في يومِ عاشُوراءَ أَغلَقَ الشِّيعةُ مِن أَهلِ الكَرخِ دَكاكِينَهم، وأَحضَرُوا نِساءً يَنُحْنَ على الحُسينِ، كما جَرَت به بِدعَتُهم، فحين وَقعَ ذلك أَنكرَتهُ العامَّةُ، وطَلبَ الخَليفةُ أبا الغَنائمِ ابن المحلبان وأَنكرَ عليه ذلك، فاعتَذرَ إليه بأنَّه لم يَعلَم به، وأنَّه حين عَلِمَ أَزالَهُ، وتَردَّدَ أَهلُ الكرخِ إلى الديوانِ يَعتَذِرون من ذلك، وخَرجَ التَّوقيعُ بِكُفْرِ مَن سَبَّ الصَّحابةَ وأَظهرَ البِدَعَ.
تُوفِّي أبو بكرٍ محمدُ بن عبدِالعزيز بنِ المنصورِ بن أبي عامرٍ أَميرُ بلنسية، واستُخلِفَ بعدَه ابنُه عُثمانُ أبو عَمرٍو، ولكنَّ القادِرَ بن ذي النونِ الذي انتَهَت دَولتُه في طُليطلة على يَدِ ألفونسو يَمُدُّهُ ألفونسو نَفسُه ويُساعِدُه على الاستِيلاءِ على بلنسية فيُسَيِّرُ له سَرِيَّةً قَويَّةً فيقومُ باستِخلاصِ بلنسية من عُثمانَ ويُقيمُ فيها دَولةَ بني ذي النون.
خرج مَلِكُ الروم من القسطنطينية في عساكِرَ لا تحصى، وقَصَدَ بلاد الإسلام التي بِيَدِ قلج أرسلان وابن دانشمند، فاجتمع الغز الأتراك التركمان في تلك البلاد في جمعٍ كبير، فكانوا يُغيرون على أطرافِ عَسكَرِه ليلًا، فإذا أصبَحَ لا يرى أحدًا، وكثُرَ القتل في الروم حتى بلغت عِدَّةُ القتلى عشراتِ ألوف، فعاد إلى القُسطنطينية، ولما عاد مَلَك المسلمونَ منه عِدَّة حصون.
هو أبو الحسن علي بن أبي محمد القاسم بن علي بن الحسن بن عبد الله الدمشقي، الحافِظُ بن الحافظ بن الحافظ، المعروف بابن عساكر، وكان قد قصد خراسانَ وسَمِعَ بها الحديثَ فأكثر، وعاد إلى بغداد، وكان قد وقع على القفل- الحمل- الذي هو فيه، في الطريق حرامية، وجرحوا ابن عساكر، ووصل على تلك الحال إلى بغداد، وبقي بها حتى توفي في هذه السنة في جمادى الأولى.
مع ضَعفِ الدولة الإيلخانية المغوليَّة وانهيارها بعد وفاة السلطان أبي سعيد ولا وريث له، والفوضى قائمة، فكان نتيجة ذلك اقتسام البلاد، فكانت كرمان وجنوبي فارس وكردستان من نصيب شَرفِ الدين المظَفَّر الذي كان هو حاكِمَها، ثم صار ابنه مبارز الدين محمد حاكمًا لمدينة يزد سنة 718 الذي وسَّع المملكة بحروبه مع بني أينجو في فارس، فبدأت دولةُ بني المظفَّر فيها.
اتفق في هذا العام أن اجتمع للسُّلطانِ الناصر محمد بن قلاوون بمصرَ مِن رُسُلِ الملوك ما لم يجتَمِعْ مثلُهم في دولة المماليك التركية، وهم: رسلُ صاحِبِ اليَمَنِ، ورسُلُ صاحبِ إسطنبول، ورسل الأشكري، ورسل متملِّك سيس، ورسُلُ أبي سعيد بن خربندا التتري، ورسُلُ ماردين، ورسُلُ ابن قرمان، ورُسُل ملك النوبة، وكُلُّهم يبذلونَ الطاعةَ للسُّلطانِ!
جمعَ الشريفُ غالب بن مساعد عساكِرَ كثيرةً، واستعمل عليها الشريفَ فهيد، فقصدوا قحطان وهم على ماسل الماء المعروف في عالية نجد، فتقاتلوا أشدَّ القتال، وانهزم ابن قرملة ومن معه من بني قحطان، فقُتل منهم 30 رجلًا، وأُخِذ منهم نحو 3000 من الإبل، ولَمَّا انهزموا ذهبوا مُشاةً في الصحراء ومعهم الأطفال والنساء وكادوا أن يهلِكوا من العطَشِ.
تُوفِّي الأميرُ سطام بن عبد العزيز رحمه الله أميرُ مِنطَقة الرياض في مدينة الرِّياض بعد معاناةٍ طويلةٍ من مرض السرطان، وأعلَن وفاتَه الديوانُ الملكي السعودي وهو الابنُ الثلاثون من أبناء الملكِ عبد العزيز الذُّكورِ. وقد صُلِّي عليه في جامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض، ثم نُقِلَ إلى مكَّةَ المُكرَّمَة ليُدفَن في مقبرة العدل تنفيذًا لوصِيَّتِه.
حاول الحلفاءُ إبقاءَ الدولة العثمانية على الحياد بإغرائِها بالقروض المالية، وإلغاء الامتيازات الأجنبية التي كانت قائمةً والتي كانت سببًا في كثير من المشكلات الداخلية، والسماح للبحَّارة الألمان بالعودة إلى ألمانيا، غيرَ أنَّ حكومة الاتحاد والترقي رفضت هذا كلَّه، وألغت الامتيازاتِ الأجنبيةَ بنفسها، وقدَّمت مذكِّرةً للحلفاء تطلب منهم إلغاء الامتيازات الأجنبية، وخروج إنجلترا من مصر، وإعادة الجُزُر في بحر إيجة للدولة العثمانية، ومنع روسيا من التدخُّل في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية.
حاول الحلفاء التأخرَ في رد الجواب، وانقطعت العلاقاتُ. وكانت ألمانيا قد تقدَّمت في الأراضي الفرنسية، ولكنها توقَّفت عند نهر المارن أحد روافد نهر السين الذي يمرُّ من العاصمة باريس، فرأى الألمان يومذاك أن يضغطوا على الدولة العثمانية كي تشتركَ في الحرب إلى جانِبِهم، فعرضوا على الاتحاديين قرضًا ماليًّا بمبلغ خمسة ملايين ليرة ذهبية عثمانية مقابِلَ دخولهم إلى جانبهم، فأمر وزيرُ الحربية أنور باشا الأسطولَ العثماني بالتحَرُّك إلى البحر الأسود وضَرْب مرافئ روسيا على البحر الأسود، فلم يوافِقْ وزير البحرية جمال باشا، وكاد الخلافُ يقع بينهما إلا أن جمال عاد وامتثل لرأي أنور، وخاصةً أن القرض الألماني كان من أهم المغريات له. أعلنت الدولةُ العثمانية دخولَها الحربَ وانضمامَها إلى دول المحور ضِدَّ الحلفاء.كانت السيطرةُ على مقاليد الحكم في الدولة بيد الاتحاديين منذ عزل السلطان عبد الحميد الثاني؛ لذلك كان السلطان العثماني محمد الخامس رشاد ضِدَّ الحرب، ولكِنْ ليس له من الأمر شيءٌ، وأُجبر السلطانُ على قبول الأمر، وأعلن الجهاد الإسلامي ضد دول الحلفاء، لكن هذا الإعلان لم يجد صدًى عند المسلمين لعِلمِهم أنَّ الألمان نصارى مثل أعدائِهم من الحُلُفاء، فكُلُّهم كفَّار، فلم الخوض وإراقةُ دماء المسلمين في خصومةٍ بين الكُفَّار!! واشتعلت نارُ الحرب بين الحلفاء والدولة العثمانية على عِدَّةِ جبهات وقد جمعت الدولة بعد التعبئة نصف مليون جندي تحت السلاح وربع مليون تحت التدريب، والاحتفاظ بمائتي ألف جندي حول العاصمة والدردنيل، وأُرسل إلى فلسطين أربعون ألفًا وأكثر من مئة ألف على شكل قطعات موزعة في سوريا والقوقاز، وهاجم العثمانيون الروسَ مِن ناحية القوقاز لتخفيفِ الضغط عن الألمان غيرَ أنهم فَشِلوا وتراجعوا إلى أرضورم، أما على الجبهة المصرية فأرادت الدولةُ قطع قناة السويس عن إنجلترا، ولكِنْ تأخَّر مسيرُهم إليها بسبب فرار كثيرٍ مِن الجيش الشامي، فاضطر أن يستبدل به آخر من الأناضول؛ ولصعوبة إيصال المدافع إلى سيناء، ولإبقاء قطعات على سواحل الشام للخَوفِ من النصارى الكاثوليك التابعين لفرنسا، وأكثرهم في بيروت، ومن النصارى الأرثوذكس التابعين للروس، وهم متوزِّعون في بلاد الشام، ثم وصلت القوات العثمانية إلى القناة التي كان يحميها الهنودُ، ونَفِدَت الذخيرة العثمانية ولم تستطِعْ فعل شيء، فرجعت لقواعدها في غزة ومعان، وبعد شهرين جرت محاولةٌ أخرى للهجوم، وقاد الألمان العملياتِ ولكِنَّهم فشلوا أيضًا وأُعيدت الكَرَّة بعد ثلاثة أشهر وأيضًا فَشِلت، وأما على صعيد اليمن فكان الهدفُ هو قطع الطريق على الإنجليز إلى الهند ولم تنجح أيضًا، وعلى جبهة الدردنيل فقد كانت محصنةً من البر والبحر، وكانت قواتُ الحلفاء قريبةً من المضيق وقامت القوات العثمانية بالهجومِ عليها، لكنهم فشلوا أيضًا، وأما الإنجليز الذين استطاعوا جرَّ العرب لهم فتحركوا وهاجموا العثمانيين في سيناء وجبل الدروز وبعلبك، وتراجع الجيش العثماني وأصيب بالمجاعة أيضًا، وتقدَّم الإنجليز في فلسطين بقيادة الجنرال اللنبي ودخلوا القدس وأعلن يومها اللنبي صليبيته، فقال: الآن انتهت الحروب الصليبية، ثم قام الإنجليز بالهجوم على نابلس فتراجع الألمان والعثمانيون، ووصل الفيلق العربي بقيادة فيصل بن الحسين بمساعده لورانس الإنجليزي ودخلوا معان ودمشق، فأصبحت بلاد الشام في قبضة فيصل والإنجليز، وأما المعارك على مضيق الدردنيل فكانت متوازيةً، فلم ترجح كفَّة أيٍّ من المعسكرين على الآخر مع بدء ظهور مصطفى كمال ولمعان نجمه في هذه المعارك، ومع انسحاب العثمانيين من الشام والعراق بدأ الضعفُ يظهر عليهم وعلى حلفائهم الألمان إلى أن التقى المسؤولون العثمانيون مع الإنجليز على ظهر الباخرة الإنجليزية أغامنون، ووُضِعَت شروط هدنة مودروس، وأعلنت الدولة استسلامَها، فكان الاتحاديون في أثناء حكمهم القصير قد أضاعوا كلَّ أجزاء الدولة في أوربا؛ حيث استقلت بلغاريا، واحتَلَّت النمسا البوسنةَ والهرسك، وأخذ اليونانيون جزيرةَ كريت، واحتلت إيطاليا بعض جزر البحر المتوسط، وهكذا ضَعُفت الدولة العثمانية، وأصبحت على شفا الهاوية، وازداد ضعفها على ما كانت عليه.
كان عبد الرحمن بن رستم من مُسلِمة الفتح الإسلامي، وهو من ولَدِ رستم أمير الفرس بالقادسية، قَدِم إلى إفريقية مع طوالعِ الفتح فكان بها. وأخذَ بدِين الخارجيَّة والإباضية منهم، تحزَّبَ الإباضية بناحية طرابلس واجتمعوا إلى ابنِ الخطاب عبد الأعلى بن السمح المغافري إمامِ الإباضية، فملكوا طرابلس، ثم ملَكوا القيروان، وقتَلوا واليَها من ورفجومة عبد الملك بن أبي الجعد، وأثخَنوا في ورفجومة وسائر مغراوة, ثم رجعَ أبو الخطاب والإباضية الذين معه من زناتة وهوارة وغيرهم بعد أن استخلف على القيروان عبد الرحمن بن رستم. لَمَّا بلغ الخبرُ بفتنةِ ورفجومة واضطرابِ الخوارجِ من البربر بإفريقيةَ والمغرب المنصورَ أبا جعفر, سرَّح محمد بن الأشعث الخزاعي في العساكرِ إلى إفريقية، وقلَّدَه حرب الخوارج، فقَدِمَها سنة 144, ولقيهم أبو الخطَّاب في جموعه قريبًا من طرابلس، فأوقع به ابن الأشعث وبقومه. وقُتل أبو الخطَّاب وطار الخبرُ بذلك إلى عبد الرحمن بن رستم بمكانِ إمارته في القيروان، فاحتمَلَ أهلَه وولده ولحِقَ بإباضية البرابرة في المغرب الأوسط (الجزائر) عاصمتها (تهرت) تسمى تيارت حاليًّا، ونزل على لماية بطن من بطونِ البربر لقديمِ حِلفٍ بينه وبينهم، فاجتمعوا إليه وبايعوا له بالخلافة.
هو الإمام العارف، سيد الزهاد، أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن أدهم بن منصور التميمي البلْخي ويقال له العجلي. أحد مشاهير العباد وأكابر الزهاد. كانت له همة عالية في ذلك. أصله من بلْخ، ولد سنة 99،كان من الأشراف وكان أبوه كثيرَ المال والخَدَم, ثم ترَكَ ابنُ أدهم الدُّنيا وأقبل على آخِرتِه، سكن الشام وروى الحديثَ، قال النسائي: "إبراهيم بن أدهم ثقة مأمون أحد الزهاد". اشتهر بالزُّهد والورع، فلا يُذكَرُ الزُّهدُ إلَّا ويُذكَرُ إبراهيمُ، كان لا يأكُلُ إلَّا مِن عمَلِ يديه، وقِصَصُه في الزهدِ مَشهورةٌ جدًّا. عن سفيان الثوري قال: لو كان إبراهيم بن أدهم في الصحابة لكان رجلا فاضلا له سرائر وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يديه, وقال عبد الله بن المبارك: كان إبراهيم رجلا فاضلا له سرائر ومعاملات بينه وبين الله عز وجل. قال ابن أدهم: الزهد ثلاثة، واجب، ومستحب، وزهد سلامة، فأما الواجب فالزهد في الحرام، والزهد عن الشهوات الحلال مستحب، والزهد عن الشبهات سلامة. وقال: قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تورث الغم والجزع.
كان سببُها أنَّ الأتراكَ وثَبوا بالوزيرِ عيسى بن فرخان شاه، فضربوه، وأخذوا دابَّته، واجتمَعَت المغاربةُ مع محمد بن راشد، ونصر بن سعد، وغلبوا الأتراكَ على الجوسق، وأخرجوهم منه، وقالوا لهم: كلَّ يومٍ تقتلونَ خليفةً، وتخلعونَ آخر, وتقتلونَ وزيرًا وتُثبِتونَ آخرَ، وصار الجوسق وبيتُ المال في أيدي المغاربة، وأخذوا الدوابَّ التي كان تَرَكها الأتراكُ، فاجتمع الأتراكُ وأرسلوا إلى من بالكرخ والدُّور منهم، فاجتمعوا وتلاقَوا هم والمغاربة، وأعان الغوغاءُ والشاكريَّة المغاربةَ، فضَعُف الأتراكُ وانقادوا، فأصلحَ جعفرُ بن عبد الواحد بينهم، على ألَّا يُحدِثوا شيئًا، ويكون في كلِّ موضعٍ يكونُ فيه رجلٌ من الفريقين يكونُ فيه رجلٌ من الفريقِ الآخر، فمكثوا مدةً مديدةً، ثم اجتمَعَ الأتراك وقالوا: نطلبُ هذين الرأسينِ- يعنون محمد بن راشد ونصر بن سعيد- فإن ظَفِرنا بهما فلا يَنطِق أحدٌ. فبلغَهما خبرُ اجتماع الأتراك عليهما، فخرجا إلى منزل محمد بن عزون؛ ليكونا عنده حتى يسكُنَ الأتراكُ، ثم يرجعا إلى جمعِهما، فغمز ابن عزون بهما إلى الأتراك، فأخذوهما فقَتلوهما فبلغ ذلك المعتَزَّ، فأراد قتل ابن عزون، فكُلِّمَ فيه فنفاه إلى بغداد.
في هذه السَّنة اختَلَّت أمورُ القرامِطة حتى قتَلَ بعضُهم بعضًا، وسببُ ذلك أنَّه كان رجلٌ منهم يقال له ابن سنبر، وهو مِن خواصِّ أبي سعيدٍ القرمطي والمطَّلِعينَ على سِرِّه، وكان له عدوٌّ مِن القرامطة اسمُه أبو حفص الشريك، فعَمَد ابنُ سنبر إلى رجلٍ من أصبهان وقال له: إذا ملكَّتكُ أمر القرامطة أريدُ منك أن تقتُلَ عدوي أبا حفص فأجابه إلى ذلك وعاهده عليه، فأطلَعَه على أسرارِ أبي سعيد، وعلاماتٍ كان يذكُرُ أنَّها في صاحِبِهم الذي يَدْعُون إليه، فحضرَ عند أولاد أبي سعيدٍ، وذكر لهم ذلك، فقال أبو طاهرٍ: هذا هو الذي يدعو إليه، فأطاعوه ودانوا له، حتى كان يأمُرُ الرجُلَ بقَتلِ أخيه فيقتله، وكان إذا كَرِهَ رجلًا يقول له إنَّه مريضٌ، يعني أنَّه قد شَكَّ في دينِه، ويأمُرُ بقَتلِه، وبلغ أبا طاهرٍ أنَّ الأصبهانيَّ يريدُ قَتلَه ليتفَرَّدَ بالمُلكِ، فقال لإخوته: لقد أخطأنا في هذا الرجُلِ، وسأكتشِفُ حاله، فقال له: إنَّ لنا مريضًا، فانظر إليه ليبرَأَ، فحضروا وأضجعوا والدتَه وغطَّوها بإزارٍ، فلمَّا رآها قال: إنَّ هذا المريضَ لا يبرَأُ فاقتُلوه، فقالوا له: كذبتَ، هذه والدتُك، ثم قتلوه بعد أن قُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ مِن عظمائِهم وشُجَعانِهم. وكان هذا سبَبَ تمسُّكِهم بهَجَر، وترك قصدِ البلاد، والإفساد فيها.
لَمَّا انهزَمَ القَرمطيُّ بعث المعِزُّ سَريَّةً وأمَّرَ عليهم ظالمَ بن موهوب العقيلي، فجاؤوا إلى دمشقَ فتسَلَّمَها من القرامطةِ بعد حصارٍ شديدٍ، واعتقل متولِّيَها أبا الهيجاءِ القَرمطيَّ وابنَه، ولَمَّا تفرغ أبو محمود القائِدُ مِن قتال القرامطة أقبل نحو دمشقَ فخرج إليه ظالمُ بنُ موهوب فتلَقَّاه إلى ظاهر البلَدِ وأكرَمَه وأنزله ظاهِرَ دمشق، فأفسد أصحابُ أبي محمودٍ في الغوطة ونهَبوا الفلَّاحين وقطعوا الطُّرُقات، فتحَوَّل أهلُ الغوطة إلى البلدِ مِن كثرة النَّهبِ، وجيءَ بجماعةٍ مِن القتلى فأُلقُوا فكَثُرَ الضَّجيجُ، وغُلِّقَت الأسواق، واجتَمَعت العامَّةُ للقتال، والتَقَوا مع المغاربةِ، فقُتِلَ من الفريقين جماعةٌ وانهَزَمَت العامَّةُ غيرَ مَرَّة، وأحرَقَت المغاربةُ ناحية بابِ الفراديس، وطال القتالُ بينهم إلى سنة أربعٍ وستين وثلاثمائة، وأحرِقَت البلدُ مَرَّةً أخرى بعد عزل ظالمِ بنِ موهوب وتوليةِ جَيشِ بنِ صمصامة ابنِ أخت أبي محمود، وقُطِعَت القنوات وسائِرُ المياه عن البلد، ومات كثيرٌ مِن الفُقَراء في الطُّرُقاتِ مِن الجوع والعطَشِ، ولم يزَل الحالُ كذلك حتى وليَ عليهم الطواشي ريَّان الخادم مِن جِهةِ المعز الفاطمي، فسَكَنَت النفوسُ.
هو الصَّدرُ الأَنبلُ الرَّئيسُ القُدوةُ أبو منصورٍ عبدُ المَلِكِ بن محمدِ بن يُوسُفَ البغداديُّ، سِبْطُ الإمامِ أبي الحسينِ أحمدَ بن عبدِ الله السوسنجردي, وُلِدَ سنةَ 395هـ وكان يُلقَّب بالشَّيخِ الأَجَلِّ، كان أَوْحَدَ زَمانِه في الأمرِ بالمَعروفِ والنهيِ عن المُنكرِ، والمُبادَرةِ إلى فِعلِ الخَيراتِ، واصطِناعِ الأَيادي عند أَهلِها، مِن أَهلِ السُّنَّةِ، مع شِدَّةِ القِيامِ على أَهلِ البِدَعِ ولَعْنِهِم، قال الخَطيبُ البغداديُّ: كان أَوْحَدَ وَقتِه في فِعلِ الخَيرِ، وافتِقادِ المَستُورِينَ بالبِرِّ، ودَوامِ الصَّدقَةِ، والإفضالِ على أَهلِ العِلمِ، والقِيامِ بأُمورِهم والتَّحَمُّلِ لِمُؤَنِهِم، والاهتمامِ بما عادَ مِن مَصالِحِهم، والنُّصرَةِ لأَهلِ السُّنَّةِ، والقَمعِ لأَهلِ البِدَعِ" تُوفِّي عن خمسٍ وسِتِّين سنةً، وكان يومُ مَوتِه يومًا مَشهودًا، حَضرَهُ خَلْقٌ لا يَعلمُ عَددَهم إلَّا الله عز وجل. قال أبي النرسي: "لم أرَ خَلْقًا قَطُّ مِثلَ مَن حَضرَ جَنازَتَه" دُفِنَ بمَقبَرَةِ بابِ حَربٍ إلى جَنْبِ جَدِّهِ لأُمِّهِ أبي الحُسينِ ابن السوسنجردي. قال الذهبيُّ: "كان ذا جاهٍ عَريضٍ واتِّصالٍ بالخَليفَةِ, وأَرَّخَ له ابنُ خيرون، وقال: دُفِنَ عند جَدِّهِ لأُمِّهِ، وحَضرَهُ جَميعُ الأَعيانِ، وكان صالحًا، عَظيمَ الصَّدقَةِ، مُتعصِّبًا للسُّنَّةِ، قد كَفَى عامَّةَ العُلماءِ والصُّلَحاءِ".