كان موسى بن نُصَير قد غَضِبَ على مَولاهُ طارِق بِسَبَب تَوَغُّلِه في أَرضِ العَدُوِّ, فاسْتَخْلَف على أفريقيا ابنَه عبدَ الله بن موسى، ثمَّ دَخَل الأَندَلُس وبَقِيَ فيها سَنتَيْنِ يَفتَح البُلْدان ويَغْنَم حتَّى صارت الأَندَلُس تحت سَيْطَرَتِه, عَبَرَ موسى إلى الأَندَلُس في جَمْعٍ كَثيرٍ قِوامُه ثَمانِيَة عشر ألفًا، فتَلَقَّاهُ طارِق وتَرَضَّاهُ، فرَضِيَ عنه وقَبِلَ عُذْرَه وسَيَّرَهُ إلى طُلَيْطُلَة، وهي مِن عِظام بِلادِ الأَندَلُس، وهي مِن قُرْطُبَة على عِشرين يومًا، ففَتَحَها ثمَّ فَتَحَ المُدَنَ التي لم يَفتَحها طارِق كشَذونَة، وقَرْمونَة، وإشْبِيلِيَة، ومارِدَة.
لَمَّا مات المعتَصِم ثارت القيسيَّة بدمشقَ وعاثوا وأفسَدوا وحَصَروا أميرَهم، فبعث الواثِقُ إليهم رجاءَ بنَ أيوب الحضاري، وكانوا مُعسكِرينَ بمَرج راهط، فنزل رجاءٌ بدير مران، ودعاهم إلى الطاعةِ، فلم يَرجِعوا فواعَدَهم الحربَ بدَومة يومَ الاثنين. فلما كان يومُ الأحد، وقد تفَرَّقت، سار رجاءٌ إليهم، فوافاهم وقد سار بعضُهم إلى دومة، وبعضُهم في حوائجه، فقاتَلَهم وقتل منهم نحوَ ألف وخمسمائة، وقُتِلَ مِن أصحابِه نحوُ ثلاثمائة، وهرَبَ مُقَدَّمُهم ابنُ بيهس، وصَلَحَ أمرُ دمشق.
هو أبو المطَرِّف عبدالرحمنِ بنُ الحكَم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل، رابِعُ أمراء الأندلس، ويلقَّبُ بالأوسط، أو عبدالرحمن الثاني، ولد عام 176هـ, كان مكثرًا للغَزو، فتصدى للثوراتِ الداخليَّة وعدوان النَّصارى في شمال الأندلُسِ، وغارات النورماند البحريَّة, وكان يحِبُّ العِمرانَ، فبنى المساجِدَ والقصور، وفي عَهدِه كَثُرت وفودُ المشارقة العلماء. توفِّي في قرطبة بعد حُكمٍ دام 32 سنةً، مخلِّفًا من الأولاد 150 من الذكور، و50 من الإناثِ، ثمَّ تولى مِن بعده ابنُه محمد، المعروف بمحمد الأول، الذي دامت إمارتُه 34 عامًا.
ظهر بصعيد مصر إنسانٌ ذكَرَ أنه إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن أبي طالب العَلَوي، ويُعرَف بابن الصوفي، وملك مدينة أسنا ونهبها وعَمَّ شَرُّه البلاد. فسير إليه أحمد بن طولون جيشًا فهزَمه العَلويُّ، وأسرَ المقَدَّم على الجيش، فقطع يديه ورجليه وصَلَبه؛ فسيَّرَ إليه ابنُ طولون جيشًا آخر فالتقوا بنواحي إخميم، فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم العَلَوي، وقُتِل كثيرٌ من رجاله، وسار هو حتى دخل الواحات.
هو محمَّد بن عبد الرحمن بن الحَكَم بن هشام الأموي، صاحِبُ الأندلُس، كانت ولايتُه أربعًا وثلاثين سنةً وأحد عشر شهرًا، كان أيمَنَ أمراءِ الأندلُس مُلكًا، وأكرَمُهم تثبُّتًا وأناةً، يجمَعُ إلى هذه الخِلالِ البلاغةَ والأدبَ، وكان ذكيًّا فَطِنًا بالأمور المُشتَبِهة، خلف نيفًا وخمسين ولدًا، منهم ثلاثةٌ وثلاثون ذكرًا، ولَمَّا مات كان عمرُه نحوًا مِن خمس وستين سنةً. وَلِيَ بعده ابنُه المنذر بن محمد، بويِعَ له بعد موتِ أبيه لثلاث ليال، وأطاعه النَّاسُ، وأحسَنَ إليهم.
هو أبو عبد الله محمَّد بن يزيد بن ماجه، صاحِبُ كتابِ السُّنَن المشهورِ، وهي دالَّةٌ على عَمَلِه وعِلمِه وتبحُّرِه واطلاعِه واتِّباعِه للسُّنَّة في الأصول والفروع، حُكِيَ عن أبي زُرعةَ الرازي أنه انتقَدَ منها بضعة عشر حديثًا، كان عالِمًا بهذا الشأن، صاحِبَ تصانيف، منها (التاريخ والسُّنَن)، ارتحل إلى العراقَينِ- الكوفة والبصرة- ومصر والشام، مات وعمره أربعٌ وستون سنة، وصلَّى عليه أخوه أبو بكر، تولى دفنه مع أخيه الآخَرِ أبي عبد الله وابنه عبد الله بن محمد بن يزيد رحمه الله.
سار مُؤنِسٌ المظفَّرُ إلى بلاد الرومِ لغزاةِ الصائفة، فلمَّا صار بالموصل قلَّدَ سبكَ المفلحيَّ بازبدى وقردى، وقلَّدَ عُثمانَ العنزي مدينة بلد، وباعيناثا، وسنجار، وقلَّد وصيفًا البكتمري باقيَ بلاد ربيعة، وسار مؤنِسٌ إلى ملطية وغزا فيها، وكتب إلى أبي القاسمِ عليِّ بنِ أحمد ابن بِسطام أن يغزوَ من طَرَسُوس في أهلها، ففعل، وفتح مؤنِسٌ حصونًا كثيرةً مِن الروم، وأثر آثارًا جميلةً، وعتب عليه أهل الثغور وقالوا: لو شاء لفعل أكثَرَ من هذا، وعاد إلى بغداد، فأكرمه الخليفةُ وخلع عليه.
أمر القاهِرُ بالله بمَنعِ بَيعِ الخَمرِ وسائِرِ الأنبذة، وتحريمِ القِيانِ وبيعِ المُغَنِّيات من الجواري إلَّا على أنهنَّ ساذجاتٍ- يعني حتى لا يُبَعْنَ بثمنٍ غالٍ للغناء- وقَبَضَ على المُغَنِّينَ وكسَرَ آلاتِ اللَّهوِ ونفى المخانيثَ، ومع هذا كلِّه كان هو مُغرمًا بسماعِ الغناءِ وتَعاطي الشُّربِ. قال ابن الأثير: " ثم وضع القاهِرُ من يشتري له كُلَّ حاذقةٍ في صنعةِ الغِناءِ، فاشترى منهنَّ ما أراد بأرخَصِ الأثمانِ، وكان القاهِرُ مشتَهِرًا بالغناءِ والسَّماعِ، فجعل ذلك طريقًا إلى تحصيلِ غَرَضِه رخيصًا، نعوذُ بالله من هذه الأخلاقِ التي لا يرضاها عامَّةُ النَّاسِ".
كان لؤلؤ الجراحيُّ مولى الحَمدانِيِّينَ وَصِيًّا على سعيدِ الدَّولةِ بعدَ وفاةِ أبيه سَعدِ الدَّولةِ عامَ 381هـ، ثمَّ في عام 392هـ تُوفِّيَ سعيدُ الدَّولةِ، وخَلَّفَ ولدَيه أبا الحَسَنِ عليًّا وأبا المعالي شريفًا أميرَينِ على حَلَب، وكان لؤلؤٌ هو مَن يقومُ بتَدبيرِ جَميعِ الأمور، ثمَّ قام بإرسالِهما مع باقي أهلِ البَيتِ الحَمدانيِّ إلى مِصرَ إلى الحاكِمِ الفاطميِّ، واستبَدَّ هو بحُكمِ حَلَب، فكانت هذه نهايةَ دَولةِ الحَمدانيِّينَ في حَلَب، وجعل ابنَه مَنصورًا ولِيَّ عَهدِه، واعتَرَف الحاكِمُ الفاطميُّ به، ثمَّ بعد ذلك أصبَحَت حَلَب تابعةً للفاطميِّينَ.
ورد إلى القُسطَنطينية عددٌ كثيرٌ مِن الرُّوسِ في البحر، وراسَلوا قسطنطين مَلِكَ الروم بما لم تجْرِ به عادتُهم، فاجتمعت الرومُ على حَربِهم، وكان بعضُهم قد فارق المراكِبَ إلى البَرِّ، وبعضُهم فيها، فألقى الرومُ في مراكِبِهم النَّار، فلم يهتدوا إلى إطفائها، فهلك كثيرٌ منهم بالحَرْق والغَرَق، وأمَّا الذين على البَرِّ فقاتلوا، وصَبَروا، ثم انهزموا، فلم يكن لهم ملجأٌ، فمن استسلم أولًا استُرِقَّ وسَلِمَ، ومن امتنَعَ حتى أُخِذَ قهرًا قطع الرومُ أيمانَهم، وطِيفَ بهم في البلَدِ، ولم يَسلَمْ منهم إلَّا اليسيرُ مع ابنِ مَلِك الرُّوس، وكُفِيَ الرُّومُ شَرَّهم.
احتَرقَت بغداد، الكَرخُ وغَيرهُ، وبين السُّورَينِ، واحتَرقَت فيه خَزانَةُ الكُتُبِ التي وَقَفَها أردشيرُ الوزيرُ، ونُهِبَت بَعضُ كُتُبِها، وجاء عَميدُ المُلْكِ الكندريُّ، فاختارَ من الكُتُبِ خَيرَها، وكان بها عَشرةُ آلاف وأربعمائة مُجلَّد من أَصنافِ العُلومِ، منها مائةُ مُصحَفٍ بخُطوطِ ابنِ مُقْلَة، وكان العامَّةُ قد نَهَبوا بَعضَها لمَّا وَقعَ الحَريقُ، فأَزالَهم عَميدُ المُلْكِ، وقَعدَ يَختارُها، فنُسِبَ ذلك إلى سُوءِ سِيرَتِه، وفَسادِ اختِيارِه، وشَتَّانَ بين فِعلِه وفِعلِ نِظامِ المُلْكِ الذي عَمَّرَ المَدارِسَ، ودَوَّنَ العِلمَ في بِلادِ الإسلامِ جَميعِها، ووَقَفَ الكُتُبَ وغَيرَها.
قال ابنُ كَثيرٍ: "في يومِ الخَميسِ حادي عشر المُحرَّمِ حَضرَ إلى الدِّيوانِ أبو الوَفا عليُّ بنُ محمدِ بنِ عَقيلٍ العَقيليُّ الحَنبليُّ، وقد كَتبَ على نَفسِه كِتابًا يَتضمَّن تَوبتَه من الاعتِزالِ، وأنَّه رَجعَ عن اعتِقادِ كَوْنِ الحَلَّاجِ من أَهلِ الحَقِّ والخَيرِ، وأنه قد رَجعَ عن الجُزءِ الذي عَمِلَه في ذلك، وأنَّ الحَلَّاجَ قد قُتِلَ بإجماعِ عُلماءِ أَهلِ عَصرِه على زَندَقتِه، وأنَّهم كانوا مُصِيبينَ في قَتلِه وما رَمَوْهُ بهِ، وهو مُخطِئٌ، وأَشهَدَ عليه جَماعةً من الكُتَّابِ، ورَجعَ من الدِّيوانِ إلى دارِ الشَّريفِ أبي جَعفرٍ فسَلَّمَ عليه وصالَحه واعتَذرَ إليه، فعَظَّمَه"
يومَ الجُمعةِ رابع عشر المُحرَّم، خُطِبَ ببغداد للسُّلطانِ بركيارق بن ملكشاه، وكان قَدِمَها أَواخِرَ سَنَةِ سِتٍّ وثَمانين وأربعمائة، وأَرسلَ إلى الخَليفةِ المُقتدِي بأَمرِ الله يَطلُب الخُطبةَ، فأُجِيبَ إلى ذلك، وخَطَبَ له، ولُقِّبَ رُكنَ الدِّين، وحَملَ الوَزيرُ عَميدُ الدَّولةِ بن جَهيرٍ الخِلَعَ إلى بركيارق، فلَبِسَها، وعُرِضَ التَّقليدُ على الخَليفةِ لِيُعَلِّمَ عليه، فعَلَّمَ فيه، وتُوفِّي فَجأَةً، ووُلِّيَ ابنُه الإمامُ المُستَظهِر بالله الخِلافةَ، فأَرسلَ الخِلَعَ والتَّقليدَ إلى السُّلطانِ بركيارق، فأَقامَ ببغداد إلى رَبيعٍ الأَوَّل مِن السَّنَةِ، وسار عنها إلى المَوصِل.
انقَرَضَت دَولةُ المُلَثَّمِين(المُرابِطِين) بالأندلس، وسَببُ ذلك أن عبدَ المؤمن لمَّا استَعمَل ابنَه أبا سَعيدٍ عَلِيًّا على الجَزيرَةِ الخَضراءِ ومالقة، عَبَرَ أبو سعيدٍ البحرَ إلى مالقة، واتَّخَذَها دارًا، وكاتَبَهُ أَميرُ المُرابِطين بالأندلس ميمونُ بنُ بَدرٍ اللَّمتُوني، صاحِبُ غرناطة، أن يُوَحِّد ويُسَلِّم إليه غرناطة، فقَبِلَ أبو سعيدٍ ذلك منه وتَسَلَّم غرناطة، فسار ميمون إلى مالقة بأَهلِه ووَلَدِه، فتَلَقَّاهُ أبو سعيدٍ، وأَكرَمَهُ، ووَجَّهَهُ إلى مراكش، فأَقبلَ عليه عبدُ المؤمن وانقَرَضَت دَولةُ المُلَثَّمِين ولم يَبقَ لهم إلا جَزيرةُ ميورقة مع حمو بن غانية.
أرسل آقسنقر الأحمديلي، صاحب مراغة، إلى بغداد يسأل أن يخطب للملك الذي هو عنده، وهو ولد السلطان محمد شاه، ويبذل أنه لا يطأ أرض العراق، ولا يطلب شيئًا غير ذلك، وبذل مالًا يحمله إذا أجيب إلى ما التمسه، فأجيب بتطييب قلبه، وبلغ الخبر إيلدكز صاحِبَ البلاد، فساءه ذلك، وجهَّزَ عسكرًا كثيفًا، وجعل المقدَّمَ عليهم ابنَه البهلوان، وسيَّرَهم إلى آقسنقر، فوقعت بينهم حربٌ أجْلَت عن هزيمةِ آقسنقر وتحصُّنه بمراغة، ونازله البهلوان بها وحصَره وضَيَّقَ عليه. ثم ترددت الرسل بينهم، فاصطلحوا، وعاد البهلوان إلى أبيه بهمذان.