد تَضَلَّع من عِلْمِ المَنطِق، أَخذَهُ عن محمدِ بن الحسنِ المُذحجيِّ الكِناني القُرطُبي، ففَسَدَ بذلك حالُه في بابِ الصِّفاتِ، قال الذَّهبيُّ: "قيلَ: إنَّه تَفَقَّهَ أوَّلًا للشافعيِّ، ثم أَدَّاهُ اجتِهادُه إلى القَوْلِ بنَفْيِ القِياسِ كُلِّهِ جَلِيِّهِ وخَفِيِّهِ، والأَخْذِ بظاهرِ النَّصِّ وعُمومِ الكتابِ والحديثِ، والقَولِ بالبَراءةِ الأصليَّة، واستِصحابِ الحالِ، وصَنَّفَ في ذلك كُتُبًا كَثيرةً، وناظَرَ عليه، وبَسَطَ لِسانَه وقَلَمَه، ولم يَتأَدَّب مع الأئمةِ في الخِطابِ، بل فَجَّجَ العِبارةَ، وسَبَّ وجَدَّعَ، فكان جَزاؤُه من جِنْسِ فِعْلِه، بحيث إنَّه أَعرَض عن تَصانيفِه جَماعةٌ من الأئمةِ، وهَجرُوها، ونَفَروا منها، وأُحرِقَت في وَقتٍ، واعتَنَى بها آخرون من العُلماءِ، وفَتَّشُوها انتِقادًا واستِفادةً، وأَخْذًا ومُؤاخَذةً، ورَأوا فيها الدُّرَّ الثَّمينَ مَمْزوجًا في الرَّصْفِ بالخَرزِ المهينِ، فتارةً يطربون، ومَرَّةً يعجبون، ومِن تَفَرُّدِه يَهزَؤون. وفي الجُملةِ فالكمالُ عَزيزٌ، وكلُّ أَحَدٍ يُؤخذُ من قَولِه ويُتركُ، إلَّا رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم, وكان يَنهضُ بِعُلومٍ جَمَّةٍ، ويُجيدُ النَّقْلِ، ويُحسِن النَّظْمَ والنَثْرَ. وفيه دِينٌ وخَيْرٌ، ومَقاصِدُه جَميلةٌ، ومُصنَّفاتُه مُفيدةٌ، وقد زَهِدَ في الرِّئاسَةِ، ولَزِمَ مَنزِلَه مُكِبًّا على العِلْمِ، فلا نَغلُو فيه، ولا نَجفُو عنه، وقد أَثنَى عليه قَبلَنا الكِبارُ. قال أبو حامد الغزالي: "وجدتُ في أَسماءِ الله تعالى كِتابًا أَلَّفَهُ ابنُ حَزمٍ يَدُلُّ على عِظَمِ حِفظِه وسَيَلانِ ذِهْنِهِ". وقال الإمامُ أبو القاسمِ صاعدُ بن أحمدَ: "كان ابنُ حَزمٍ أَجْمَعَ أَهلِ الأندَلُسِ قاطِبةً لِعُلومِ الإسلامِ، وأَوْسَعَهُم مَعرِفَةً مع تَوَسُّعِهِ في عِلْمِ اللِّسانِ، ووُفورِ حَظِّهِ من البَلاغةِ والشِّعْرِ، والمَعرِفَةِ بالسِّيَرِ والأَخبارِ". قال الحافظُ أبو عبدِ الله محمدُ بن فتوح الحُميدي: "ما رأينا مِثلَه فيما اجتَمَع له من الذَّكاءِ وسُرعَةِ الحِفظِ وكَرَمِ النَّفْسِ والتَّدَيُّنِ، وما رأيتُ مَن يقولُ الشِّعْرَ على البَديهةِ أَسرعَ منه". قال أبو القاسمِ صاعدٌ: "كان أَبوهُ مِن وُزَراءِ المَنصورِ محمدِ بن أبي عامرٍ، ثم وَزَرَ للمُظَفَّرِ، ووَزَرَ أبو محمدٍ للمُسْتَظْهِر عبدِ الرحمن بن هشامٍ، ثم نَبَذَ هذه الطَّريقَة، وأَقبلَ على العُلومِ الشَّرعيَّة، وعَنِيَ بِعِلْمِ المَنطِقِ وبَرَعَ فيه، ثم أَعرَض عنه". قُلتُ (الذهبي): "ما أَعرَض عنه حتى زَرَعَ في باطِنِه أُمورًا وانحِرافًا عن السُّنَّةِ". وقد حَطَّ أبو بكر بن العربي على أبي محمدٍ وعلى الظاهريَّةِ في كِتابِ القَواصِم والعَواصِم، فقال: "هي أُمَّةٌ سَخِيفةٌ، تَسَوَّرَت على مَرتَبةٍ ليست لها، وتَكلَّمَت بكَلامٍ لم تفهَمهُ". قلتُ (الذهبي): "لم يُنصِف القاضي أبو بكرٍ شَيْخَ أَبيهِ في العِلْمِ، ولا تَكلَّم فيه بالقِسْطِ، وبالَغَ في الاستِخفافِ به، وأبو بكرٍ فعَلَى عَظَمَتِه في العِلْمِ لا يَبلُغ رُتْبَةَ أبي محمدٍ، ولا يَكادُ، فرَحِمَهُما الله وغَفَرَ لهُما". ثم قال (الذهبي): "وَلِي أنا مَيْلٌ إلى أبي محمدٍ لِمَحَبَّتِهِ في الحَديثِ الصَّحيحِ، ومَعرِفَتِه به، وإن كنتُ لا أُوافِقُه في كَثيرٍ مما يَقولُه في الرِّجالِ والعِلَلِ، والمَسائِلِ البَشِعَةِ في الأُصولِ والفُروعِ، وأَقطعُ بخَطَئِه في غيرِ ما مَسألةٍ، ولكن لا أُكَفِّرُه، ولا أُضَلِّلُه، وأرجو له العَفْوَ والمُسامَحةَ وللمسلمين. وأَخضَعُ لِفَرْطِ ذَكائِه وسِعَةِ عُلومِه، ورَأيتُه قد ذَكَرَ – أي ابن حزم- قولَ مَن يقول: أَجَلُّ المُصنَّفاتِ (المُوطَّأ). فقال: بل أولى الكُتُبِ بالتَّعظيمِ (صَحيحا) البُخاريِّ ومُسلمٍ" وكانت وَفاتُه شَريدًا في البادِيَةِ بعدَ أن أَقْصَتْهُ المُلوكُ وشَرَّدَتْهُ عن بِلادِه حتى انتهى إلى بادِيَةِ لبلة فتُوفِّي بها آخرَ نهارِ الأحدِ للَيلتينِ بَقِيَتا من شعبان، وقيلَ: إنَّه تُوفِّي في منت ليشم، وهي قَريةٌ له، وقد جاوَزَ التِّسعين.

العام الهجري : 569 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1174
تفاصيل الحدث:

هو المَلِكُ العادِلُ، ناصِر أمير المؤمنين، تقيُّ الملوك، ليثُ الإسلام، أبو القاسِم نور الدين محمود بن الأتابك قسيم الدولة أبي سعيد زنكي بن الأمير الكبير آقسنقر التركي، السلطاني، الملكشاهي. ولِيَ جدُّه آقسنقر نيابةَ حَلَب للسلطان ملكشاه بن ألب آرسلان السلجوقي. وُلِدَ نور الدين يوم الأحد سابع عشر شوال سنة 511؛ وكان أسمَرَ اللَّونِ طويلَ القامةِ حَسَنَ الصورة، ليس بوجهِه شَعرٌ سوى ذقنه. كان ملكًا عادلًا، زاهدًا عابدًا وَرِعًا، متمسكًا بالشريعةِ، مائلًا إلى أهل الخير، مجاهدًا في سبيل الله. لما حاصر أبوه قلعةَ جعبر كان نور الدين في خدمته، فلما قُتِلَ أبوه سار نور الدين بعساكرِ الشام إلى مدينة حلب فمَلَكَها. وملك أخوه سيفُ الدين غازي مدينةَ الموصل. قال الذهبي فيه: " كان نور الدين حامِلَ رايتي العدل والجهاد، قلَّ أن ترى العيونُ مِثلَه، حاصر دمشق، ثمَّ تمَلَّكَها، وبَقِيَ بها عشرين سنة. افتتح أولًا حُصونًا كثيرة، منها فامية، والراوندان، وقلعة إلبيرة، وعزاز، وتل باشر، ومرعش، وعين تاب، وهزم البرنس صاحِبَ أنطاكية، وقتله في ثلاثة آلافٍ من الفرنج، وأظهر السُّنَّةَ بحلب، وقمع الرافِضةَ. وبنى المدارسَ بحلب وحمص ودمشق وبعلبك، والجوامع والمساجد، وسُلِّمَت إليه دمشق للغلاء والخوف، فحَصَّنها، ووسَّعَ أسواقها، وأنشأ المارستان ودارَ الحديث، والمدارس، ومساجد عدة، وأبطل المكوسَ مِن دار بطيخ، وسوق الغنم، والكيالة، وضمان النهر والخمر، ثم أخذ من العدوِّ بانياس والمنيطرة، وكسر الفرنجَ مَرَّات، ودَوَّخهم وأذَلَّهم. وكان بطلًا شجاعًا وافِرَ الهيبة، حسَنَ الرَّمي، مليح الشكل، ذا تعبُّد وخوف ووَرَع، وكان يتعرَّضُ للشهادة، سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشُره من بطون السباع وحواصل الطير. وبنى دار العدل، وأنصف الرعيَّةَ، ووقف على الضعفاء والأيتام والمجاورين، وأمر بتكميلِ سور المدينة النبويَّة، واستخراج العين بأُحُدٍ دفَنَها السَّيلُ، وفتح درب الحجاز، وعَمَرَ الخوانق والربُطَ والجسور والخانات بدمشق وغيرها، وكذا فعَلَ إذ ملك حران وسنجار والرَّها والرقة ومنبج وشيزر وحمص وحماة وصرخد وبعلبك وتدمر, ووقف كتبًا كثيرة, وكسر الفرنجَ والأرمن على حارم وكانوا ثلاثين ألفًا، فقل من نجا، وعلى بانياس." جهَّز نور الدين جيشًا لجبا مع نائبه أسد الدين شيركوه، فافتتح مصر، وقهَرَ دولتها الرافضيَّة، وهربت منه الفرنجُ، وقتل شاورَ الذي غدر به وبشيركوه، وصَفَت الديار المصرية لشيركوه نائبِ نور الدين، ثم لصلاح الدين، فأباد العُبَيديين، واستأصلهم، وأقام الدَّعوة العباسية. وكان نور الدين مليحَ الخط، كثيرَ المطالعة، يصلي في جماعةٍ، ويصوم ويتلو ويُسَبِّح، ويتحَرَّى في القوت، ويتجنب الكِبرَ، ويتشبَّه بالعلماء والأخيار. قال أبو الفرج بن الجوزي: "وليَ نور الدين الشامَ سنين، وجاهد الثغور وانتزع من أيدي الكفار نيفًا وخمسين مدينةً وحِصنًا، منها: الرها، وبنى مارستان في الشام أنفق عليه مالًا، وبنى بالموصل جامعًا غرم عليه ستين ألف دينار، وكانت سيرته أصلح من كثير من الولاة، والطرق في أيامه آمنة، والمحامد له كثيرة، وكان يتديَّنُ بطاعة الخلافة، وتَرَك المكوسَ قبل موته، وبعث جنودًا افتتحوا مصر، وكان يميل إلى التواضع ومحبة العلماء وأهل الدين, وأحلفَ الأمراء على طاعة ولده الصالح إسماعيل بعده, وعاهَدَ ملك الإفرنج صاحِبَ طرابلس وقد كان في قبضته أسيرًا على أن يطلقه بثلاثمائة ألف دينار وخمسين ومائة حصان وخمسمائة زردية، ومثلها تراس إفرنجية ومثلها قنطوريات وخمسمائة أسير من المسلمين، وأنه لا يعبر على بلاد الإسلام سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وأخذ منه في قبضته على الوفاء بذلك مائةً من أولاد كبراء الإفرنج وبطارقتهم, فإن نكث أراقَ دماءَهم، وعزم على فتح بيت المقدس، فوافته المنية في شوال هذه السنة" وقال الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبدٌ من الجهاد، وكان يأكلُ مِن عَمَل يده، ينسخ تارةً، ويعمَلُ أغلافًا تارة، ويلبَسُ الصوف، ويلازم السجادة والمصحَف، وكان حنفيًّا، يراعي مذهبَ الشافعي ومالك, وكان ابنُه الصالح إسماعيل أحسَنَ أهل زمانه." قال ابنُ خَلِّكان: "افتتح من بلاد الفرنجة عدَّة حصون، منها مرعش وبهسنا، وحارم، وأعزاز وبانياس وغير ذلك ما تزيد عدتُه على خمسين حصنًا. ثم سيَّرَ الأمير أسد الدين شيركوه إلى مصر ثلاث دفعات، وملكها السلطان صلاح الدين في الدفعة الثالثة نيابة عنه، وضرب باسمِه السكَّة والخطبة بمصر، وكان زاهدًا عابدًا متمسِّكًا بالشرع، مجاهِدًا كثير البر والأوقاف، له من المناقب ما يستغرق الوصفَ". توفي يوم الأربعاء حادي عشر من شوال، بعِلَّة الخوانيق، وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيبًا فما رُوجِعَ, ودُفِنَ بقلعة دمشق, فقد كان يلازم الجلوسَ والمبيت فيها، ثم نُقل منها إلى المدرسة التي أنشأها بدمشق، عند سوق الخواصين، وكانت ولايته ثمانية وعشرين سنة وأشهرًا, وكان لموته وقعٌ عظيم في قلوب الناس، وتأسفوا عليه؛ لأنه كان محسنًا محمود السيرة، ولَمَّا توفي نور الدين قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بالمُلك بعده، وكان عمرُه إحدى عشرة سنة، وحلف له الأمراء والمقَدَّمون بدمشق، وأقام بها، وأطاعه الناس بالشام وصلاحُ الدين بمصر، وخُطِبَ له بها، وضرب السكة باسمه، وتولى تربيتَه الأميرُ شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم، وصار مدبِّرَ دولته؛ فقال له كمال الدين بن الشهرزوري ولِمَن معه من الأمراء: "قد علمتُم أن صلاح الدين صاحِبَ مصر هو من مماليك نورِ الدين ونوَّابه أصحاب نور الدين، والمصلحة أن نشاورَه في الذي نفعله، ولا نُخرِجُه من بيننا فيَخرُج عن طاعتنا، ويجعل ذلك حُجَّة علينا، وهو أقوى منا؛ لأنه قد انفرد اليوم بملك مصر، فلم يوافِقْ هذا القولَ أغراضَهم، وخافوا أن يدخُلَ صلاح الدين ويُخرِجَهم، فلم يمضِ غيرُ قليل حتى وردت كتُبُ صلاح الدين إلى المَلِك الصالح يُعَزِّيه ويهنئه بالمُلك، وأرسل دنانيرَ مِصريَّةً عليها اسمه ويُعَرِّفُه أنَّ الخطبة والطاعة له كما كانت لأبيه".

العام الهجري : 756 العام الميلادي : 1355
تفاصيل الحدث:

هو الطبيبُ الرئيسُ الحكيمُ جمال الدين أبو إسحاق إبراهيمُ بن شهاب الدين أحمد، المعروف بابن المغربي: رئيس الأطباء بالديار المصرية والممالك الشامية، ذو الرُّتبة المنيعة والمكانة العالية والوَجاهة في الدولة والحُرمة عند الناس، خصوصًا في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون؛ لِقُربه من السلطان وخِدمة أكابر الأمراء والوزراء في مواطِنَ كثيرة سرًّا وجهرًا، وكان ممن خرج صحبة الركاب الناصري سنة 708 وأقام معه بالكرك، وتردد في الدخولِ إليه مع من كان يدخُلُ إليه من ذوي الخِدَم، ثمَّ تفَرَّد بذلك مع الخاصكية، فصارت له بهذا خصوصيَّة ليست لأحَدٍ، وكان السلطانُ يَعرِفُ له حَقَّ ذلك ويرعاه ويطمَئِنُّ إليه ويعَوِّلُ دون كلِّ أحد عليه، وكان أبوه شهاب الدين أوحَدَ أهل زمانه في الطبِّ وأنواع الفضائل، وقرأ جمال الدين على مشايخ الأطباءِ وأخذ عن أبيه الطبَّ والنجامة إلى غير ذلك، وكان أبوه كثير السرورِ به والرضا عنه، وكان قد فَرَّق أبوه مالًا على بنيه ثم تركهم مُدَّةً وطلب منهم المالَ، فأحضر إليه جمالُ الدين المالَ وقد نَمَّاه وثَمَّرَه ولم يُحضِرْ غَيرُه المال لتفريطٍ حصل فيه، فازداد جمال الدين مكانة من خاطره، ورَدَّ عليه المالَ ومِثلَه معه، وكان إذا رآه قال: هذا إبراهيم سعيد، وكان الأمرُ على ما ذكَرَه وصَدَقَت فِراسَتُه, فخدم السلطانَ في حياة أبيه، وتقَدَّم لديه وباشَرَ المارستان وفُوِّضَت إليه الرياسةُ مُطلقًا، ثم أخذ في الترقي إلى أن عُدَّ من أعيان الدولة وأكابر أرباب المراتِبِ، والتحق بدرجةِ الوُزَراء وذوي التصَرُّف، بل زاد عليهم لإقبالِ السلطان عليه وقُربِه منه، وكان أول داخل إليه يدخُلُ كُلَّ يوم قبل كل ذي وظيفةٍ برانية من أرباب السيوفِ والأقلامِ، فيسأل جمال الدين السلطان عن أحوالِه وأحوالِ مَبيتِه وأعراضِه في ليلتِه، فيُحَدِّثُه في ذلك، ثمَّ أمور بقيَّة المرضى من أهل السُّلطان والأمراء ومماليك السلطان وأرباب وظائِفِ وسائر الناس، ويسأله السلطان عن أحوال البلد ومَن فيه من القضاة والمحتَسِب ووالي البلد، وعَمَّا يقوله العوامُّ ويستفيضُ فيه الرعيَّة، ومن لعَلَّه وقع في تلك الليلة بخِدمةٍ أو أمسك بجزيرة، أو أخذ بحَقٍّ أو ظلم؛ ولهذا كان يُخشى ويُرجى وتُقبَلُ شفاعاتُه وتُقضى حاجاتُه، وكان يجِدُ سبيله إذا أراد لغيبةِ أرباب الوظائفِ السلطانيَّة، ولا يجدون سبيلًا لهم عليه؛ إذ تناط بهم أمورٌ مِن تصَرُّفٍ في مالٍ أو عَزلٍ وولايةٍ يقال في ذلك بسَبَبِهم ولا يناطُ به شَيءٌ مِن ذلك يقالُ فيه بسَبَبِه؛ فلهذا طال مكثُه ودامت سعادتُه ولم يغَيِّرْ عليه مُغَيِّرٌ ولا استحال عليه السلطانُ، وحصَّل النِّعَم العظيمةَ والأموال الوافرة والسعادة المتكاثرة؛ قال القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: " لقد حرص النشو على رميِه مِن عَينِ السلطان بكلِّ طريقٍ فلم يقدِرْ، حتى إنه عمل أوراقًا بما على الخاصِّ مِن المتأخِّراتِ مِن زمانِ مَن تقَدَّمَه وذكر فيها جملةً كثيرة ثمَن صِنفٍ أظنُّه رصاصًا بِيعَ مِن جمال الدين، ثم قرأ الأوراقَ على السلطان ليُعلِمَه أنَّ له أموالًا واسعةً يتكَسَّبُ فيها ويتاجِرُ على السلطان، وهو يعيد ذِكرَ جمال الدين مراتٍ ويَرفَع صَوتَه ثمَّ يَسكُت ليفتَحَ السلطانُ معه بابًا فيه، فيقول: فماذا يريد؟ فما زاد السلطانُ على أن قال: هذا لا تؤخِّرْه، روح الساعةَ أعطِه مالَه، ولا تؤخِّرْ له شيئًا" فقد كان السلطانُ عارفًا بما لجمال الدين من المنافِعِ مِمَّا يحصل له من الخِلَع الكوامل والبِغال المُسرَجة المُلجَمة والتعابي والقماش والإنعامات من الآدر السلطانية والأمراء, وكان الطبيبُ الرئيس يلازم الخدمةَ سفرًا وحَضَرًا ويتجَمَّلُ في ملبوسِه ومركوبِه وحَشَمِه وداره وجواريه وخَدَمِه مِن غير إسرافٍ ولا تكثُّر، وكان السلطان لا يقول له إلَّا يا إبراهيمُ، وربما قال: يا حكيم إبراهيم، ولقد قال مرة: إبراهيم صاحبنا- يعني جمال الدين- وكان غايةً منه في قُربِ المحَلِّ والأمنِ إليه! وله مع هذا خصوصية ببكتمر الساقي أنَّه إلى جانب السلطان أميَلُ، وعلى رضاه أحَلُّ، وجمال الدين على إفراطِ هذا العلو وقُرْبِ هذا الدنو لا يتكبَّرُ ولا يرى نفسَه إلا مثل بعضِ الأطباء توقرًا لجماعة رُفقَتِه كُلِّهم ويجلُّ أقدار ذوي السنِّ منهم وأهل الفضل ويخاطِبُهم بالأدب، ويحَدِّثُهم بالحسنى ويأخذُ بقلب الكبير منهم والصغير والمُسلِم والذمِّي، وكان يكره صلاح الدين بن البرهان ويُكرِمُه، ويبغض ابن الأكفاني ويعَظِّمُه ويحفظُ بكُلِّ طَريقٍ لِسانَه، ويتقصد ذِكرَ المحاسِنِ والتعامي من المعائب، وله الفضيلة الوافرة في الطب علمًا وعملًا، والخَوض في الحُكميات والمشاركة في الهيئة والنجامة، كل هذا إلى حُسنِ العقل المعيشي ومصاحبة الناس على الجميل، وكان لا يعود مريضًا إلَّا من ذوي السلطانِ، ولا يأتيه في الغالب إلَّا مَرَّةً واحدة، ثمَّ يقَرِّرُ عنده طبيبًا يكون يعوده ويأتيه بأخباره، ثم إذا برأ ذلك المريض استوجب عليه جمال الدين ما يستوجِبُه مِثلُه، فإذا خلع عليه أو أنعم عليه بشيءٍ دخل إلى السلطانِ وقَبَّل الأرض لديه فيُحيطُ عِلمًا بما وصل إليه, ولما أُثقِلَ السلطان في المرض نوبةَ موته، كان جمال الدين مريضًا ولم يَحضُرْه, وقيل: إنما تمارض بعد أمْنِ التُّهَم, وتوفِّيَ الرئيس جمال الدين هذا العامَ.

العام الهجري : 803 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1400
تفاصيل الحدث:

بعد أن انتهى تيمورلنك من سيواس توجه إلى جهة حلب فوصل إلى عينتاب، ووصل إلى بهنسا وأخذها بعد أن حصرها، ثم نزل على بزاعة ظاهر حلب، فبرز نائب طرابلس بسبعمائة فارس إلى جيش تيمورلنك وهم نحو ثلاثة آلاف، وترامى الجمعان بالنشاب، ثم اقتتلوا، وأُخِذ من التتار أربعة، وعاد كل من الفريقين إلى موضعه فوسط الأربعة على أبواب مدينة حلب، وأما دمشق فإن أهلها بدؤوا يتجهزون والقضاة تحرِّضُ الناس على الجهاد ضدَّ تيمورلنك، وأما عساكر مصر فبدأت كذلك بالتجهز، قال تقي الدين المقريزي: "لما نزل تيمورلنك على عينتاب بعث إلى دمرداش نائب حلب يعده باستمراره في نيابة حلب، ويأمره بمسك الأمير سودن نائب الشام، فلما قدم عليه الرسول بذلك أحضره إلى نواب ممالك الشام، وقد حضروا إلى حلب وهم: سودن نائب دمشق، وشيخ المحمودي نائب طرابلس، ودقماق نائب حماة، وألطنبغا العثماني نائب صفد، وعمر بن الطحان نائب غزة بعساكرها، فاجتمع منهم بحلب نحو ثلاثة آلاف فارس منهم عسكر دمشق ثمانمائة فارس، إلا أن الأهواء مختلفة، والآراء مفلولة، والعزائم محلولة، والأمر مدبَّر، فبلغ رسول تيمورلنك الرسالة دمرداش، فأنكر مَسْكَ سودن نائب دمشق، فقال له الرسول: إن الأمير - يعني تيمورلنك- لم يأت إلا بمكاتبتك إليه، وأنت تستدعيه أن ينزل على حلب، وأعلمته أن البلاد ليس بها أحد يدفع عنها، فحنق منه دمرداش وقام إليه وضربه، ثم أمر به فضُرِبَت رقبته، ويقال: إن كلام هذا الرسول كان من تنميق تيمورلنك ومَكْرِه، ليفَرِّقَ بذلك بين العساكر" ونزل تيمورلنك على جبلان خارج حلب يوم الخميس تاسع ربيع الأول، وزحف يوم الجمعة، وأحاط بسور حلب، وكانت بين الحلبيين وبينه في هذين اليومين حروب، فلما أشرقت الشمس يوم السبت الحادي عشر خرج نواب الشام بالعساكر وعامة أهل حلب إلى ظاهر المدينة وعبُّوا للقتال، ووقف سودن نائب دمشق في الميمنة، ودمرداش في الميسرة، وبقية النواب في القلب، وقدموا أمامهم عامة أهل حلب، فزحف تيمورلنك بجيوش قد سدَّت الفضاء، فثبت الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس، وقاتل -هو وسودن نائب دمشق- قتالًا عظيمًا، وبرز الأمير عز الدين أزدمر أخو أينال اليوسفي، وولده يشبك ابن أزدمر في عدة من الفرسان، وأبلوا بلاء عظيمًا، وظهر عن أزدمر وولده من الإقدام ما تعجَّب منه كل أحد، وقاتلا قتالًا عظيمًا، فقُتل أزدمر وفُقد خبره، وثخنت جراحات يشبك، وصار في رأسه فقط زيادة على ثلاثين ضربة بالسيف سوى ما في بدنه، فسقط بين القتلى، ثم أُخِذ وحمل إلى تيمورلنك ولم يمضِ غير ساعة حتى ولَّت العساكر تريد المدينة، وركب أصحاب تيمورلنك أقفيتَهم، فهلك تحت حوافر الخيل من الناس عدد لا يدخل تحت حصر؛ فإن أهل حلب خرجوا حتى النساء والصبيان، وازدحم الناسُ مع ذلك في دخولهم من أبواب المدينة، وداس بعضُهم بعضًا، حتى صارت الرمم طول قامة، والناس تمشي من فوقها، وتعلَّق نواب المماليك بقلعة حلب، ودخل معهم كثيرٌ من الناس، وكانوا قبل ذلك قد نَقَلوا إلى القلعة سائر أموال الناس بحلب، واقتحمت عساكر تيمورلنك المدينةَ وأشعلوا بها النيران، وجالوا بها ينهبون ويأسرون ويقتلون، واجتمع بالجامع وبقية المساجد نساءُ البلد، فمال أصحاب تيمورلنك عليهنَّ وربطوهن بالحبال، ووضعوا السيف في الأطفال فقتلوهم بأجمعِهم، وأتت النار على عامة المدينة فأحرقتها، وصارت الأبكار تُفتَضَّ من غير تستُّرٍ ولا احتشام! بل يأخذ الواحد الواحدة ويعلوها في المسجد والجامع، بحضرة الجم الغفير من أصحابه، ومن أهل حلب، فيراها أبوها وأخوها ولا يقدِرُ أن يدفع عنها؛ لِشُغلِه بنفسِه، وفَحُش القتل، وامتلأ الجامع والطرقات برمم القتلى، واستمر هذا الخطب من صحوة نهار السبت إلى يوم الثلاثاء، والقلعة قد نقب عليها من عدة أماكن، ورُدِم خندقها، ولم يبقَ إلا أن تؤخذ، فطلب النواب الأمان، ونزل دمرداش إلى تيمورلنك فخلع عليه ودفع إليه أمانًا، وخِلَعًا للنواب، وبعث معه عدَّةً وافرة إلى النواب، فأخرجوهم ممن معهم، وجعلوا كل اثنين في قيد وأحضروا إليه، فقرعهم ووبَّخهم، ودفع كل واحد منهم إلى من يحتفظ به، وسيقت إليه نساء حلب سبايا، وأُحضرت إليه الأموال ففرَّقها على أمرائه، واستمرَّ بحلب شهرًا، والنهب في القرى لا يبطل، مع قطع الأشجار وهدم البيوت، وجافت حلب وظواهرها من القتلى، بحيث صارت الأرض منهم فراشًا، لا يجِدُ أحد مكانًا يمشي عليه إلا وتحت رجليه رمةُ قتيل، وعُمِل من الرؤوس منابر عدة مرتفعة في السماء نحو عشرة أذرع في دور عشرين ذراعًا، حُرِز ما فيها من رؤوس بني آدم، فكان زيادة على عشرين ألف رأس! وجعلت الوجوه بارزة يراها من يمرُّ بها، ثم رحل تيمورلنك عنها، وهي خاوية على عروشها، خالية من ساكنها وأنيسها، قد تعطلت من الأذان، وإقامة الصلوات، وأصبحت مُظلِمةً بالحريق، مُوحِشةٌ قَفراءُ مُغبرة، لا يأويها إلا الرخم، ثم بعد أن رحل الجيش عنها سائرًا إلى جهة دمشق ورد الخبر أن أحمد بن رمضان التركماني، وابن صاحب الباز، وأولاد شهري، ساروا وأخذوا حلب، وقتلوا من بها من أصحاب تيمورلنك وهم زيادة على ثلاثة آلاف فارس.

العام الهجري : 1400 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1980
تفاصيل الحدث:

بدَأَت الحربُ بين العراقِ وإيرانَ في 13 ذي القعدة عام 1400هـ / 22 أيلول، باندفاعِ القواتِ العراقيةِ داخلَ إيرانَ؛ اعتمادًا على اتِّفاقية الجزائر التي تُطالِبُ الطرفينِ بالانسحابِ مِن المناطق المحتلَّةِ من أرْض الطرَفِ الآخَرِ، غيرَ أن إيرانَ لم تَنسحِبْ من مَنطقة زين القوسِ، وتجاهَلَت مُطالبةَ العراقِ لها بالانسحابِ، ثم قامتْ إيرانُ بهُجومٍ مُعاكس في جُمادى الأولى عام 1402هـ / آذار 1982م، وتمكَّنت مِن استعادة مَدينة المحمرة (خرمشهر) بعدما يَقرُب مِن شَهرينِ مِن بَدْء الهجوم، ثم اشتدَّت المعارضةُ الداخلية في العراقِ على الحرْب مِن عدة أطرافٍ؛ مِن إسلاميين، وشِيعةٍ، وحِزْبيينَ مُوالين لِسُوريَة وأكرادٍ، ولكنَّ الرئيس صدامًا لم يَأْبَه للمعارضين، فهاجَمَ هو أيضًا ناقلات النِّفط في شَهر شوال من عام 1402هـ / آب 1982م، في مُحاولة للضغْطِ على إيرانَ للصُّلح وإيقاف مُساعدتِها للأكرادِ، وشنَّت إيرانُ هُجومًا من الجبهةِ الشَّمالية، واستطاعَتْ احتلالَ ما يَقرُبُ من 700 كم2، وزادت العراقُ مِن الهجماتِ الصاروخيةِ والغاراتِ الجويةِ ضِدَّ المُدن والمنشآتِ النِّفطية في جزيرة خرج، وهدَّدت إيرانُ بإغلاقِ مَضيق هُرْمزَ حتى يتِمَّ حَجْزُ الخليج عن الاتِّصال ببقية البحارِ، وحاولت أمريكا ومِصر وسُوريَة والسُّعودية التوسُّطَ؛ لِيَتِم التفاوض بيْن العراق وإيرانَ، إلا أنَّ إيرانَ رفَضَت إلا بتَنحيةِ صدَّام عن الحكمِ وانسحابِ القوات العراقيةِ من المناطق التي دخلَتْها، ودفْعِ العراقِ تعويضاتٍ عن خسائرِ إيرانَ في هذه الحرب، وحرَصَت كلُّ دولة على التسلُّح بأحدث الأسلحةِ، وأمدَّت مصرُ العراقَ بمعِداتٍ عسكريةٍ تُقارِب ملياريْ دُولارٍ، وباعتِ الصِّين للعراقِ أسلحةً بما يقارب الثلاثةَ مِليارات دُولار، وزوَّدت أمريكا العراقَ بطائرات مروحيةٍ ومُعدات ثقيلةٍ، مع تَصريحِها بالحياد، وزوَّدت رُوسيا العراقَ بالأسلحةِ والصواريخِ، مع إعلانِها هي الأخرى الحيادَ، وباعت الكويتُ والسُّعودية رُبعَ مليونَ برميلٍ من النِّفط يوميًّا من المنطقة المحايدة لصالح العراقِ، أمَّا إيرانُ فاشترَتْ من الصِّين أسلحةً بقيمة 575 مليونَ دولارٍ، واشترَتْ من البرازيلِ وتشيلي، وزوَّدتها أمريكا ورُوسيا أيضًا بالأسلحةِ، وهاتانِ الدولتانِ مِن صالحهما بَقاءُ الحرب، ومن أهمِّ المصالحِ بيعُ الأسلحةِ وغيرها مِن المصالح الأخرى في المنطقة التي يُرِيدون أن تبقى غيرَ مُستقرَّةٍ دائمًا، ثم حشَدَت إيرانُ نِصف مليونَ مقاتلٍ قُرب شطِّ العرب، وأنشأَتِ العراقُ السُّدود والحواجزَ أمام الهجومِ الإيراني الذي قام بضَرْب الناقلاتِ الكويتية والسُّعودية وموانئ الدَّولتينِ النِّفطية، واستأنَفَ العراقُ الهجومَ على ناقلاتِ النِّفط الإيرانية، وفي جمادى الآخرة 1405هـ / آذار 1985م حشَدَت إيرانُ نِصف مليون مقاتل على الجبهةِ الجنوبية شَرق نَهر دِجْلة، وتمكَّنت مِن عُبور النهر، واتَّهَمت العراقَ باستعمالِ الأسلحةِ الكيماوية، وهاجَم العراقُ طَهرانَ بالصواريخ، وثلاثينَ مدينةً أخرى، وردَّت إيرانُ بالمثلِ، وفي شهر شوال / حُزيران احتلَّت العراقُ جَزيرة خرك الإيرانية، وفي مَطلع عام 1407هـ / أيلول 1986م دمَّرت العراق ناقلات النِّفط في جَزيرة لافان، وهاجمَت جزيرة لارك، وتقدَّمت إيرانُ إلى البصرةِ، ثم أخذَتِ التهديداتُ العسكريةُ الإيرانية تقِلُّ، فركَّزت العراقُ على الأكرادِ، وفي 8 جمادى الأولى 1407هـ / 8 كانون الثاني 1987م قامت فِرقةٌ إيرانية تَحمِل اسم (كربلاء 5) بهجومٍ نحوَ البصرة، ولكنها تكبَّدت خسائرَ جسيمةً، ثم أعقَبها هَجمات أخرى على طُول الحدودِ مع العراقِ، وما أنِ انتصَفَ العامُ حتى كان العراقُ قد استعاد كثيرًا من أراضيهِ التي كانت إيرانُ قد احتلَّتْها، وفي بداية النِّصف الثاني من عام 1408هـ / شباط 1988م، استأنَفَت العراقُ قصفَ المُدن بعد انقطاعٍ دامَ أكثر من عامٍ، وسبَقه استئنافُ قَصفِ الناقلاتِ، وفي رجب من العام نفْسِه بدأ جيشُ التحريرِ الوطني -وهو الجناحُ العسكريُّ لتجمُّع المقاومة الإيرانية من مُجاهدي خلق، والمدعومُ مِن العراق- ببَدْءِ عَملياته الهجوميةِ في إقليم عَرَبستان، ثم استعادتِ العراقُ الفاو في شَعبان، وفي ذي الحجة وافقتْ إيرانُ على قَرار مجلس الأمن رقم (598) دون قيدٍ أو شرطٍ بعد أن ماطَلَت أكثرَ من عامٍ، وتقدَّمت السرايا العراقيةُ داخِلَ إيران قبل عمليةِ انسحابِ إيران إلى خلْف الحدود، ودخلَت إيرانَ، وفي أواخر شَهر ذي الحجة دخلَت العراقُ وإيرانُ في مفاوضاتٍ لإنهاء الحرب، وطلَب العراق تأخيرَ تنفيذ وَقفِ إطلاق النار حتى تتمَّ المفاوضات المباشِرةُ مع إيرانَ تحت إشراف الأُمَمِ المتحدة، وفي 8 محرم 1409هـ / 20 آب 1988م توقَّف إطلاقُ النار، ووُضِعَ 350 ضابطًا من الأُمَمِ المتحدة للإشراف على تَنفيذ وقفِ إطلاق النارِ، وأقرَّ مجلسُ الشيوخ الأمريكي فَرْضَ عُقوبة اقتصادية على العراقِ، وامتنَعَت أمريكا مِن استيراد النِّفط العراقي، أمَّا المفاوضاتُ بين العراق وإيرانَ فكانت كلُّ دولةٍ تدَّعي أن شطَّ العرب من حقِّها، وبدأ الاختلافُ على بعضِ القضايا؛ كتَفتيش السُّفن العراقية في مَضيق هُرْمز، ومَن بدَأ بالحربِ، وغير ذلك، وبقِيَ الخلاف مُستحكمًا إلى صفر 1410هـ / أيلول 1989م، ثم في ربيع الثاني / تشرين الثاني وافقَت كلٌّ من العراق وإيرانَ على تبادُلِ الأسرى، بعد أنْ دامت الحربُ أكثرَ من 8 سنوات.

العام الهجري : 61 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 680
تفاصيل الحدث:

لم يُبايِعْ الحُسينُ بن عَلِيٍّ رضي الله عنه لِيَزيدَ، وبَقِيَ في مكَّة هو وابنُ الزُّبيرِ؛ ولكنَّ أهلَ الكوفَة راسَلوا الحُسينَ لِيَقْدُمَ عليهم لِيُبايِعوهُ ويَنصُروهُ فتكونُ له الخِلافَة، وكان على الكوفَة عُبيدُ الله بن زيادٍ، فبعَث الحُسينُ ابنَ عَمِّهِ مُسلِم بن عَقِيلَ لِيَعلَمَ له صِدْقَ أهلِ الكوفَة، فقَبَضَ عليه ابنُ زيادٍ وقَتَلَهُ، وتَوالَت الكُتُبُ مِن أهلِ الكوفَةِ للحُسينِ لِيَحضُرَ إليهم حتَّى عزَم على ذلك، فناصَحَهُ الكثيرُ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ منهم: ابنُ عُمَر، وأخوهُ محمَّدُ بن الحَنَفِيَّةِ، وابنُ عبَّاسٍ، وأبو سَعيدٍ الخُدريُّ وعبدُ الله بن الزُّبيرِ.... ألَّا يَفْعَلَ، وأنَّهم سَيَخْذُلونَه كما خَذلوا أباهُ وأخاهُ مِن قَبلُ؛ لكنَّ قَدَرَ الله سابقٌ فأَبَى إلَّا الذِّهابَ إليهم، فخرَج مِن مكَّة في ذي الحَجَّة، ولمَّا عَلِمَ ابنُ زيادٍ بمَخْرَجِه جَهَّزَ له مَن يُقابِلهُ، فلمَّا قَدِمَ الحُسينُ وقد كان وَصَلَهُ خبرُ مَوتِ مُسلِم وأخيهِ مِن الرَّضاعِ فقال للنَّاس مَن أَحَبَّ أن يَنْصرِفَ فليَنْصَرِفْ، ليس عليه مِنَّا ذِمامٌ. فتَفَرَّقوا يَمينًا وشِمالًا حتَّى بَقِيَ في أصحابِه الذين جاؤوا معه مِن مكَّة، وقابَلَهم الحُرُّ بن يَزيدَ مِن قِبَلِ ابنِ زيادٍ لِيُحْضِرَ الحُسينَ ومَن معه إلى ابنِ زيادٍ؛ ولكنَّ الحُسينَ أَبَى عليه ذلك، فلم يَقْتُلْه الحُرُّ وظَلَّ يُسايِرُهُ حتَّى لا يَدخُلَ الكوفَة، حتَّى كانوا قريبًا مِن نِينَوَى جاء كتابُ ابنِ زيادٍ إلى الحُرِّ أن يُنْزِلَ الحُسينَ بالعَراءِ بغَيرِ ماءٍ، ثمَّ جاء جيشُ عُمَر بن سعدِ بن أبي وقَّاص كذلك للحُسينِ، إمَّا أن يُبايِع، وإمَّا أن يَرى ابنُ زيادٍ فيه رَأيَهُ، وعرَض الحُسينُ عليهم إمَّا أن يَتركوهُ فيَرجِع مِن حيث أَتَى، أو يَذهَب إلى الشَّام فيَضَعُ يَدَهُ في يَدِ يَزيدَ بن مُعاوِيَة، وإمَّا أن يَسيرَ إلى أيِّ ثَغْرٍ مِن ثُغورِ المسلمين فيكون واحدًا منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم. فلم يَقْبَلوا منه شيئًا مِن ذلك، وأَرسَل ابنُ زيادٍ طائفةً أُخرى معها كِتابٌ إلى عُمَر بن سعدٍ أن ائْتِ بهم أو قاتِلْهُم، ثمَّ لمَّا كان اليومُ العاشر مِن مُحرَّم الْتَقى الصَّفَّانِ، وذَكَّرَهُم الحُسينُ مَرَّةً أُخرى بكُتُبِهم له بالقُدومِ فأنكروا ذلك، ووَعَظَهُم فأَبَوْا فاقْتَتَلوا قِتالًا شديدًا، ومال الحُرُّ إلى الحُسينِ وقاتَل معه، وكان آخِرَ مَن بَقِيَ مِن أصحابِ الحُسينِ سُويدُ بن أبي المُطاعِ الخَثْعَميُّ، وكان أوَّلَ مَن قُتِلَ مِن آلِ بَنِي أبي طالِبٍ يَومئذٍ عَلِيٌّ الأكبرُ ابنُ الحُسينِ، ومكَث الحُسينُ طويلًا مِن النَّهارِ كُلمَّا انتهى إليه رجلٌ مِن النَّاسِ رجَع عنه وَكَرِهَ أن يَتَوَلَّى قَتْلَهُ وعِظَمَ إثْمِهِ عليه.
وكان أصحابُ الحُسينِ يُدافِعون عنه، ولمَّا قُتِلَ أصحابُه لم يَجْرُؤْ أَحَدٌ على قَتْلِه، وكان جيشُ عُمَر بن سعدٍ يَتَدافعون، ويخشى كُلُّ فَردٍ أن يَبُوءَ بِقَتْلِه، وتَمَنَّوْا أن يَسْتَسْلِمَ؛ لكنَّ شِمْرَ بن ذي الجَوْشَنِ صاح في الجُنْدِ: وَيْحَكُم، ماذا تَنتَظِرون بالرَّجُلِ! اقْتُلوهُ، ثَكَلَتْكُم أُمَّهاتُكم. وأَمَرَهُم بِقَتْلِه, فحَمَلوا عليه مِن كُلِّ جانِبٍ، وضَرَبهُ زُرْعَةُ بن شَريكٍ التَّميميُّ, ثمَّ طَعَنَهُ سِنانُ بن أَنَسٍ النَّخَعيُّ واحْتَزَّ رَأسَهُ. ويُقالُ: إنَّ الذي قَتَلَهُ عُروةُ بن بَطَّار التَّغْلِبيُّ وزيدُ بن رُقادٍ الجَنْبِيُّ. ويُقالُ: إنَّ المُتَوَلِّي الإجهازَ عليه شِمْرُ بن ذي الجَوْشَن الضَّبِّيُّ، وحمَل رَأسَهُ إلى ابنِ زيادٍ خَوْلِيُّ بن يَزيدَ الأَصْبَحيُّ. ودُفِنَ الحُسينُ رضي الله عنه وأصحابُه أهلُ الغاضِريَّة مِن بَنِي أَسَدٍ بعدَ قَتلِهم بيَومٍ. قال شيخُ الإسلامِ في قَتلِه رضي الله عنه: قُتِلَ الحُسينُ بن عَلِيٍّ رضِي الله عنهما يومَ عاشوراءَ، قَتَلَتْهُ الطَّائفةُ الظَّالمةُ الباغيةُ، وأَكرَم الله الحُسينَ بالشَّهادةِ، كما أَكرَم بها مَن أَكرَم مِن أهلِ بَيتِه، أَكرَم بها حَمزةَ وجَعفَرًا، وأباه عَلِيًّا، وغَيرَهُم، وكانت شَهادتُه ممَّا رفَع الله بها مَنزِلَتَه، وأَعْلَى دَرَجتَهُ، والمَنازِلُ العاليةُ لا تُنالُ إلَّا بالبَلاءِ، قَتلوهُ مَظلومًا شَهيدًا شَهادةً أَكرَمَهُ الله بها، وأَلْحَقَهُ بأهلِ بَيتِه الطَّيِّبين الطَّاهِرين، وأَهانَ بها مَن ظَلمَهُ واعْتَدى عليه، وأَوْجَبَ ذلك شَرًّا بين النَّاسِ، فصارَت طائِفَة جاهِلَة ظالِمَة: إمَّا مُلْحِدة مُنافِقَة، وإمَّا ضَالَّة غاوِيَة، تُظْهِر مُوالاتِه ومُوالاةِ أهلِ بَيتِه، تَتَّخِذُ يومَ عاشوراء يومَ مَأْتَم وحُزْن ونِياحَة، وتُظْهِر فيه شِعارَ الجاهليَّة مِن لَطْمِ الخُدودِ، وشَقِّ الجُيوبِ، والتَّعَزِّي بِعَزاءِ الجاهليَّة. ومِن كَرامَةِ الله للمؤمنين أنَّ مُصيبةَ الحُسينِ وغَيرِه إذا ذُكِرَت بعدَ طولِ العَهْدِ يُسْتَرْجَعُ فيها، كما أمَرَ الله ورسولُه؛ لِيُعْطَى مِن الأجرِ مِثلُ أَجْرِ المُصابِ يومَ أُصِيبَ بها. وإذا كان الله تعالى قد أَمَرَ بالصَّبْرِ والاحْتِسابِ عند حَدَثان العَهْدِ بالمُصيبَةِ فكيف مع طولِ الزَّمانِ, فكان ما زَيَّنَهُ الشَّيطانُ لأهلِ الضَّلالِ والغِيِّ مِن اتِّخاذِ يومِ عاشوراء مَأتمًا، وما يَصنعون فيه مِن النَّدْبِ والنِّياحَةِ، وإنشادِ قَصائدِ الحُزنِ، ورِوايةِ الأخبارِ التي فيها كَذِبٌ كثيرٌ -والصِّدقُ فيها ليس فيه إلَّا تَجديدُ الحُزنِ- والتَّعَصُّبِ، وإثارةِ الشَّحناءِ والحَرْبِ، وإلقاءِ الفِتَنِ بين أهلِ الإسلامِ؛ والتَّوسُّلِ بذلك إلى سَبِّ السَّابِقين الأوَّلين، وكَثْرَةِ الكَذِبِ والفِتَنِ في الدُّنيا، ولم يَعرِفْ طوائفُ الإسلامِ أكثرَ كَذِبًا وفِتَنًا ومُعاونةً للكُفَّارِ على أهلِ الإسلامِ مِن هذه الطَّائفَةِ الضَّالَّةِ الغاويَةِ، فإنَّهم شَرٌ مِن الخَوارِج المارِقين.

العام الهجري : 658 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1260
تفاصيل الحدث:

لمَّا بلغ الملك المظفَّر سيف الدين قُطز صاحِبَ مِصرَ أنَّ التتارَ قد فعلوا بالشَّامِ ما فعلوه، وقد نهَبوا البلاد كلَّها حتى وصلوا إلى غزَّة، وقد عزم كتبغانوين نائب هولاكو في الشام على الدخولِ إلى مصر، وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار الأشرفَ صاحِبَ حمص والمجير بن الزكي، فأشاروا عليه بأنَّه لا قِبَل له بالمظفَّر حتى يستَمِدَّ هولاكو فأبى إلا أن يناجزه سريعًا، فبادرهم  المظفَّر قطز قبل أن يبادِروه ويبرز إليهم وقد اجتمعت الكلمةُ عليه، فبعد قدومِ الصاحب كمال الدين بن العديم رسولًا من الشام يطلبُ النَّجدةَ على التتار، جمعَ قُطز الأمراءَ‍ والأعيان، وحضر معهم الشيخُ عز الدين بن عبد السلام والقاضي بدر الدين السنجاري، وجلس المَلِكُ المنصور في دَست السلطنة، فاعتمدوا على ما يقولُه الشيخ عز الدين، فكان خلاصته: "إذا طرق العدوُّ البلادَ وجب على العالمَ كُلِّهم قتالُهم، وجاز أن يؤخَذَ مِن الرعيَّة ما يُستعانُ به على جهادِهم، بشرط ألَّا يبقى في بيتِ المال شيءٌ، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائِصِ والآلاتِ، ويَقتَصِر كل منكم على فَرَسِه وسلاحِه، ويتساووا في ذلك هم والعامَّة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاءِ ما في أيدي الجُندِ مِن الأموال والآلاتِ الفاخرةِ فلا"، ثم بعد أيامٍ يسيرةٍ قَبَضَ على المنصور علي بن المعز وقال: هذا صبيٌّ والوقت صعبٌ، ولا بد من أن يقوم رجلٌ شجاع ينتصب للجهادِ فقبض عليه، وتسلطَنَ وتلقَّبَ بالملك المظفر. ثم قَدِمَ الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري من دمشق مهاجرًا إلى مصرَ؛ لخدمة الملك المظفر سيف الدين قطز, فدخل القاهرةَ يوم السبت ثاني وعشرين ربيع الأول سنة ثمان وخمسين، فركب المظفَّر للقائه وأنزله في دارِ الوَزارة وأقطعه قَصبةَ قيلوب لخاصَّتِه، وأشار عليه بيبرس بملاقاة التتار وقَوَّى جأشَه وحَرَّك عزائمه وحرَّضَه على التوجه للقائهم, فخرج المظفَّر قطز يوم الاثنين خامس عشر شعبان بجميع عساكِرِ مِصرَ مع ما انضاف إليهم من العَرَب وغيرهم لقصدِ التتار الذين بالشَّامِ، فلما وصل إلى مرج عكا بلغ بكتبغانوين، مُقَدَّمَ عسكر التتار بالشام خروجُ الملك المظفَّر، وكان في بلد حمص فتوجَّه إلى الغور، وبعث الملك المظفر للأمير ركن الدين البندقداري  في عسكرٍ ليتجَسَّس خبَرَ التتار،  فلما وقعت عينُه عليهم كتب للملك المظفر يعلِمُه بوصولهم ثمَّ انتهز الفرصةَ في مناوشتهم، فلم يزل يستدرجُهم تارة بالإقبال وتارة بالإحجام حتى وافى بهم إلى المَلِك المظفَّر على عين جالوت فكانت الوقعةُ التي أيَّدَ الله بها المُسلِمينَ على التتارِ،  وأخَذَ بها منهم ثأرَ أهلِ الوَبَر والمَدَر، وحاقَ بهم مَكرُ السَّيفِ، وحكَمَ فيهم الحَتفُ بالحَيفِ، وقَتَلوهم وأخذوهم ومعهم مَلِكُهم كتبغانوين، فقُتِلَ وأُخِذَ رأسُه وأُسِرَ ابنه، وكانت الوقعةُ بين المسلمين والتتار  على ((عين جالوت)) يومَ الجمعة خامس وعشرين من شهر رمضان المعظَّم، ووصل الخبَرُ إلى دمشق في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فانهزم بتلك الليلة من كان بدمشقَ مِن التتار وأيل سبان نائب الملك وأتباعهم، وتبعهم النَّاسُ وأهل الضياع ينهبونهم ويقتلونَ مَن ظَفِروا به، فلله الحمدُ والشُّكر, ودخل السلطانُ الملك المظفَّر إلى دمشق يوم الأحد رابع شوال، فأقام بها إلى أن خرج منها طالبًا للدِّيار المصرية, ومن العجائِبِ أن التتار كُسِروا وأُهلِكوا بأبناء جنسِهم المماليكِ، وهم من التركِ!! وعَمِل الشيخُ شهاب الدين أبو شامة في ذلك شِعرًا:
غلبَ التَّتارُ على البلادِ فجاءهم
مِن مِصرَ تركيٌّ يجودُ بنَفسِه
بالشَّامِ بدَّدَهم وفَرَّق شَملَهم
ولكلِّ شَيءٍ آفةٌ مِن جِنسِه
وقد قاتل الملكُ المنصورُ صاحِبُ حماة مع المَلِك المظفَّر قِتالًا شَديدًا، وكذلك الأميرُ فارس الدين أقطاي المستعرب، وكان أتابك العسكَر، وقد أُسِرَ من جماعة كتبغانوين المَلِك السعيد بن العزيز بن العادل فأمَرَ المظفَّر بضَرب عُنُقِه، واستأمن الأشرفُ صاحِبُ حمص، وكان مع التَّتارِ وقد جعله هولاكو خان نائبًا على الشام كُلِّه، فأمنه الملك المظفَّر ورَدَّ إليه حمص، وكذلك ردَّ حماة إلى المنصور وزاده المَعَرَّة وغيرها، وأطلق سلمية للأميرِ شَرَف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب، واتَّبَع الأميرُ بيبرس البندقداري  وجماعةٌ من الشجعان التتارَ يقتُلونَهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفَهم إلى حَلَب، وهرب مَن بدمشقَ منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان، فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلونَ فيهم ويفتِكونَ الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارةُ، ولله الحمدُ على جبرِه إيَّاهم بلُطفِه فجاوبتها دقُّ البشائر من القلعة، وفرح المؤمنون بنصر الله فرحًا شديدًا، وأيَّدَ اللهُ الإسلامَ وأهله تأييدًا وكَبَت الله النصارى واليهودَ والمنافقين، وظهر دينُ الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمونَ إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصَّليبُ فانتَهَبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النَّارَ فيما حولها، فاحترق دُورٌ كثيرةٌ إلى النصارى، وملأ اللهُ بيوتَهم وقبورَهم نارًا، وأُحرِقَ بعضُ كنيسةِ اليعاقبة، وهمَّت طائفةٌ بنَهبِ اليهود، فقيل لهم إنَّه لم يكن منهم من الطغيانِ كما كان من عَبَدة الصُّلبان، وقَتَلَت العامَّة وسطَ الجامِعِ شَيخًا رافضيًّا كان مُصانِعًا للتتار على أموالِ النَّاسِ يقال له الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، كان خبيثَ الطويَّة مشرقيًّا ممالئًا لهم على أموالِ المسلمين- قبَّحه الله- وقَتَلوا جماعةً مِثلَه من المنافقين، فقُطِعَ دابِرُ القَومِ الذين ظَلَموا والحمدُ لله رب العالَمينَ.

العام الهجري : 768 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1367
تفاصيل الحدث:

لَمَّا كان في مستهَلِّ شَهرِ ربيع الآخر نزل السلطانُ من قلعة الجبل وعَدَّى إلى بر الجيزة ليتوجه إلى الصيدِ بالبحيرة، بعد أن ألزم الأمراءَ أن يجعلوا- في الشواني التي نجز عملها برسم الغُزاة- العِدَد والسلاحَ والرجالَ على هيئة القِتالِ؛ لِيَنظُرَ السلطان والنَّاس، ثم سار السلطان والأتابك يلبغا بالعساكِرِ مِن بر الجيزة يريدون البحيرةَ حتى نزلوا في ليلة الأربعاء سادسَ شهر ربيع الآخر بالطرانة وباتوا بها، وكانت مماليكُ يلبغا قد نَفِرَت قلوبُهم منه؛ لكثرةِ ظُلمِه وعَسفِه وتنوُّعِه في العذاب لهم على أدنى جُرمٍ، فاتفق جماعةٌ من مماليك يلبغا تلك الليلة على قَتْلِه من غير أن يُعلِموا المَلِكَ الأشرفَ هذا بشَيءٍ مِن ذلك، وركبوا عليه نِصفَ الليل، ورؤوسُهم من الأمراء: آقبغا الأحمدي الجلب، وأسندمر الناصري، وقجماس الطازي، وتغري برمش العلائي، وآقبغا جاركس أمير سلاح، وقرابغا الصرغتمشي، في جماعةٍ مِن أعيان اليلبغاوية، ولَبِسوا آلة الحرب وكبَسوا في الليل على يلبغا بخيمتِه بغتةً وأرادوا قتله، فأحسَّ بهم قبل وصولِهم إليه، فركِبَ فَرَس النوبةِ بخواصِّه من مماليكه، وهرب تحت الليل، وعَدَّى النيل إلى القاهرة، ومنع سائرَ المراكب أن يعدُّوا بأحد، واجتمع عنده من الأمراء طيبغا حاجِبُ الحجَّاب، وأيبك البدري أمير آخور، وجماعة الأمراء المقيمين بالقاهرة، وأمَّا مماليك يلبغا فإنَّهم لَمَّا عَلِموا بأن أستاذهم نجا بنَفسِه وهرب، اشتدَّ تخَوُّفُهم من أنَّه إذا ظَفِرَ بهم بعد ذلك لا يُبقي منهم أحدًا، فاجتمع الجميعُ بمن انضاف إليهم من الأمراءِ وغيرِهم وجاؤوا إلى المَلِك الأشرَفِ شعبان وهو بمُخَيَّمِه أيضًا بمَنزِلِه بالطرانة وكَلَّموه في مُوافَقَتِهم على قتالِ يلبغا فامتنع قليلًا ثم أجاب لِما في نفسه من الحزازةِ مِن حَجْرِ يلبغا عليه، وعدم تصَرُّفه في المملكة، وركِبَ السلطان بمماليك يلبغا وخاصكيَّته، فأخذوه وعادوا به إلى جهة القاهرة، وقد اجتمع عليه خلائِقُ من مماليك يلبغا وعساكر مصر، وساروا حتى وصلوا إلى ساحِلِ النيل ببولاق التكروري تجاه بولاق والجزيرة الوسطى، فأقام المَلِكُ الأشرف ببولاق التكروري يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة، فلم يجدوا مراكِبَ يعدون فيها، وأما يلبغا فإنَّه لما علم أن الملك الأشرف طاوع مماليكَه وقَرَّبهم، أنزل من قلعة الجبل آنوك ابنَ الملك الأمجد حسين أخي الملك الأشرف شعبان وسَلْطَنَه ولَقَّبَه بالملك المنصور، وذلك بمُخَيَّمِه بجزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطانيَّة تجاه بولاق التكروري، حيث الملك الأشرف نازلٌ بمماليك يلبغا بالبر الشرقي والأشرف بالبر الغربي، فسَمَّتْه العوامُ سُلطان الجزيرة، ثمَّ في يوم الجمعة حضر عند الأتابك يلبغا الأمير طغيتمر النظامي والأمير أرغون ططر، فإنهما كانا يتصَيَّدان بالعباسة وانضافا بمن معهما إلى يلبغا فقَوِيَ أمره بهما، وعَدَّى إليه أيضًا جماعة من عند الملك الأشرف، وهم: الأمير قرابغا البدري، والأمير يعقوب شاه، والأمير بيبغا العلائي الدوادار، والأمير خليل بن قوصون، وجماعة من مماليك يلبغا الذين أمَّرَهم مثل: آقبغا الجوهري، وكمشبغا الحموي، ويلبغا شقير، في آخرين، واستمَرَّ الأتابك يلبغا وآنوك بجزيرة الوسطى، والملك الأشرف ومماليك يلبغا ببولاق التكروري، إلى أن حضر إلى الأشرفِ شَخصٌ يُعرَفُ بمحمد ابن بنت لبطة رئيس شواني السلطان، وجَهَّز للسلطانِ مِن الغربان التي عَمَّرَها برسم الغزاة نحو ثلاثينَ غُرابًا برجالها وكَسَر بروقها، وجعلها مثل الفلاةِ لأجلِ التَّعدية، فنزل فيها جماعةٌ مِن الأمراء ومن مماليك يلبغا ليعَدُّوا فيها إلى الجزيرة، فرمى عليهم يلبغا بمكاحِلِ النفط، وصار هؤلاء يرمون على يلبغا بالسهام فيردونَهم على أعقابِهم، وأخذ يلبغا ومن معه يرمون أيضًا النِّفطَ والنشاب، والأشرفيَّة لا يلتفتون إلى ذلك، بل يزيدونَ في سب يلبغا ولَعْنه وقتاله، وأقاموا على ذلك إلى عَصرِ يوم السبت، وقد قَوِيَ أمر الملك الأشرف وضَعُفَ أمر يلبغا، ثم اتفق رأيُ عساكر الملك الأشرف على تعدية المَلِك الأشرف من الورَّاق، فعدى وقتَ العَصرِ من الوراق إلى جزيرة الفيل وتتابعَتْه عساكره، فلما صاروا الجميعُ في بر القاهرة، وبلغ ذلك يلبغا، هرب الأمراءُ الذين كانوا مع يلبغا بأجمعهم وجاؤوا إلى الملك الأشرف وقَبَّلوا الأرض بين يديه، فلمَّا رأى يلبغا ذلك رجع إلى جهة القاهرة، ووقف بسوقِ الخيل من تحت قلعة الجبل، ولم يبقَ معه غير طيبغا حاجِبِ الحجَّاب الذي كان أولًا أستاداره، فوقف يلبغا ساعةً ورأى أمْرَه في إدبار، فنزل عن فَرَسِه بسوق الخيل تجاه باب الميدان، وصلَّى العصر، وحلَّ سَيْفَه وأعطاه للأميرِ طيبغا الحاجب، ثم نزل وقصَدَ بَيتَه بالكبش فرجمته العوامُّ مِن رأس سويقة منعم إلى أن وصل حيثُ اتجه، وسار الملك الأشرف شعبان بعساكره، حتى طلع إلى قلعةِ الجَبَلِ في آخر نهار السبت، وأرسل جماعةً منِ الأمراء إلى يلبغا، فأخذوه من بيتِه ومعه طيبغا الحاجِبُ، وطلعوا به إلى القلعةِ بعد المغرب، فسُجِنَ بها إلى بعدِ عشاء الآخرة، فلما أُذِّنَ للعشاء جاء جماعةٌ من مماليك يلبغا مع بعض الأمراء، وأخذوا يلبغا من سجنه وأنزلوه من القلعةِ، فلما صار بحدرة القلعة أحضروا له فَرَسًا ليركَبَه، فلما أراد الركوب ضَرَبه مملوكٌ مِن مماليكه يسمَّى قراتمر فأرمى رأسَه، ثم نزلوا عليه بالسيوفِ حتى هَبَروه تهبيرًا، وأخذوا رأسَه وجعلوها في مِشعَلِ النار إلى أن انقَطَع الدم، فلما رآه بعضُهم أنكره وقال: أخفيتُموه، وهذه رأسُ غَيرِه فرفعوه من المِشعَل، ومَسَحوه ليُعَرِّفوه أنَّه رأس يلبغا بسلعةٍ كانت خلفَ أذنه، فعند ذلك تحقَّقَ كُلُّ أحد بقتله، وأخذوا جثَّتَه فغَيَّبوها بين العروستين، فجاء الأميرُ طشتمر الدوادار فأخذ الرأسَ منهم في الليل، واستقصى على الجثَّةِ حتى أخذها، وحَطَّ الرأس على الجثة، وغَسَّلها وكفَّنَها وصلى عليه في الليل، ودفنه بتربتِه التي أنشأها بالصحراء بالقربِ مِن تربة خوند طغاى أم آنوك زوجة الناصر محمد بن قلاوون.

العام الهجري : 1384 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1965
تفاصيل الحدث:

هو مالكوم إكس بن أورلي ليتل، أو الحاج مالك شباز؛ من الشخصيات الأمريكية المسلِمة البارزة في منتصف القرن الماضي، كانت حياتُه سلسلةً من التحولات؛ حيث انتقل من قاع الجريمة والانحدار إلى تطرُّف الأفكار العنصرية، ثم إلى الإسلام. وُلِد مالكوم في 6 ذي القعدة 1343هـ/ 19 مايو 1925م، وكان أبوه "أورلي ليتل" قسيسًا أسود من أتباع "ماركوس كافي" الذي أنشأ جمعيةً بنيويورك ونادى بصفاء الجنس الأسود وعودته إلى أرض أجداده في أفريقيا. وكانت العنصرية في الولايات المتحدة على أشُدِّها في ذلك الوقت. كان أبوه حريصًا على اصطحابه معه إلى الكنيسة في مدينة "لانسينغ"؛ حيث كانت تعيشُ أسرته على ما يجمعه الأب من الكنائس، وكان يحضُرُ مع أبيه اجتماعاتِه السياسيةَ في "جمعية التقدُّم الزنجية" التي تكثر خلالها الشِّعاراتُ المعادية للبِيضِ، وكان الأبُ يختم هذه الاجتماعات بقوله: إلى الأمامِ أيها الجنس الجبَّار، بوُسعِك أن تحقِّقَ المعجزاتِ. وكان هو وعائلته الزنوجَ الوحيدين بالمدينة؛ لذا كان البِيضُ يُطلِقون عليه الزِّنجيَّ أو الأسودَ، حتى ظنَّ مالكوم أن هذه الصفات جزءٌ من اسمِه، وفي عام 1931م وُجِد والده مقتولًا عند سكة القطار، فاتهمت عائلتُه مجموعةً من البِيض العُنصريين، وفي عام 1938م دخلت والدته المصحَّة العقلية بسبب معاناتها بعد فَقْدِ زوجها. قصد مالكوم بوسطن بعد انتهاء المرحلة الثانوية، وأخذته الحياةُ في مجرًى جديد؛ حيث أُصيب بنوع من الانبهار في المدينة الجميلة، وهناك انغمس في حياة اللهو والمجون. ألقت الشرطةُ القبضَ عليه وحُكِم عليه سنة 1946م بالسجن عشر سنوات، فدخل سجن "تشارلز تاون" العتيق، وكانت قضبانُ السجن ذات ألمٍ رهيب على نفس مالكوم؛ لذا كان عنيدًا يسُبُّ حرَّاسه، فيُحبَس حبسًا انفراديًّا، وتعلَّم من الحبس الانفرادي أن يكون ذا إرادة قويَّة يستطيع من خلالها التخلِّيَ عن كثير من عاداته، وفي عام 1947م تأثَّر بأحد السجناء ويُدعى "بيمبي" الذي كان يتكلَّم عن الدين والعدل، فزعزع بكلامِه ذلك الكفرَ والشَّكَّ من نفس مالكوم، وكان بيمبي يقول للسجناء: إنَّ مَن خارجَ السجن ليسوا بأفضَلَ منهم، وإنَّ الفارق بينهم وبين من في الخارج أنهم لم يقعوا في يد العدالةِ بَعدُ! ونصحه بيمبي أن يتعلَّم، فتردَّد مالكوم على مكتبة السجن وتعلم اللاتينية. وفي عام 1948م انتقل إلى سجن كونكورد، وكتب إليه أخوه "فيلبيرت" أنَّه اهتدى إلى الدِّينِ الطبيعي للرجل الأسود (الإسلام)، ونصَحَه ألا يدخِّن، وألا يأكُلَ لحم الخنزير، وامتثل مالكوم لِنُصح أخيه، ثم عَلِمَ أن إخوته جميعًا في دترويت وشيكاغو قد اهتَدَوا إلى الإسلام، وأنهم يتمنَّونَ أن يُسلِم مثلهم، ووجد في نفسه استعدادًا فِطريًّا للإسلام، ثم انتقل مالكوم إلى سجن "ينورفولك"، وهو سجنٌ مُخَفَّف في عقوباته، ويقع في الريف، ويحاضِرُ فيه بعض أساتذة الجامعة من هارفارد وبوسطن، وبه مكتبةٌ ضخمة تحوي عشرة آلاف مجلد قديم ونادر. أسلم مالكوم في السجن، وكان سبيلُه الأوَّلُ هو الاعترافَ بالذنب، ورأى أنَّه على قَدْرِ زَلَّته تكونُ توبته. وبدأ يراسِلُ كلَّ أصدقائه القدامى في الإجرام ليدعوَهم إلى الإسلام، وفي أثناء ذلك بدأ في تثقيفِ نَفسه، وبدا السجن له كأنَّه واحةٌ أو مرحلةُ اعتكافٍ علمي. خرج مالكوم من السجن سنة 1952م وذهب إلى أخيه في دترويت، وهناك تعلَّم الفاتحة وذهب إلى المسجد، وتأثَّر بأخلاق المسلمين. والتقى بالداعية إليجا محمد، وانضمَّ إلى حركة أمة الإسلام، وتبنى دعوةَ إليجا في استخدام العنف في حلِّ المشكلة العُنصرية بين السُّود والبيض في أمريكا، فبدأ يدعو الشبابَ الأسود إلى هذه الحركة، فتأثر به كثيرون؛ لأنَّه كان خطيبًا مفوَّهًا ذا حماس شديد، فذاع صيتُه حتى أصبح في فترة وجيزةٍ إمامًا ثابتًا في مسجد دترويت. وامتاز بأنه يخاطِبَ الناس باللُّغة التي يفهمونها: لغةِ العنف. وزار عددًا من المدن الكبرى، فاهتدى على يديه كثيرٌ من السود. التقى مالكوم بمارتن لوثر كينغ (نصراني وزعيم أمريكي من أصول إفريقية) يدعو إلى التفاهم مع البيض والتعايش السِّلمي ونبذ العنف، وإنهاء التمييز العنصري ضِدَّ السُّود, فاختلف معه مالكوم وهاجمه في أكثرَ من مناسبة، إلا أن مالكوم إكس أخيرًا تأثَّر بفكرة لوثر تجاه العنف وتحوَّل إلى فكرة التفاهم والتعايش مع البِيض؛ ولذلك اختلف مع إليجا، وعندما طُرد من حركة أمة الإسلام؛ بسبب مخالفته لتوجيهات إليجا في الموقف من اغتيال كندي، وقرَّر أداءَ فريضة الحج في عام 1964م، وزار العالمَ الإسلاميَّ ورأى في الطائرة التي أقلعت به من القاهرة للحَجِّ أنَّ بها ألوانًا مختلفةً من الحجيج، وأنَّ الإسلامَ ليس دينَ الرجلِ الأسودِ فقط، بل هو دينُ الإنسان. وتأثَّر مالكوم بمشهد الكعبة المشرَّفة وأصوات التلبية، وبساطة وإخاء المسلمين؛ يقول في ذلك: "في حياتي لم أشهَدْ أصدَقَ من هذا الإخاء بين أناسٍ من جميع الألوان والأجناس، إنَّ أمريكا في حاجة إلى فهم الإسلام؛ لأنَّه الدين الوحيد الذي يملك حلَّ مشكلة العنصرية فيها"، وقضى 12 يومًا جالسًا مع المسلمين في الحج، ورأى أنَّ الناس متساوون أمام الله بعيدًا عن سرطان العنصرية. وغيَّر مالكوم اسمَه إلى الحاج مالك شباز، وغادر مالكوم جدة في إبريل 1964م، وزار عددًا من الدول العربية والإفريقية، ورأى في أسبوعين ما لم يرَه في 39 عامًا، وخرج بمعادلة صحيحة هي: "إدانةُ كلِّ البِيض = إدانة كلِّ السُّود". وصاغ بعد عودته أفكارًا جديدة تدعو إلى الإسلام الصحيح؛ الإسلام اللاعُنصري، وأخذ يدعو إليه، ودعا إلى التعايش بين البِيض والسود، وأسَّس منظمةَ الاتحاد الإفريقي الأمريكي. وفي إحدى محاضراته يوم الأحد (18 شوال 1384هـ / 21 فبراير 1965م) صعد مالكوم ليلقيَ محاضرته، ونشبت مشاجرةٌ في الصف التاسع بين اثنين من الحضور، فالتفت الناسُ إليهم، وفي ذات الوقت أطلق ثلاثةُ أشخاصٍ من الصف الأول 16 رصاصةً على صدر مالكوم إكس، فتدفَّق منه الدمُ بغزارة، وفارق الحياةَ!.

العام الهجري : 622 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1225
تفاصيل الحدث:

هو الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي الهاشمي، العباسي، البغدادي. ولد في عاشر رجب، سنة 553.كان أبيض معتدل القامة، تركيَّ الوجه، مليح العينين، أنور الجبهة، أقنى الأنف، خفيف العارضين، أشقر، رقيق المحاسن، نَقشُ خاتمه: رجائي من الله عَفوُه. وبويع في أول ذي القعدة سنة 575، وكانت خلافته ستًّا وأربعين سنة وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يومًا، فلم يلِ الخلافةَ أطولَ مدة منه إلَّا ما قيل عن المستنصر بالله العُبيدي، صاحب مصر، فإنَّه ولي ستين سنة، ولا اعتبارَ به، فإنَّه ولي وله سبع سنين، وكذا ولي الأندلس عبد الرحمن الناصر خمسين سنة. كان المستضيء والد الناصر قد تخوَّف منه فحَبَسَه، ومال إلى أخيه أبي منصور، وكان ابن العطار وكبراء الدولة ميلهم إلى أبي منصور، وكانت حظية المستضيء بنفشا والدة الناصر, والمجد بن الصاحب وطائفة مع الناصر، فلما بويع قبض على ابن العطار، وقتله, ثم سحب في الشوارع ميتًا، وطغى ابن الصاحب إلى أن قُتِل. قال الموفق عبد اللطيف: كان الناصر شابًّا مرحًا عنده ميعة الشباب، يشقُّ الدروب والأسواق أكثر الليل، والناس يتهيبون لقياه، وكان الرفضُ قد ظهر بسبب ابن الصاحب، ثم انطفأ بهلاكه وظهر التسنن، ثم زال, وقد خطب الناصر بولاية العهد لولده الأكبر أبي نصر، ثم ضيَّق عليه لما استشعر منه، وعيَّن أخاه، وأخذ خطًّا باعتراف أبي نصر بالعجز، أفسد ما بينهما النصير بن مهدي الوزير، وأفسد قلوب الرعية والجند على الناصر وبَغَّضَه إلى الملوك، وزاد الفساد، ثم قبض على الوزير، وتمكن بخراسان أيام الناصر خوارزمشاه محمد بن تكش وتجبَّرَ واستعبد الملوك وأباد الأمم من الترك والخطا، وظلم وعسف، وقطع خطبة الناصر من بلاده، ونال منه، وقصد بغداد، وجمع الناصرُ الجيش وأنفق الأموال، واستعد، فجاءت الأخبار إلى خوارزمشاه أن التتر قد حشدوا، وطمعوا في بلاده، فكرَّ إليهم وقصدهم فقصدوه وكثروه إلى أن مزَّقوه، وبلبلوا لبَّه وشتتوا شمله، وملكوا الأقطار، وصار أين توجَّه وجد سيوفَهم متحكمة فيه، وتقاذفت به البلاد، فشَرَّق وغرب، وأنجدَ وأسهَل، وأصحَرَ وأجبَلَ، والرعب قد زلزل لبه، فعند ذلك قضى نحبه. وقد جرى له ولابنه جلال الدين منكوبرتي عجائب. قال الموفق: "لم يزل الناصر في عز وقمع الأعداء، ولا خرج عليه خارجيٌّ إلا قمعه، ولا مخالفٌ إلا دمغه، ولا عدوٌّ إلا خُذِل، كان شديد الاهتمام بالمُلك، لا يخفى عليه كبيرُ شيء من أمور رعيته، أصحاب أخباره في البلاد، حتى كأنه شاهد جميعَ البلاد دفعة واحدة، كانت له حِيَل لطيفة، وخُدَع لا يفطِنُ إليها أحد، يوقع صداقةً بين ملوك متعادين، ويوقع عداوةً بين ملوك متوادين ولا يفطِنون. إلى أن قال: ولما دخل رسولُ صاحب مازندران بغداد كانت تأتيه كل صباح ورقة بما فعل في الليل، فصار يبالغ في التكتم، واختلى ليلة بامرأة فصبحته ورقة بذلك، فتحيَّرَ، وخرج لا يرتاب أن الخليفة يعلم الغيب, وجاءه مرة رسول لخوارزم شاه فحبس أشهرًا ثم أعطي عشرة آلاف دينار فذهب وصار مناصحًا للخليفة. وكان الناصرُ إذا أطعم أشبع، وإذا ضرب أوجع. قلت (الذهبي): أظنُّه كان مخدومًا من الجنِّ, وما تحت هذا الفعل طائلٌ، فكلُّ مخدوم وكاهن يتأتى له أضعاف ذلك. قال الموفق عبد اللطيف: وفي وسط ولايته اشتغل بروايةِ الحديث، واستناب نوابًا يروونَ عنه، وأجرى عليهم جراياتٍ، وكتب للملوك والعلماء إجازات، وجمع كتابًا سبعين حديثًا وصل على يد السهروردي إلى حلب فسمعه الظاهر، وجماهير الدولة وشرحته. قلت (الذهبي): ممن يروي عن الناصر بالإجازة عبد الوهاب بن سكينة، وابن الأخضر، وقاضي القضاة ابن الدامغاني، وولي عهده الظاهر بأمر الله, والملك العادل، وبنوه، وشيخانا: محمود الزنجاني، والمقداد القيسي. قال ابن النجار: "شرفني الناصر بالإجازة، ورويت عنه بالحرمين ودمشق والقدس وحلب، وبغداد وأصبهان، ونيسابور ومرو وهمذان", قال الموفق: "وكان الناصرُ قد ملأ القلوب هيبةً وخيفةً، حتى كان يرهبُه أهل الهند، وأهل مصر، فأحيا هيبة الخلافة، لقد كنت بمصر وبالشام في خلوات الملوك والأكابر إذا جرى ذكره خفضوا أصواتَهم إجلالًا له". قال ابن النجار: "دانت السلاطين للناصر، ودخل في طاعتِه مَن كان من المخالفين، وذُلِّلت له العتاة والطغاة، وانقهرت بسيفه الجبابرة، واندحض أعداؤه، وكثُر أنصاره، وفتح البلاد العديدة، ومَلَك من الممالك مالم يملكْه أحد ممن تقدمه من الخلفاء والملوك، وخطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين, وبعث صلاح الدين الأيوبي برايته وترسه للخليفة دليلًا على تبعيته- وكان أسد بني العباس تتصدع لهيبته الجبال، وتذل لسطوته الأقيال، وكان حسن الخلق أطيف الخلق، كامل الظرف، فصيحًا بليغًا، له التوقيعات المسددة والكلمات المؤيدة، كانت أيامه غرة في وجه الدهر، ودرة في تاج الفخر" وكان لا يخلو من قبح السيرة في رعيته، والتعدي على أموالهم، كما اتهم بخراب العراق في أيامه، وأنه هو من أطمع التتار بالبلاد من كثرة ما فعله وما تلهى به، بقي الناصر لدين الله في آخر عمره ثلاث سنين عاطلًا عن الحركة بالكلية، وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصارًا ضعيفًا، ثم أصابه دوسنطاريا (وهو مرض عدم استطاعة التبول) عشرين يومًا، ومات في شهر رمضان، وكان عمره نحو سبعين سنة تقريبًا، وقد كانت سنة 585 الخطبة للأمير أبي نصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله بولاية العهد في العراق وغيره من البلاد، ثم بعد ذلك خلعه الخليفةُ من ولاية العهد، وأرسل إلى البلاد في قطعِ الخطبة له، وإنما فعل ذلك لأنه كان يميل إلى ولَدِه الصغير علي، فاتفق أن الولد الصغير توفي سنة 612، ولم يكن للخليفة ولد غير ولي العهد، فاضطر إلى إعادته، إلا أنه تحت الاحتياط والحجر لا يتصرف في شيءٍ، فلما توفي أبوه وليَ الخلافة، وأحضر الناس لأخذ البيعة، وتلقَّب بالظاهر بأمر الله، وعلم أنَّ أباه وجميع أصحابه أرادوا صرفَ الأمر عنه، فظهر وولي الخلافة بأمر الله لا بسعي أحدٍ، ولَمَّا ولي الخلافة أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنَّة العُمَرين.

العام الهجري : 571 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:

هو الإمامُ العلَّامةُ، الحافِظُ الكبيرُ المجَوِّد، مُحَدِّثُ الشام، ثِقةُ الدين، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن عساكر، الدمشقي الشافعي صاحب (تاريخ دمشق). من أعيانِ الفُقَهاء الشافعيَّة، ومُحَدِّث الشام في وقته. غَلَب عليه الحديثُ فاشتَهَر به وبالَغَ في طلبه إلى أن جمعَ منه ما لم يتَّفِق لغَيرِه، حتى صار أحدَ أكابر حُفَّاظ الحديث ومن عُنِيَ به سَماعًا وجمعًا وتصنيفًا، واطِّلاعًا وحفظًا لأسانيده ومتونِه، وإتقانًا لأساليبه وفنونه، صاحِبُ الكتاب المشهور (تاريخ دمشق) الذي حاز فيه قَصَب السَّبْق، ومن نظَرَ فيه وتأمَّله، رأى ما وصَفَه فيه وأصَّلَه، وحَكَم بأنَّه فريدُ دَهرِه في التواريخ، هذا مع ما له في علوم الحديث من الكُتُب المفيدة، وما هو مشتَمِلٌ عليه من العبادة والطرائق الحميدة, وله مصنفاتٌ كثيرة منها الكبار والصغار، والأجزاءُ والأسفار، وقد أكثَرَ في طلب الحديث من التَّرحال والأسفار، وجاز المدن والأقاليم والأمصار، وجمع من الكتبِ ما لم يجمَعْه أحدٌ مِن الحُفَّاظ نسخًا واستنساخًا، ومقابلة وتصحيحَ الألفاظ. قال الذهبي: "نقلتُ ترجمته من خَطِّ ولده المحدِّث أبي محمد القاسم بن علي، فقال: وُلِدَ أبي في المحرم سنة 499، وعَدَدُ شيوخِه الذي في معجمه ألف وثلاثمائة شيخ بالسماع، وستة وأربعون شيخًا أنشدوه، وعن مائتين وتسعين شيخًا بالإجازة، الكل في معجمه، وبضع وثمانون امرأة لهن مُعجَم صغير سَمِعْناه. وحدَّث ببغداد، والحجاز، وأصبهان، ونيسابور, وصنف الكثير, وكان فَهِمًا، حافِظًا، متقِنًا ذكيًّا، بصيرًا بهذا الشأن، لا يُلحَقُ شَأنُه، ولا يُشَقُّ غُباره، ولا كان له نظيرٌ في زمانه. وكان له إجازاتٌ عالية، ورُوي عنه أشياءُ من تصانيفه بالإجازة في حياته، واشتهر اسمُه في الأرض، وتفقَّه في حداثته على جمال الإسلام أبي الحسن السلمي وغيره، وانتفع بصحبة جده لأمه القاضي أبي المفضل عيسى بن علي القرشي في النحو، ولازم الدرسَ والتفقُّه بالنظامية ببغداد، وصنف وجمع فأحسن, فمن ذلك تاريخ دمشق في ثمانمائة جزء. قلت (الذهبي): "الجزء عشرون ورقة، فيكون ستة عشر ألف ورقة", وجمع (الموافقات) في اثنين وسبعين جزءًا، و(عوالي مالك)، والذيل عليه خمسين جزءًا، و(غرائب مالك) عشرة أجزاء، و(المعجم) في اثني عشر جزءًا, و(مناقب الشبان) خمسة عشر جزءًا، و(فضائل أصحاب الحديث) أحد عشر جزءًا، (فضل الجمعة) مجلد، و(تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري) مجلد، و (المسلسلات) مجلد، و (السباعيات) سبعة أجزاء، (من وافقت كنيته كنيةَ زوجته) أربعة أجزاء، و (في إنشاء دار السنة) ثلاثة أجزاء، (في يوم المزيد) ثلاثة أجزاء، (الزهادة في الشهادة) مجلد، (طرق قبض العلم)، (حديث الأطيط)، (حديث الهبوط وصحته)، (عوالي الأوزاعي وحاله) جزءان, (الخماسيات) جزء، (السداسيات) جزء، (أسماء الأماكن التي سمع فيها)، (الخضاب)، (إعزاز الهجرة عند إعواز النصرة)، (المقالة الفاضحة)، (فضل كتابة القرآن)، (من لا يكون مؤتمنًا لا يكون مؤذِّنًا)، (فضل الكرم على أهل الحرم)، (في حفر الخندق)، (قول عثمان: ما تغنيت)، (أسماء صحابة المسند)، (أحاديث رأس مال شعبة)، (أخبار سعيد بن عبد العزيز)، (مسلسل العيد)، (الأبنة)، (فضائل العشرة) جزءان، (من نزل المزة)، (في الربوة والنيرب)، (في كفر سوسية)، (رواية أهل صنعاء)، (أهل الحمريين)، (فذايا)، (بيت قوفا)، (البلاط)، (قبر سعد)، (جسرين)، (كفر بطنا)، (حرستا)، (دوما مع مسرابا)، (بيت سوا)، (جركان)، (جديا وطرميس)، (زملكا)، (جوبر)، (بيت لهيا)، (برزة)، (منين)، (يعقوبا)، (أحاديث بعلبك)، (فضل عسقلان)، (القدس)، (المدينة)، (مكة)، كتاب (الجهاد)، (مسند أبي حنيفة ومكحول)، (العزل)، (الأربعون الطوال)،  (الأربعون البلدية) جزء، (الأربعون في الجهاد)، (الأربعون الأبدال)، (فضل عاشوراء) ثلاثة أجزاء، (طرق قبض العلم) جزء، كتاب (الزلازل)، (المصاب بالولد) جزءان، (شيوخ النبل)، (عوالي شعبة) اثنا عشر جزءًا، (عوالي سفيان) أربعة أجزاء، (معجم القرى والأمصار) جزء، وغير ذلك, وسرد له عدة تواليف. قال: وأملى أبي أربعمائة مجلس وثمانية. قال: وكان مواظبًا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحاسب نفسه على لحظة تذهب في غير طاعة، كان يجري ذكره عند ابن شيخه، وهو الخطيب أبو الفضل بن أبي نصر الطوسي، فيقول: ما نعلم من يستحِقُّ هذا اللقب اليوم يعني: (الحافظ) ويكون حقيقًا به سواه. وقال القاسم: لما دخلت همذان أثنى عليه الحافظ أبو العلاء، وقال لي: أنا أعلم أنه لا يساجِلَ الحافظ ابن عساكر في شأنه أحد، فلو خالط الناسَ ومازجهم كما أصنع، إذًا لاجتمع عليه الموافِقُ والمخالف, وقال لي أبو العلاء يومًا: أي شيء فتح له، وكيف ترى الناس له؟  قلت (الذهبي): "هو بعيد من هذا كله، لم يشتغل منذ أربعين سنة إلا بالجمع والتصنيف والتسميع، حتى في نُزَهِه وخلواته"  ثم قال أبو العلاء: ما كان يسمَّى ابن عساكر ببغداد إلَّا شعلةَ نار؛ من توقُّدِه وذكائه وحُسنِ إدراكه. قال أبو المواهب: لم أرَ مثله ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الجماعة في الخمس في الصف الأول إلَّا من عذر، والاعتكاف في رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة، وأباها بعد أن عُرِضَت عليه، وقِلَّة التفاته إلى الأمراء، وأخْذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخُذُه في الله لومة لائم. قال لي: لَمَّا عزمت على التحديث، واللهُ المطَّلِعُ أنَّه ما حملني على ذلك حُبُّ الرئاسة والتقدم، بل قلت: متى أروي كُلَّ ما قد سمعته، وأيُّ فائدة في كوني أخَلِّفُه بعدي صحائف؟ فاستخرتُ الله، واستأذنت أعيانَ شيوخي ورؤساء البلد، وطُفت عليهم، فكُلٌّ قال: ومن أحقُّ بهذا منك؟ فشرعت في ذلك سنة ثلاث وثلاثين" كانت وفاة ابن عساكر في الحادي عشر من رجب، وله من العمر ثنتان وسبعون سنة، وحضر السلطان صلاح الدين الأيوبي جنازتَه ودُفِنَ بمقابر باب الصغير، وكان الذي صلى عليه الشيخُ قطب الدين النيسابوري.

العام الهجري : 702 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1303
تفاصيل الحدث:

في ثامِنَ عشر رجب قَدِمَت طائفة كبيرة من جيش المصريِّين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأميرُ حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأميرُ سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعدهم طائفةٌ أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح وأيبك الخزندار فقَوِيَت القلوبُ واطمأنَّ كثير من الناس، وكان الناسُ في حفل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي، وتقهقر الجيشُ الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهَمَهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرجَ يوم الأحد خامس شعبان، ووصل التتارُ إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادًا، وقَلِقَ الناس قلقًا عَظيمًا، وخافوا خوفًا شديدًا، واختبطَ البَلَدُ لتأخُّرِ قدوم السلطان ببقيَّة الجيش، وقال النَّاسُ: لا طاقة لجيشِ الشام مع هؤلاء المصريين بلقاءِ التتار لكثرَتِهم، وإنما سبيلُهم أن يتأخَّروا عنهم مرحلةً مرحلة، وتحَدَّث الناسُ بالأراجيف فاجتمع الأمراءُ في يوم الأحد خامس شعبان بالميدان وتحالَفوا على لقاء العدو، وشَجَّعوا أنفُسَهم، ونودِيَ بالبلد أنْ لا يرحل أحدٌ منه، فسكن النَّاسُ وجلس القضاةُ بالجامِعِ وحَلَّفوا جماعة من الفقهاء والعامَّة على القتال، وتوجَّهَ الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة إلى العسكَرِ الواصِلِ من حماة فاجتمع بهم في القطيعةِ فأعلَمَهم بما تحالف عليه الأمراءُ والنَّاسُ من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحَلَفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يَحلِفُ للأمراءِ والنَّاسِ إنَّكم في هذه الكَرَّة منصورون، فيقولُ له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقولُ: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يتأوَّلُ في ذلك أشياءَ مِن كتاب اللهِ منها قَولُه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] ولَمَّا كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكِرُ الشاميَّة فخَيَّمَت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاةُ، فصار الناسُ فيهم فريقين: فريقٌ يقولونَ إنَّما ساروا ليختاروا موضِعًا للقتالِ؛ فإنَّ المرج فيه مياهٌ كثيرة فلا يستطيعون معها القتال، وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة لِيَهرَبوا وليلحقوا بالسلطان، فلما كانت ليلةُ الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقَوِيَت ظنون الناسُ في هَرَبِهم، وقد وصلت التتارُ إلى قارة، وبلغ الأمراءَ قُدومُ السلطانِ فتَوَجَّهوا إليه من مَرجِ راهط، فلَقُوه على عقبة الشحورا في يومِ السبت ثانيَ عَشَر رمضان، ثمَّ وَرَدَ عند لقائِهم به الخبَرُ بوصول التتار في خمسينَ ألفًا مع قطلوشاه نائب غازان، فلبس العسكَرُ بأجمعه السلاح، واتَّفَقوا على قتال التتار بشقحب تحت جبل غباغب (وهي من الطرف الشمالي لمرج الصفر)، فلما تمَّ الترتيبُ زَحَفت كراديس التتار كقِطَع الليل، وكان ذلك وقتَ الظهر من يوم السبتِ ثاني رمضان, وأقبل قطلوشاه بمن معه من الطوامين، وحملوا على الميمنة فثَبَتَت لهم الميمنة وقاتلوهم أشدَّ قِتالٍ، ثم قُتِلَ مِن الميمنة الكثيرُ فأدركَتْهم الأمراءُ مِن القَلبِ ومِن المَيسَرة واستمَرُّوا في القتال إلى أن كَشَفوا التتارَ عن المسلمينَ واستمَرَّ القتالُ بين التتار والمسلمينَ إلى أن وقفَ كل من الطائفتينِ عن القتال، ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبَلٍ قريب منه، وصَعِدَ عليه وفي نفسه أنَّه انتصر، وأن بولاي في أثر المنهزمينَ مِن المسلمين، فلمَّا صَعِدَ الجبَلَ رأى السَّهلَ والوَعرَ كُلَّه عساكِرَ، والميسرةَ السُّلطانيةَ ثابتةً وأعلامها تخفُق، فبُهِتَ قطلوشاه وتحيَّرَ واستمَرَّ بمَوضِعِه حتى كَمُلَ معه جمعُه وأتاه مَن كان خلف المنهزمينَ مِن الميمنةِ السُّلطانيَّة ومعهم عِدَّةٌ من المسلمينَ قد أسروهم، فعند ذلك جمَعَ قطلوشاه أصحابَه وشاوَرَهم فيما يفعَلُ، وإذا بكوسات- قطعتان من نحاس تشبهان الترسَ الصغير يدقُّ بأحدها على الآخِرِ بإيقاعٍ مخصوص- السُّلطانِ والبوقات قد زَحَفَت وأزعجت الأرضَ وأرجفت القلوبَ بحِسِّها، فلم يثبت بولاي وخرج من تجاهِ قطلوشاه في نحوِ العشرين ألفًا من التتار، ونزل مِن الجَبَل بعد المغرب ومَرَّ هاربًا، وبات السلطانُ وسائِرُ عساكره على ظهور الخيل والطبولُ تُضرَبُ، وتلاحقَ بهم من كان انهَزَمَ شيئًا بعد شيءٍ، وهم يَقصِدونَ ضَربَ الطبول السلطانيَّة والكوسات؛ وأحاط عسكَرُ السُّلطانِ بالجبَلِ الذي بات عليه التتارُ وشرع قطلوشاه في ترتيبِ مَن معه، ونزلوا مشاةً وفرسانًا وقاتلوا العساكِرَ، فبرزت المماليكُ السلطانية بمقَدَّميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعمِلوا في قتالهم عملًا عظيمًا، فصاروا تارةً يرمونهم بالسِّهامِ وتارة يواجهونَهم بالرماح، واشتغل الأمراء أيضًا بقتال من في جهتِهم، وصاروا يتناوبون في القتال أميرًا بعد أمير، وألحَّت المماليك السلطانيَّةُ في القتال وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعةِ والفروسية ما لا يوصَفُ، حتى إن بعضَهم قُتِلَ تحته الثلاثةُ من الخيل، وما زال الأمراءُ على ذلك حتى انتصف نهارُ الأحد، صعد قطلوشاه الجبل وقد قُتِلَ من عسكره نحو ثمانين رجلًا، وجُرح الكثير واشتَدَّ عَطَشُهم، واتفق أنَّ بعضَ من كان أسَرَه التتار هرب ونزل إلى السلطان، وعَرَّفه أنَّ التتارَ قد أجمعوا على النزولِ في السَّحَرِ لمصادمة العساكرِ السُّلطانية، وأنَّهم في شدة من العَطَشِ، فاقتضى الرأيُ أن يُفرِجَ لهم عند نزولِهم ويركَبَ الجيشُ أقفيتَهم، فلما باتوا على ذلك وأصبحوا نهارَ الاثنين، ركب التتارُ في الرابعة من النَّهارِ ونزلوا من الجبل فلم يتعَرَّض لهم أحدٌ وساروا إلى النهر فاقتَحَموه، فعند ذلك رَكِبَهم بلاءُ الله من المسلمين وأيَّدَهم الله تعالى بنَصرِه حتى حَصَدوا رؤوسَ التتار عن أبدانِهم ووضعوا فيهم السَّيفَ ومَرُّوا في أثرهم قتلًا وأسرًا إلى وقت العصر، وعادوا إلى السُّلطانِ وعَرَّفوه بهذا النصر العظيم، واستمَرَّت الأمراء وبَقِيت العساكرُ في طلب التتار إلى القريتينِ، وقد كَلَّت خيولُ التتار وضَعُفَت نفوسُهم وألقَوا أسلحَتَهم واستسلموا للقَتلِ، والعساكِرُ تقتلُهم بغير مدافعةٍ، حتى إن أراذِلَ العامَّة والغِلمان قتلوا منهم خلقًا كثيرًا وغَنِموا عندئذ غنائِمَ، وقتل الواحِدُ من العسكر العشرينَ من التتار فما فوقها، ثم أدركت عُربانُ البلاد التتارَ وأخذوا في كيدهم، فيجيء منهم الاثنانُ والثلاثة إلى العِدَّة الكثيرة من التتار، كأنهم يهدونَهم إلى طريقٍ قريبةٍ مفازة، فيوصلونهم إلى البَرِّيَّة ويتركونهم بها فيموتون عطشًا، ومنهم من دار بهم وأوصلوهم إلى غوطة دمشق، فخرجت إليهم عامَّةُ دِمشقَ فقَتَلوا منهم خلقًا كثيرًا، وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبَشَّروا النَّاسَ بالنصرِ.

العام الهجري : 1360 العام الميلادي : 1941
تفاصيل الحدث:

ثورةُ رشيد عالي الكيلاني هي سلسلةُ الأحداث الدستورية التي تصاعدت بسببِ تضارُبِ مدارس الحُكم الملكي في العراق وتياراتِه ما بين التيارِ الوطني الثوري التحرري، والتيار الليبرالي الميَّال لممالأة الإنجليز، في وقت كان العراقُ يمثِّل زعامةً ومدرسةً سياسيةً يُعتَدُّ بها في المنطقة العربية، فلما تفاقمت الأمورُ في الحكومة العراقية وتأزَّمت بسبب موقِفِ العراق من الحرب العالمية الثانية وموقِفِها من الدول المتحارِبة، وكذلك بسبب رفض إنجلترا تسليحَ العراق، شعرت إنجلترا بما يُساوِرُ نفوس العراقيين وما يختَلِجُها من الاستياء من سياستها في العراق، وكرههم للحكومة العراقية الموالية للمحتَلِّ ودورانها في فلَكِها، فأرادت بريطانيا أن تُخفِّفَ من وطأة هذه الكراهية عليها وعلى أعوانها، ورأت أن تُسلِّمَ الحُكمَ للمعارضة، وقد برز بين رجال المعارَضة رشيد عالي الكيلاني -المعروف بوطنيته وعدم ارتياحه للإنجليز- وأن تعمَلَ ما في وُسعِها ليدورَ في فلَكِها، وربما يحدِثُ هذا فيما إذا قرَّبه أعوانُها، وأظهرت رضاها عن ذلك، ولَمَّا لم تستطع تنفيذَ خططها بجَلبِه إلى دائرة سياستها أبرزت كيفيةَ تسلُّم الكيلاني الحكم، وأنه قد تمَّ عن ترشيح أصدقائها. وتبعًا لهذا فقد رشَّحه نوري السعيد والوصي معًا لتسلُّم السلطة، غير أن رشيد الكيلاني لم يعتَمِدْ على هذا الترشيح، وإنما كان يرتكِزُ على قاعدة قوية؛ فالشعبُ يَدعَمُه، والجيش يُؤيِّدُه، وإضافةً إلى هذا فقد أخذ تعهدًا من رجال السياسة سواء الذين يناوِئونه؛ أمثال نوري السعيد، وتوفيق السويدي، وعلي جودت الأيوبي، وجميل المدفعي، أم الذين يؤيدونَه؛ أمثال ناجي شوكت، وناجي السويدي. ورُفِعَ هذا التعهُّد إلى الوصي فأيَّده، وبذا كانت الأرضُ التي يقف عليها رشيد عالي الكيلاني صلبةً، وخاب فألُ إنجلترا من كل النواحي؛ فمن ناحية ابتهج الشعب به، وضَمِنَ سلامة الخط، فأبدى الكيلاني مُعارضتَه للسياسة البريطانية، وأخذ يُصرِّح بذلك، ومن ناحية ثانية لم تستطع إنجلترا جرَّ رشيد عالي الكيلاني إلى سياستها، بل أبدى قوَّةً في الشخصية، وأظهر استقلاليَّتَه؛ حيث رفض قطْعَ العلاقة مع إيطاليا التي أعلنت الحربَ ضِدَّ إنجلترا وفرنسا، وهذا ما أغضب إنجلترا أشَدَّ الغضب؛ إذ أحسَّت أن العراقَ ليست تحت نفوذها، ولا تسيرُ برأيها، غيرَ أنَّه من الجانب الآخر قد ألهب هذا التصرُّفُ الشعبَ في العراق حماسةً لموقِفِ حكومته، وهذا ما زاده مُعارضةً للسياسة الإنجليزية. وانهارت فرنسا أمام الألمان، فطار الشعبُ فرحًا ليس حبًّا بالألمان، ولكن كرهًا لفرنسا ولسياستها الاستعمارية، وفي الواقع فقد زادت الدعايةُ لدول المحور في العراق رغبةً في هزيمة الحلفاء، ولم تُقصِّر المفوضية الإيطالية بذلك، وحتى توقعت إنجلترا أن تستأنِفَ العراق عَلاقتها مع ألمانيا، وهذا ما خَشِيَته أشدَّ الخشية، واستشاطت إنجلترا غضبًا وأخذت تعمل للتخلُّص من حكومة رشيد عالي الكيلاني، وكان لها ما أرادت؛ إذ أوعزت إنجلترا لأعوانها بالانسحاب من الوزارة، فكان عليها أن تستقيلَ وتُفسِحَ المجالَ لحكومة جديدة وأرادت إنجلترا أن تخرُجَ من المأزق الذي وقَعَت فيه بتسليم رشيد الكيلاني الحكم، وأرادت أن تخرجَ من المأزق بهدوءٍ ولا تعطي السلطةَ لأحدِ أعوانها؛ فقد يؤدى إلى مظاهرات وربما تندلع ثورة، وبمجرد أن طلب الوصيُّ من الكيلاني أن يقَدِّمَ استقالة حكومته حتى اهتَزَّ الوضع وتحرَّك الجيشُ وقامت مظاهراتٌ تطالب بتحقيق رأي الكيلاني بحَلِّ المجلس النيابي، وإجراء انتخابات جديدة، وتشَكَّلت وزارة طه الهاشمي، وهو قريب من المعارضة، وفي الخامس من ربيع الأول 1360هـ اجتمع في معسكر الرشيد رشيد علي الكيلاني: رئيس الحكومة، واللواء أمين زكي: رئيس الأركان، وبعض الضباط، وأعلنوا الاستنفارَ بالمعسكر وقرَّروا القيام بانقلابٍ إذا رفضت حكومةُ طه الهاشمي الاستقالةَ، وهي الحكومة التي ترضى عنها بريطانيا ويؤيِّدُها الوصيُّ على الملك عبد الإله بن علي، ثمَّ طلبوا منه التفاهُمَ مع الكيلاني لتشكيل وزارة جديدة، فأبى ثم أُجبِرَ على الاستقالة، ولما أُعلِمَ الوصي بذلك هرب متسللًا ودعا طه أعضاء وزارته للاجتماع به، وكان الجيش قد دخل المدينةَ وسيطر على المداخل الرئيسة وحاصر قصر الوصي الذي هرب منه، ثم في صباح 6 من ربيع الأول ذهب رشيد الكيلاني إلى دار طه لإقناعه بالانضمام لحركتِهم فوجدوا الوزارةَ ما زالت مجتَمِعةً، فجرى نقاشٌ حادٌّ ثم اجتمع الرأي على إبقاء الوزارة في الحكمِ، وألا يتدخَّل الجيش في السياسة، ويتعهد المدنيون والعسكريون على السواء بأن يقبَلوا بما يتم الاتفاق عليه، ويُطلَب من الوصي العودة للعاصمة، الذي كان قد انتقل إلى البصرة، ثم عاد رشيد الكيلاني والضباط فسَحَبوا الثقة من حكومة طه، وقرَّر الجيش تحمُّل المسؤولية في هذه المرحلة الحَرِجة, وقام رشيد باستدعاء المستشار الإنجليزي بوزارة الداخلية، وأعلمه أن حكومة طه الهاشمي استقالت والوصي غائب، وبذلك فالجيش هو مصدرُ السلطة، وقد أوكل الجيشُ لرشيد الأمرَ وهرب الوصي ومن معه إلى فلسطين، وتمَّ عَزلُ الوصي عبد الإله، وتعيين وصي جديد هو الشريف شرف الذي قَبِلَ استقالة حكومة طه الهاشمي، وسُرَّ الشعب بحركة رشيد عالي الكيلاني، وأما إنجلترا فقد عَدَّت هذا عملًا غير مشروع فقررت التخلُّصَ من حركته بالقوة، فطلبت من الهند إرسالَ قوات فنزلت رغم أنف الحكومة الجديدة، وحاصر الجيشُ العراقي قاعدةَ الحبانية الجوية، وفي 5 ربيع ثاني وزَّعت السفارة البريطانية منشورًا تتهم فيه الكيلاني وقادةَ الجيش أنهم باعوا أنفسهم للألمان والطليان، وأنها خوَّلت سفيرها اتخاذ ما يراه مناسِبًا، وفي الغد صباح 6 ربيع الثاني بدأ الهجومُ الجوي الإنجليزي وضَرْب المواقع العراقية وقصَفَت معسكر الرشيد، وأعلن المفتي الفلسطيني الجهادَ، وجاءت قواتٌ ألمانية تُعِين العراقيين بحكم عدائها لبريطانيا ضِمنَ الحرب العالمية الثانية إلَّا أنَّ قَصْفَها ليس جادًّا بالنسبة لَمَّا عُرٍف عن السلاح الجوي الألماني، ثم تدخَّلت قوات برية إنجليزية من الأردن، فقام رشيد الكيلاني بتشكيلِ لجنة الأمن الداخلي واتصل بالسياسيين لوقف القتال، وفي 6 جمادى الأولى رحل رشيد الكيلاني ومفتي فلسطين وغيرهم إلى طهران، وفي 7 جمادى الأولى وافق أمينُ العاصمة أرشد العمري على شروطِ هدنة قاسية على العراقيين؛ لأنَّهم لم يعودوا قادرين على مقاومة الإنجليز، فلم يكن لهم خيارٌ غير القبول بالهدنة، وعاد الوصي عبد الإله ونوري السعيد ومن معهما من أعوان الإنجليز إلى بغداد على متن طائرة بريطانية، وبهذا انتهت حركةُ رشيد عالي الكيلاني التي تعلَّقَت بها آمال العراقيين في التخَلُّص من الاستعمار البريطاني بمساعدة أعداء بريطانيا المتمَثِّل في الألمان والطليان.

العام الهجري : 600 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1203
تفاصيل الحدث:

هو الإمامُ العلَّامة الحافِظُ الكَبيرُ، الصادِقُ القدوة، العابد الأثَري المتَّبع، عالِم الحفاظ: تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الجماعيلي الدمشقي الصالحي الحنبلي، صاحب التصانيف المشهورة، ولد سنة 541 بجماعيل, وهي قرية من أعمال نابلس وكان أكبَرَ مِن الشيخ موفق الدين أحمد بن قدامة المقدسي بأربعة أشهر، وهما ابنا خالة، كان إمامًا حافظًا متقنًا مصنفًا ثقة، سمع الكثير ورحل إلى البلاد وكتب الكثير، وسيرته مذكورة في جزأين، ألفها الحافظ ضياء الدين أبي عبد الله المقدسي. كان الحافظ عبد الغني ليس بالأبيض بل يميل إلى السمرة، حسن الشَّعر، كثَّ اللحية، واسِعَ الجبين، عظيمَ الخَلقِ، تامَّ القامة، كأنَّ النور يخرج من وجهه. هاجر صغيرًا إلى دمشق بعد الخمسين، فسمع بها ثم ارتحَلَ إلى بغداد فالإسكندرية ثم أصبهان. قال ابن كثير: " كان قدوم الحافظِ وابن خالته الموفَّق مع أهلهما من بيت المقدس إلى مسجِدِ أبي صالح أولًا بدمشق، ثم انتقلوا إلى السفح فعُرِفَت المحلة بهم، فقيل لها الصالحية، وقرأ الحافظ عبد الغني القرآن، وسمع الحديث" قال السبط ابن الجوزي: "كان عبد الغني ورعًا زاهدًا عابدًا، يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة، كَوِردِ الإمامِ أحمد بن حنبل، ويقوم الليل ويصوم عامة السنة، وكان كريمًا جوادًا لا يدَّخِرُ شيئا، ويتصَدَّقُ على الأرامل والأيتام حيث لا يراه أحد، وكان يُرَقِّعُ ثوبه ويؤثِرُ بثَمَن الجديد، وكان قد ضَعُف بصره من كثرة المطالعة والبكاءِ، وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ", وهو أحد أكابر أهل الحديث وأعيان حُفَّاظهم، قال ضياء الدين: "كان شيخُنا الحافظ لا يكاد يُسألُ عن حديث إلا ذكَرَه وبينه، وذكَرَ صِحَّته أو سَقَمَه، ولا يُسأل عن رجلٍ إلا قال: هو فلان بن فلان الفلاني، ويذكُرُ نَسَبَه، فكان أميرَ المؤمنين في الحديث، سمعته يقول: كنتُ عند الحافظ أبي موسى، فجرى بيني وبين رجلٍ منازعة في حديث، فقال: هو في صحيح البخاري. فقلتُ: ليس هو فيه. قال: فكَتَبَه في رقعة، ورفَعَها إلى أبي موسى المديني يسألُه، قال: فناولني أبو موسى الرقعةَ، وقال: ما تقول؟ فقلتُ: ما هو في البخاري، فخَجِلَ الرجُل" وقال ابنه عبد الرحمن: "سمعت بعضَ أهلنا يقول: إنَّ الحافِظَ سُئل: لم لا تقرأُ مِن غير كتاب؟ قال: أخاف العُجبَ". كان مجتهدًا على الطلب، يُكرِم الطلبة، ويُحسِنُ إليهم، وإذا صار عنده طالبٌ يفهَمُ، أمَرَه بالرِّحلةِ، ويفرح لهم بسماع ما يحَصِّلونه. وقَعَت له محن على الاعتقادِ ونُفِيَ إلى مصر بسَبَبِ ذلك فاستقبله فيها أهلُ الحديث وأكرموه. قال ابن كثير: "رحل إلى أصبهان فسَمِعَ بها الكثير، ووقف على مصَنَّف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة، فأخذ في مناقشته في أماكِنَ مِن الكتاب في مائة وتسعين موضعًا، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فأبَغضوه وأخرجوه منها مختفيًا في إزار. ولما دخلَ في طريقه إلى الموصل سَمِع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفيَّةُ بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضا خائفًا يترقَّبُ، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديثَ بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلةِ مِن جامع دمشق، فاجتمعَ الناس عليه وإليه، وكان رقيقَ القلب سريع الدمعة، فحصل له قَبولٌ مِن الناس جدًّا، فحَسَده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشِقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجَهَّزوا الناصح الحنبلي، فتكَلَّم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهَرَ بصَوتِه مهما أمكنه، حتى يشَوِّشَ عليه، فحَوَّل عبد الغني ميعادَه إلى بعد العصر، فذكر يومًا عقيدتَه على الكرسيِّ، فثار عليه القاضي ابن الزكي، وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسًا في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين. وتكلموا معه في مسألةِ العلو ومسألة النزول، ومسألة الحَرفِ والصوت، وطال الكلامُ وظهر عليهم بالحُجَّة، فقال له برغش نائب القلعة: كلُّ هؤلاء على الضلالةِ وأنت على الحق؟ قال: نعم، فغَضِبَ برغش من ذلك وأمره بالخروجِ من البلد، فارتحل بعد ثلاثٍ إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون، فكان يقرأ الحديثَ بها فثار عليه الفُقَهاءُ بمصر أيضًا، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر، فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وله سبع وخمسون سنة، ودُفِنَ بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق". قال تاج الدين الكندي: هو أعلم من الدارقطني والحافظ أبي موسى المديني" ولعبد الغني كتاب الكمال في أسماء الرجال، وكتاب أشراط الساعة، وغير ذلك. قال ابن كثير: "وقد هَذَّب شيخنا الحافظ أبو الحجاج المِزِّي كتابه الكمال في أسماء الرجال- رجال الكتب الستة- بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة، نحوًا من ألف موضع، وذلك الإمام المِزِّي الذي لا يُمارى ولا يُجارى، وكتابه التهذيب لم يُسبَق إلى مثله، ولا يُلحَق في شكله فرحمهما الله، فلقد كانا نادِرَين في زمانهما في أسماء الرجال حِفظًا وإتقانًا، وسماعًا وإسماعًا وسَردًا للمتون وأسماء الرجال، والحاسِدُ لا يُفلحُ ولا ينال منالًا طائلًا." قال الذهبي: " ولم يَزَل يطلب ويسمَع، ويكتب ويسهر، ويدأب ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتقي الله ويتعبد ويصوم، ويتهجد وينشر العلم، إلى أن مات. رحل إلى بغداد مرتين، وإلى مصر مرتين، سافر إلى بغدادَ هو وابن خاله الشيخ الموفق في أول سنة إحدى وستين، فكانا يخرجان معًا، ويذهب أحدهما في صحبة رفيقِه إلى درسه وسماعه، كانا شابَّين مختطَّين- يعني: أول ظهور الشعر في وجهيهما- وخوَّفهما الناس من أهل بغداد، وكان الحافظ مَيلُه إلى الحديث، والموفَّق يريد الفقه، فتفَقَّه الحافظ، وسَمِعَ الموفَّق معه الكثير، فلما رآهما العُقَلاء على التصَوُّن وقلة المخالطة أحبوهما، وأحسنوا إليهما، وحصَّلا عِلمًا جَمًّا، فأقاما ببغداد نحو أربع سنين، ونزلا أولًا عند الشيخ عبد القادر الجيلي- وكان لا يترك أحدًا ينزل عنده، ولكنه توسَّم فيهما النجابة- فأحسن إليهما، ثم مات بعد قدومهما بخمسين ليلة، ثم اشتغلا بالفقه والخلاف على ابن المني". قال موفق الدين: "كان الحافظ عبد الغني جامعًا للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا، ورفيقي في طلب العلم، وما كنا نستَبِقُ إلى خير إلَّا سبقني إليه إلا القليل، وكمَّل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم، ورُزِقَ العلم وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يُعَمَّر, وقال أخوه الشيخ العماد: ما رأيتُ أحدًا أشد محافظة على وقته من أخي". قال الحافظ: "أضافني رجلٌ بأصبهان، فلما تعشَّينا، كان عنده رجلٌ أكل معنا، فلما قمنا إلى الصلاة لم يُصَلِّ، فقلت: ما له؟ قالوا: هذا رجلٌ شمسي- أي من عبدة الشمس- فضاق صدري، وقلتُ للرجل: ما أضفتَني إلا مع كافر! قال: إنَّه كاتبٌ، ولنا عنده راحة، ثم قمتُ بالليل أصلي، وذاك يستَمِعُ، فلما سمع القرآن تزفَّرَ، ثم أسلَمَ بعد أيَّام، وقال: لَمَّا سمعتك تقرأ، وقع الإسلامُ في قلبي". كان لا يرى منكرًا إلَّا غَيَّرَه بيده أو بلسانه، وكان لا تأخُذُه في الله لومة لائم. أهرق مرةً خَمرًا، فجَبَذ صاحِبُه السيفَ فلم يَخَف عبد الغني منه، وأخذ السيفَ مِن يده، وكان قويًّا في بدنه، وكثيرًا ما كان بدمشق يُنكِرُ ويكسِرُ الطنابير والشبَّابات, فقد كان لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه. قال الضياء قال الحافظ: "كنت يومًا مع عبد الهادي عند حمام كافور، إذا قومٌ كثيرٌ معهم عِصِيٌّ، فخفَّفتُ المشي، وجعلت أقولُ: حسبي الله ونعم الوكيل، فلمَّا صرت على الجسر، لحقوا صاحبي، فقال: أنا ما كَسَرتُ لكم شيئًا، هذا هو الذي كسر. قال: فإذا فارسٌ يركض، فترجَّلَ، وقبَّل يدي، وقال: الصبيانُ ما عرفوك, وكان قد وضع اللهُ له هيبةً في النفوس". دخل الحافظ على العادل، فقام له، فلما كان اليوم الثاني جاء الأمراء إلى الحافظ، فقالوا: آمَنَّا بكراماتِك يا حافظ. وذكروا أن العادِلَ قال: ما خِفتُ مِن أحد ما خِفتُ من هذا. فقلنا: أيُّها الملك، هذا رجلٌ فقيه. قال: لَمَّا دخل ما خُيِّلَ إليَّ إلا أنَّه سَبُع. قال الضياء: رأيتُ بخط الحافظ: "والملك العادِلُ اجتمعْتُ به، وما رأيتُ منه إلا الجميل، فأقبل عليَّ وقام لي والتزمني، ودعوتُ له، ثم قلت: عندنا قصورٌ هو الذي يوجِبُ التقصير. فقال: ما عندك لا تقصيرٌ ولا قصورٌ، وذكَرَ أمْرَ السُّنَّة، فقال: ما عندك شيءٌ تعاب به لا في الدين ولا الدنيا، ولا بُدَّ للناس من حاسِدينَ.
وبلغني بعدُ عنه- قاله الضياء- أن العادل قال: ما رأيتُ بالشامِ ولا مصر مثلَ الحافظ؛ دخَلَ عليَّ فخُيِّلَ إليَّ أنه أسد، وهذا ببركة دعائِكم ودعاء الأصحاب. ثم قال الضياء: كانوا قد وغروا عليه صدر العادل، وتكَلَّموا فيه، وكان بعضُهم أرسل إلى العادل يبذُلُ في قتل الحافِظِ خمسة آلاف دينار. قلتُ-الضياء: جرَّ هذه الفتنةَ نَشرُ الحافظ أحاديث النزول والصفات، فقاموا عليه، ورموه بالتجسيم، فما دارى كما كان يداريهم الشيخُ الموفَّق". قال الضياء: سمعت أبا بكر ابن الطحان، يقول: كان في دولة الأفضَلِ جعلوا الملاهيَ عند الدَّرَج، فجاء الحافِظُ فكسَّرَ شيئًا كثيرا، ثم صَعِدَ يقرأ الحديث، فجاء رسولُ القاضي يأمره بالمشيِ إليه ليناظره في الدفِّ والشبابة، فقال: ذاك عندي حرامٌ، ولا أمشي إليه، ثم قرأ الحديث. فعاد الرَّسولُ، فقال: لا بدَّ مِن المشي إليه، أنت قد بَطَّلتَ هذه الأشياء على السلطان. فقال الحافظ: ضَرَبَ الله رقبَتَه ورقبة السلطان. فمضى الرسولُ وخفنا، فما جاء أحدٌ". مات عبد الغني يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول، ودفن بالقرافة.

العام الهجري : 807 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1405
تفاصيل الحدث:

هو الطاغية تيمورلنك كوركان بن أيتمش قنلغ بن زنكي بن سنيا بن طارم بن طغريل بن قليج بن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا بن التاخان، المغولي الأصل، من طائفة جغتاي، واسمه تمرلنك وقيل تيمور، كلاهما بمعنى واحد، والثاني أفصح، وهو باللغة التركية: الحديد. ومعنى لنك: الأعرج، ومعنى كوركان: صهر الملك، وهو ينتمي إلى قبيلة البرلاس التركية، وقد كان أحد أجداده وهو قراجا رنويان قد دعم جنكيز خان فأحبَّه وجعله وصيًّا على ابنه جغطاي، فبرز بين المغول وعرف. ولد تيمور عام 736 في كش، وقيل: إنه دخل في الإسلام على مذهب الشيعة. وكان تيمور طويل القامة، كبير الجبهة، عظيم الهامة، شديد القوَّة، أبيض اللون مشربًا بحمرة، عريض الأكتاف، غليظ الأصابع، مسترسل اللِّحية، أشلَّ اليد، أعرج اليمنى، تتوقَّد عيناه، جهير الصَّوت، لا يهاب الموت، قد بلغ الثمانين، وهو متمتِّع بحواسه وقوَّته. وكان يكره المزاَّح ويبغض الكذّاب، قليل الميل إلى اللهو، على أنّه كان يعجبه الصوت الحسن، وكان نقش خاتمه: رستى رستى، ومعناه: "صدقت نجوت" وكان له فراسات عجيبة، وسعد عظيم، وحظ زائد في رعيته، وكان له عزم ثابت، وفهم دقيق، محجاجًا سريع الإدراك، متيقِّظَا يفهم الرَّمز ويدرك اللمحة، ولا يخفى عليه تلبيس ملبِّس، وكان إذا عزم على شيء لا ينثني عنه، وكان يقال له: صاحب قران الأقاليم السبعة، وقهرمان الماء والطين، وقاهر الملوك والسَّلاطين، وكان مغرمًا بسماع التاريخ وقصص الأنبياء عليهم السَّلام ليلًا ونهارا، حتى صار-لكثرة سماعه للتاريخ- يردُّ على القارئ إذا غلط فيها، وكان يحبُّ العلم والعلماء، ويقرِّب السَّادة الأشراف، ويُدني أرباب الفنون والصَّنائع. وكان انبساطه بهيبة ووقار، وكان يباحث أهل العلم وينصف في بحثه، ويبغض الشُّعراء والمضحكين، ويعتمد على أقوال الأطبَّاء والمنجِّمين، حتى إنَّه كان لا يتحرَّك بحركة إلا باختيار فلكي, وكان يلازم لعب الشطرنج، وكان الشيخ عبد الجبَّار بن عبد الله المعتزلي الحنفي الخوارزمي عالم الدّشت، صاحب تيمورلنك وإمامه وعالمه وترجمانه. ولتيمور واقعة مع العلَّامة القاضي محب الدين أبي الوليد محمد بن محمد بن محمود الحلبي قاضيها الحنفي المعروف بابن الشحنة: لما أخذ تيمور قلعة حلب بالأمان والأيمان فاستحضر علماءها وقضاتها فحضروا إليه وطلب من معه من أهل العلم، فقال لكبيرهم عنده، وهو عبد الجبار ابن العلامة نعمان الدين الحنفي، قُل لهم: إني سائلهم عن مسائل سألت عنها علماء سمرقند وبخارى وهراة وخراسان وسائر البلاد التي افتتحتها فلم يفصحوا الجواب، فلا تكونوا مثلهم، ولا يجاوبني إلا أعلمكم وأفضلكم، وليعرف ما يتكلم به؛ فإني خالطت العلماء، وكان يعنت العلماء في الأسئلة ويجعل ذلك سببًا إلى قتلهم أو تعذيبهم، قال القاضي ابن الشحنة، فقال القاضي شرف الدين موسى الأنصاري الشافعي: هذا شيخنا ومدرس هذه البلاد ومفتيها مشيرًا إليَّ، سلوه. قال: فقال لي قاضيه عبد الجبار: سلطاننا يقول: إنه بالأمس قُتِل منا ومنكم، فمن الشهيد: قتيلُنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع وقلنا في أنفسنا: هذا الذي كان يبلغنا عنه من التعنت، وسكت القوم ففتح الله عليَّ بجواب سريع بديع فألقى إلي تيمور سمعه وبصره، وقال لعبد الجبار يسخر من كلامي: كيف سئل رسول الله عن هذا؟ وكيف أجاب؟ فقلت: جاء أعرابي إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله، إن الرجل يُقاتِلُ حميةً ويقاتل ليريَ مكانه من الشجاعة، فأينا الشهيد في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكونَ كلمة الله هي العليا، فهو الشهيد)). فقال تيمورلنك: خوب خوب! فانفتح باب المؤانسة، فكثر منه السؤال وكثر مني الجواب، وكان آخر ما سأل أن قال: ما تقولون في علي ومعاوية ويزيد؟ فأسرَّ إلى القاضي شرف الدين: أن اعرِفْ كيف تجاوبُه؛ فإنه شيعي، فلم أفرغ من سماع كلامه إلا وقد قال القاضي علم الدين القفصي المالكي كلامًا معناه: إن الكل مجتهدون، فغضب لذلك غضبًا شديدًا، وقال: علي على الحق، ومعاوية ظالم، ويزيد فاسق، وأنتم حلبيون تبع لأهل دمشق، وهم يزيدون قتلوا الحسين، قال: فأخذت في ملاطفته والاعتذار عن المالكي بأنه أجاب بشيء وجده في كتاب لا يعرف معناه، فعاد إليَّ دون ما كان عليه من البسط, وحضر صلاة المغرب وأقيمت الصلاة وأمَّنا عبد الجبار، وصلى تيمورلنك إلى جانبي قائمًا يركع ويسجد، ثم تفرقنا، وفي اليوم الثاني: غدر بكل من في القلعة وأخذ جميع ما كان فيها من الأموال والأقمشة والأمتعة ما لا يحصى، أخبرني بعض كُتابه أنه لم يكن أخذ من مدينة قط ما أخذ من هذه القلعة، وعوقب غالب المسلمين بأنواع من العقوبة، وحبسوا بالقلعة. بعد أن عاد تيمورلنك من حربه مع العثمانيين واستقر في سمرقند استعدَّ لغزو الصين، فتوجه بجيوشه إليها، ولكن وفي الطريق هاجت العواصف الثلجية فتأثر ببردها، فكانت وفاته في ليلة الأربعاء سابع عشر شعبان سنة 807 وهو نازل بالقرب من أترار، وأترار بالقرب من آهنكران، ومعنى آهنكران باللغة العربية: الحدادون، وكان سبب موته أنَّه خرج من بلاده لأخذ بلاد الصِّين، وقد انقضى فصل الصيف ودخل الخريف، وكتب إلى عساكره أن يأخذوا الأُهبة لمدة أربع سنين، فاستعدوا لذلك وأتوه من كلِّ جهة، وصُنِع له خمسمائة عجلة لحمل أثقاله. ثمَّ خرج من سمرقند  في شهر رجب وقد اشتد البرد، ونزل على سيحون وهو جامد، فعبره ومرَّ سائرا، فأرسل الله عليه من عذابه جبالًا من الثلج التي لم يُعهَد بمثلها مع قوَّة البرد الشديد، فلم يبقَ أحد من عساكره حتى امتلأت آذانهم وعيونهم وخياشيمهم، وآذان دوابهم وأعينها من الثلج، إلى أن كادت أرواحهم تذهب. ثمَّ اشتدت تلك الرِّياح، وملأ الثلج جميع الأرض -مع سعتها- فهلكت بهائمهم. وجمد كثير من النّاس، وتساقطوا عن خيولهم موتًا. وجاء بعقب هذا الثَّلج والرّيح أمطار كالبحار، وتيمور مع ذلك لا يرقُّ لأحد، ولا يبالي بما نزل بالناس، بل يجدُّ في السَّير، فما أن وصل تيمور إلى مدينة أترار حتى هلك خلق كثير من قواته, ثمَّ أمر تيمور أن يستقطر له الخمر حتى يستعمله بأدوية حارَّة لدفع البرد وتقوية الحرارة، فعُمِل له ما أراد من ذلك, فشرع تيمور يستعمله ولا يسأل عن أخبار عساكره وما هم فيه، إلى أن أثَّرت حرارة ذلك وأخذت في إحراق كبده وأمعائه، فالتهب مزاجه حتى ضَعُف بدنه، وهو يتجلَّد ويسير السَّير السّريع، وأطبَّاؤه يعالجونه بتدبير مزاجه إلى أن صاروا يضعون الثلج على بطنه؛ لعِظَمِ ما به من التلهب، وهو مطروح مدة ثلاثة أيام، فتَلِفَت كَبِده، وصار يضطرب ولونه يحمرُّ، ونساؤه وخواصُّه في صراخ، إلى أن هلك إلى لعنة الله وسَخَطِه، ولما مات لبسوا عليه المسوح، ولم يكن معه أحد من أولاده سوى حفيده سلطان خليل بن ميران شاه بن تيمور، فعاد إلى سمرقند برمَّة جده تيمور. فخرج النَّاس إلى لقائه لابسين المسوح بأسرهم، وهم يبكون ويصرخون، ودخل ورمَّةُ تيمور بين يديه في تابوت أبنوس، والملوك والأمراء وكافة النَّاس مشاة بين يديه، وقد كشفوا رؤوسهم وعليهم المسوح، إلى أن دفنوه على حفيده محمد سلطان بمدرسته، وأقيم عليه العزاء أيَّامًا، وقُرِئَت عنده الختمات، وفُرِّقت الصَّدقات، ومدَّت الحلاوات والأسمطة بتلك الهمم العظيمة، ونُشِرت أقمشته على قبره، وعلَّقوا سلاحه وأمتعته على الحيطان حوالي قبره، وكلُّها ما بين مرصع ومكلل ومزركش، في تلك القبّة العظيمة، وعُلِّقت بالقبَّة قناديل الذَّهب والفضَّة، من جملتها قنديل من ذهب زنته أربعة آلاف مثقال -وهو رطل بالسَّمرقندي، وعشرة أرطال بالدِّمشقي، وأربعون رطلًا بالمصري- وفرشت المدرسة بالبُسُط الحرير والدِّيباج. ثمَّ نُقِلت رمَّتُه إلى تابوت من فولاذ عُمِل بشيراز، وهو على قبره إلى الآن، وتحمل إليه النَّذورة من الأعمال البعيدة، ويُقصَد قبره للزِّيارة والتّبرُّك به، ويأتي قبره من له حاجة ويدعو عنده!! وإذا مرَّ على هذه المدرسة أمير أو جليل خضع ونزل عن فرسه إجلالًا لقبره؛ لِما له في صدورهم من الهيبة. فتسلطن بعده حفيده خليل بن ميران شاه فاستولى خليل على خزائن جده وبذل الأموال، وتم أمرُه إلا أن ولدَي تيمور: شاه رخ، وجلال الدين ميرانشاه، اقتسموا المملكة بينهما بخط ممتد على حدود إيران، فأخذ شاه رخ الغرب، وفيه العراق وأذربيجان وأجزاء من بلاد القفجاق القوقاز، وأخذ ميانشاه الشرق، وفيه خراسان وسجستان وأصفهان وشيراز.