ثار أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفِهري بالأندلس، وكان من حديثه: أنَّه كان في سِجنِ عبد الرحمن بقُرطبةَ مِن حينِ هرب أبوه، وقُتِل أخوه عبد الرحمن، وحُبِس أبو الأسود، وتعامى في الحبسِ ثمَّ هرب منه واجتمعَ حَولَه خَلقٌ كثيرٌ، فرجع بهم إلى قتال عبد الرحمن الداخل، فالتقيا على الوادي الأحمر بقسطلونة، واشتدَّ القتال، ثم انهزم أبو الأسودِ، وقُتِلَ من أصحابِه أربعةُ آلاف سوى من تردَّى في النهر، واتَّبَعه الداخل يقتُلُ من لحِقَ، حتى جاوز قلعةَ الرباح، ثم جمَعَ وعاد إلى قتالِ الداخل، في سنة تسع وستين، فلما أحسَّ بمَقْدَمةِ الأمويِّ انهزم أصحابُه وهو معهم، فأُخِذَ عيالُه، وقُتِلَ أكثَرُ رجاله، وبَقِيَ إلى سنة سبعين، فهلك بقريةٍ مِن أعمال طليطِلة. وقام بعده أخوه قاسِمٌ وجمع جمعًا، فغزاه الأميرُ، فجاء إليه بغيرِ أمانٍ فقَتَله.
هو الحافِظُ لدينِ الله عبدُ المجيد بنُ الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله الفاطمي العُبَيدي حاكِمُ مصر، كان في جميعِ مُدَّةِ حُكمِه محكومًا عليه، يَحكُمُ عليه وزراؤُه، حتى إنَّه جَعَلَ ابنَه حسنًا وزيرًا ووَلِيَّ عَهدِه فحَكَمَ عليه واستبَدَّ بالأمرِ دونَ أبيه وقَتَلَ كثيرًا مِن أُمَراءِ دَولةِ أبيه وصادَرَ كثيرًا، فلما رأى الحافِظُ ذلك سقى الحسَنَ سُمًّا فمات. توفِّيَ الحافِظُ بعد أن أصابه مَرَضٌ شديدٌ، وقد ثارت فِتنةٌ بين العَسكَرِ والريحانيَّة أصحاب الحَسَن، وهَمُّوا بخَلعِ الحافِظِ، فنُقِلَ إلى قصر لؤلؤة وهو مَريضٌ فمات به، وكانت مُدَّةُ حُكمِه عشرينَ سَنةً إلَّا خمسة أشهر، وولِيَ الحُكمَ بَعدَه في مصرَ ابنُه الظَّافِرُ بأمرِ اللهِ أبو مَنصورٍ إسماعيلُ بنُ عبد المجيد الحافِظ، وبُويِعَ له في اليوم الذي مات فيه الحافِظُ لدين الله، وعُمُرُه سَبعَ عَشرةَ سَنةً وأربعة أشهر وعشرة أيام، بوَصيِّةٍ مِن أبيه له بالحُكمِ، وكان أصغَرَ أولادِه.
هو الشَّريفُ مانعُ بن علي بن مسعود بن جماز بن شيحة الحسيني: صاحِبُ المدينة النبويَّة، وقد ذُكِرَت عنه أمورٌ شنيعة بَشِعةٌ مِن غُلُوِّه في الرَّفضِ المُفرِط، ومن قَولِه: إنه لو تمكن أخرج الشيخين من الحُجرة! وغير ذلك من عبارات مؤدية لعدم إيمانِه إن صح عنه، والله أعلم، وفي السابع والعشرين من ذي الحجَّة عدا عليه فداويان عند لُبسِه خِلعةَ السلطان، وقت دخول المَحمَل إلى المدينة الشريفة، فقتلاه، فعَدَت عبيدُه على الحجيج الذين هم داخِلَ المدينة فنهبوا من أموالِهم وقَتَلوا بعضَهم وخرجوا، وكانوا قد أغلقوا أبوابَ المدينة دون الجيشِ فأُحرِقَ بعضُها، ودخل الجيشُ السلطاني فأنقذوا النَّاسَ من أيدي الظالمين، ودخل المَحمَل السلطانيُّ إلى دمشق يوم السبت العشرين من شهر محرَّم على عادته إلى دمشق، وبين يدي المَحمَل الفداويان اللذان قَتَلا صاحب المدينة، ويُذكَرُ أنَّه تولى المدينةَ الشَّريفةَ بعده ابنُ عَمِّه فضل بن القاسم.
غزا إبراهيمُ بنُ سُليمان بن عفيصان قطر، وهو أوَّلُ قائدٍ تابِعٍ لدولة الدرعية يقومُ بغزوها، واستطاع إخضاعَ مُعظَم قراها: فريحة والحويلة واليوسفية والرويضة وغيرها، وكتب إلى الدرعية يطلب السماحَ له بمهاجمة الزبارة، فجاءته الموافقةُ مِن الإمام عبد العزيز بن محمد، وحاصر إبراهيمُ فيها العتوب (آل خليفة وجماعتهم) وشدَّد هجماتِه عليها حتى استولى على قلعتِها، فاضطر العتوب إلى الرحيلِ وساروا إلى البحرين بوساطة البحر مُقتَنِعين بأنَّ رحيلَهم هذا ما هو إلا رحيلٌ مؤقَّتٌ يدوم لفترة قصيرةٍ هي فترةُ بقاء قوات الدرعية في قطر؛ ظنًّا منهم أنَّ حُكمَ الدرعية فيها لن يتعَدَّ كَونَه حملةً عابرة تنسحِبُ قواتُ الدرعية بعدها، وعندها يعود العتوب إليها مرةً ثانية، وهكذا دخل أتباعُ دعوة المجدِّد قطر، فأصبحت جزءًا من الدولة السعودية الأولى التي أخذَت تَنشُرُ فيها مبادئَ دعوةِ الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
عُقِدَ اجتماع الجمعية العمومية في أحد أروقة القصر، وحضره نحو 800 من علماء ورؤساء حضر وبدو، بينما قاطَعَ زُعماءُ الإخوان (إخوان من أطاع الله) اجتماعَ الجمعية العمومية استنادًا إلى أن مؤتمر الرياض فيه الكفاية، بعد أن ثبت لهم رفضُ الإنجليز هدمَ المخافر، وبالتالي أصبح على الإمام أن يشُنَّ الجهاد أو ينتدب المسلمون أنفسهم للجهاد. فلم يحضُرْ فيصل الدويش ولا سلطان بن بجاد، وأناب فيصل الدويش ابنه عزيز. افتتح الملِكُ المؤتمر بخطبةٍ شرح فيها جهودَه من استرداد الرياض إلى الوقت الحاضر، وبعد أن انتهى من خطبته عرض على الحاضرين تنازُلَه عن العرش ووجوب اختيار غيرِه مِن آل سعود، وأنَّه يعاهِدُهم أنه سيساعِدُ من يختارونَه، فلم يقبل الحضور بتنازُلِه، وأجمعوا على ضرورة بقائه في السلطة، وجدَّدوا له البيعةَ والسمع والطاعة، ثمَّ بيَّن نتائجَ مفاوضاته مع الإنجليز وتمسُّكَهم بالمخافر، وحَمَّل الدويش مسؤولية بنائِها بسبَبِ تعَدِّيه على الحدود العراقية النجدية.
انسحَبَت قواتُ الحكومة الصومالية من مدينة بورهكبا 190 كم غربَ العاصمة مقديشو، بعدَ استيلائها عليها بمسانَدة قواتٍ إثيوبيةٍ، فيما أعلنت المحاكمُ الإسلاميةُ الجهادَ داعيةً الشعب الصومالي إلى تلبية نداء الجهادِ ضدَّ القوات الإثيوبية الغازية، والتي اعتدت على ترابِ الصومال، واتهمت إثيوبيا بشنِّ هجومٍ على الصومال، مؤكدةً أنَّ أكثرَ من 30 ألفَ جنديٍّ قد توَغَّلوا داخلَ الصومال خلالَ الفترة الأخيرة، واستَوْلَوْا على عدد من المدن، والقُرى، آخرُها مدينة بورهكبا، واعتُبِرت هذه الخطوةُ بمثابةِ إعلانِ الحرب من جانب أديس أبابا، وناشَدَت الأسرة الدولية، والأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الإفريقي للضغطِ على أديس أبابا لسحب قواتها من الصومال، وأعلنَ الشيخُ شريف الشيخ أحمد رئيس اللجنة التنفيذية للمحاكمِ الإسلاميةِ الجهادَ داعيًا الشعبَ الصوماليَّ إلى تلبية نداءِ اللهِ، والجهادِ ضدَّ القواتِ التي اعتدَتْ على ترابِ الصومال.
قام الجيشُ السُّودانيُّ بانقلابٍ ضِدَّ الحكومةِ المَدَنيَّةِ. وأعلن عبدُ الفتَّاحِ البرهانُ حَلَّ مجلِسِ السِّيادةِ، وفَرْضَ حالةِ الطوارئِ، وإعفاءَ مُعظَمِ وُزراءِ حُكومةِ حمدوك، وكذلك إعفاءُ حُكَّامِ الولاياتِ، وجرى اعتقالُ عدَدٍ كبيرٍ من المؤيِّدينَ للحُكومةِ. دعا تجمُّعُ المهنيِّينَ السُّودانيِّينَ وقوى الحُريَّةِ والتغييرِ إلى العِصيانِ المَدَنيِّ، ورَفضِ التعاوُنِ مع مُنَظِّمي الانقلابِ. أعلنت وَزارتا الخارجيَّةِ والإعلامِ السُّودانيِّ ومكتبُ رَئيسِ الوُزراءِ رَفْضَ الاعترافِ بنَقلِ السُّلطةِ، وأشاروا إلى أنَّ الانقلابَ جريمةٌ، وأنَّ حمدوك ما زال رئيسًا للوُزراءِ.
علَّق على الفورِ الاتحادُ الأفريقيُّ عُضويَّةَ السُّودانِ بانتظارِ عودةِ حُكومةِ حمدوك إلى السُّلطةِ،ثمَّ صرَّح الاتحادُ الأوروبيُّ والولاياتُ المتَّحِدةُ وقوى غربيَّةٌ أُخرى أنَّهم ما زالوا يَعتَرِفون بشرعيَّةِ مجلِسِ الوُزراءِ برئاسةِ حمدوك، وأصرُّوا على السَّماحِ لسُفَرائِهم بالتواصُلِ مع حمدوك.
أعلن البُرهانُ عن استعدادِه لاستعادةِ حُكومةِ حمدوك بَعدَ ثلاثةِ أيَّامٍ من الانقلابِ، ......
خَرَج عبدُ اللَّه بنُ أُنيسٍ رَضي اللهُ عنه من المدينةِ يومَ الإثنَينِ لخمسٍ خَلَونَ من المُحرَّمِ على رأس خمسةٍ وثلاثين شهرًا من مُهاجَرِ رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبَلَغَ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ سُفيانَ بنَ خالِدِ بن نُبَيحٍ الهُذليَّ ثم اللِّحيانيَّ -وكان يَنزِل عُرْنةَ وما والاها في أُناسٍ من قومِه وغيرِهم- يُريد أن يَجمَعَ الجُموعَ إلى رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فضَوَى إليه بَشَرٌ كثيرٌ من أفناءِ الناسِ.
قال عبدُ اللَّه بنُ أُنيسٍ رضي اللَّه تعالى عنه: دَعاني رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: "إنَّه بَلَغني أنَّ سفيانَ بنَ خالدِ بنِ نُبَيحٍ يَجمَع لي الناسَ ليَغزوَني وهو بنَخلةَ أو بعُرْنةَ فأْتِه فاقْتُلْه". فقلتُ: يا رسول اللَّه، صِفْهُ لي حتى أعرِفَه. فقال: "آيةُ ما بَينَك وبَينَه أنَّك إذا رَأيتَه هِبتَه وفَرِقْتَ منه، ووَجَدْتَ له قُشَعْريرةً، وذَكَرْتَ الشَّيطانَ". قال عبد اللَّه: كنتُ لا أهابُ الرِّجالَ، فقلت: يا رسول اللَّه، ما فَرِقتُ من شيءٍ قطُّ. فقال: "بَلَى؛ آيةُ ما بَينَك وبَينَه ذلك: أن تَجِدَ له قُشَعْريرةً إذا رَأيتَه". قال: واستَأذَنتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أقولَ. فقال: "قُلْ ما بَدا لَكَ". وقال: "انتَسِبْ لخُزاعةَ". فأخَذتُ سَيفي ولم أزِدْ عليه وخرجتُ أعتَزي لخُزاعةَ حتى إذا كنتُ ببَطنِ عُرْنةَ لَقيتُه يمشي ووراءه الأحابيشُ. فلمَّا رَأيتُه هِبتُه وعَرَفتُه بالنَّعتِ الذي نَعَت لي رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقلتُ: صَدَقَ اللَّهُ ورسولُه، وقد دخل وقتُ العَصرِ حين رَأيتُه، فصَلَّيتُ وأنا أمشي أُومي برَأسي إيماءً. فلمَّا دَنَوتُ منه قال: "مَنِ الرَّجلُ؟". فقلتُ: "رجلٌ من خُزاعةَ سَمِعتُ بجَمعِكَ لمُحمَّدٍ فجِئتُكَ لأكونَ مَعَك عليه". قال: "أجلْ؛ إنِّي لَفي الجَمعِ له". فمَشَيتُ معه وحدَّثتُه فاستَحلَى حديثي وأنشَدتُه وقلتُ: "عَجَبًا لِمَا أحدَثَ مُحمَّدٌ مِن هذا الدِّينِ المُحدَثِ، فارَقَ الآباءَ وسَفَّه أحلامَهم". قال: "لم ألْقَ أحَدًا يُشبِهُني ولا يُحسِنُ قِتالَه". وهو يتوكَّأُ على عصًا يَهُدُّ الأرضَ، حتى انتَهَى إلى خِبائِه وتفرَّق عنه أصحابُه إلى منازِلَ قَريبةٍ منه، وهم يُطيفون به. فقال: هَلُمَّ يا أخا خُزاعةَ. فدَنَوتُ منه. فقال: اجلِسْ. فجَلَستُ معه حتى إذا هَدَأ الناسُ ونامَ اغتَرَرْتُه. وفي أكثرِ الرِّواياتِ أنه قال: فمَشَيتُ معه حتَّى إذا أمكَنني حَمَلتُ عليه السَّيفَ فقَتَلتُه وأخذتُ رأسَه. ثم أقبلتُ فصَعِدتُ جَبَلًا، فدَخَلتُ غارًا وأقبَلَ الطلبُ من الخيلِ والرجالِ تَمعَجُ في كلِّ وجهٍ وأنا مُكتَمِنٌ في الغارِ، وأقبل رجلٌ معه إداوَتُه ونعلُه في يدِهِ وكنتُ خائفًا، فوضع إداوَتَه ونعلَه وجلس يَبولُ قَريبًا من فَمِ الغارِ، ثم قال لأصحابِه: ليس في الغارِ أحدٌ، فانصَرَفوا راجِعين، وخرجتُ إلى الإداوةِ فشَرِبتُ ما فيها وأخذتُ النَّعلَين فلَبِستُهما. فكنتُ أسير الليلَ وأكمُنُ النهارَ حتى جِئتُ المدينة، فوَجَدتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجد، فلمَّا رآني قال: "أفلَحَ الوَجهُ". فقلت: وأفلَحَ وَجهُكَ يا رسول اللَّه". فوَضَعتُ الرَّأسَ بين يَدَيه وأخبَرتُه خَبَري، فدَفَع إليَّ عصًا وقال: "تَخَصَّرْ بِها في الجَنَّةِ؛ فإنَّ المُتخَصِّرين في الجَنَّةِ قَليلٌ".
فكانتِ العصا عند عبدِ اللَّه بن أُنَيسٍ حتى إذا حضَرَته الوفاةُ أوصى أهلَه أن يُدرِجوا العصا في أكفانِه. ففَعَلوا ذلك. قال ابنُ عُقبةَ: "فيَزعُمون أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ بقتلِ عبدِ اللَّه بنِ أُنيسٍ سُفيانَ بنَ خالِدٍ قبلَ قُدومِ عبدِ اللَّه بنِ أُنَيسٍ رضي اللَّه تعالى عنه".
بعدَ نَجاح غَزوَة طَريف بن مالِك بَعَث موسى بن نُصَير مَولاهُ على طَنْجَة طارِقَ بن زِياد في سَبعةِ آلاف مُقاتِل فسار فنَزَل في جَبَل مُنِيف يُعرَف إلى اليومِ بِجَبَلِ طارِق، ثمَّ دَخَل الجَزيرَة الخَضْراء ثمَّ تابَع مَسيرِه ومعه يُولْيان يَدُلُّه على طُرُق الأَندَلُس, ولمَّا بَلَغ لُذْرِيق (رودريغو) غَزْو طارِق بِلاده عَظُمَ ذلك عليه، وكان غائِبًا في غَزاتِه، فرَجَع منها وطارِق قد دَخَل بلاده، فجَمَع له جَمْعًا يُقالُ بَلَغ مائةَ ألف، فلمَّا بَلَغ طارِقًا الخَبَرُ كَتَب إلى موسى يَسْتَمِدُّه ويُخْبِرُه بما فَتَح، وأنَّه زَحَف إليه مَلِكُ الأندَلُس بما لا طاقةَ له به. فبَعَث إليه بخمسةِ آلاف، فتَكامَل المسلمون اثني عَشر ألفًا، ومعهم يُولْيان يَدُلُّهم على عَوْرَةِ البِلادِ، ويَتَجَسَّس لهم الأَخبارَ. فأَتاهُم لُذْرِيق في جُنْدِه، فالْتَقوا على نَهرِ لَكَّة مِن أَعمالِ شَذُونَة لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتا مِن رَمضان سنة اثنتين وتِسعين، واتَّصَلت الحَرْبُ ثَمانِيَة أيَّام، فانْهَزموا وهَزَم اللهُ لُذْرِيق ومَن معه، وغَرِقَ لُذْرِيق في النَّهرِ، وسار طارِق إلى مَدينَة إسْتِجَة مُتَّبِعًا لهم، فلَقِيَه أَهلُها ومعهم مِن المُنهزِمين خَلْقٌ كَثيرٌ، فقاتَلوه قِتالًا شَديدًا، ثمَّ انْهَزَم أَهلُ الأندَلُس ولم يَلْقَ المسلمون بعدَها حَربًا مِثلَها. ونَزَل طارِق على عَيْن بينها وبين مَدينَة إسْتِجَة أَربعَة أَميال فسُمِّيَت عَيْن طارِق إلى الآن. لمَّا سَمِعَت القُوط بهاتين الهَزِيمَتَين قَذَف الله في قُلوبِهم الرُّعْبَ. فَرَّقَ طارِقُ بن زِياد جَيْشَه لِفَتْح المُدُن مِن مَدينَة إسْتِجَة، فبَعَث جَيْشًا إلى قُرْطُبَة، وجَيْشًا إلى غَرْناطَة، وجَيْشًا إلى مالَقَة، وجَيْشًا إلى تُدْمِير، وسار هو ومُعظَم الجَيْش إلى جَيَّان يُريدُ طُلَيْطُلَة، فلمَّا بَلَغَها وَجَدَها خالِيَة فَضَمَّ إليها اليَهودَ، وتَرَك معهم رِجالًا مِن أَصحابِه، ثمَّ مَضَى إلى مَدينَة ماية، فغَنِمَ منها ورَجَع إلى طُلَيْطُلة في سنة ثلاث وتِسعين. وقِيلَ: اقْتَحَم أَرضَ جِلِّيقِيَّة، فخَرَقَها حَتَّى انْتَهى إلى مَدينَة إِسْتَرْقَة، وانْصَرَف إلى طُلَيْطُلَة، ووافَتْهُ جُيوشُه التي وَجَّهَها مِن إسْتِجَة بعدَ فَراغِهم مِن فَتْحِ تلك المُدُن التي سَيَّرَهم إليها.
خرجت اليابانُ مِن هذه الحرب بملايين القتلى والجرحى من شَعبِها، واقتصاد مدمَّر كلِّيًّا، وسيطرة كاملة على أراضيها مِن قِبَل القوات الأمريكية؛ فمن هو المسؤول عن إشراك اليابان في هذه الحرب المدمِّرة، وتعرُّض الشعب إلى الكوارث بسببها؟ يرى البعضُ أن الإمبراطور هيروهيتو غيرُ مسؤول؛ لأن الحكومة والجيش الياباني ذا التوجُّهات القومية المتطرِّفة والنزعة التوسعية يعملون خلال السنوات الأخيرة منذ عهد الإمبراطور السابق يوشيهيتوا على إحكامِ سيطرتهم على مقدَّرات البلاد، وأنه بعد وفاته واعتلاء ابنِه هيروهيتو العرش لم ترغب الحكومةُ ولا الجيشُ في إعادة السلطات والامتيازات التي حصلوا عليها خلالَ سنوات حُكمِ أبيه الأخيرة لهيروهيتو؛ ليحكموا باسمه أمام الشعب الياباني. بالإضافة إلى أن الإمبراطور هيروهيتو كان يبدي معارضته وامتعاضه منذ بدايةِ تنفيذ قادة الجيش والحكومة اليابانية لخطَّتِهم التوسعية في قارة آسيا وغزوهم الصين والمذابح التي ارتكبوها هناك قبل الحرب الثانية، وحاول حثَّ الحكومة اليابانية على حَلِّ خلافاتها مع الحكومة الأمريكية عن طريق الحوارِ؛ لأنه كان يريد السلامَ، لكِنَّهم لم يُصغُوا إليه ولا لتوسلاته. بينما يرى البعضُ الآخر أن الإمبراطور هيروهيتو هو سبب رئيس في دخول بلادِه الحرب؛ ولذا كان من الواجب أن يحاكَمَ دوليًّا لدوره في الحربِ؛ فقد حضر جميعَ الاجتماعات الخاصة بحكومته وقادة جيشه، وأنه كان يناقش ويحاور، وكان لا يوقِّع على أي مرسوم أو قرار حتى يفهَمَه ويعرف الغرض منه، كما أنَّ أحد أفراد العائلة المالكة ومن المقرَّبين إلى الإمبراطور ناشده هو وبعض مستشاري الإمبراطور في السنة الأخيرة من الحرب بوقف الحربِ والدخول في محادثات مع الحلفاء، فرفض مشيرًا إلى أنه اجتمع مع قوَّادِ جيشِه وأمرهم بفِعلِ كُلِّ ما يستطيعون لتحقيقِ بعض الانتصارات السريعة على القوات الأمريكية؛ لحفظ ماء وجه الإمبراطورية، وأنه في الشهور الأخيرة من الحرب أمر بالتعبئة الشعبية العامة؛ وذلك لإيجاد دروعٍ بشرية تواجِهُ أي إنزال بحري محتَمَل لقوات الحلفاء على السواحل اليابانية؛ حيث أدى هذا التعَنُّت في إيقاف الحرب إلى فقد مليون ونصف مليون ياباني حياتَهم خاصةً بعد إلقاء قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، وأمَّا السبب في عدم محاكمة الإمبراطور هيروهيتو كمُجرمِ حَربٍ مثل بعض المسؤولين في الحكومة والجيش الياباني فهو أنه بعد إعلان اليابان استسلامَها ودخول طلائع قوات التحالف إلى الأراضي اليابانية، خَشِيَ قائد تلك القوات والمفوَّض بإدارة اليابان الجنرال الأمريكي دوغلاس مكارثر أن يواجِهَ هو وقواته مقاومةً عنيفة من الشعب الياباني خاصةً مع ورود تقارير تفيد بأن مجموعات كبيرة من السكان تنوى القيامَ بعمليات انتحارية ضِدَّ قوات التحالف إذا دخلت مُدُنَهم وقراهم؛ لذلك عقد مكارثر اتفاقًا مع الإمبراطور هيروهيتو ينصُّ على منح الإمبراطور هيروهيتو حصانةً من أن يحاكَمَ كمُجرم حرب أمام أي محكمة دولية، وأعطاه وعدًا بأن تقوم الولايات المتحدة بمساعدته في إعادة إعمار اليابان شريطةَ أن يدعَمَ وجود القوات الأجنبية في بلادِه، فتم الاتفاق وسارت الأمور كما أراد مكارثر، وقام الأمريكيون وحلفاؤهم بحملةٍ دعائية ترويجية عالَمية تبين أن هيروهيتو لم يكن له يدٌ فيما قام به الجيش الياباني خلال الحرب العالمية الثانية من غزوٍ ومذابح، وكان مغلوبًا على أمره أمام السيطرة الكلية لقادة جيشِه وأعضاء حكومته المتشَدِّدة.
هو صاحِبُ مِصرَ الحاكِمُ بأمر الله، أبو عليٍّ منصورُ بنُ العزيز نزار بن المعِزِّ معد بن المنصور إسماعيل بن القائم محمد بن المهدي، العُبَيديُّ الإسماعيليُّ الزِّنديقُ المُدَّعي الرُّبوبيَّة. مولِدُه سنةَ 375. أقاموه في المُلكِ بعد أبيه، وله إحدى عشرةَ سنةً. حكى هو عن نَفسِه قال: "ضَمَّني أبي وقَبَّلَني وهو عُريان، وقال: امْضِ فالعَبْ، فأنا في عافيةٍ. قال: ثمَّ توفِّيَ، فأتاني برجوان، وأنا على جميزةٍ في الدار. فقال: انزِلْ وَيحَك، اللهَ اللهَ فينا، فنَزَلْت، فوضَعَ العِمامةَ بالجوهَرِ على رأسي، وقبَّلَ الأرضَ، ثمَّ قال: السَّلامُ عليك يا أميرَ المُؤمنينَ، وخرج بي إلى النَّاسِ، فقَبَّلوا الأرضَ، وسَلَّموا عليَّ بالخِلافةِ". قال الذهبيُّ: "كان شَيطانًا مَريدًا جَبَّارًا عنيدًا، كثيرَ التلَوُّن، سَفَّاكًا للدِّماء، خبيثَ النِّحلةِ، عظيمَ المَكرِ، جَوادًا مُمَدَّحًا، له شأنٌ عجيبٌ، ونبأٌ غريبٌ، كان فرعونَ زَمانِه، يختَرِعُ كُلَّ وَقتٍ أحكامًا يُلزِمُ الرَّعيَّةَ بها، أمَرَ بسَبِّ الصَّحابةِ رَضِيَ الله عنهم، وبكتابةِ ذلك على أبوابِ المساجِدِ والشوارعِ، وأمَرَ عُمَّالَه بالسَّبِّ، وفي سنة 395 أمَرَ بقَتلِ الكِلابِ. وأبطَلَ بَيعَ الفَقعِ والمُلوخيَّة، وحَرَّم بيعَ السَّمَك بغيرِ قِشرٍ، ووقَعَ بباعةٍ لِشَيءٍ مِن ذلك فقَتَلَهم. وفي سنة 402 حَرَّمَ بيعَ الرُّطَب، وجمَعَ منه شيئًا عظيمًا فأحرَقَه، ومنَعَ مِن بَيعِ العِنَب، وأباد الكُرومَ. وأمر النَّصارى بتعليقِ صَليبٍ في رِقابِهم زِنَتُه رطلٌ وربعٌ بالدمشقيِّ، وألزم اليهودَ أن يُعَلِّقوا في أعناقِهم قرميَّةً في زنة الصَّليبِ إشارةً إلى رأسِ العِجلِ الذي عبدوه، وأن تكونَ عِمائِمُهم سُودًا، وأن يدخُلوا الحَمَّام بالصَّليبِ وبالقرمية، ثم أفرَدَ لهم حَمَّاماتٍ. وأمَرَ في العامِ بهَدمِ كَنيسةِ قمامة، وبهدمِ كَنائِسِ مِصرَ، فأسلَمَ عِدَّةٌ، ثمَّ إنه نهى عن تقبيلِ الأرضِ، وعن الدُّعاءِ له في الخُطَب وفي الكُتُب، وجعَلَ بدَلَه السَّلامُ عليه، ثمَّ إنَّ ابنَ باديس أميرَ المغربِ بَعَث ينقِمُ عليه أمورًا، فأراد أن يَستَميلَه، فأظهَرَ التفَقُّهَ، وحمَلَ في كُمِّه الدَّفاتر، ولَزِمَ التفَقُّهَ وأمَرَ الفُقَهاءَ بِبَثِّ مَذهَبِ مالكٍ، واتَّخَذ له مالكيَّينِ يُفَقِّهانِه، ثمَّ تغَيَّرَ فقَتَلَهما صبرًا", وفي سنة 404 نفى المنَجِّمينَ مِن بلاده. ومنَعَ النِّساءَ مِن الخروجِ مِن البيوتِ، وأبطَلَ عَمَل الِخفافِ لهنَّ جُملةً، وما زِلنَ ممنوعاتٍ مِن الخروجِ سَبعَ سِنينَ وسَبعةَ أشهر. ثم بعد مُدَّةٍ أمَرَ بإنشاءِ ما هُدِمَ من الكنائِسِ، وأذِنَ للنَّصارى الذين أكرَهَهم في العَودِ إلى الكُفرِ، وخبَرُ هلاكِه أنه فُقِدَ في ليلةِ الاثنينِ لثلاثٍ بَقِينَ مِن شَوَّال، ولم يُعرَفْ له خبَرٌ، وكان سبَبُ فَقدِه أنَّه خرج يطوفُ ليلةً على رَسمِه، وأصبح عند قَبرِ الفقاعي، وتوجَّهَ إلى شرقي حُلوان ومعه ركابيَّان، فأعاد أحدَهما مع جماعةٍ مِن العرب إلى بيتِ المال، وأمر لهم بجائزةٍ، ثمَّ عاد الركابيُّ الآخر، وذكَرَ أنَّه خَلَّفَه عند العَينِ والمقصبة، وبقيَ النَّاسُ على رسمِهم يَخرُجونَ كُلَّ يومٍ يلتَمِسونَ رُجوعَه إلى آخر شوال، فلما كان ثالثُ ذي القعدة خرج مُظَفَّر الصقلبي وغَيرُه من خواصِّ الحاكِمِ، ومعهم القاضي، فبَلَغوا عسفان، ودخلوا في الجَبَلِ، فبَصُروا بالحِمارِ الذي كان عليه راكبًا، وقد ضُرِبَت يداه بسَيفٍ فأثَّرَ فيهما، وعليه سَرجُه ولِجامُه، فاتَّبَعوا الأثَرَ، فانتهوا به إلى البِركةِ التي شَرقيَّ حلوان، فرأوا ثيابَه، وهي سبعُ قِطَع صُوف، وهي مُزَرَّرة بحالِها لم تُحَلَّ، وفيها أثَرُ السَّكاكين، فعادوا ولم يَشُكُّوا في قَتلِه، وكان عُمُرُه 37 سنة، وولايته 25 سنة, وقيل: إنَّ سَبَبَ قَتلِه هو أنَّه كان كثيرَ الشَّتمِ والسَّبِّ لأختِه سِتِّ الملك، واتَّهَمَها بالفاحشة، فعَمِلَت على قتلِه، بحيث كانت تَعرِفُ يومَ خُروجِه إلى الجَبَلِ لينظُرَ في النجومِ، فتمالأت مع الوزيرِ وأرسلوا عبدينِ أسودَينِ، فلما كان من اللَّيلِ وسار إلى الجبَلِ وَحدَه، قتَلَه العبدانِ وأحضراه إلى أختِه التي دفنته في دارِه، وقَرَّرَت توليةَ وَلَدِه، وكان حينها بدمشقَ، فأخبَرَت النَّاسَ أنَّ الحاكِمَ سيَغيبُ سَبعةَ أيَّامٍ, وهذا لِيَسكُنَ النَّاسُ ويَحضُرَ ابنُه من دمشق، فلما حضَرَ جَهَّزَتْه وأخرَجَتْه للنَّاسِ، على أنَّه الحاكِمُ الجديدُ، وابنُه هو أبو الحسن علي، ولُقِّبَ الظاهِرَ لإعزاز دين الله، وأُخِذَت له البيعةُ.
هو الشيخ البحر حُجَّة الإسلام، أُعجوبة الزمان: زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الألوسي الطوسي الشافعي؛ إمام عصره صاحب التصانيف والذكاء المفرط. وُلِدَ بطوس سنة 450, وتفقَّه ببلده أولًا، ثم تحول إلى نيسابور في مرافقة جماعة من الطلبة، فلازم إمام الحرمين، فبرع في عدة علوم في مدة قريبة، ومهر في الكلام والجدل، حتى صار عينَ المناظرين، وشرع في التصنيف. يقول الذهبي: "سار أبو حامد إلى المخيَّم السلطاني، فأقبل عليه نظام الملك الوزير، وسُرَّ بوجوده، وناظَرَ الكبارَ بحضرته، فانبهر له وشاع أمره؛ فولَّاه نظام الملك التدريسَ في نظامية بغداد، فقدمها بعد 480، وسِنُّه نحو الثلاثين، وأخذ في تأليف الأصول والفقه والكلام والحكمة، وأدخَلَه سيلانُ ذهنِه في مضايق الكلام، ومزالِّ الأقدامِ، ولله سرٌّ في خلقه. وعَظُمَ جاه الرجل وازدادت حشمته؛ بحيث إنه في دست أمير، وفي رتبة رئيس كبير، فأدَّاه نظره في العلوم وممارسته لأفانين الزهديات إلى رفض الرئاسة، والإنابة إلى دار الخلود، والتأله والإخلاص وإصلاح النفس، فحجَّ من وقته، وزار بيت المقدس" وأخذ الغزالي في تصنيف كتاب الإحياء وتمَّمه بدمشق، وقد شنع عليه أبو الفرج بن الجوزي ثمَّ ابن الصلاح في ذلك تشنيعًا كثيرًا، وأراد المازري أن يحرق كتاب إحياء علوم الدين، وكذلك غيره من المغاربة، وقالوا: "هذا كتاب إحياء علوم دينه، وأما ديننا فإحياء علومه كتابُ الله وسنة رسوله". قال عبد الغافر في السياق: "لقد زرته مرارًا، وما كنت أحدس في نفسي مع ما عهدته عليه من الزعارة والنظر إلى الناس بعين الاستخفاف كبرًا وخيلاء، واعتزازًا بما رُزِق من البسطة والنطق والذهن وطلب العلو؛ أنَّه صار على الضد، وتصفَّى عن تلك الكدورات، وكنت أظنه متلفعًا بجلباب التكلف، متنمِّسًا بما صار إليه، فتحققت بعد السبر والتنقير أن الأمر على خلاف المظنون، وأن الرجل أفاق بعد الجنون، وحكى لنا في ليالٍ كيفية أحواله من ابتداء ما أظهر له طريق التأله، وغلبة الحال عليه بعد تبحره في العلوم، واستطالته على الكل بكلامه، والاستعداد الذي خصه الله به في تحصيل أنواع العلوم، وتمكُّنه من البحث والنظر، ولما عاد إلى طوس واتخذ في جواره مدرسة للطلبة، وخانقاه للصوفية، ووزع أوقاته على وظائف الحاضرين من ختم القرآن، ومجالسة ذوي القلوب، والقعود للتدريس، حتى توفي بعد مقاساة لأنواع من القصد، والمناوأة من الخصوم، والسعي فيه إلى الملوك، وحفظ الله له عن نوش أيدي النكبات... إلى أن قال: وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله، ومطالعة (الصحيحين)، ومما كان يعترض به عليه وقوع خلل من جهة النحو في أثناء كلامه، ورُوجِعَ فيه، فأنصف واعترف أنه ما مارسه، واكتفى بما كان يحتاج إليه في كلامه، مع أنه كان يؤلِّفُ الخطب، ويشرح الكتب بالعبارة التي يعجز الأدباء والفصحاء عن أمثالها. ومما نُقم عليه ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في كتاب (كيمياء السعادة والعلوم) وشرح بعض الصور والمسائل بحيث لا توافق مراسم الشرع وظواهر ما عليه قواعد الملة، وكان الأولى به -والحق أحق ما يقال- ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له؛ فإن العوامَّ ربما لا يُحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج، فإذا سمعوا شيئًا من ذلك تخيلوا منه ما هو المضرُّ بعقائدهم، وينسُبون ذلك إلى بيان مذهب الأوائل. على أن المنصِفَ اللبيب إذا رجع إلى نفسه علم أن أكثر ما ذكره أبو حامد مما رمز إليه إشارات الشرع، وإن لم يَبُح به، ويوجد أمثاله في كلام مشايخ الطريقة، فلا يجب حمله إذًا إلا على ما يوافق، ولا ينبغي التعلق به في الرد عليه إذا أمكن، وكان الأولى به أن يترك الإفصاحَ بذلك، وقد سمعت أنه سمع سنن أبي داود من القاضي أبي الفتح الحاكمي الطوسي" قلت (الذهبي): ما نقمه عبد الغافر على أبي حامد في الكيمياء فله أمثاله في غضون تواليفه، حتى قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع". وقال عياض القاضي: "والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في طريقة التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داعيةً في ذلك، وألَّف فيه تواليفه المشهورة، أُخِذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنونُ أمة، والله أعلم بسِرِّه، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها، فامتثل ذلك". قلت(الذهبي): ما زال العلماء يختلفون ويتكلم العالم في العالم باجتهادِه، وكل منهم معذور مأجور، ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور، وإلى الله تُرجَع الأمور". ثم قصد الغزالي مصر وكان ينوي منها للاجتماع بالأمير يوسف بن تاشفين، فبينما هو كذلك بلغه نعي ابن تاشفين، فصرف عزمه عن تلك الناحية، ثم عاد إلى وطنه بطوس واشتغل بنفسه، وصنف الكتب في عدة فنون؛ منها كتاب "الوسيط" و "البسيط" و "الوجيز" و "الخلاصة" في الفقه، وله في أصول الفقه "المستصفى" فرغ من تصنيفه في سادس المحرم سنة 503، وله المنحول والمنتحل في علم الجدل، وله تهافت الفلاسفة، ومحك النظر، ومعيار العلم، والمقاصد، والمضنون به على غير أهله, ولم يُعقِب إلا البنات، ثم ألزم بالعود إلى نيسابور والتدريس بها بالمدرسة النظامية، ثم ترك ذلك وعاد إلى بيته في وطنه، واتخذ خانقاه للصوفية، ومدرسة للمشتغلين بالعلم في جواره، ووزع أوقاته على وظائف الخير؛ مِن خَتمِ القرآن، ومجالسة أهل القلوب، والقعود للتدريس، إلى أن انتقل إلى ربه. وكانت وفاته في يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة، ودفن بطوس.
حاول الحلفاءُ إبقاءَ الدولة العثمانية على الحياد بإغرائِها بالقروض المالية، وإلغاء الامتيازات الأجنبية التي كانت قائمةً والتي كانت سببًا في كثير من المشكلات الداخلية، والسماح للبحَّارة الألمان بالعودة إلى ألمانيا، غيرَ أنَّ حكومة الاتحاد والترقي رفضت هذا كلَّه، وألغت الامتيازاتِ الأجنبيةَ بنفسها، وقدَّمت مذكِّرةً للحلفاء تطلب منهم إلغاء الامتيازات الأجنبية، وخروج إنجلترا من مصر، وإعادة الجُزُر في بحر إيجة للدولة العثمانية، ومنع روسيا من التدخُّل في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية.
حاول الحلفاء التأخرَ في رد الجواب، وانقطعت العلاقاتُ. وكانت ألمانيا قد تقدَّمت في الأراضي الفرنسية، ولكنها توقَّفت عند نهر المارن أحد روافد نهر السين الذي يمرُّ من العاصمة باريس، فرأى الألمان يومذاك أن يضغطوا على الدولة العثمانية كي تشتركَ في الحرب إلى جانِبِهم، فعرضوا على الاتحاديين قرضًا ماليًّا بمبلغ خمسة ملايين ليرة ذهبية عثمانية مقابِلَ دخولهم إلى جانبهم، فأمر وزيرُ الحربية أنور باشا الأسطولَ العثماني بالتحَرُّك إلى البحر الأسود وضَرْب مرافئ روسيا على البحر الأسود، فلم يوافِقْ وزير البحرية جمال باشا، وكاد الخلافُ يقع بينهما إلا أن جمال عاد وامتثل لرأي أنور، وخاصةً أن القرض الألماني كان من أهم المغريات له. أعلنت الدولةُ العثمانية دخولَها الحربَ وانضمامَها إلى دول المحور ضِدَّ الحلفاء.كانت السيطرةُ على مقاليد الحكم في الدولة بيد الاتحاديين منذ عزل السلطان عبد الحميد الثاني؛ لذلك كان السلطان العثماني محمد الخامس رشاد ضِدَّ الحرب، ولكِنْ ليس له من الأمر شيءٌ، وأُجبر السلطانُ على قبول الأمر، وأعلن الجهاد الإسلامي ضد دول الحلفاء، لكن هذا الإعلان لم يجد صدًى عند المسلمين لعِلمِهم أنَّ الألمان نصارى مثل أعدائِهم من الحُلُفاء، فكُلُّهم كفَّار، فلم الخوض وإراقةُ دماء المسلمين في خصومةٍ بين الكُفَّار!! واشتعلت نارُ الحرب بين الحلفاء والدولة العثمانية على عِدَّةِ جبهات وقد جمعت الدولة بعد التعبئة نصف مليون جندي تحت السلاح وربع مليون تحت التدريب، والاحتفاظ بمائتي ألف جندي حول العاصمة والدردنيل، وأُرسل إلى فلسطين أربعون ألفًا وأكثر من مئة ألف على شكل قطعات موزعة في سوريا والقوقاز، وهاجم العثمانيون الروسَ مِن ناحية القوقاز لتخفيفِ الضغط عن الألمان غيرَ أنهم فَشِلوا وتراجعوا إلى أرضورم، أما على الجبهة المصرية فأرادت الدولةُ قطع قناة السويس عن إنجلترا، ولكِنْ تأخَّر مسيرُهم إليها بسبب فرار كثيرٍ مِن الجيش الشامي، فاضطر أن يستبدل به آخر من الأناضول؛ ولصعوبة إيصال المدافع إلى سيناء، ولإبقاء قطعات على سواحل الشام للخَوفِ من النصارى الكاثوليك التابعين لفرنسا، وأكثرهم في بيروت، ومن النصارى الأرثوذكس التابعين للروس، وهم متوزِّعون في بلاد الشام، ثم وصلت القوات العثمانية إلى القناة التي كان يحميها الهنودُ، ونَفِدَت الذخيرة العثمانية ولم تستطِعْ فعل شيء، فرجعت لقواعدها في غزة ومعان، وبعد شهرين جرت محاولةٌ أخرى للهجوم، وقاد الألمان العملياتِ ولكِنَّهم فشلوا أيضًا وأُعيدت الكَرَّة بعد ثلاثة أشهر وأيضًا فَشِلت، وأما على صعيد اليمن فكان الهدفُ هو قطع الطريق على الإنجليز إلى الهند ولم تنجح أيضًا، وعلى جبهة الدردنيل فقد كانت محصنةً من البر والبحر، وكانت قواتُ الحلفاء قريبةً من المضيق وقامت القوات العثمانية بالهجومِ عليها، لكنهم فشلوا أيضًا، وأما الإنجليز الذين استطاعوا جرَّ العرب لهم فتحركوا وهاجموا العثمانيين في سيناء وجبل الدروز وبعلبك، وتراجع الجيش العثماني وأصيب بالمجاعة أيضًا، وتقدَّم الإنجليز في فلسطين بقيادة الجنرال اللنبي ودخلوا القدس وأعلن يومها اللنبي صليبيته، فقال: الآن انتهت الحروب الصليبية، ثم قام الإنجليز بالهجوم على نابلس فتراجع الألمان والعثمانيون، ووصل الفيلق العربي بقيادة فيصل بن الحسين بمساعده لورانس الإنجليزي ودخلوا معان ودمشق، فأصبحت بلاد الشام في قبضة فيصل والإنجليز، وأما المعارك على مضيق الدردنيل فكانت متوازيةً، فلم ترجح كفَّة أيٍّ من المعسكرين على الآخر مع بدء ظهور مصطفى كمال ولمعان نجمه في هذه المعارك، ومع انسحاب العثمانيين من الشام والعراق بدأ الضعفُ يظهر عليهم وعلى حلفائهم الألمان إلى أن التقى المسؤولون العثمانيون مع الإنجليز على ظهر الباخرة الإنجليزية أغامنون، ووُضِعَت شروط هدنة مودروس، وأعلنت الدولة استسلامَها، فكان الاتحاديون في أثناء حكمهم القصير قد أضاعوا كلَّ أجزاء الدولة في أوربا؛ حيث استقلت بلغاريا، واحتَلَّت النمسا البوسنةَ والهرسك، وأخذ اليونانيون جزيرةَ كريت، واحتلت إيطاليا بعض جزر البحر المتوسط، وهكذا ضَعُفت الدولة العثمانية، وأصبحت على شفا الهاوية، وازداد ضعفها على ما كانت عليه.
هو القاضي ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون التونسي الإشبيلي الحضرمي القاهري المالكي. وُلِدَ في تونس سنة 732. اشتغل في بلاده وسمع من الوادي آشي وابن عبد السلام وغيرهما، وأخذ القراءات عن محمد بن سعد بن براد، واعتنى بالأدب وأمور الكتابة والخط، حتى مهر في جميع ذلك. وولي كتابة العلامة عن صاحب تونس. ثم غادرها فارًّا من الطاعون متوجهًا إلى فاس في سنة ثلاث وخمسين، فعلا شأنه فيها حتى كِيدَ له فسُجِن فيها حتى أطلقه الوزير الحسن الفودوي، كان دخل في الأحوال السياسية ثم عافها بعد موت صديقه لسان الدين الخطيب، فاعتزل في قلعة بالجزائر في وهران، وألَّف فيها مقدمته المشهورة، ثم تنقل ابن خلدون بين تونس وغرناطة عند بني الأحمر وتلمسان وفاس، إلى أن استقر في مصر سنة أربع وثمانين. قال ابن حجر العسقلاني: "قدم الديار المصرية سنة 784 في ذي القعدة، وحجَّ ثمَّ رجع فلازم ألطنبغا الجوباني، فاعتنى به إلى أن قرَّره الملك الظاهر برقوق في قضاء المالكية بالديار المصرية، فباشرها مباشرةً صعبة، وقَلَب للناسِ ظَهرَ المجن، وصار يعزِّر بالصفع ويسِّميه الزج. فإذا غضب على إنسان، قال: زجوه، فيُصفَع حتى تحمَرَّ رقبته. قرأتُ بخط البشبيشي: كان فصيحًا مفوهًا جميل الصورة، وخصوصًا إذا كان معزولًا عن القضاء. أما إذا ولي فلا يُعاشَر، بل ينبغي ألَّا يُرى. وقد ذكره لسان الدين ابن الخطيب في تاريخ غرناطة ولم يصِفْه بعلم، وإنما ذكر له تصانيف في الأدب، وشيئًا من نظمه، ولم يكن بالماهر فيه. وكان يبالغ في كتمانه، مع أنه كان جيدًا لنقد الشعر من غير تقدم فيه، ولكن محاضرته إليها المنتهى، ولما دخل الديار المصرية تلقاه أهلها وأكرموه، وأكثروا ملازمته والتردد إليه، فلما ولي المنصب تنكَّر لهم، وفتك في كثير من أعيان الموقعين والشهود. وقيل: إن أهل المغرب لما بلغهم أنه ولي القضاء عجبوا من ذلك، ونسبوا المصريين إلى قلة المعرفة، ولما دخل القضاة للسلام عليه، لم يقم لأحدٍ منهم، واعتذر لمن عاتبه على ذلك. وباشر ابن خلدون بطريقة لم يألفها أهل مصر، حتى حصل بينه وبين الركراكي تنافس، فعُقِد له مجلس، فأظهر ابن خلدون فتوى زعم أنها خط الركراكي، وهي تتضمن الحط على السلطان الظاهر برقوق. فتنصَّل الركراكي من ذلك، وتوسَّل بمن اطَّلع على الورقة فوُجِدت مُدلَّسة. فلما تحقق برقوق ذلك عزل ابن خلدون، وأعاد القاضي جمال الدين. وذلك في جمادى الأولى سنة سبع وثمانين. فكانت ولايته الأولى دون سنتين. واستمر معزولًا ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، وحجَّ في سنة تسع وثمانين. ولازمه كثير من الناس في هذه العطلة وحَسُن خلقه فيها، ومازح الناس وباسطهم، وتردد إلى الأكابر وتواضع معهم. ومع ذلك لم يغيِّرْ زيه المغربي ولم يلبَس زي قضاة هذه البلاد. وكان يحب المخالفةَ في كل شيء. ولما مات ناصر الدين ابن التنسي، طلبه الملك الظاهر برقوق، ففوض إليه القضاء في خامس عشر شهر رمضان سنة إحدى وثمانمائة. فباشر على عادته من العسف والجنف. لكنه استكثر من النواب والشهود والعقاد، على عكس ما كان في الأول، فكثرت الشناعةُ عليه، إلى أن صرف ببعض نوابه، وهو نور الدين ابن الجلال صرفًا قبيحًا، وذلك في ثاني عشر المحرم سنة ثلاث وثمانمائة. وطلب ابن خلدون إلى الحاجب الكبير فأقامه للخصوم وأساء عليه بالقول. وادَّعوا عليه بأمور كثيرة أكثرها لا حقيقة له, وحصل له من الإهانة ما لا مزيد عليه وعُزل، فتحيَّل لما حاصر تيمورلنك دمشق إلى أن حضر مجلسه، وعرَّفه بنفسه فأكرمه وقرَّبه، وكان غرضه استفساره عن أخبار بلاد المغرب، فتمكَّن منه إلى أن أذن له في السفر وزوَّده وأكرمه. فلما وصل القاهرة أعيد إلى منصب القضاء، فباشره عشرة أشهر. ثم صرف بجمال الدين البساطي إلى آخر السنة. وأعيد ابن خلدون وسار على عادته، إلا أنه تبسَّط بالسكن على البحر، وأكثر من سماع المطربات، ومعاشرة الأحداث، فكثرت الشناعة عليه. قرأت بخط جمال الدين البشبيشي في كتابه (القضاة) قال: وكان -ابن خلدون- مع ذلك أكثر من الازدراء بالناس، حتى شهد عنده الأستادار الكبير بشهادة فلم تُقبَل شهادته، مع أنه كان من المتعصبين له. ولم يشتهر عنه في منصبه إلا الصيانة، إلى أن صُرِف في سابع شهر ربيع الأول سنة ست وثمانمائة. ثم أعيد في شعبان سنة سبع، فباشر في هذه المرة الأخيرة بلين مفرِطٍ وعجزٍ وخَورٍ. ولم يلبث أن عُزِل في أواخر ذي القعدة. وقرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي في وصف تاريخ ابن خلدون: (مقدمته لم يُعمَل مثالها، وإنه لعزيز أن ينال مجتهد منالها؛ إذ هي زبدة المعارف والعلوم، وبهجة العقول السليمة والفهوم، تُوقِف على كُنهِ الأشياء، وتعرف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبِّرُ عن حال الوجود، وتنبئُ عن أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدر النظيم، وألطف من الماء مر به النسيم). انتهى كلامه. وما وصفها به فيما يتعلق بالبلاغة والتلاعب بالكلام على الطريقة الجاحظية مُسلَمٌ له فيه، وأما ما أطراه به زيادة على ذلك فليس الأمر كما قال، إلَّا في بعض دون بعض، إلا أن البلاغة تُزين بزخرفها، حتى تري حسنًا ما ليس بالحسن. وقد كان شيخنا الحافظ أبو الحسن بن أبي بكر يبالغ في الغض منه. فلما سألته عن سبب ذلك، ذكر لي أنه بلغه أنه ذكر الحسين بن علي رضي الله عنهما في تاريخه، فقال: قُتل بسيف جدِّه. ولما نطق شيخنا بهذه اللفظة، أردفها بلعن ابن خلدون وسَبِّه، وهو يبكي. قلت (ابن حجر): ولم توجد هذه الكلمة في التاريخ الموجود الآن. وكأنه كان ذكرها في النسخة التي رجع عنها. والعجَبُ أن صاحبنا المقريزي كان يُفرِطُ في تعظيم ابن خلدون؛ لكونه كان يجزم بصحة نسب بني عبيد الذين كانوا خلفاء بمصر، وشهروا بالفاطميين إلى علي، ويخالف غيره في ذلك، ويدفع ما نُقِل عن الأئمة في الطعن في نسبهم ويقول: إنما كتبوا ذلك المحضر مراعاة للخليفة العباسي". ثم استعفى وانقطع للتدريس والتأليف وله مصنفات غير مقدمته المشهورة، ومنها: كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، وشرح البردة والحساب، ورسالة في المنطق، توفي في القاهرة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر رمضان فجأة عن 76 عامًا ودُفِن بمقابر الصوفية.
لمَا خلا بالُ السلطان الظاهر بيبرس من هَمِّ المَلِك المغيث صاحب الكرك، توجَّهَ بكليته إلى الفرنجِ؛ فإنَّهم كانوا قد شرعوا في التعَلُّل وطلبوا زرعين- وهي قرية في سهل زرعين بصفد- فأجابَهم السلطان بأنكم تعوَّضتُم عنها في الأيام الناصرية ضِياعًا من مرج عيون، وهم لا يزدادونَ إلا شكوى، وآخِرَ الحال طلب الفرنجُ من والي غزة كتابًا بتمكينِ رُسُلِهم إذا حضروا، فكتب لهم الكتابَ، وتواصلت بعد ذلك كتُبُهم، ووردت كتبُ النواب بشكواهم، وأنهم اعتمدوا أمورًا تفسِخُ الهدنة فلمَّا صار السلطان في وسط بلادِهم وردت عليه كتُبُهم، هذا وقد أمَرَ السلطان ألا ينزِلَ أحد في زرع الفرنجِ ولا يُسَيِّب فرسًا، ولا يؤذي لهم ورقةً خضراء، ولا يتعَرَّض إلى شيء من مواشيهم ولا إلى أحد من فلَّاحيهم، وكانت كتبهم أولًا تَرِدُ بندمهم على الهدنة وطلَبِهم فَسْخَها، فلما قرب السلطانُ منهم صارت تَرِدُ بأنهم باقون على العَهدِ مُتمَسِّكون بأذيال المواثيق، وفي اليوم الذي قُبِضَ فيه على الملك المغيث، أمَرَ السلطان بإحضار بيوت الفرنجيَّة، وقال: ما تقولون؟ قالوا: نتمَسَّك بالهدنة التي بيننا، فقال السلطان: لم لا كان هذا قبلَ حُضورنا إلى هذا المكان، وبالجملة فأنتم أخذتم هذه البلاد من المَلِك الصالح إسماعيل لإعانةِ مملكة الشام، وطاعةِ مَلِكِها ونصرته والخروجِ في خدمته، وإنفاقِ الأموال في نجدتِه، وقد صارت بحمد الله مملكةُ الشام وغيرها لي، وما أنا محتاج إلى نصرتكم ولا إلى نجدَتِكم، ولم يبقَ لي عدو أخافه، فرُدُّوا ما أخذتموه من البلاد، وفكُّوا أسرى المسلمين جميعهم، فإني لا أقبل غير ذلك، فلما سمع رسل الفرنج هذه المقالةَ بُهِتوا، وقالوا: نحن لا ننقُضُ الهدنة، وإنما نطلُبُ مَراحِمَ السلطان في استدامتِها، ونحن نزيل شكوى النواب، ونخرجُ مِن جميع الدعاوى ونفُكُّ الأسرى، ونستأنف الخِدمةَ، فقال السلطان: كان هذا قبل خروجي من مصرَ، في هذا الشتاءِ وهذه الأمطارِ، ووصول العساكرِ إلى هنا، وانفَصَلوا على هذه الأمور، فأمر السلطانُ بإخراجهم وألَّا يَبِيتوا في الوطاق، ووجَّه الأمير علاء الدين طيبرس إلى كنيسة الناصرة، وكانت أجلَّ مواطِنِ عباداتهم ويزعُمونَ أنَّ دينَ النصرانية ظهَرَ منها، فسار إليها وهدمها، فلم يتجاسَرْ أحدٌ من الفرنج أن يتحَرَّك، ثمَّ وجه السلطانُ الأمير بدر الدين الأيدمري في عسكر إلى عكا، فساروا إليها واقتَحَموا أبوابها وعادوا، ثم ساروا ثانيًا، وأغاروا على مواشي الفرنجِ، وأحضروا منها شيئًا كثيرًا إلى المخَيَّم، ثم ركب السلطان وجَرَّد من كل عشرة فارسًا، واستناب الأميرَ شجاع الدين الشبلي المهمندار- من يقوم بضيافة الرسل الواردين على السلطان- في الدهليز السلطاني، وساق من منزلة الطور نصف الليل، فصبَّحَ عكَّا وأطاف بها من جهة البر، وندب جماعةً لحصار برج كان قريبًا منه فشرعوا في نقبه، وأقام السلطانُ على ذلك إلى قريبِ المغرب وعاد، وكان قصدُه بذلك كشْفَ مدينة عكا؛ فإنَّ الفرنج كانوا يزعمونَ أن أحدًا لا يجسُرُ أن يقرب منها، فصاروا ينظرُونَ من أبواب المدينة ولا يستطيعون حركة، ولما عاد السلطان إلى الدهليز ركب لما أصبح، وأركب ناس معه، وساق إلى عكا، فإذا الفرنجُ قد حفروا خندقًا حول تل الفضول، وجعلوا معاثر في الطريق، ووقفوا صفوفًا على التلِّ، فلما أشرف السلطانُ عليهم رتَّب العسكرَ بنفسه، وشرع الجميعُ في ذكرِ الله وتهليلِه وتكبيرِه، والسلطان يحثُّهم على ذلك حتى ارتفعت أصواتهم، وللوقت رُدِمَت الخنادقُ بأيدي غلمان العساكِرِ وبمن حضر من الفقراءِ المجاهدين، وصَعِد المسلمون فوق تل الفُضول، وقد انهزم الفرنجُ إلى المدينة، وامتَدَّت الأيدي إلى ما حول عكا من الأبراج فهُدِمَت، وحُرِقَت الأشجارُ حتى انعقد الجوُّ من دخانها، وساق العسكرُ إلى أبوابِ عكا، وقَتَلوا وأسروا عِدَّةً مِن الفرنجِ، والسلطان قائمٌ على رأس التل يعملُ في أخذِ رأي المدينة، والأمراءُ تحمِلُ على الأبواب واحدًا بعد واحد، ثم حملوا حملةً واحدة ألقوا فيها الفرنجَ في الخنادق، وهلك منهم جماعةٌ في الأبواب، فلما كان آخرُ النهار ساق السلطانُ إلى البرج الذي نُقب، وقد تعلَّقَ حتى رُمِيَ بين يديه، وأُخِذَ منه أربعةٌ من الفرسان ونيف وثلاثون راجلًا، وبات السلطان على ذلك، فلما أصبح عاد على بلاد الفرنجِ وكشفها مكانًا مكانًا، وعبر على الناصرةِ حتى شاهد خرابَ كنيستِها وقد سوَّى بها الأرض، وصار إلى الصفَّة التي بناها قبالة الطور، فوافاها ليلًا وجلس عليها، وأحضر الشموع التي بالمنجنيقات ونصب عليها خمسة، ورحل السلطان من الطور يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة، وسار إلى القدسِ فوافاه يوم الجمعة عشرة، وكشف أحوال البلدِ وما يحتاج إليه المسجِدُ من العمارة، ونظر في الأوقاف وكتب بحمايتِها، ورتَّبَ برسم مصالح المسجد في كل سنة خمسة آلاف درهم وأمر ببناء خان خارج البلد، ونقل إليه من القاهرة باب القصر المعروف بباب العيد، ونادى بالقدس ألا ينزل أحدٌ في زرع.