جرت في ليلة الاثنين ويوم الاثنين خامس رجب شنائع؛ وذلك أن مماليك السلطان سكان الطباق بالقلعة نشؤوا على مقت السلطان لرعيَّته، مع ما عندهم من بغض الناس، فنزل كثير منهم في أول الليل، وأخذوا في نهب الناس، وخَطْف النساء والصبيان للفساد، واجتمع عدد كثير من العبيد السود، وقاتلوا المماليك، فقُتِلَ من العبيد خمسة نفر، وجُرِح عدة من المماليك، وخُطِف من العمائم وأخذ من الأمتعة شيء كثير، فكان ذلك من أقبح ما سُمِع به، ثم أخذ المماليك في تتبع العبيد، فقتلوا منهم جماعة، ففر كثيرٌ منهم من القاهرة، واختفى كثيرٌ منهم، فلما نودي بذلك سكن ذلك الشر، وأمِنَ الناس على عبيدهم بعد خوف شديد، ثم نودي بألا يحمِلَ أحد من العبيد السلاح، ولا سيفًا ولا عَصًا، ولا يمشي بعد المغرب، وأن المماليك لا تتعرض لأحد من العبيد، ثم رُسِمَ بمنع المماليك من النزول من طباقهم بالقلعة إلى القاهرة، وذلك أنهم صاروا ينزلون طوائف طوائف إلى المواضع التي يجتمع بها العامة للنزهة، ويتفنَّنوا في العبث والفساد، من أخذ عمائم الرجال واغتصاب النساء والصبيان، وتناوُل معايش الباعة، وغير ذلك، فلم يتم منعُهم، ونزلوا على عادتهم السيئة!!
جمع عبد الله بن حمزة العلوي المتغَلِّب على جبال اليمن جموعًا كثيرةً فيها اثنا عشر ألف فارس، ومن الرجَّالة ما لا يحصى كثرةً، وكان قد انضاف إليه من جندِ المعز بن إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، صاحِب اليمن، خوفًا منه، وأيقَنوا بمُلك البلاد، واقتَسَموها، وخافَهم ابنُ سيف الإسلام خوفًا عظيمًا، فاجتمع قوَّاد عسكر ابنِ حمزة ليلًا ليتَّفِقوا على رأيٍ يكون العمَلُ بمقتضاه، وكانوا اثني عشر قائدًا فنَزَلت عليهم صاعقةٌ أهلكَتْهم، فأتى الخبرُ ابنَ سيف الإسلام في باقي الليلةِ بذلك، فسار إليهم مجِدًّا فأوقع بالعسكَرِ المجتمع، فلم يَثبُتوا له، وانهزموا بين يديه، ووضع السيفَ فيهم، فقَتَل منهم ستةَ آلاف قتيل أو أكثر من ذلك، وثَبَت مُلكُه واستقَرَّ بتلك الأرض.
في ليلةِ أوَّلِ المحَرَّم أخرَجَ مَن في الجُبِّ مِن الأمراء، وقد كان اعتقَلَهم قبل ذلك لأمورٍ رآها منهم، ومنهم من اعتُقِلَ قبل هذا وأُطلِقَ ثمَّ اعتُقِلَ ثانيًا، وهم سنقر الأشقر وجرمك والهاروني وبكتوت وبيبرس وطقصوا ولاجين، وأمر بخَنقِهم أمامَ السلطان، فخُنِقوا بأجمعِهم حتى ماتوا، وتولى خنقَ لاجين الأميرُ قرا سنقر، فلمَّا وضع الوتَرَ في عنقِه انقطع، فقال: "يا خوند، مالي ذنب إلا حميي طقصوا وقد هلك، وأنا أطَلِّقُ ابنته، وكان قرا سنقر له به عناية، فتلطَّف به ولم يعجَلْ عليه، لما أراد الله من أن لاجين يقتُلُ الأشرفَ ويَملِكُ مَوضِعَه، وانتظر أن تقَعَ به شفاعة، فشفَعَ الأمير بدر الدين بيدرا في لاجين، وساعَدَه مَن حضر من الأمراء، فعفا عنه ظنًّا أنه لا يعيشُ!
كان السُّلطانُ طُغرلبك في قِلَّةٍ مِن العَسكرِ، بينما إبراهيمُ ينال كان قد اجتَمعَ معه كَثيرٌ من الأَتراكِ، وحَلفَ لهم أنَّه لا يُصالِح أَخاهُ طُغرلبك، ولا يُكَلِّفُهم المَسيرَ إلى العراقِ، وكانوا يَكرهونَه لِطُولِ مَقامِهم وكَثرةِ إخراجاتِهم، فلم يَقوَ به طُغرلبك، وأتى إلى إبراهيمَ محمدٌ وأَحمدُ ابنا أَخيهِ أرتاش في خَلْقٍ كَثيرٍ، فازداد بهم قُوَّةً، وازداد طُغرلبك ضَعْفًا، فانزاحَ من بين يَديهِ إلى الرَّيِّ، وكاتَبَ ألبَ أرسلان وإخوتَه وهُم أولادُ أَخيهِ داودَ، يَستَدعِيهم إليه، فجاؤوا بالعَساكِر الكَثيرةِ، فلَقِيَ إبراهيمَ بالقُربِ مِن الرَّيِّ، فانهزَمَ إبراهيمُ ومن معه وأُخِذَ أَسيرًا هو ومحمدٌ وأَحمدُ وَلَدا أَخيهِ، فأَمَرَ به فخُنِقَ بِوَتَرِ قَوسِه تاسعَ جُمادى الآخِرة، وقَتَلَ وَلَدا أَخيهِ معه، وكان إبراهيمُ قد خَرجَ على طُغرلبك مِرارًا، فعَفَا عنه، وإنَّما قَتلهُ في هذه الدَّفعةِ لأنَّه عَلِمَ أنَّ جميعَ ما جَرى على الخَليفةِ كان بِسَببهِ، فلهذا لم يَعْفُ عنه، ولمَّا قَتَلَ إبراهيمَ أَرسلَ طُغرلبك إلى هزارسب بالأهوازِ يُعرِّفهُ ذلك، وعنده عَميدُ المُلْكِ الكندرِيُّ، فسار إلى السُّلطانِ.
هو المَلِكُ سَيفُ الدين غازي بن أتابك زنكي صاحِبُ المَوصِل تَمَلَّكَ المَوصِلَ بعدَ أبيه، واعتَقَلَ ألب أرسلان السلجوقي, وكان عاقِلًا حازِمًا شُجاعًا جَوادًا، محبًّا أهلَ الخَيرِ، لم تَطُلْ مُدَّتُه، وعاش أربعين سنة. وكان أحسَنَ الملوك شكلًا، وله مَدرسةٌ كبيرة بالمَوصِل، وهي من أحسَنِ المدارس، وقَفَها على الفُقَهاءِ الحَنَفيَّة والشَّافعيَّة، توفِّيَ في المَوصِل بمَرَضٍ حادٍّ، ولَمَّا اشتَدَّ مَرَضُه أرسل إلى بغدادَ واستدعى أوحَدَ الزَّمان، فحضَرَ عنده، فرأى شِدَّةَ مَرَضِه، فعالجَه فلم يَنجَعْ فيه الدَّواءُ، وتوفِّيَ أواخِرَ جمادى الآخرة، وكانت ولايتُه ثلاث سنين وشهرًا وعشرين يومًا، توفِّيَ ولم يترك سوى ولدٍ مات شابًّا، ولم يُعقبْ. ولَمَّا تُوفِّيَ سَيفُ الدين غازي كان أخوه قُطب الدين مودود مُقيمًا بالمَوصِل، فاتَّفَق جمال الدين الوزير وزَينُ الدين عليٌّ أميرُ الجَيشِ على تمليكِه، فأحضروه، واستحلفوه وحَلَفوا له، وأركَبوه إلى دارِ السَّلطَنةِ، وزينُ الدين في ركابِه، وأطاعه جميعُ بلاد أخيه سيفِ الدين كالمَوصِل والجزيرةِ والشَّامِ.
لَمَّا ورد رسولُ ملك الخطا التُّرك الكُفَّار على خوارزم شاه، أعاد الجوابَ: إنَّ عَسكَرَك إنَّما قَصَد انتزاعَ بلخ، ولم يأتُوا إلى نصرتي، ولا اجتَمَعْتُ بهم، ولا أمرتُهم بالعبور، إن كنتُ فعلْتُ ذلك، فأنا مقيمٌ بالمال المطلوب مني، ولكِنْ حيث عجزتم أنتم عن الغوريَّة عُدتُم عليَّ بهذا القول وهذا المطلب، وأمَّا أنا فقد صلحت مع الغورية، ودخلت في طاعتِهم، ولا طاعةَ لكم عندي، فعاد الرسولُ بالجواب، فجَهَّزَ ملك الخطا جيشًا عظيمًا وسَيَّرَه إلى خوارزم فحصروها، فكان خوارزم شاه يخرجُ إليهم كل ليلة، ويقتُلُ منهم خلقًا، وأتاه من المتطوِّعة خلقٌ كثير، فلم يَزَلْ هذا فِعْلَه بهم حتى أتى على أكثَرِهم، فدخل الباقون إلى بلادِهم، ورحل خوارزم شاه في آثارهم، وقَصَد بخارى فنازلها وحَصَرها، وامتنع أهلُها منه، وقاتلوه مع الخطا، فلم يَزَلْ هذا دأبَهم حتى ملك خوارزم شاه البلدَ بعد أيام يسيرة عَنوةً، وعفا عن أهله، وأحسَنَ إليهم، وفَرَّقَ فيهم مالًا كثيرًا، وأقام به مُدَّةً ثم عاد إلى خوارزم.
عزل الملكُ المنصورُ نورُ الدين عمر بن علي بن رسول صاحِبُ اليمن الأميرَ فخرَ الدين بن الشلاحِ عن مكَّةَ وأعمالِها، وولَّى محمد بن أحمد بن المسيب على مالٍ يقومُ به وقود عدده مائة فرسٍ كلَّ سنة، فقَدِمَ ابنُ المسيب مكة، وخرج الأميرُ فخر الدين، فسار بنفسِه إلى ابن المسيب وأعاد الجباياتِ والمكوس بمكَّة، وأخذ الصَّدَقةَ الواردة من اليمن، عن مالِ السلطان وبنى حصنًا بنخلةَ يسمى العطشان وحَلَّف هُذيلًا لنَفسِه، ومنع الجندَ النفقةَ فوثب الشريفُ أبو سعد بن علي بن قتادة على ابن المسيب، وقَيَّده وأخذ مالَه، وقال لأهلِ الحرم: إنما فعلتُ به هذا لأني تحقَّقتُ أنه يريد الفرارَ بالمال إلى العراق، وأنا غلامُ مولانا السلطان نور الدين عمر بن رسول والمالُ عندي محفوظٌ والخيلُ والعدد، إلى أن يَصِلَ مرسومه، فلم يكنْ غير أيام، وورد الخبَرُ بموت السلطان نور الدين.
حضر الأمير علاء الدين ألطبغا نائب الملك الظاهر مجد الدين عيسى صاحب ماردين، فأنعم عليه وعلى من معه، وكان سببُ قدومه أنَّ الظاهِرَ عيسى لما قبض عليه تيمورلنك وأقام في أسْرِه، قام ألطبغا بأمر ماردين ومنع تيمورلنك منها، وكان الظاهر قد أقام في مملكة ماردين الملك الصاع شهاب الدين أحمد بن إسكندر بن الملك الصالح صالح، وهو ابنُ أخيه وزوجُ ابنته، فقاتل أصحاب تيمورلنك قتالًا شديدًا، وقتل منهم جماعة، فشقَّ هذا على تيمورلنك، ثم أفرج عن الظاهر بعد أن أقام في أسره سنتين وسبعة أشهر، وحَلَّفه على الطاعة له وإقامة الخُطبة باسمه، وضَرْب السكة له، والقَبْض على ألطبغا وحَمْله، فعندما حضر إلى ماردين فرَّ منه ألطبغا إلى مصر، فرتَّب له السلطان ما يليقُ به، وقَدِمَت رسل تيمور إلى دمشق فعُوِّقوا بها، وحُمِلت كتُبُهم إلى السلطان فإذا فيها طلب أطلمش، فأمر أن يُكتَب إلى أطلمش بما هو فيه ورفيقه من إحسان السلطان، وكتب جوابه بأنه متى أرسل من عنده من أصحاب السلطان خبر إليه أطلمش.
في عاشر شهر صفر جمع الأميرُ الكبير ططر عنده بالأشرفية من القلعة قضاةَ القضاة وأمراء الدولة ومباشريها، وكثيرًا من المماليك السلطانية، وأعلَمَهم بأن نواب الشام والأمير ألطنبغا القرمشي ومن معه من الأمراء المجردين لم يرضوا بما عمل بعد موت المؤيد، ولا بد للناس من حاكم يتولى تدبيرَ أمورهم، ولا بد أن يعيِّنوا رجلًا ترضَونه؛ ليقوم بأعباء المملكة ويستبد بالسلطنة، فقال الجميع: قد رضينا بك، وكان الخليفة حاضرًا فيهم، فأشهد عليه أنَّه فوض جميع أمور الرعية إلى الأمير الكبير ططر، وجعل إليه ولاية من يرى ولايته، وعزل من يريد عزله من سائر الناس، وأن يُعطي من شاء ما شاء، ويمنع من يختار من العطاء، ما عدا اللقب السلطاني، والدعاء له على المنابر، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، فإن هذه الثلاثة أشياء باقية على ما هي عليه للملك المظفَّر، وأثبت قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني هذا الإشهاد، وحكم بصحته، ونفذَ حكمه قضاة القضاة الثلاثة، ثم حلف الأمراء للأمير الكبير يمينهم المعهودة.
ثار المسلمون في ليلة عيد ميلاد النصارى على الإسبان، واعتصموا في جبال البشرات لصدور أوامر ملكية تحرم عليهم التحدث بالعربية، وتمنعهم من ممارسة عبادتهم وتقاليدهم، وكانت هذه الثورة بقيادة محمد بن أمية، يُذكَر أن السلطان السعدي الغالب بالله بذل الوعود المعسولة لرسل الثوَّار البورشارات، ووعدهم بالنصر وتقديم كل ما يحتاجونه من عتاد وسلاح ورجال، لكن استمرَّ الغالب بالله محافظًا على روابطه الوديَّة مع فيليب الثاني، وعمل على خِذلان أهل الأندلس! تسارعت الأحداث في إسبانيا، وبلغ عدد المجاهدين في أوائل سنة 976 أكثر من مائة وخمسين ألفًا، وصادف تلك الثورة صعوباتٌ كبيرة بالنسبة للحكومة الإسبانية؛ إذ كانت غالبية الجيش متقدِّمة مع دوق البابا في الأراضي المنخفضة وأثبتت الدوريات البحرية أنها غير قادرة على حرمان الثوار المسلمين من الاتصال بالعثمانيين في الجزائر، فاستنجد المسلمون بالعثمانيين، فجمع قلج علي جيشًا عظيمًا قِوامُه أربعة عشر ألف رجل من رماة البنادق، وستين ألفًا من المجاهدين العثمانيين من مختلف أرجاء البلاد، وأرسلهم إلى مدينتي مستغانم ومازغران؛ استعدادًا للهجوم على وهران، ثم النزول في بلاد الأندلس، وكان يرافق ذلك الجيشَ عددٌ كبيرٌ من المدافع، وألف وأربعمائة بعير محمَّلة بالبارود الخاص بالمدافع والبنادق، ولكن وبسبب سوء تصرف أحد رجال الثورة الأندلسيين إذ انكشف أمره فداهمه الإسبان، وضبطوا ما كان يخفيه من سلاح بعد أن نجح قلج علي في إنزال الأسلحة والعتاد والمتطوعين على الساحل الإسباني، لم تقع الثورة في الموعد المحدَّد لها، لقد قام قلج علي في شعبان سنة 976 ببعث أسطول الجزائر لتأييد الثائرين في محاولتهم الأولى، وحاول إنزال الجند العثماني في الأماكن المتفق عليها، لكن الإسبان كانوا قد عرفوا ذلك بعد اكتشاف المخطَّط، فصدوا قلج علي عن النزول، وكانت الثورة في عنفوانها، وزوابع الشتاء قوية في البحر؛ فالأسطول الجزائري صار يقاوم الأعاصير من أجل الوصول إلى أماكن أخرى من الساحل يُنزل بها المدد المطلوب، إلا أن قوة الزوابع أغرقت 32 سفينة جزائرية تحمل الرجال والسلاح، وتمكَّنت ست سفن من إنزال شحنتِها فوق سواحل الأندلس، وكان فيها المدافع والبارود والمجاهدين، وكان القائد المجاهد قلج علي قد عزم على الذهاب بنفسه ليتولى قيادة الجهاد هناك، لكن ما شاع عن تجمع الأسطول الصليبي للقيام بمعركة حاسمة مع المسلمين وأمْر السلطان العثماني له بالاستعداد للمشاركة في هذه المعركة- جعله مضطرًّا للبقاء في الجزائر منتظرًا لأوامر إستانبول، وفي غمرة الثورة الأندلسية اتُّهم قائد الثورة ابن أمية بالتقاعس عن الجهاد، فهاجمه المتآمرون فقتلوه في منزله واختير مولاي عبد الله بن محمد بن عبو بدلًا منه، وبعث قلج علي تعزيزات له ونجح القائد الجديد في حملاته الأولى ضد النصارى الإسبان، وطوَّق جيشُه مدينة أرجيه، انزعجت الحكومة الإسبانية لهذا التطورات، وعينت دون جوان النمساوي على قيادة الأسطول الإسباني (وهو ابن غير شرعي للإمبراطور شارل) فباشر قمع الثورة في سنواتها 977-987 وأتى من الفظائع ما بخلت بأمثاله كتُبُ الوقائع، فذبح النساء والأطفال أمام عينيه، وأحرق المساكنَ ودمَّر البلاد، وكان شعاره لا هوادة، وانتهى الأمر بإذعان مسلمي الأندلس، لكنه إذعان مؤقت؛ إذ لم يلبث مولاي عبد الله أن عاد الكَرَّة، فاحتال الإسبان عليه حتى قتلوه غيلةً ونصبوا رأسه فوق أحد أبواب غرناطة زمنًا طويلًا.
سار أبو القاسمِ بنُ الحسَنِ بنِ علي بن أبي الحسين أميرُ صقليَّةَ، في عساكرِ المسلمينَ، ومعه جماعةٌ مِن الصَّالحين والعلماء، فنازل مدينةَ مسيني في رمضانَ، فهرب العدوُّ عنها، وعدا المُسلمونَ إلى كسنتة فحصروها أيَّامًا، فسأل أهلُها الأمانَ، فأجابهم إليه، وأخذ منهم مالًا، ورحل عنها إلى قلعةِ جلوا، ففعل كذلك بها وبِغَيرِها، وأمَرَ أخاه القاسِمَ أن يُذهِبَ الأسطولَ إلى ناحية بربولة ويَبُثَّ السَّرايا في جميعِ قلورية، ففعل ذلك فغَنِمَ غنائِمَ كثيرةً، وقتل وسبى، وعاد هو وأخوه إلى المدينةِ.
هو الفقيه الكبير، قاضي العراق، أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة بن أبي رهم - وهو بدري من السابقين المهاجرين- بن عبد العزى القرشي، ثم العامري. كان أبو بكر من علماء قريش، ولاه المنصور القضاء، وكان خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن صاحب النفس الزكية، وكان على صدقات أسد وطيء، فقدم على محمد بأربعة وعشرين ألف دينار، فلما قتل محمد، أُسر ابن أبي سبرة وسجن، ثم استعمل المنصور جعفر بن سليمان على المدينة، وقال له: إن بيننا وبين ابن أبي سبرة رحما، وقد أساء وأحسن، فأطلقه وأحسن جواره. وكان الإحسان أن عبد الله بن الربيع الحارثي قدم المدينة ومعه العسكر، فعاثوا بالمدينة، وأفسدوا. فوثب على الحارثي سودان المدينة والرعاع، فقتلوا جنده، وطردوهم، ونهبوا متاع الحارثي، ثم كسر السودان السجن، وأخرجوا ابن أبي سبرة حتى أجلسوه على المنبر، وأرادوا كسر قيده، فقال: ليس على هذا فوت، دعوني حتى أتكلم. فتكلم في أسفل المنبر، وحذرهم الفتنة، وذكرهم ما كانوا فيه، ووصف عفو المنصور عنهم، وأمرهم بالطاعة. فأقبل الناس على كلامه، وتجمع القرشيون، فخرجوا إلى عبد الله بن الربيع، فضمنوا له ما ذهب له ولجنده، ثم رجع ابن أبي سبرة إلى الحبس، حتى قدم جعفر بن سليمان، فأطلقه وأكرمه، ثم صار إلى المنصور، فولاه القضاء. قال ابن عدي: عامة ما يرويه أبو بكر غير محفوظ، وهو في جملة من يضع الحديث. قال ابن سعد: ولي القضاء لموسى الهادي، وهو ولي عهد، ثم ولي قضاء مكة لزياد بن عبيد الله. توفي ابن ابي سبرة ببغداد, وقد عاش ستين سنة، فلما مات، استقضي بعده القاضي أبو يوسف.
استنجد محمَّدُ الرابع بن إسماعيل مَلِكُ غرناطة بأبي الحَسَنِ علي بن عثمان مَلِك بني مرين لاستردادِ ثَغرِ جبل طارق من الأسبان الذين استولوا عليه سنة 709 فاستجاب أبو الحسَنِ لهذه الدعوة وأرسل جَيشًا بقيادةِ ابنه أبي مالك، فحصَلَت معركةٌ بَحَريَّةٌ أمام جبل طارق هُزِمَ فيها القشتاليون واستسلمت حاميةُ الجبل فاسترَدَّها المسلمون من الأسبان، ثم بعد فترة تم اغتيال محمد الرابع بن إسماعيل بتحريضٍ من مُنافِسيه في المُلكِ، فتَمَّ استخلاف أخيه أبي الحَجَّاج يوسف الأول بن أبي الوليد إسماعيل، وهو فتى في السادسة عشرة من عُمُرِه.
هو بِشرُ بنُ غِياثِ بنِ أبي كريمةَ العَدَويُّ، مولاهم، البغداديُّ، المِرِّيسيُّ. شيخُ المعتزلة، وأحدُ من أضَلَّ المأمونَ، كان والِدُ بِشرٍ يهوديًّا، وصنَّف بِشرٌ كِتابًا في التَّوحيدِ، وكِتابَ (الإرجاء)، وكِتابَ (الرَّدُّ على الخوارجِ)، وكِتاب (الاستطاعة)، و(الرَّدُّ على الرَّافضةِ في الإمامةِ)، وكِتاب (كُفرُ المُشَبِّهة)، وكِتاب (المعرفة)، وكِتابُ (الوعيد) .نظَر في الفقهِ أوَّلَ أمرِه فأخذ عن القاضي أبي يوسُفَ، وروى عن حمَّادِ بنِ سَلَمةَ، وسُفيانَ بنِ عُيَينةَ. ثُمَّ نظر في عِلمِ الكلامِ، فغلب عليه، ودعا إلى القولِ بخلقِ القرآنِ، حتى كان عينَ الجَهْميَّةِ في عصرِه وعالِمَهم، فمقَتَه أهلُ العلمِ، وكفَّره عِدَّةٌ منهم، ولم يُدرِكْ جَهْمَ بنَ صَفوانَ، بل تلقَّف مقالاتِه من أتباعِه . ومات بِشرٌ سنةَ 218هـ.وقد وقَف العُلَماءُ منه موقفًا شديدًا، ونُقِل عن كثيرٍ تكفيرُه، ومنهم: سفيانُ بنُ عُيَينةَ، وعبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ، وعبَّادُ بنُ العوَّامِ، وعليُّ بنُ عاصمٍ، ويحيى بنُ سعيدٍ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ مَهديٍّ، ووكيعٌ، وأبو النَّضرِ هاشِمُ بنُ القاسِمِ، وشبابةُ بنُ سوارٍ، والأسودُ بنُ عامرٍ، ويزيدُ بنُ هارونَ، وبِشرُ بنُ الوليدِ، ويوسُفُ بنُ الطَّبَّاعِ، وسُليمانُ بنُ حسَّانَ الشَّاميُّ، ومُحمَّدٌ ويَعلَى ابنا عُبَيدٍ الطَّنافسيَّانِ، وعبدُ الرَّزَّاقِ بنُ همَّامٍ، وأبو قتادةَ الحرَّانيُّ، وعبدُ الملِكِ بنُ عبدِ العزيزِ الماجِشونُ، ومُحمَّدُ بنُ يوسُفَ الفِريابيُّ، وأبو نُعَيمٍ الفضلُ بنُ دُكَينٍ، وعبدُ اللهِ بنُ مَسلَمةَ القَعْنبيُّ، وبِشرُ بنُ الحارثِ، ومُحمَّدُ بنُ مُصعَبٍ الزَّاهِدُ، وأبو البَختريِّ وَهبُ بنُ وَهبٍ السَّوائيُّ المدنيُّ قاضي بغدادَ، ويحيى بنُ يحيى النَّيسابوريُّ، وعبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ الحُمَيديُّ، وعليُّ بنُ المدينيِّ، وعبدُ السَّلامِ بنُ صالحٍ الهَرَويُّ، والحَسَنُ بنُ عليٍّ الحلوانيُّ .وسبَبُ هذا الموقِفِ الشديدِ تجاهَه أنَّ الأصولَ والمناهِجَ التي سلكها المِرِّيسيُّ أصولٌ ومناهِجُ كُفريَّةٌ تقومُ على التلبيسِ والخِداعِ اللَّفظيِّ، وذلك أنَّه قد توسَّع في بابِ التأويلاتِ وصَرفِ النُّصوصِ، وخاض فيها أكثَرَ ممَّن سبقه من الجَهْميَّةِ، فآراؤه ومقالاتُه تمثِّلُ المرحلةَ الثَّالثةَ من مراحلِ الجَهْميَّةِ وأطوارِها بَعدَ الجَعْدِ والجَهْمِ؛ لأنَّ المِرِّيسيَّ نهَج نهجًا أكثَرَ تلبيسًا وتمويهًا وخُبثًا من أسلافِه، حيث كان منهَجُ الجَعْدِ والجَهْمِ يصادِمُ النُّصوصَ بعُنفٍ، أمَّا المِرِّيسيُّ فقد سلك مسلَكَ التأويلِ، وعَرَض مَذهَبَ الجَهْميَّةِ بأسلوبٍ ماكرٍ، ولديه شيءٌ من العِلمِ والفقهِ، يُلبِّسُ به على النَّاسِ. ومن وُجوهِ خُطورةِ فِكرِه أنَّ توسُّعَه في بابِ التأويلاتِ صار نهجًا لكثيرٍ من المُتكلِّمين بَعدَه، كابنِ فُورَك، والبغداديِّ، والشَّهْرَستانيِّ، والجُوَينيِّ، والرَّازيِّ، والماتُريديِّ، وأتباعِهم من متأخِّري الأشاعِرةِ والماتُريديَّةِ.
هو أحمدُ بنُ عليِّ بنِ شُعَيبِ بن علي بن سنان بن بحر بن دينار، أبو عبد الرحمن النَّسائيُّ، صاحِبُ السُّنَن، كان إمامًا في الحديثِ ثِقةً ثبتًا حافِظًا. ولد سنة 215 كان مليحَ الوجهِ، مع كِبَرِ السِّنِّ. وكان يؤثِرُ لباسَ البرود النوبيَّة الخُضر، وكان له أربعُ زوجاتٍ يَقسِمُ لهن، ولا يخلو مع ذلك مِن سُرِّيَّة. وكان يُكثِرُ أكلَ الدُّيوكِ الكِبارِ تُشترى له وتُسمَّن. كان الإمامَ في عصرِه والمُقَدَّمَ على أضرابِه وأشكالِه وفُضَلاءِ دَهرِه، رحل إلى الآفاقِ، واشتغل بسَماعِ الحديثِ والاجتماعِ بالأئمَّةِ الحُذَّاق ومشايخِه الذين روى عنهم مُشافهةً، وقد أبان في تصنيفِه عن حفظٍ وإتقانٍ وصِدقٍ وإيمانٍ، وعلمٍ وعرفانٍ، قال الدارقطني: "أبو عبد الرَّحمنِ النَّسائي مُقَدَّمٌ على كلِّ من يُذكَرُ بهذا العِلمِ مِن أهلِ عَصرِه"، وكان يسمِّي كتابَه (الصَّحيحَ)، وقال أبو عليٍّ الحافِظُ "هو الإمامُ في الحديثِ بلا مدافعةٍ"، وقال أبو الحُسَين محمَّد بن مظفَّر الحافظ: "سمعتُ مَشايخَنا بمِصرَ يعترفون له بالتقَدُّمِ والإمامةِ، ويَصِفونَ مِن اجتهادِه في العبادةِ باللَّيلِ والنَّهارِ ومواظبته على الحَجِّ والجهاد"، وقيل: كان يصومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا، وقال ابن يونس: "كان النَّسائيُّ إمامًا في الحديث ثقةً ثَبتًا حافِظًا"، وقال ابنُ عَدِيٍّ: سمعتُ منصورًا الفقيه وأحمدَ بنَ محمد بن سلامة الطحاويَّ يقولان: "أبو عبدِ الرَّحمنِ النَّسائي إمامٌ مِن أئمة المسلمين، وكذلك أثنى عليه غيرُ واحد من الأئمَّة، وشهدوا له بالفضلِ والتقَدُّمِ في هذا الشأنِ"، وقد قيل عنه: إنَّه كان يُنسَبُ إليه شيءٌ مِن التشيُّع، لكنْ نَقَلَ المِزِّيُّ في تهذيبِ الكمال ما يُبَرِّئُه من ذلك، فقال: "روى الحافِظُ أبو القاسم بإسنادِه عن أبي الحسين علي بن محمد القابسي قال: سمعتُ أبا عليٍّ الحسَنَ بنَ أبي هلال يقول: سُئِلَ أبو عبد الرَّحمنِ النَّسائيُّ عن معاويةَ بنِ أبي سفيانَ صاحِبِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم فقال: إنما الإسلامُ كدارٍ لها بابٌ، فبابُ الإسلامِ الصَّحابةُ، فمن آذى الصحابةَ إنما أراد الإسلامَ، كمن نقر البابَ إنَّما يريد دخولَ الدَّارِ، قال: فمن أراد معاويةَ فإنَّما أراد الصَّحابةَ".