أراد الهادي أن يعهَدَ لابنه جعفرٍ بدلًا من أخيه هارون الرشيد الذي عيَّنه والده المهديُّ واليًا ثانيًا للعهد. وألحَّ الهادي على ذلك وشجَّعَه جماعةٌ من ولاته, لكِنَّ خالد بن يحيى البرمكي نبَّهَه أنَّ جعفر ما زال صغيرًا لم يبلُغ الحنثَ، ثمَّ إنَّ هذا سيجعل الناسَ تستخِفُّ بأيمانِها، فرجع الهادي عن رأيه في عَزْلِ الرشيد, والعجيبُ أنَّ الرشيدَ كان مُسالِمًا لأخيه الهادي في هذا الأمرِ دون أن يبديَ أيَّ اعتراضٍ, حتى جاءه الرشيدُ يومًا فجلس عن يمينه بعيدًا عنه، فجعل الهادي ينظُرُ إليه مليًّا، ثم قال: يا هارونُ، تطمَعُ أن تكونَ وليًّا للعهدِ حَقًّا؟ فقال: إي والله، ولئنْ كان ذلك لأصِلَنَّ مَن قطعتُ، ولأُنصِفَنَّ من ظَلَمتُ، ولأزوِّجَنَّ بنيك من بناتي. فقال: ذاك الظَّنُّ بك. فقام إليه هارونُ ليقَبِّلَ يدَه، فحلف الهادي ليجلس معه على السرير فجلس معه، ثم أمرَ له بألف ألف دينار، وأن يدخُلَ الخزائنَ فيأخُذَ منها ما أراد، وإذا جاء الخَراجُ دفع إليه نِصفَه. ففعل ذلك كلَّه ورَضِيَ الهادي عن الرشيد, فاستلم هارونُ الرشيد زمامَ الخلافة في اليوم التالي لوفاة أخيه الهادي.
لَمَّا قُتِلَ باذ الكردي سار ابنُ أخته أبو عليِّ بنُ مروان الكردي في طائفةٍ مِن الجيش إلى حصن كيفا، وهو على دجلة، وهو من أحصَنِ المعاقل، وكان به امرأةُ باذ وأهلُه، فلمَّا بلغ الحِصنَ قال لزوجة خالِه: قد أنفذني خالي إليك في مُهِمَّة، فظنَّتْه حقًّا، فلمَّا صَعِدَ إليها أعلَمَها بهلاكِه، وأطمَعَها في التزوُّجِ بها، فوافقَتْه على مُلكِ الحِصنِ وغَيرِه، ونزل وقصَدَ حصنًا حصنًا، حتى مَلَك ما كان لخالِه، وسار إلى ميافارقين، وسار إليه أبو طاهرٍ وأبو عبد الله ابنا حَمدانَ طمعًا فيه، ومعهما رأسُ باذ، فوجدا أبا عليٍّ قد أحكَمَ أمْرَه، فتصافُّوا واقتَتَلوا أكثَرَ مِن مَرَّة، وأقام ابنُ مروان بدِيارِ بَكرٍ وضَبَطَها، وأحسَنَ إلى أهلِها، وألان جانِبَه لهم، فطَمِعَ فيه أهلُ ميافارقين، فاستطالوا على أصحابِه، فأمسك عنهم إلى يومِ العيد، وقد خرجوا إلى المصلَّى، فلمَّا تكاملوا في الصَّحراءِ وافى إلى البلَدِ، وأخذ أبا الصَّقرِ شيخَ البلد فألقاه مِن على السور، وقبَضَ على من كان معه، وأخذ الأكرادُ ثيابَ النَّاسِ خارِجَ البلد، وأغلق أبوابَ البلَدِ، وأمَرَ أهلَه أن ينصَرِفوا حيثُ شاؤوا، ولم يمَكِّنْهم من الدُّخولِ، فذهبوا كلَّ مذهَبٍ.
هو الصاحبُ، الوَزيرُ، العَلَّامَةُ، أبو الوَليدِ أحمدُ بن عبدِ الله بن أحمدَ بن غالبِ بن زَيدونَ المَخزُومِيُّ، القُرشيُّ، الأندَلُسيُّ، القُرطُبيُّ، الشاعرُ الماهرُ، حاملُ لِواءِ الشِّعْرِ في عَصرِه. اتَّصلَ بالأَميرِ المُعتَمِدِ بن عبَّادٍ، صاحبِ إشبيلية، فحَظِيَ عنده وصار مُشاوِرًا في مَنزِلَةِ الوَزيرِ، كان بارِعًا أَديبًا شاعرًا مُجيدًا، كان يُشعِر لِنَفسِه لا للتَّكَسُّبِ، أُفْعِمَ بِحُبِّ وَلَّادَة بِنتِ المُستَكْفِي المرواني أَميرِ الأندَلُس، سُجِنَ بِتُهمَةِ مَيْلِه لِبَني أُمَيَّةَ، قال ابنُ بَسَّام: " كان أبو الوَليدِ غايةَ مَنثورٍ ومَنظومٍ، وخاتِمةَ شُعراءِ بني مَخزومٍ، أَحدُ مَن جَرَّ الأيامَ جَرًّا، وفاتَ الأنامَ طُرًّا، وصَرَّفَ السُّلطانَ نَفْعًا وضُرًّا، ووَسَّعَ البيانَ نَظْمًا ونَثْرًا؛ إلى أَدبٍ ليس للبَحرِ تَدَفُّقُهُ، ولا للبَدرِ تَأَلُّقُهُ، وشِعْرٍ ليس للسِّحْرِ بَيانُه، وللنُّجومِ الزُّهْرِ اقتِرانُه. وحَظٍّ مِن النَّثْرِ غَريبِ المَباني، شِعريِّ الألفاظِ والمعاني", وكان من أَبناءِ وُجوهِ الفُقَهاءِ بقُرطُبة، فانتَقلَ منها إلى عند صاحبِ إشبيلية المُعتَضِدِ بن عبَّادٍ، بعد الأربعين وأربع مائة، فجَعَلَهُ مِن خَواصِّه، وبَقِيَ معه في صُورةِ وَزيرٍ. تُوفِّي في إشبيلية ثم نُقِلَ إلى قُرطُبة ودُفِنَ فيها.
تطورت الأحداث في بلاد الأندلس، وأصبح اهتمام الإسبان هو توحيد أراضيهم، وانتزاع ما تبقى للمسلمين بها خصوصًا بعدما خضع الإسبان لسلطة واحدة بعد زواج إيزابيلا الكاثوليكية المتعصبة ملكة قشتالة من فرديناند ملك أراغوان، وبعد هلاك الدون جويان الثاني ملك أراغون، وتولَّى مكانه ابنه فرديناند الكاثوليكي، ضمَّ أراغون وبلنسية وصقلية وميورقة إلى قشتالة، وبينما كانت الممالك النصرانية تتَّحد في تلك الأقطار، كانت المملكة الإسلامية الوحيدة في الأندلس تزداد فتقًا على فتق؛ ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا! اندفعت الممالك الإسبانية المتحدة قبيل سقوط غرناطة في تصفية الوجود الإسلامي في كل إسبانيا، حتى يفرغوا أنفسَهم ويركزوا اهتمامهم على المملكة الإسلامية الوحيدة في غرناطة، وفرضت إسبانيا أقسى الإجراءات التعسُّفية على المسلمين في محاولة لتنصيرهم وتضييق الخناق عليهم حتى يرحلوا عن بلاد الأندلس؛ نتيجة لذلك وقبل سقوط غرناطة لجأ المورسكيون-وهم الأقلية المسلمة التي بقيت في الأراضي الإسبانية بعد انتزاع حكمها من المسلمين- إلى القيام بثورات وانتفاضات في أغلب المدن الإسبانية، والتي يوجد بها أقلية مسلمة، وأُخمِدَت تلك الثورات بدون رحمة ولا شفقة من قبل السلطات الإسبانية التي اتخذت وسيلة لتعميق الكره والحقد للمسلمين، ومن جهة أخرى كان من الطبيعي أن يرنو المورسكيون بأنظارهم إلى ملوك المسلمين في المشرق والمغرب لإنقاذهم، وتكررت دعوات وفودهم ورسائلهم إليهم للعمل على إنقاذهم مما يعانوه من ظلم، وخاصة من قبل رجال الكنيسة ودواوين التحقيق (محاكم التفتيش) التي عاثت في الأرض فسادًا وأحلت لنفسها كل أنواع العقوبات وتسليطها عليهم، وكانت أخبار الأندلس قد وصلت إلى المشرق فارتج لها العالم الإسلامي، وبعث الملك الأشرف قايتباي بوفود إلى البابا وملوك النصرانية يذكِّرُهم بأن النصارى الذين هم تحت حمايته يتمتعون بالحرية، في حين أن أبناء دينه في المدن الإسبانية يعانون أشد أنواع الظلم، وقد هدد باتباع سياسة التنكيل والقصاص تجاه رعايا المسيحيين، إذا لم يكفَّ ملك قشتالة وأراغون عن هذا الاعتداء وترحيل المسلمين عن أراضيهم وعدم التعرض لهم، ورد ما أخذ من أراضيهم، ولم يستجيب البابا والملكان الكاثوليكيان لهذا التهديد من قبل الملك الأشرف قايتباي، ومارسوا خطتهم في تصفية الوجود الإسلامي في الأندلس، وجُدِّدت رسائل الاستنجاد لدى السلطان العثماني بايزيد الثاني بن محمد الفاتح، فوصلته رسالةٌ منهم يذكرون فيها آلامَهم ومعاناتهم ويسألونه الخلاص، ومما كتبه بعض أهل الجزيرة بعد استيلاء الكفر على المدن الأندلسية للسلطان بايزيد خان الثاني ما نصه بعد سطر الافتتاح: الحضرة العلمية، وصل الله سعادتها وأعلى كلمتها ومهد أقطارها وأعز أنصارها وأذل عداتها، حضرة مولانا وعمدة ديننا ودنيانا، السلطان الملك الناصر ناصر الدين والدنيا، سلطان الإسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين، كهف الإسلام وناصر دين نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، محيي العدل ومنصف المظلوم ممن ظلم ملك العرب والعجم والترك والديلم، ظِل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، ملك البرين وسلطان البحرين حامي الذمار وقامع الكفار، مولانا وعمدتنا مولانا بايزيد، لا زال ملكه موفور الأنصار مخلد المآثر والآثار مشهور المعالي والفخار، مستأثرا من الحسنات بما يضاعف الله الأجر الجزيل في الدار الآخرة والثناء الجميل، والنصر في هذه الدار، ولا بَرِحت عزماته العلية مختصة بفضائل الجهاد مجردة من أعداء الدين من بأسها ما يروي صدور السمر والصفاح وألسنة السلاح باذلة نفائس الذخائر في المواطن التي تألف فيها الأخيار مفارقة الأرواح للأجساد، سالكة سبيل السابقين الفائزين برضا الله وطاعته يوم يقوم الأشهاد:
سلام كريم دائم متجدد
أخص به مولاي خير خليفة
سلام على مولاي ذي المجد والعلا
ومن ألبس الكفار ثوب المذلة
سلام على من وسع الله ملكه
وأيده بالنصر في كل وجهة
سلام على مولاي من دار ملكه
قسنطينة أكرم بها من مدينة
سلام على من زين الله ملك
بنجد وأترك من أهل الرعاية
سلام عليكم شرف الله قدركم
وزادكم ملكا على كل ملة....
وكان السلطان بايزيد يعاني من العوائق التي تمنعه من إرسال المجاهدين، بالإضافة إلى مشكلة النزاع على العرش مع أخيه الأمير جم، وما أثار ذلك من مشاكل مع البابوية في روما وبعض الدول الأوربية، ومع ذلك قام السلطان بايزيد بتقديم المساعدة وتهادن مع السلطان قايتباي لتوحيد الجهود من أجل مساعدة غرناطة ووقَّعا اتفاقًا بموجبه يرسل السلطان بايزيد أسطولًا على سواحل صقلية باعتبارها تابعة لمملكة إسبانيا، وأن يجهز السلطان المملوكي قايتباي حملات أخرى من ناحية أفريقيا، وبالفعل أرسل السلطان بايزيد أسطولًا عثمانيًّا تحول إلى الشواطئ الإسبانية، وقد أعطى قيادته إلى كمال رايس الذي أدخل الفزع والخوف والرعب في الأساطيل النصرانية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، كما شجع السلطان بايزيد المجاهدين في البحر بإبداء اهتمامِه وعطفه عليهم، وكان المجاهدون العثمانيون قد بدؤوا في التحرك لنجدة إخوانهم المسلمين، وفي نفس الوقت كانوا يغنمون الكثير من الغنائم السهلة الحصول من النصارى، كذلك وصل عددٌ كبير من هؤلاء المجاهدين المسلمين أثناء تشييد الأسطول العثماني، ودخلوا في خدمته بعد ذلك أخذ العثمانيون يستخدمون قوتهم البحرية الجديدة في غرب البحر المتوسط بتشجيع من هؤلاء المجاهدين، وهذا الذي كان في وُسع السلطان بايزيد الثاني فعلُه.
كانت مُراسلاتُ "حسين - مكماهون" التي دارت بين شَريف مكةَ الشَّريفِ حسين، ونائبِ الملِكِ البريطاني في القاهرة هنري مكماهون، تمثِّلُ مقدِّماتِ الثورةِ العربية، ومن أبرزِ أسبابِها، والتي وعدت فيها بريطانيا الشريفَ حسينًا بالمساعدة وتنصيبِه ملكًا على العربِ، وإقامةِ خلافةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ، كما أنَّ هناك أسبابًا أخرى، منها: الضَّعفُ الذي دَبَّ في أطرافِ الدولةِ العثمانية التي كانت تحكمُ المناطِقَ العربيةَ في الشامِ والحجازِ ومصر والمغرب، ومنها النعراتُ العُنصرية التي ظهرت على يدِ الاتحاديِّين القوميِّين بشكلٍ واضح، وانتشر الظلمُ في الدولةِ على نطاقٍ واسع؛ فسياسةُ الاتحاديِّينَ هي التي أيقظت الفكرةَ القوميَّةَ العثمانيةَ، بدأ بسوء الظنِّ بالعربِ، وأسهم في ذلك بعضُ الذين يريدون تخويفَ السلطانِ العثماني من العربِ، يُشيعُ أن العربَ يريدون أن يقيموا مملكةً عربية وحدهم، وكانت شكاوى العرب تنحصِرُ في إقصاء عدد كبير منهم عن وظائفهم بالأستانة، وعدمِ دعوة العربِ لأيِّ اجتماع للتأليف بين العناصِرِ العثمانية، ولا إدخالهم في الجمعياتِ الاتحادية ولا اللِّجان المركزية، ولا حتى تعيينهم على الولاياتِ والقضاءِ في البلاد العربية، ومعارضة الاتحاديين لكلِّ مشروعٍ علمي أو أدبي في البلاد العربية، ثم بدأت بعضُ الأحزاب العربية بالظهورِ كردَّةِ فِعلٍ للقومية العثمانية؛ فعُقِدَ في باريس أول مؤتمر عربي عام 1913م، ثم تفاقم أمرُ الاتحاديين وعَظُم تشدُّدهم إلى القومية التركية، وزاد الأمرُ عندما قام جمال باشا -الذي لقِّبَ بالسفاح- بقتل عددٍ مِن الذين كَشَف أنهم يتآمرون من خلال جمعياتٍ سرية على الاستقلال عن الدولة العثمانية، وكان القوميُّون العربُ قد رأوا أن يتجمَّعوا حولَ زعيم واحد ويشكِّلوا قوةً كبيرة عربية، فرأوا في الشريفِ حُسين بن علي -شريفِ مكة وأميرِها- الشخصَ المناسب لهذه الزعامة، فأجابهم، وكان التفاهمُ معه سرًّا بواسطةِ من تمكَّن مِن بعض أعضاء الجمعيات العربية الذين هربوا من جمال باشا ووصلوا للحجاز وغيرها، فتمَّ بين زعماء العرب وجمعيَّاتهم وبعضِ المقامات العالية، ومنهم الشريف حسين، أن قرَّروا إعلان الثورة في الحجاز، وكان الشريف حسين قد تعاقد مع مكماهون على أن يكون العرب حلفاءَ للإنجليز والفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى، وطبعا ضد الأتراك؛ لأنها كانت ضِدَّ الحلفاء، ووعدوا الشريف حسين أن يُبقوه مَلِكًا على العرب وأن يعطوا العربَ استقلالهم، وإن كان القوميون العربُ بعد اطِّلاعهم على مراسلات حسين مكماهون أغضبهم كثيرًا تنازل الشريف حسين عن بعض البلاد العربية للإنجليز أو للفرنسيين. أعلن الشريفُ حسين الثورةَ على الدولة العثمانية، وأطلق بنفسِه في ذلك اليوم أولَ رصاصةٍ على قلعةِ الأتراك في مكة؛ إيذانًا بإعلانِ الثورة، وعزَّز حركتَه بإذاعة منشورٍ اتَّهم فيه الاتحاديِّين في تركيا بالخروج على الشريعةِ الإسلامية، وجاء فيه: "وانفصلت بلادُنا عن المملكةِ العثمانية انفصالًا تامًّا، وأعلنَّا استقلالًا لا تشوبُه شائبةُ مُداخَلة أجنبية ولا تحكُّم خارجي"، واستطاعت القواتُ الثائرة أن تستوليَ في أقلَّ من ثلاثة أشهرٍ على جميعِ مدن الحجاز الكبرى، باستثناء المدينة النبوية التي بقيت محاصَرةً إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يلبَثْ أن بويع الشريفُ حسين ملكًا على العرب. وقد نسفت القواتُ العربية بقيادةِ الأمير الشريف فيصل سكةَ حديد الحجاز، واحتلَّت ينبع والعَقَبة، واتخذوا من العَقَبة نُقطةَ ارتكازٍ لهم، ثم أخذ فيصل يتقدَّمُ لِيُحارِبَ الأتراكَ في منطقة شرقي الأردن، وبذلك قَدَّم للحُلفاء أكبرَ مساعدة؛ حيث استطاع اللورد اللنبي قائِدُ القوات الإنجليزية أن يدخُلَ القدسَ بمعاونة العرب، كما أنَّ احتلالَ القوات العربية لمنطقة شرقي معان قد حمى ميمنة القواتِ البريطانية في فلسطين من هَجَمات الأتراك عليها في منطقة بئر سبع والخليل، وحمى خطوطَ مواصلاتها، ولم تلبَث القواتُ العربيةُ أن تقدَّمت في (ذي الحجة 1336هـ/ سبتمبر 1918م) فاحتَلَّت دمشق واصطدمت بالأتراكِ قبل أن يدخُلَها اللنبي، ولم يمضِ أكثرُ من شهر حتى زال النفوذُ العثماني من سوريا بعد أن أمضى بها أربعة قرون. والواقع أن الكثيرين قد أُصيبوا بخيبةِ أمل كبيرة، وعلى رأسِهم الشيخ محمد رشيد رضا، وذلك عندما عَلِموا بتنازل حسين عن ولايتي إسكندرون ومرسين والمناطق الشمالية السورية، ووافق على مصالح فرنسا في ولاية بيروت لِما بعد الحرب، وعلى مصالح بريطانيا في البصرة وبغداد، وأنَّ الأسطول الإنجليزي هو الذي أسقط ثغورَ جدة ورابغ وينبع وغيرها من موانئ الحجاز، وأن ثغرَ بورسودان كان القاعدةَ التي انطلق منها الأسطول الإنجليزي لدعم ثورة الشريف حسين، وازداد شعورُهم بالخيبة عندما وجدوا ضباط إنجلترا وفرنسا مثل اللنبي وكوكس وكاترو وغورو والضابط الشهير لورانس هم الذين يقودون القبائِلَ العربية، ووصل الأمرُ ببعض هؤلاء الضبَّاط في النَّيلِ من المسلمين أنه لَمَّا دخل الجنرال اللنبي القدسَ يوم 9/12/1917م قال قولَته المشهورة: الآن انتهت الحروبُ الصَّليبية! ولَمَّا دخل الجنرال غورو دمشق يوم 21/7/1920م توجَّه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي ووقف أمامَه قائلًا: ها قد عُدنا يا صلاحَ الدين! ثم تكرَّست المرارةُ والحسرة عندما ارتفعت أعلامُ بريطانيا وفرنسا على المناطق التي قاتَلَ فيها العرب، ولم يكن بينها عَلَمُ الدولة العربية المنتظَرة! وحاول الشيخ رشيد رضا أن يلفِتَ نظرَ الشريف حسين إلى خطورة ما أقدم عليه؛ لأن العدوَّ الحقيقيَّ هو الاستعمار الغربي لا الدولةُ العثمانية، إلا أنَّ بريقَ المصلحة وأحلامَ المُلك والعَرش كانا قد سيطرا على خيال الشريف حسين، فلم يستمِعْ إلى صوتِ ناصحٍ أو حكيمٍ! وإنما أمر بمنع دخول مجلة "المنار" التي يُصدِرُها الشيخ رشيد رضا من دخول مكة. ولم يعلم العربُ باتفاقِ (سايكس – بيكو) إلا عندما أعلنه البلاشفة بعد قيام ثورتهم في روسيا 1917م، وتأكَّد العربُ أنَّ الاتفاق أهمل تأسيسَ خلافة عربية، وأعطى بعضَ أجزاء من الدولة العربية المنتَظَرة لفرنسا، وأثار هذا الاتفاقُ حفيظةَ العرب، إلا أنَّهم مضوا في ثورتهم بعد طمأنةِ البريطانيين لهم، ونجح العثمانيُّون في تصوير الشريف حسين على أنَّه خائِنٌ للإسلام متحالِفٌ مع الدُّوَل النصرانية ضِدَّ دولة إسلامية، إلَّا أن الخلافاتِ الحقيقيةَ بين العرب والإنجليز تعمَّقت وظهرت مع إطلاقِ بريطانيا لوعدِ بلفور في (المحرم 1336هـ/نوفمبر 1917م) كانت غاية الإنجليز من ثورة العرب هو ضربَ الأتراك بالعرب، بدلًا أن يخوضوا هم غمار هذه الحرب، ويدلُّ على ذلك أن الإنجليز كانوا يضغطون على الشريف حسين لبدء الثورة عندما كانت جيوش الحلفاء تستسلم للأتراك عند كوت العمارة في نيسان 1916م، وكان الحلفاءُ غير قادرين على مواجهة القوات العثمانية عند قناة السويس واليمن، فكان التعجيل بالثورة ضِدَّ العثمانيين فيه تخفيف العبء عن الإنجليز، وفعلًا أدى إعلان الثورة إلى رجحان كفة الحلفاء، وبدأت الحاميات التركية في الاستسلام بعد أن حوصِرَت واستعمل معها رجال الجيش حربَ العصابات، ثم بدأ القتال فعلًا بين العرب وجيوش العثمانيين في الحجاز في التاسع من شعبان 10 يونيو، وأعلنوا استقلالهم، وهاجموا الثكناتِ التركيةَ في مكة، وحمِيَ القتال خلال يومين، حتى تعطَّلت الصلاةُ والطواف في المسجد الحرام، وكذلك الأمرُ في جدَّة؛ دام القتال ستة أيام حتى سقطت بيدِ قوات الشريف، وفي التاسع من رمضان استسلم الأتراك في مكة، وفي ذي القعدة سقطت الطائفُ، ثم أعلن الحجازُ استقلاله عن الاتحاديين، فانتهز الإنجليز والفرنسيون الفرصة وبدؤوا في إرسال التهاني، وحتى الدول الأوربية الأخرى كروسيا وسائر الدول غير المنحازة، أما السوريون واللبنانيون فلم ينَلْهم من الثورة إلا الحصارُ والاضطهاد؛ حيث كانت كفاءتُهم الحربية ضعيفة مقارنة مع كفاءات العثمانيين في هذه المنطقة، وكانت جيوش الثورة عبارة عن ثلاثة جيوش كل واحد بقيادة ولد من أولاد الحسين، وهم فيصل، وعبد الله، وعلي، وكان مع جيش فيصل لورنس وكان يتلقى أوامِرَه من الجنرال اللنبي، ثم تألَّفت أول وزارة عربية في السابع من ذي الحجة 1334هـ/ 5 أكتوبر 1916م، ثم أمر بتأليف مجلس الشيوخ الأعلى، هذا ولم تعين الحكومة العربية، ثم تمت مبايعةُ العربِ للشريف حسين بن علي ملكًا على العرب يوم الخميس السادس من محرم 1335هـ/ 6 تشرين الأول 1916م، علما أن استنكارًا إسلاميًّا قد ورد إلى الشريف حسين عن طريق شكيب أرسلان الذي قال له: أتقاتل العربَ بالعربِ أيها الأمير حتى تكون ثمرةُ دماء قاتِلِهم ومقتولِهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سوريا، واليهود على فلسطين، وهذا ما حصل بالفعل!!
هو مَلِكُ الأَندلسِ المُعتَمِدُ على الله أبو القاسمِ محمدُ بنُ المُعتَضِد بالله أبي عَمروٍ عَبَّادِ بنِ الظافرِ المُؤيَّدِ بالله أبي القاسمِ محمدِ قاضي إشبيلية بن أبي الوليدِ إِسماعيلَ بن قُريشِ بن عَبَّاد بنِ عَمرِو بن أَسلمَ بنِ عَمرِو بنِ عَطَّاف بنِ نعيمٍ، اللخميُّ، مِن وَلَدِ النُّعمانِ بن المُنذِر اللخميِّ، آخرِ مُلوكِ الحِيرَةِ؛ كان المُعتَمِدُ صاحِبَ قُرطبةَ وإشبيلية وما والاهُما مِن جَزيرةِ الأندلسِ. كان بِدءُ أَمرِ عائِلَةِ المُعتَمِد في بِلادِ الأندلسِ أن نعيمًا وابنَه عَطَّافًا أَوَّلُ مَن دَخلَ إليها من بِلادِ المَشرقِ، وهُما مِن أَهلِ العريشِ، المَدينَة القَديمَة الفاضِلَة بين الشامِ والدِّيارِ المِصريَّة في أَوَّلِ الرَّملِ من جِهَةِ الشامِ، وأقامَا بها مُستَوطِنين بقَريَةٍ بقُربِ يَومينِ مِن إقليم طشانة من أَرضِ إشبيلية. نَشأَ المُعتَمِدُ بنُ عبَّادٍ في الأَندلسِ كغَيرِه مِن أَبناءِ المُلوكِ على المُيولِ والدِّعَةِ والتَّرَفِ، كان مَوصوفًا بالكَرمِ والأَدَبِ والحِلمِ، حَسَنَ السِّيرَةِ والعِشرَةِ والإحسانِ إلى الرَّعيَّةِ، والرِّفقِ بهم. تُوفِّي والدُه المُعتَضِد سَنةَ 464هـ فخَلَفَهُ في الحُكمِ، فكان فارِسًا شُجاعًا، عالِمًا أَديبًا، ذَكِيًّا شاعِرًا، مُحسِنًا جَوادًا مُمْدَحًا، كَبيرَ الشَّأنِ، خَيرًا مِن أَبيهِ. كان أَندَى المُلوكِ راحَةً، وأَرحَبَهُم ساحَةً، كان بابُه مَحَطَّ الرِّحالِ، وكَعبَةَ الآمالِ, ومَألَفَ الفُضلاءِ، حتى إنه لم يَجتمِع ببابِ أَحدٍ مِن مُلوكِ عَصرِه مِن أَعيانِ الشُّعراءِ وأَفاضِلِ الأُدباءِ ما كان يَجتَمِع ببابِه. قال أبو بكر محمدُ بن اللَّبَّانة الشاعِرُ: "مَلَكَ المُعتَمِدُ مِن مُسَوَّراتِ البِلادِ مائتي مُسَوَّر، ووُلِدَ له مائةٌ وثلاثةٌ وسبعون وَلَدًا، وكان لِمَطبَخِه في اليوم ثَمانيةُ قَناطيرَ لَحمٍ، وكُتَّابُه ثَمانية عشر". ولمَّا قَوِيَ أَمرُ الأذفونش بعدَ أَخذِه طُليطلة، اجتَمعَ العُلماءُ، واتَّفَقوا مع ابنِ عَبَّادٍ على أن يُكاتِبوا الأَميرَ ابنَ تاشفين صاحِبَ مراكش لِيُنجِدَهُم، فقال جَماعةٌ لابنِ عبَّادٍ: نَخافُ عليك من استِمدادِه. فقال: رَعْيُ الجِمالِ خَيرٌ مِن رَعْيِ الخَنازيرِ. فلمَّا عَبَرَ ابنُ تاشفين بجُيوشِه إلى الجَزيرَةِ، اجتَمعَ به المُعتَمِد، وأَقبَلَت المُطَّوِّعَةُ من النَّواحي، وقاتَلَ المُعتَمِدُ بن عبَّادٍ في الزَّلَّاقَةِ وثَبَتَ في ذلك اليوم ثَباتًا عَظيمًا، وأَصابَهُ عِدَّةُ جِراحاتٍ في وَجهِه وبَدَنِه، وشُهِدَ له بالشَّجاعَةِ، وغَنِمَ المسلمون دَوابَّ الفِرنجَةِ وسِلاحَهم، ورَجَعَ ابنُ تاشفين إلى بِلادِه والمُعتَمِد إلى بِلادِه. ثم إن الأَميرَ يوسفَ عادَ إلى الأندلسِ بعدَ أن وَصلَتهُ فَتاوَى العُلماءِ بخَلعِ مُلوكِ الطَّوائفِ قال ابنُ خلدون: "وأَفتاهُ الفُقهاءُ وأَهلُ الشُّورَى من المَغربِ والأَندلسِ بِخَلْعِهِم وانتِزاعِ الأَمرِ مِن أَيدِيهم، وصارَت إليه بذلك فَتاوَى أَهلِ الشَّرقِ الأَعلامِ مثل: الغزاليِّ والطَّرطوشيِّ". فلمَّا أَجازَ ابنُ تاشفين انقَبَضوا عنه إلَّا ابنَ عَبَّادٍ فإنه بادَرَ إلى لِقائِه. استَعانَ بالأذفونش مَلِكُ اشتاله وطَلَبَ منه المَدَدَ، فقَدَّمَ ابنُ تاشفين سيرَ بنَ أبي بكر الأندلسي، فوَصَلَ إلى إشبيلية وبها المُعتَمِدُ فحاصَرَهُ أَشَدَّ مُحاصَرةٍ، وظَهرَ مِن مُصابَرةِ المُعتَمدِ وَشِدَّةِ بَأسِه وتَرامِيه على المَوتِ بنَفسِه ما لم يُسمَع بمِثلِه، والناسُ بالبلدِ قد استَولَى عليهم الفَزَعُ وخامَرَهُم الجَزَعُ, فلمَّا كان يومُ الأَحدِ العشرين من رجب سَنةَ 484هـ هَجَمَ عَسكرُ الأَميرِ ابنِ تاشفين البَلدَ وشَنُّوا فيه بالغاراتِ، وقُبِضَ على المُعتَمِد وأَهلِه، وكان قد قُتِلَ له وَلدانِ قبلَ ذلك، أَحدُهما: المأمون، نائِبُه في قُرطبة والثاني الرَّاضي، كان نائِبًا عن أَبيهِ في رندة، وهي مِن الحُصونِ المَنيعَةِ, ولمَّا أُخِذَ المُعتَمِد قَيَّدوهُ من ساعَتِه، وأُودِعَ سِجْناً في أغمات بالعَدوَةِ وتَشَرَّدَ أَهلُه وافتَقَروا في بلادِ المَغربِ, ودَخَلَ عليه يَومًا بَناتُه السِّجنَ، وكان يَومَ عِيدٍ، وكُنَّ يَغزِلنَ للناسِ بالأُجرَةِ في أغمات، فرآهُنَّ في أَطمارٍ رَثَّةٍ وحالَةٍ سَيِّئَةٍ، فصَدَّعنَ قَلبَه وأَنشدَ:
"فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فساءك العيد في أغمات مأسور
نرى بناتك في الأطمار جائعةً
يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعةً
أبصارهن حسيراتٍ مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافيةٌ
كأنها لم تطأ مسكًا وكافورا"
زالت دَولةُ المُعتَمِد بن عبَّادٍ على يَدِ شَريكِه في النَّصرِ بعدَ أن دَخلَ قُرطبة، ومات غَريبًا في مَنفاهُ بـأغمات بالمغربِ, وقد حَزِنَ الناسُ عليه، وقال في مُصابِه الشُّعراءُ فأَكثَروا, ويُعتَبر مِن أَشهرِ مُلوكِ دَولةِ الطَّوائفِ التي قامَت في الأَندلسِ في القَرنِ الخامسِ الهِجريِّ، بعدَ انهِيارِ دَولةِ الخِلافةِ الأُمويَّة.
اشتَدَّت الوحشةُ بين مُؤنِسٍ الخادمِ والمُقتَدِر بالله، وتفاقَمَ الحالُ وآل إلى أن اجتَمَعوا على خَلعِ المُقتَدِر وتولية القاهِرِ محمَّد بن المعتضد، فبايعوه بالخلافةِ وسَلَّموا عليه بها، ولقَّبوه القاهر بالله، وذلك ليلة السبت النصف من المحرم، وقَلَّدَ عليَّ بنَ مقلة وزارته، وولى نازوك الحُجُوبة مضافًا إلى ما بيده من الشُّرطة، وألزم المقتَدِر بأن كتب على نفسِه كتابًا بالخَلعِ مِن الخلافة، وأشهد على نفسِه بذلك جماعةً من الأمراء والأعيان، وسلَّم الكتاب إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسُف، فقال لولده الحُسَين احتفظ بهذا الكتابِ، فلا يريَنَّه أحَدٌ مِن خَلقِ الله، ولَمَّا أعيدَ المقتَدِرُ إلى الخلافة بعد يومينِ رَدَّه إليه، فشَكَره على ذلك جدًّا وولَّاه قضاءَ القُضاةِ، فلمَّا كان يوم الأحد السادس عشر من المحرم جلس القاهِرُ بالله في منصب الخلافة، وجلس بين يديه الوزيرُ أبو علي بن مقلة، وكتب إلى العُمَّال بالآفاق يُخبِرُهم بولاية القاهِرِ بالخلافة عِوضًا عن المقتدر، فلما كان يوم الاثنين جاء الجندُ وطلبوا أرزاقَهم وشَغَّبوا، وبادروا إلى نازوك فقَتَلوه، وكان مخمورًا، ثمَّ صلبوه، وهرب الوزيرُ ابنُ مقلة، وهرب الحُجَّاب ونادوا يا مُقتَدِرْ يا منصور، ولم يكن مؤنسٌ يومئذٍ حاضِرًا، وجاء الجندُ إلى باب مؤنسٍ يُطالِبونَه بالمُقتَدِر، فأغلق بابَه دونهم، فلما رأى مؤنِسٌ أنَّه لا بُدَّ مِن تسليم المقتَدِر إليهم أمَرَه بالخروج، فخاف المقتَدِرُ أن يكون حيلةً عليه، ثم تجاسَرَ فخرج فحَمَلَه الرجالُ على أعناقهم حتى أدخلوه دارَ الخلافة، فسأل عن أخيه القاهرِ وأبي الهيجاء بن حمدان ليكتُبَ لهما أمانًا، فما كان عن قريبٍ حتى جاءه خادِمٌ ومعه رأسُ أبي الهيجاء قد احتَزَّ رأسَه وأخرجه من بين كتفيه، ثم استدعى بأخيه القاهر فأجلَسَه بين يديه واستدعاه إليه، وقبَّلَ بين عينيه، وقال: يا أخي أنت لا ذنبَ لك، وقد علمتُ أنَّك مُكرَهٌ مقهورٌ، والقاهرُ يقول: اللهَ اللهَ، نفسي يا أمير المؤمنين، فقال: لا جرى عليك مني سوءٌ أبدًا، وعاد ابنُ مقلة فكتب إلى الآفاقِ يُعلِمُهم بعَودِ المقتدر إلى الخلافة، ورجَعَت الأمورُ إلى حالها الأوَّل، وكان ابنُ نفيس من أشَدِّ الناس على المقتدر، فلما عاد إلى الخلافةِ خرج من بغداد متنكِّرًا فدخل الموصل، ثم صار إلى إرمينية، ثم لحِقَ بالقسطنطينيَّة، فتنصر بها مع أهلِها، وقرَّرَ أبا علي بن مقلة على الوزارةِ، وولَّى محمد بن يوسف قضاءَ القضاة، وجعل محمَّدًا أخاه - وهو القاهِرُ - عند والدته بصفةِ محبوسٍ عندها، فكانت تحسِنُ إليه غايةَ الإحسان، وتشتري له السراريَّ وتُكرِمُه غايةَ الإكرامِ.
هو الإمامُ تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، من أمراءِ نجد، وَلِيَها بعد مقتل ابنِ عَمِّه مشاري بن سعود. كان تركي بن عبد الله فارًّا من وجه التُّرك وعُمَّال والي مصر محمد علي، في الخَرجِ بنجد، وعلم بأنَّ مشاري بن معمر قبض على ابنِ عَمِّه مشاري وسَلَّمه إلى الترك فقَتَلوه، فخرج من مخبئه ودخل العارضَ فنازع ابن معمر برهةً مِن الزمن، ثم قتَلَه بابن عمه، وتولى الحكمَ مكانه. وبولايةِ تركي بن عبد الله انتقل الحكمُ في آل سعود من سلالةِ عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى سلالة أخيه عبد الله بن محمد بن سعود، وكان تركي شجاعًا؛ أخذ على عاتقه إخراجَ الترك ومَن معهم من المصريين عن بلادِه، فاستردَّ الأحساء والقطيف، وصالحَه أميرُ حائل، وانبسط نفوذُه في القصيم. واستمَرَّ إلى أن قام مشاري بن عبد الرحمن ابن أخت تركي بن عبد الله -وهو ابنُ عمه أيضًا- بقَتلِه غدرًا، قال ابن بشر: "عزم مشاري على إظهارِ ما أبطن وجَرَّد سيفه لإثارة الفِتَن، وذلك بمساعدة رجالٍ أسافِلَ مِن الخدمِ الأراذلِ، وقد تواعدوا عليه بعد صلاةِ الجمعة إذا خرج من المسجِدِ، فلما صلى الجمعة وخرج.. من المسجدِ، وقف له البغاة عند الدكاكين بين القصر والمسجد، وبيده مكتوبٌ يقرؤه، وفي جنبه رَجُلٌ على يساره، واعترضهم منهم عبدٌ خادم لهم يقال له إبراهيم بن حمزة، فأدخل الطبنجة مع كُمِّه وهو غافِلٌ فثورها فيه، فخَرَّ صريعًا، فلم تخط قلبه، وإذا مشاري قد خرج من المسجد فشَهَر سيفَه وتهدَّد الناس وتوعَّدَهم، وشهر أناسٌ سُيوفَهم معه فبُهِتَ الناس وعَلِموا أن الأمر تشاوروا فيه وقُضِيَ بليلٍ، فلما رأى زويد العبد المشهور مملوكُ تركي عمَّه صريعًا، شهر سيفه ولَحِقَ برجلٍ من رجاجيل مشاري فجَرَحَه.. ثم إن مشاري دخل القصرَ من ساعته وأعوانه معه.. وجلس للناسِ يدعوهم إلى البيعةِ، فلما علم آلُ الشيخِ وقوعَ هذا الأمر جلسوا في المسجد، فلم يخرجوا منه حتى أرسل إليهم مشاري يدعوهم فأبَوا أن يأتوا إلا بالأمانِ، فكتب لهم بالأمان، فأتوا إليه وطلب منهم المبايعةَ فبايعوه، ثمَّ نُقِلَ تركي من موضعه ذلك، وأدخلوه بيت زويد فجُهِّزَ وصلى عليه المسلمون بعد صلاة العصر، ودُفِنَ في مقبرة الرياض آخر ساعة من يوم الجمعة"، وكان قتلُ تركي بن عبد الله على يد ابن عمه مشاري بن عبد الرحمن أوَّل جريمةٍ مِن نوعِها في آل سعود. وكان ابنُه فيصل في القطيف على رأس جيشٍ، فلما علم بمقتلِ أبيه رجع من فوره واستطاع أن يقتُلَ مشاري، ثم يتولى الإمامةَ والحُكمَ.
الخُميني قائدُ الثورة الإيرانيَّة، ومُنشئُ الحُكومة الإسلاميَّة الشيعيَّة التي أسْقَطَت حُكمَ الشاهِ، وصاحبُ نظريَّة (وِلايةُ الفَقيهِ)، واسمُه بالكامل رُوحُ اللهِ بنُ مصطفى موسَوي، وُلد في 29 جمادى الأولى سنةَ 1318هـ 24 سبتمبر 1900م، بقرية «خُمين» بإيرانَ، وكان أبوه من عُلماء الشيعةِ، وقد قُتل على يد أحد الإقطاعيِّينَ، والخُميني كان عمرُه سنةً واحدةً، فتكفَّلت أُمُّه برِعايته ورِعايةِ أخيه الأصغر «باسند»، ودفعت بهما لطريق العِلم الشيعي، ولمَّا تُوفيت أُمُّه وهو في الثامنةَ عَشْرةَ، انتقل هو وأخوه للإقامة قريبًا من مدينة «قُمَّ» الشهيرة، والتحق بالحوزة العلميَّة للشيخ عبد الكريم حيارى، وتدرَّج معه في العلوم الشيعيَّة وتخصَّص في الفلسفة والمنطِق؛ وعندما حاوَل الشاه إخضاعَ ثورةِ علماءِ الشيعةِ -وعلى رأسهم الخُميني- فأصدر قرارًا بأخذ بعض أملاك الحوزة الدينيَّة، ثار الخُميني، وألقى خُطبًا مُلتهِبةً أشعلت الأوضاع داخلَ إيرانَ، ووقعت مصادَماتٌ عنيفةٌ، راح ضحيتها الآلافُ، وذلك سنةَ 1384هـ، وبعدها تمَّ نَفيُ الخُميني، فانتقلَ أولًا إلى تُركيا، فلم يمكُثْ فيها أكثرَ من عام، ثم اتَّجَه سنةَ 1385ه إلى العراق، وأقام بالنجَف، ومن هناك قاد الخُميني الثورةَ والمعارَضة من خلال شرائط الخُطَب والدروس التي كانت تؤجِّج مشاعرَ الناس، وقد نجَح الخُميني في استغلال الظروف والحوادث لصالح ثورتِه، لكنْ تمَّ إبعادُه من العراق، وفي 6 أكتوبر 1978 غادَرَها إلى فرنسا، ومن هناك استأنَفَ قيادةَ الثورة ضدَّ الشاه حتى توَّج ثورتَه بالعودة لإيرانَ سنةَ 1399هـ، ودخل طِهرانَ دخولَ الفاتحين، وفرَّ الشاه من البلاد، وقد استقبَل الخُميني في المطار ستةُ ملايين إيرانيٍّ، وكان في الثمانين من العمرِ وقتَها، وأَعلنَ وقتَها قيامَ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأنه لن يرشِّح نفسَه لرئاسة الجمهورية، بل سيظلُّ مُرشدًا للثورة، والمرجعيَّة الشيعيَّة الأولى لشيعة العالَم، ولكنَّه في نفس الوقت جعل في إدارة دفَّة الحُكم رجالًا من أخلَص أعوانه، يُنفِّذون سياساتِه وأفكارَه، وأخذ الخُميني في تطبيق مبدأ ولاية الفقيه، وأظهر تَعصُّبه الشديدَ للتشيُّع، وأَعلن أن أهل السُّنة ما هم إلا أقليَّة، ليس لهم أنْ يشتركوا في السُّلْطة، على الرغم من أن نسبتَهم كانت تزيدُ على 30% من إجمالي السكان، كما أظهَر الخُمينيُّ عزْمَه على نشْر مبادئ الثورة الإسلامية الإيرانية للدول المجاوِرة، وذلك بتشجيع الأقليَّات الشيعيَّة الموجودة بدول الخليج، وتبنَّى مواقفَ متشدِّدةً تجاهَ أمريكا وإسرائيل، وتشجيعَ الجهاد الفِلَسطيني، وإصدار فتاوى ضدَّ الملاحدة أمثال سلمان رشدي، وكان الخُميني ذا شخصيَّة استبداديَّة، لا يَسمَح بظهور أيِّ رجلٍ بجوارِه، فاصطَدَم معَ بني صدر رئيس الجمهورية وعزَلَه، وآية الله منتظري خليفته وعزَلَه، وكان الخُميني يَرى في نفسه العِصمةَ على اعتبار أنه نائبُ الإمام المعصوم الغائب، ولقد تعرَّض لعدَّة محاوَلات للاغتيال، ولكنَّه نجا منها جميعًا، حتى أتاه قَدَرُه المعلوم في 29 شوال 1409هـ.
هو الإمامُ العَلَّامةُ، أَقضى القُضاةِ، أبو الحسنِ عَلِيُّ بن محمدِ بن حَبيبٍ، المَاوَردِي البَصري، شَيخُ الشَّافعيَّة، كان من وُجوهِ الفُقهاءِ الشَّافعيَّة ومن كِبارِهم، أَخذَ الفِقهَ عن أبي القاسم الصيمري بالبَصرةِ، ثم عن الشيخ أبي حامِد الإسفرايني ببغداد، صاحبِ التَّصانيفِ الكَثيرةِ في الأُصولِ والفُروعِ والتَّفسيرِ والأَحكامِ السُّلطانيَّة، وأَدَبِ الدُّنيا والدِّين، قال الماوردي: "بَسَطتُ الفِقهَ في أَربعةِ آلافِ وَرقةٍ وقد اختَصرتُه في أَربعينَ" قال ابنُ الجوزي: "يُريدُ بالمَبسوطِ الحاويَ، وبالمُختَصَرِ الإقناعَ" كان أَديبًا حَليمًا وَقورًا، مُتَأَدِّبًا لم يَرَ أَصحابُه ذِراعَه يومًا من الدَّهرِ مِن شِدَّةِ تَحَرُّزِهِ وأَدبِه، وكان ثِقةً صالحًا، حافظًا للمَذهَبِ وله فيه كتاب "الحاوي الكبير" الذي لم يُطالِعهُ أَحدٌ إلا وشَهِدَ له بالتَّبَحُّرِ والمَعرفةِ التَّامَّةِ بالمَذهبِ. وفُوِّضَ إليه القَضاءُ بِبُلدانٍ كَثيرةٍ، واستَوطَن بغداد في دَربِ الزَّعفراني، ورَوى عنه الخَطيبُ أبو بكرٍ صاحبُ "تاريخ بغداد" وقال: كان ثِقةً. وله من التَّصانيف غير "الحاوي" "تفسير القرآن الكريم" و"النُّكَت والعُيون" و"أدب الدِّين والدنيا" و"الأحكام السلطانية" و"قانون الوزارة" و"سياسة المُلْكِ" و"الإقناع" في المَذهَب، وهو مُختصَر، وغير ذلك، وصَنَّفَ في أُصولِ الفِقهِ والأَدبِ وانتفع النَّاسُ به. وقد وَلِيَ الحُكمَ في بلادٍ كَثيرةٍ، وكان ذا حَظوَةٍ عند الخَليفةِ وعند بني بُويه، توفِّي عن سِتٍّ وثمانين سَنةٍ، ودُفِنَ ببابِ حَربٍ.
ورد الخَبَرُ باستيلاء الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل على سنجار ونصيبين والخابور، وقدم رسول الخليفة بمالٍ إلى الملك الكامل، ليستخدِمَ به عسكرًا للخليفة، فإنَّه بلغه توجه التتر إلى بغداد، فقام الملك الكامل لَمَّا سلم إليه كتاب الخليفة، ووضعه على رأسه، وكان جملةُ ما حضر من المال مائة ألف دينار مصرية، فأمرَ الملك الكامل أن يخرج من بيت المال مائتا ألف دينار، ليستخدم بها العساكر، وأن يجرَّد من عساكر مصر والشام عشرة آلاف، نجدةً للخليفة، وأن يكون مُقَدَّم العساكر الناصر داود بن الملك المعظم، وألا يُصرَف مما حضر من المال شيء، بل يعاد بكمالِه إلى خزانة الخليفة، فتولى استخدامَ الأجناد الأميران ركن الدين الهيجاوي، وعمادُ الدين بن موسك، وأن يكونا مع الناصِرِ داود في خدمته، فاستخدم الناصرُ العسكر، وسار إلى بغداد، وهم نحو ثلاثة آلاف فارس.
في مستهَلِّ صَفَر وردت أخبارٌ بقَصدِ التتر بلادَ الشام، وأنهم عازمونَ على دخول مصر، فانزعج الناسُ لذلك وازدادوا ضعفًا على ضعفهم، وشرعَ الناسُ في الهرب إلى بلادِ مِصرَ والكرك والشوبك والحصون المنيعة، وجلس الشيخُ تقي الدين ابن تيمية في ثاني صفر بمجلِسِه في الجامع وحَرَّضَ الناسَ على القتال، وساق لهم الآياتِ والأحاديثَ الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراعِ في الفرار، ورغَّبَ في إنفاق الأموال في الذَّبِّ عن المسلمين وبلادِهم وأموالِهم، وأنَّ ما يُنفَقُ في أجرةِ الهَرَبِ إذا أُنفِقَ في سبيل الله كان خيرًا، وأوجب جهاد التتر حتمًا في هذه الكَرَّة، وتابع المجالِسَ في ذلك، ونودِيَ في البلادِ لا يسافِرْ أحدٌ إلا بمرسومٍ وورقةٍ، فتوقَّفَ النَّاسُ عن السير وسكَنَ جأشُهم، وتحَدَّث الناس بخروج السلطانِ مِن القاهرة بالعساكرِ، وفي أول ربيع الآخر قَوِيَ الإرجاف بأمر التتر، وجاء الخبَرُ بأنهم قد وصلوا إلى البيرة ونودِيَ في البلد أن تخرج العامَّةُ من العسكر، وجاء مرسومُ النائب من المرج بذلك، فاستعرضوا في أثناء الشَّهرِ فعرض نحو خمسةِ آلاف من العامة بالعُدَّة والأسلحة على قدر طاقتِهم، وأشاع المرجفونَ بأن التتر قد وصلوا إلى حَلَب وأن نائب حلب تقهقَرَ إلى حماة، ونودي في البلد بتطييبِ قُلوبِ الناس وإقبالِهم على معايِشِهم، وأن السلطانَ والعساكر واصلةٌ، وأُبطلَ ديوان المستخرج, وكانوا قد استخرجوا أكثَرَ مِمَّا أمروا به، وبقيت بواقٍ على الناس الذين قد اختَفَوا، فعُفي عما بَقِي، ولم يَرُدَّ ما سَلف، لا جرم أن عواقِبَ هذه الأفعال خَسَرٌ ونُكرٌ، وأن أصحابها لا يُفلِحون، ثم جاءت الأخبار بأن سلطان مصر رجع عائدًا إلى مصر بعد أن خرج منها قاصدًا الشام، فكثر الخوفُ واشتد الحال، وكثرت الأمطار جدًّا، وخرج كثير من الناس خفافًا وثِقالًا يتحمَّلونَ بأهليهم وأولادهم، واستهَلَّ جمادى الأولى والناسُ على خطَّة صعبة من الخوف، وتأخَّرَ السلطان واقترَبَ العدُوُّ، وخرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مستهَلِّ هذا الشهرِ وكان يوم السبت إلى نائبِ الشامِ في المرج فثَبَّتَهم وقَوَّى جأشَهم وطَيَّبَ قلوبهم ووعَدَهم النصرَ والظَّفَرَ على الأعداء، وتلا قولَه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] وبات عند العسكَرِ ليلةَ الأحد ثم عاد إلى دمشق وقد سأله النائِبُ والأمراء أن يركَبَ على البريدِ إلى مِصرَ يستَحِثُّ السلطانَ على المجيءَ، فساق وراء السلطانِ، وكان السلطانُ قد وصل إلى الساحِلِ فلم يدرِكْه إلَّا وقد دخل القاهرةَ وتفارط الحال، ولكنَّه استحَثَّهم على تجهيز العساكر إلى الشامِ إن كان لهم به حاجةٌ، وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتُم عن الشامِ وحمايتِه أقَمْنا له سلطانًا يحوطُه ويحميه ويستغِلُّه في زَمَنِ الأمن، ولم يَزَلْ بهم حتى جُرِّدَت العساكِرُ إلى الشام، ثم قال لهم: لو قُدِّرَ أنكم لستُم حكامَ الشَّامِ ولا ملوكَه واستنصركم أهلُه، وجب عليكم النصرُ، فكيف وأنتم حكَّامُه وسلاطينُه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولونَ عنهم؟! وقَوَّى جأشَهم وضَمِنَ لهم النصر هذه الكَرَّةَ، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصَلَت العساكِرُ إلى الشام فرح الناسُ فَرَحًا شديدًا بعد أن كانوا قد يَئِسوا من أنفُسِهم وأهليهم وأموالهم، ثمَّ قَوِيت الأراجيف بوصول التتر، وتحقُّقِ عَودِ السلطان إلى مصر، ونادى ابنُ النحاس متولي البلد في الناسِ: من قَدَرَ على السَّفَرِ فلا يقعُدْ بدمشق، فتصايح النِّساءُ والوِلدان، ورهق الناسَ ذِلَّةٌ عظيمةٌ وخَمدةٌ، وزُلزِلوا زلزالًا شَديدًا، وغُلِّقَت الأسواقُ وتيَقَّنوا أنْ لا ناصِرَ لهم إلا اللهُ عزَّ وجَلَّ، ودخل كثير من الناس إلى البراري والقِفار والمغر بأهاليهم من الكبارِ والصغار، ونودي في الناسِ من كانت نيتُه الجهادَ فليلتَحِقْ بالجيش؛ فقد اقترب وصول التتر، ولم يبق بدمشقَ مِن أكابرها إلا القليل، وجاءت الأخبارُ بوصول التتر إلى سرقين، وخرج الشيخ زين الدين الفارقي والشيخ إبراهيم الرقي وابن قوام وشرف الدين ابن تيمية وابن خبارة إلى نائب السلطنة الأفرم، فقَوَّوا عَزمَه على ملاقاةِ العدو، واجتمعوا بمهنا أمير العرب فحَرَّضوه على قتال العدو، فأجابهم بالسَّمعِ والطاعة، وقَوِيَت نياتهم على ذلك، وخرج طلبُ سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحَربِ والقتال بنيَّات صادقة، ورجع الشيخُ تقي الدين ابن تيمية من الديارِ المِصريَّة في السابع والعشرين من جمادى الأولى على البريد، وأقام بقلعة مصرَ ثمانيةَ أيَّامٍ يَحُثُّهم على الجهاد والخروج إلى العدو، وقد اجتمع بالسلطانِ والوزير وأعيان الدولة فأجابوه إلى الخروجِ، وقد غلت الأسعار بدمشقَ جِدًّا، ثم جاءت الأخبار بأن مَلِكَ التتار قد خاض الفراتَ راجِعًا عامَه ذلك لِضَعفِ جَيشِه وقِلَّةِ عَدَدِهم، فطابت النفوسُ لذلك وسكن النَّاسُ، وعادوا إلى منازِلِهم منشرحين آمنينَ مُستبشرينَ، ولَمَّا جاءت الأخبار بعدم وصول التتار إلى الشامِ في جمادى الآخرة تراجعت أنفُسُ الناس إليهم وعاد نائِبُ السلطنة إلى دمشق، وكان مخيمًا في المرج من مدة أربعة أشهر متتابعة، وهو من أعظَمِ الرباط، وتراجَعَ النَّاسُ إلى أوطانهم.
بعد ما فعل المغول في سمرقند ما فعلوه أخذ جنكيزخان يرسِلُ السَّرايا إلى البلدانِ فأرسل سريةً إلى بلاد خراسان وتسميها التتار المغربة، وأرسل أخرى وراء خوارزم شاه، ثم ساروا إلى مازندران وقلاعها من أمنَعِ القلاع، بحيث إن المسلمين لم يفتحوها إلَّا في سنة تسعين من أيام سليمان بن عبد الملك، ففتحها هؤلاء في أيسَرِ مُدَّة ونهبوا ما فيها وقتَلوا أهاليها كلَّهم وسَبَوا وأحرقوا، ثمَّ ترحلوا عنها نحو الريِّ فدخلوها على حينِ غفلةٍ مِن أهلها فقَتَلوهم وسَبَوا وأسروا، ثم ساروا إلى همذان فمَلَكوها ثم إلى زنجان فقتلوا وسبوا، ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقَتَلوا من أهلها نحوًا مِن أربعين ألفًا، ثم تيمَّموا بلاد أذربيجان فصالحَهم مَلِكُها أزبك بن البهلوان على مالٍ حَمَله إليهم لشُغلِه بما هو فيه من السُّكرِ وارتكابِ السيئات والانهماك على الشَّهواتِ، فتركوه وساروا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف مقاتل، فلم يقفوا بين أيديهم طرفةَ عين حتى انهزمت الكرج, ثم أقبَلوا إليهم مرَّةً أخرى بحدِّهم وحديدِهم، فكسرَتْهم التتار في وقعة ثانية أقبَحَ هزيمة وأشنَعَها، وانقضت هذه السنةُ وهم في بلاد الكرج، فلما رأوا منهم ممانعةً ومقاتلة يطول عليهم بها المقام عَدَلوا إلى غيرهم، وكذلك كانت عادتهم فساروا إلى تبريز فصالحَهم أهلها بمال، ثم ساروا إلى مراغة فحَصَروها ونصبوا عليها المجانيقَ وتترسوا بالأسارى من المسلمين، وعلى البلد امرأةٌ ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا من أهله خلقًا لا يعلم عدتَهم إلا الله عز وجل، وغنموا منه شيئًا كثيرًا، وسَبَوا وأسروا على عادتهم, ثم قصدوا مدينة إربل فضاق المسلمون لذلك ذرعًا، وقال أهل تلك النواحي هذا أمر عصيب، وكتب الخليفةُ إلى أهل الموصل والمَلِك الأشرف صاحب الجزيرة يقول: إني قد جهَّزتُ عسكرًا فكونوا معه لقتالِ هؤلاء التتار، فأرسل الأشرفُ يعتذر إلى الخليفة بأنه متوجِّه نحو أخيه الكامل إلى الديار المصرية بسبب ما قد دهم المسلمين هناك من الفرنج، وأخْذهم دمياط الذي قد أشرفوا بأخذهم له على أخذ الديار المصرية قاطبة، فكتب الخليفة إلى مظفَّر الدين صاحب إربل ليكون هو المقدم على العساكر التي يبعثها الخليفة وهي عشرة آلاف مقاتل، فلم يَقدَم عليه منهم ثمانمائة فارس ثم تفَرَّقوا قبل أن يجتمعوا، ولكنَّ الله سلم بأن صرف همة التتار إلى ناحية همذان فصالحَهم أهلُها وترك عندهم التتار شحنة، ثم اتفقوا على قتلِ شحنتِهم فرجعوا إليهم فحاصروهم حتى فتحوها قسرًا وقتلوا أهلَها عن آخرهم، ثم ساروا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز ثم إلى بيلقان فقتلوا من أهلها خلقًا كثيرًا وجمًّا غفيرا، وحرقوها وكانوا يفجُرون بالنساء ثم يقتلونهنَّ ويشقون بطونهنَّ عن الأجنَّة ثم عادوا إلى بلاد الكرج وقد استعدت لهم الكرج فاقتتلوا معهم فكسروهم أيضًا كسرة فظيعة، ثم فتحوا بلدانًا كثيرة يقتلون أهلها ويسبون نساءها ويأسرون من الرجالِ ما يقاتلون بهم الحصون، يجعلونَهم بين أيديهم ترسًا يتقون بهم الرميَ وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب، ثم ساروا إلى بلاد اللان والقبجاق فاقتتلوا معهم قتالًا عظيمًا فكسروهم وقصدوا أكبَرَ مدائن القبجاق وهي مدينة سوداق وفيها من الأمتعة والثياب والتجائر شيءٌ كثير جدًّا، ولجأت القبجاق إلى بلاد الروس وكانوا نصارى فاتفقوا معهم على قتال التتار فالتَقَوا معهم فكسرتهم التتار كسرةً فظيعةً جدًّا، ثم ساروا نحو بلقار في حدود سنة620, ففرغوا من ذلك كلِّه ورجعوا نحو مَلِكهم جنكيزخان، هذا ما فعلته هذه السرية المغربة، وكان جنكيزخان قد أرسل سرية في هذه السنة إلى كلانة وأخرى إلى فرغانة فملكوها، وجهز جيشًا آخر نحو خراسان فحاصروا بلخ فصالحهم أهلُها، وكذلك صالحوا مدنًا كثيرة أخرى، حتى انتهوا إلى الطالقان فأعجزتهم قلعتها وكانت حصينةً فحاصروها ستة أشهر حتى عجزوا فكتبوا إلى جنكيزخان فقَدِمَ بنَفسِه فحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى فتحها قهرًا، ثم قتل كل من فيها وكل من في البلد بكماله خاصةً وعامة، ثم قصدوا مدينةَ مرو مع جنكيزخان فقد عسكر بظاهرها نحو من مائتي ألف مقاتل من العرب وغيرهم فاقتتلوا معه قتالًا عظيمًا حتى انكسر المسلمون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم حصروا البلد خمسة أيام واستنزلوا نائبها خديعةً ثم غدروا به وبأهل البلد فقتلوهم وغَنِموهم وسلبوهم وعاقبوهم بأنواع العذاب، حتى إنهم قتلوا في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان، ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا فيها ما فعلوا بأهل مرو، ثم إلى طوس فقتلوا وخربوا مشهدَ علي بن موسى الرضا، وخربوا تربة الرشيد الخليفة فتركوه خرابًا، ثم ساروا إلى غزنة فقاتلهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسَرَهم ثم عادوا إلى ملكهم جنكيزخان، وأرسل جنكيزخان طائفة أخرى إلى مدينة خوارزم فحاصروها حتى فتحوا البلد قهرًا فقتلوا من فيها قتلًا ذريعًا، ونهبوها وسبوا أهلها وكسروا الجسر الذي يمنع ماء جيحون منها فغرقت دورها وهلك جميع أهلها ثم عادوا إلى جنكيزخان وهو مخيم على الطالقان فجهز منهم طائفة إلى غزنة فاقتتل معهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم جلال الدين كسرة عظيمة، واستنقذ منهم خلقًا من أسارى المسلمين، ثم كتب إلى جنكيزخان يطلب منه أن يبرز بنفسِه لقتاله، فقصده جنكيزخان فتواجَها وقد تفَرَّق على جلال الدين بعضُ جيشه ولم يبق بدٌّ من القتال، فاقتتلوا ثلاثة أيام لم يُعهَد قبلها مثلها من قتالهم، ثم ضَعُف أصحاب جلال الدين فذهبوا فركبوا بحر الهند فسارت التتار إلى غزنة فأخذوها بلا كلفة ولا ممانعة.
نزَلَ أفتكين التركي غلامُ مُعِزِّ الدولة- الذي كان قد خرج عن طاعتِه بسبَبِ الفِتنةِ التي جَرَت بين التُّرك والديلم وما بعدها، والتَفَّ عليه عساكِرُ وجُيوشٌ من الديلم والتركِ والأعرابِ- نزل في هذه السَّنةِ على دِمشقَ، وكان عليها مِن جِهةِ الفاطميِّينَ الطواشيُّ ريان الخادِمُ مِن جِهةِ المُعِزِّ الفاطميِّ، فلما نزل بظاهِرِها خرج إليه كُبَراءُ أهلِها وشيوخُها، فذكروا له ما هم فيه من الظُّلمِ والغشم ومخالفةِ الاعتقاد بسبَبِ الفاطميِّين، وسألوه أن يأخُذَها ليستنقِذَها منهم، فعند ذلك صَمَّم على أخذِها ولم يزَلْ حتى أخذها وأخرج منها ريانَ الخادِمَ، وكسَرَ أهلَ الشَّرِّ بها، ورفع أهلَ الخيرِ، ووضع في أهلِها العدلَ وقمَعَ أهلَ اللَّعِب واللَّهوِ، وكفَّ أيديَ الأعرابِ الذين كانوا قد عاثوا في الأرضِ فسادًا، وأخذوا عامَّةَ المَرجِ والغُوطة، ونهبوا أهلَها، ولَمَّا استقامت الأمورُ على يديه وصَلَحَ أمرُ أهل الشام، كتب إليه المعِزُّ الفاطميُّ يَشكُرُ سَعيَه ويَطلُبُه إليه ليخلَعَ عليه ويجعَلَه نائبًا من جِهتِه، فلم يُجِبْه إلى ذلك، بل قطع خُطبتَه من الشَّامِ، وخطَبَ للطائعِ العبَّاسي، ثم قصد صِيدا وبها خَلقٌ من المغاربةِ عليهم ابنُ الشيخ، وفيهم ظالِمُ بنُ موهب العقيلي الذي كان نائبًا على دمشق للمعزِّ الفاطميِّ، فأساء بهم السِّيرةَ، فحاصرهم ولم يَزَلْ حتى أخذ البلدَ منهم، ثم قصد طبريَّةَ ففعل بأهلِها مثلَ ذلك.
بعد فَتحِ العُثمانيين أدرنةَ وغيرَها من المدن الأوروبية، خاف الأمراءُ الأوربيون فكتبوا إلى ملوك أوروبا الغربيَّة وإلى البابا يستنجدون بهم ضِدَّهم، حتى إمبراطور القسطنطينية ذهب إلى بابا الفاتيكان في روما وركع أمامَه وقَبَّل يديه ورجليه ورجاه الدعمَ رَغْمَ الخلاف المذهبي بينهما، فلبَّى البابا النداء وكُتِبَ إلى ملوك أوروبا عامة يُطلَبُ منهم الاستعدادُ للقيام بحرب صليبية جديدة حفاظًا على النصرانيَّة من التقَدُّم الإسلامي الجديد، ولكِنَّ ملك الصرب أورك الخامس الذي خلف اصطفان دوشان لم يتوقَّعْ هذا الدعم السريع من البابا وملوك أوروبا؛ لذا استنهض همَّة الأمراء المجاورين له والذين أصبحوا على مقربةٍ مِن الخطر على حَدِّ زَعمِهم، فلبى دعوتَه أمراءُ البوسنة والأفلاق جنوبي رومانيا وأعداد من الجند المرتزقة، مستغلِّينَ انشغال مراد الأول ببعض حُروبِه في آسيا الصغرى، غيرَ أن الجيش العثماني قد أسرع للقاء أعدائِه فاصطدم بهم على نهرِ مارتيزا غربيَّ بلغاريا فهزمهم هزيمةً مُنكَرةً ولَّوا فيها الأدبارَ لا يَلوُون على شيءٍ! واضطرت إمارةُ نصرانية صغيرة على بحر الإدرياتيك على ساحل يوغوسلافيا اليوم وهي إمارة راجوزه أن ترسِلَ وفدًا إلى السلطان وتعقِدَ معه صلحًا تدفع الإمارةُ بموجبه للدولة العثمانيَّة خمسمائة دوكا ذهبيَّة كجِزيةٍ سَنَوية.