هو الأميرُ طامي بن شعيب المتحمي، أحدُ أشهر أمراء عسير في الدولة السعودية الأولى، تولَّى إمارة الإقليم بعد وفاة ابنِ عمه عبد الوهاب بن عامر «أبو نقطة» المتحمي سنة 1224هـ. كان طامي ذا بِنيةٍ صحيحة وقوية، قصيرًا في بنائه ذا لحية طويلة بيضاء مهيبة، عيناه تقذفان شررًا، يمتاز بروحٍ سَمحة، ومهذَّب تجاه رئيس الأتراك؛ ولذا كان محمد علي بعد اعتقالِه غالبًا ما يتحدَّثُ معه معجبًا به. أبدى طامي نشاطًا كبيرًا لتوطيد الحكم السعودي في عسير والمخلاف السليماني, قاد طامي عملياتٍ عسكريةً ناجحة مكَّنتْه من الاستيلاء على اللحية، ثم الحديدة في اليمن؛ وهي أقصى نقطة وصل إليها الحكم السعودي في اليمن، ومع بداية الحملات العثمانية على الجزيرة العربية التي قادها محمد علي باشا ضدَّ الدولة السعودية الأولى كان لطامي بن شعيب مواقِفُ بطولية، جعلت محمد علي يحسبُ له حسابًا، كان محمد علي قد ركَّز بعد احتلاله لتربة على التقدُّم جنوبًا، فاستولى على رنية، ثم بيشة، وتقدَّم إلى بلاد عسير لتتبع طامي، الذي احتمى في البداية ببلدتِه طبب في عسير، ثم غادرَها وتحصَّن بحصنٍ له في مسلية في وادي بيش، فأرسل محمد علي في طلبِه والبحث عنه، فأدركوه متوجهًا إلى حصن في تهامة فيه مالٌ وسلاح ومتاعٌ، فغدر به حسن بن خالد الحازمي أحَدُ الأشراف، فقبض على طامي, فقُبض عليه في نهاية المطاف، فأخذه محمد علي معه مكبَّلًا بالحديد إلى مصر، حيث أُركِبَ جملًا وطِيفَ به في شوارع القاهرة، ثم أُرسِلَ إلى الأستانة، وشُهِرَ به، ثم أُعدِمَ وصُلِبَ هناك.
هو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن زياد الإسكندراني المالكي صاحبُ التصانيف المشهورة، المعروف بابن الموَّاز، فقيهٌ مالكي، تفقَّه على أصبغ بن الفرج المصري، وعلى ابن الماجِشون، انتهت إليه رياسةُ المذهب المالكي في عصره، فكان المنتهى في تفريعِ المسائل، وكتابه المشهورُ بالموازية يعتبَرُ من الكتب المعتَمَدة في الفقه المالكي، بل قيل: هو أصحُّ كتاب في الفقه المالكي، وعليه العُمدةُ، قَدِمَ دمشقَ في صحبة أحمد بن طولون, وقيل: إنه تزهَّد، وانزوى ببعض الحصونِ الشاميَّة في أواخر عمره، حتى أدركه أجَلُه- رحمه الله تعالى- توفي في دمشق عن 99 عامًا.
خرج مَلِكُ الرُّومِ مِن القُسطنطينيَّةِ في ثلاثمِئَة ألفِ مقاتلٍ إلى الشام، فلم يَزَلْ بعساكِرِه حتى بلغوا قريبَ حَلَب، وصاحِبُها شبل الدَّولةِ نَصرُ بنُ صالحِ بنِ مرداس، فنزلوا على يومٍ منها، فلَحِقَهم عطَشٌ شَديدٌ، وكان الزَّمانُ صَيفًا، وكان أصحابُه مختَلِفينَ عليه، فمِنهم من يحسُدُه، ومنهم من يَكرَهُه، وممَّن كان معه ابنُ الدوقس، ومِن أكابِرِهم، وكان يريدُ هلاكَ المَلِك لِيَملِكَ بعده، فقال المَلِكُ: الرأيُ أن نقيمَ حتى تجيءَ الأمطارُ وتَكثُرَ المياه. فقَبَّحَ ابنُ الدوقس هذا الرأيَ، وأشار بالإسراعِ قَصدًا لشَرٍّ يتطَرَّقُ إليه، ولتدبيرٍ كان قد دبَّرَه عليه. فسار، ففارَقَه ابنُ الدوقس وابنُ لؤلؤٍ في عشرة آلافِ فارسٍ، وسلكوا طريقًا آخَرَ، فخَلا بالمَلِك بعضُ أصحابِه وأعلَمَه أنَّ ابنَ الدَّوقس وابنَ لؤلؤ قد حالفا أربعينَ رَجُلًا، هو أحدُهم، على الفَتكِ به، واستشعَرَ مِن ذلك وخاف، ورحَلَ مِن يومِه راجعًا، ولَحِقَه ابنُ الدوقس، وسأله عن السَّبَبِ الذي أوجَبَ عَودَه، فقال له: قد اجتمَعَت علينا العَرَبُ وقَرُبوا منا، وقَبَضَ في الحالِ على ابنِ الدَّوقسِ وابنِ لؤلؤ وجماعةٍ معهما، فاضطرب النَّاسُ واختلفوا، ورحَلَ المَلِكُ، وتَبِعَهم العَرَبُ وأهلُ السوادِ حتى الأرمن يقتُلونَ ويَنهَبونَ، وأخذوا من المَلِكِ أربعَمِئَة بغلٍ مُحَمَّلة مالًا وثيابًا، وهَلَك كثيرٌ مِن الرومِ عَطَشًا، ونجا المَلِكُ وحده، ولم يَسلَمْ معه من أموالِه وخزائِنِه شيءٌ البتَّةَ، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}، وقيلَ في عودِه غيرُ ذلك، وهو أنَّ جَمعًا من العَرَبِ ليس بالكثيرِ عَبَرَ على عَسكَرِه، وظَنَّ الرُّومُ أنَّها كبسةٌ، فلم يَدرُوا ما يفعلونَ، حتى إنَّ مَلِكَهم لَبِسَ خُفًّا أسودَ، وعادةُ مُلوكِهم لُبسُ الخُفِّ الأحمَرِ، فتَرَكه ولَبِسَ الأسودَ لِيُعَمِّيَ خَبَرَه على مَن يريدُه، وانهزموا، وغَنِمَ المسلمونَ جميعَ ما كان معهم.
توفِّيَ أماجور والي دمشق، فتولى ابنُه مكانَه، فتجهَّزَ ابنُ طولون ليسيرَ إلى الشام فيَملِكَه، فكتب إلى ابن أماجور له أنَّ الخليفة قد أقطعه الشَّامَ والثغور، فأجابه بالسَّمعِ والطاعة، وسار أحمد، واستخلف بمصرَ ابنَه العباس، فلقيه ابن أماجور بالرملة، فأقره عليها وسار إلى دمشق فمَلَكَها وأقرَّ أماجور على أقطاعِهم، وسار إلى حمص فملَكَها وكذلك حماة، وحلب. وراسلَ سيما الطويل بأنطاكية يدعوه إلى طاعتِه ليُقِرَّه على ولايته، فامتنع، فعاوده فلم يُطِعْه، فسار إليه أحمد بن طولون، فحَصَره بأنطاكيَّة، وكان سيئَ السيرة مع أهل البلد، فكاتبوا أحمد بن طولون، ودلُّوه على عورة البلد، فنصَبَ عليه المجانيقَ وقاتَلَه، فمَلَك البلدَ عَنوةً، والحِصنَ الذي له، وركب سيما وقاتلَ قتالًا شديدًا حتى قُتِل ولم يعلَمْ به أحدٌ، فاجتاز به بعضُ قوَّاده، فرآه قتيلًا فحمَلَ رأسَه إلى أحمد، فساءه قَتلُه. ورحل عن أنطاكية إلى طرسوس، فدخلها وعزم على المُقام بها وملازمة الغُزاة، فغلا السِّعرُ بها وضاقت عنه وعن عساكِرِه، فركب أهلُها إليه بالمخيم وقالوا له: قد ضَيَّقْتَ بلَدَنا وأغليتَ أسعارَنا؛ فإمَّا أقمْتَ في عددٍ يَسيرٍ، وإمَّا ارتحلْتَ عنَّا، وأغلظوا له القولَ، وشَغَّبوا عليه، فقال أحمد لأصحابه: لتنهَزِموا من الطرسوسيين، وترحلوا عن البلد، ليظهَرَ للنَّاسِ وخاصةً العدُوَّ أنَّ ابن طولون على بُعدِ صِيتِه وكثرةِ عَساكِرِه لم يقدِرْ على أهل طرسوس؛ وانهزم عنهم ليكونَ أهيبَهم في قلبِ العَدُو، وعاد إلى الشام. فأتاه خبَرُ ولده العباس- وهو الذي استخلفه بمصرَ- أنه قد عصي عليه، وأخذ الأموالَ وسار إلى بُرقة مُشاقًّا لأبيه، فلم يكتَرِثْ لذلك، ولم ينزعِجْ له، وثبتَ وقضى أشغاله، وحَفِظَ أطراف بلاده، وتَركَ بحرَّانَ عسكرًا وبالرِّقَّة عسكرًا مع غلامِه لؤلؤ، وكان حرَّان لمحمد بن أتامش، وكان شجاعًا فأخرجه عنها وهزمه هزيمةً قبيحةً، فلمَّا بلغ خبَرُه أخاه موسى بن أتامش، وكان شُجاعًا بطلًا فجمع عسكرًا كثيرًا وسار نحو حَرَّان، وبها عسكَرُ ابن طولون، ومُقَدَّمُهم أحمد ابن جيعويه، فلما وصله خبَرُ مسيرِ موسى أقلقَه ذلك وأزعجه، ففَطِنَ له رجلٌ مِن الأعرابِ، يقال له أبو الأغر، فقال له: أيُّها الأميرُ، أراك مفكِّرًا منذ أتاك خبَرُ ابن أتامش، وما هذا محلَّه؛ فإنَّه طيَّاشٌ قَلِقٌ، ولو شاء الأميرُ أن آتيَه به أسيرًا لفعلتُ، فغاظه قولُه، وقال: قد شئتُ أن تأتيَ به أسيرًا؛ قال: فاضمُمْ إليَّ عشرينَ رجلًا أختارُهم، قال: افعَلْ، فاختار عشرينَ رجلًا وسار بهم إلى عسكر موسى، فلمَّا قاربَهم كَمَنَ بعضُهم، وجعل بينه وبينهم علامةً إذا سَمِعوها ظهروا. ثم دخل العسكرَ في الباقينَ في زي الأعرابِ، وقارب مُضارَب موسى، وقصد خيلًا مربوطةً فأطلَقَها وصاح هو وأصحابُه فيها فنَفَرت، وصاح هو ومَن معه من الأعراب، وأصحابُ موسى غارُّون، وقد تفَرَّق بعضُهم في حوائجهم، وانزعج العسكَرُ، ورَكِبوا ورَكِبَ موسى، فانهزم أبو الأغَرِّ من بين يديه، فتَبِعَه حتى أخرجه من العسكرِ، وجاز به الكمينَ، فنادى أبو الأغَرِّ بالعلامة التي بينهم، فثاروا من النواحي، وعطفَ أبو الأغرِّ على موسى فأسَروه، فأخذوه وساروا حتى وصلوا إلى ابنِ جيعويه، فعَجِبَ الناس من ذلك، فسيَّرَه ابن جيعويه إلى ابن طولون، فاعتَقَله وعاد إلى مصر.
هو الشيخُ الإمام الثبت العلامة الفقيهُ المحدِّث الشيخ عمر بن علي بن يحيى بن مصطفى الطحلاوي المالكي الأزهري، تفقه على الشيخ سالم النفراوي وحضر دروس الشيخ منصور المنوفي، والشهاب ابن الفقيه، والشيخ محمد الصغير الورزازي، وغيرهم، وسمع الحديثَ عن الشهابين أحمد البابلي والشيخ أحمد العماوي، وأبي الحسن علي بن أحمد الحريشي الفاسي، وتمهَّر في الفنون ودرَّس بالجامع الأزهر وبالمشهد الحُسيني، واشتهر أمرُه وطار صيته، وأشير إليه بالتقدُّمِ في العلوم، وتوجَّه إلى دار السلطنة في قضاء مهمة لأمراء مصر، فقوبل بالإجابة وألقى هناك دروسًا في الحديث في آيا صوفيا، وتلقى عنه أكابرُ العلماء هناك في ذلك الوقت، وصُرف معزَّزًا مقضيًّا حوائجه، وذلك سنة 1147. ولما تمم عثمان كتخدا القزدغلي بناء مسجده بالأزبكية في تلك السنة عيَّن الطحلاوي للتدريس فيه، وذلك قبل سفره إلى الديار الرومية، وكان مشهورًا في حسن التقرير وعذوبة البيان وجودة الإلقاء، وقرأ الموطأ وغيرَه بالمشهد الحسيني، وأفاد وأجاز الأشياخ, وكان للناس فيه اعتقادٌ حسنٌ، وعليه هيبةٌ ووقار وسكونٌ، ولكلامه وقْعٌ في القلوب. توفي ليلة الخميس حادي عشر صفر من هذه السنة، وصُلي عليه في الأزهر في مشهد حافل.
هو صاحب دمشق شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك بوري بن طغتكين التركي. تملَّك بعد أبيه في رجب سنة 526، وكان بطلًا شجاعًا شهمًا مِقدامًا كآبائه، فخافته الفرنج واستنقذ بانياس منهم في يومين، وكانت الإسماعيلية باعوها لهم من سبع سنين، وسعر بلادهم وأوطأهم ذلًّا، ففرح الناس بشهامته وفَرْط شجاعته، واحتملوا ظلمه. قُتِل في ربيع الآخر، وكان سبب قتله أنه ركب طريقًا شنيعًا من الظلم ومصادرات العمال وغيرهم من أعمال البلد، وبالغ في العقوبات لاستخراج الأموال، ثم ظهر عنه أنه كاتَبَ عماد الدين زنكي يسلِّمُ إليه دمشق ويحثُّه على سرعة الوصول، ويقول له: إن أهملتَ المجيء سلَّمتُها إلى الفرنج، وظهر الخبر بذلك في دمشق فامتعض أصحاب أبيه وجده لذلك وأقلقهم، ثم إن أمه ارتقبت الفرصة في الخلوة من غلمانه، فلما رأته على ذلك أمرت غلمانَها بقتله فقُتِل، وأمرت بإلقائه في موضع من الدار ليشاهِدَه غلمانه وأصحابه، فلما رأوه قتيلًا سُروا لمصرعه وبالراحة من شَرِّه، وقيل: كان سبب قتله أن والده كان له حاجب اسمه يوسف بن فيروز وكان متمكِّنًا منه حاكمًا في دولته، ثم في دولة شمس الملوك، فاتُّهِم بأم شمس الملوك، ووصل الخبر إليه بذلك، فهَمَّ بقتل يوسف فهرب منه إلى تدمر، وتحصَّن بها، وأظهر الطاعة لشمس الملوك، فأراد قَتلَ أمه، فبلغها الخبر فقتلته خوفًا منه، ولما قُتِل ملك بعده أخوه شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري، وجلس في منصبه وحلف له الناسُ كُلُّهم واستقَرَّ في الملك.
بعد القتال الذي دار بين أمراء بني نصر على الملك، بقيت هذه الفتنة بينهم إلى أن تم الاتفاق على أن تنقسمَ المملكة إلى قسمين؛ القسم الأول: وهو غرناطة ومالقة، يكون تحت ملك أبي عبد الله محمد بن سعد المعروف بالزغل، والقسم الثاني: وهو القسم الشرقي يكون تحت ملك ابن أخيه محمد بن علي المعروف بأبي عبد الله الصغير، ولكن هذا الأخير لم يلبث أن نقض الاتفاق وظهر فجأة في ساحة البيازين بغرناطة، وأذاع عقده للصلح مع الإسبان، وأنهم أمدوه بالرجال والعتاد، وبينما كان الأمير محمد بن سعد الزغل في طريقه إلى غرناطة بلغه خبر أن غرناطة قد قامت بدعوة ابن أخيه محمد بن علي, وأنه دخل البلد بقيام البيازين معه وملكه لها، وقتل القواد الذين كانوا بالبلد يقاتلونه، فرجع الأمير محمد بن سعد عند ذلك على عَقِبه يريد البشرة، فسار إلى وادي آش ممتنعًا بقواته فيها، وبعد هذا الاستيلاء انقسم ما تبقى من غرناطة إلى قسمين؛ الأول: ويحوي غرناطة وأعمالها اختص به أبو عبد الله محمد الصغير، الثاني: يضم وادي آش وأعماله اختص به عمه أبو عبد الله محمد الزغل.
لما كان صلاح الدين بمرج عيون، وعلى الشَّقيف، جاءته كُتُبٌ مِن أصحابه الذين جعَلَهم يزكًا- مُقَدِّمة جيشه- في مقابل الفرنجِ على صور، يُخبِرونَه فيها أنَّ الفرنج قد أجمعوا على عبورِ الجِسرِ الذي لصور، وعزموا على حصارِ صيدا، فسار صلاح الدين جريدةً في شجعان أصحابه، سوى من جعَلَه على الشقيف، فوصل إليهم وقد فات الأمرُ، وذلك أن الفرنج قد فارقوا صور وساروا عنها لمقصِدِهم، فلَقِيَهم اليزك على مضيق هناك، وقاتلوهم ومنعوهم، وجرى لهم معهم حَربٌ شديدة وأسروا من الفرنجِ جماعةً، وقتلوا جماعةً، وقُتِل من المسلمين أيضًا جماعة، ولما وصل صلاح الدينِ إلى اليزك وقد فاتته تلك الوقعةُ أقام عندهم في خيمةٍ صغيرة، ينتظر عودةَ الفرنج لينتَقِمَ منهم، ويأخذ بثأرِ مَن قتلوه من المسلمين، ثم حصَلَت بينهم عدَّةُ وقعات.
قام خير الدين بربروسا بالهجومِ على جزر البليار الإسبانية وعلى سواحلها الجنوبية، فاجتاز مَضِيقَ جبل طارق، وأطلق العِنانَ لنفسِه بالانقضاض على السفُن الإسبانية والبرتغالية العائدة من الأراضي الأمريكية، والمحمَّلة بالذهب والفضة، فاهتَزَّت لتلك الأحداث جميعُ الأوساط النصرانية، وأقلقت شارل الخامس ملك إسبانيا الذي اعتقد أنَّ خير الدين لن يقوى شأنُه بعد حادثة تونس السابقة، ويُعتبَر ذلك هو ردَّ الفعل على الهجوم المضادِّ الذي قام به الإسبان على تونس، وبدا وكأن الإمبراطوريةَ الرومانيةَ المقدَّسة قد طُوِّقت من قِبَل خصومها الفرنسيين والعثمانيين؛ مما أدى إلى استئناف الحروب بينهما من جديدٍ، كما صارت أهداف إسبانيا والبرتغال واحدةً، وذلك في احتلال مراكزَ في بلاد المغرب بالإضافة إلى خوفهم من تقدُّم العثمانيين داخلَ شِبه الجزيرة الأيبيرية.
ظهر بمصر إنسانٌ يكنى أبا روحٍ، واسمه سكن، وكان من أصحاب ابن الصوفي، واجتمع له جماعةٌ، فقطع الطريق، وأخاف السبيلَ، فوَجَّه إليه ابن طولون جيشًا, فوقف أبو روحٍ في أرض كثيرةِ الشقوق، وقد كان بها قمحٌ فحُصِد، وبقي مِن تبنه على الأرضِ ما يستُرُ الشقوق، وقد ألِفُوا المشي على مثل هذه الأرضِ، فلما جاءهم الجيش لقوهم، ثم انهزم أصحابُ أبي روح، فتبعهم عسكرُ ابن طولون، فوقعت حوافِرُ خيولهم في تلك الشُّقوق، فسقط كثيرٌ مِن فرسانها عنها، وتراجع أصحابُ أبي روح عليهم، فقتلوهم شرَّ قِتلةٍ، وانهزم الباقون أسوأَ هزيمة، فسيَّرَ ابن طولون جيشًا إلى طريقِهم إلى الواحات، وجيشًا في طلبِ أبي روح، فلقيه الجيشُ الذي في طلبه وقد تحصَّنَ في مثل تلك الأرض، فحَذِرَها عسكرُ ابن طولون، فحين بطَلَت حِيَلُهم انهزموا وتَبِعَهم العسكر، فلما خرجوا إلى طريقِ الواحات رأى أبو روح الطريقَ قد مُلِكَت عليه، فراسل يطلُبُ الأمان، فبُذِلَ له، وبَطَلت الحربُ، وكُفِيَ المسلمونَ شَرَّه.
كان ابتداءُ أمر السلطان محمد بن ملكشاه، وهو أخو السلطان سنجر لأبيه وأمه، واستفحل إلى أن خُطِب له ببغداد في ذي الحجة من هذه السنة، ثمَّ في صفر من السنة التالية دخل السلطان بركيارق بن ملكشاه أخو السلطان محمد إلى بغداد، ونزل بدار الملك، وأعيدت له الخُطبة، وقُطِعت خُطبة أخيه محمد، ثم سار فالتقى هو وأخوه محمد بمكانٍ قريب من همدان، فهزمه أخوه محمد ونجا هو بنفسِه في خمسين فارسًا، ولَمَّا جرى ما جرى في هذه الوقعة ضَعُف أمر السلطان بركيارق، ثم تراجع إليه جيشُه وانضاف إليه الأميرُ داود في عشرين ألفًا، فالتقى هو وأخوه مع أخيه سنجر فهزمهم سنجر أيضًا، وهرب بركيارق في شرذمةٍ قليلة، وأُسِر الأمير داود فقتله الأميرُ برغش أحد أمراء سنجر، فضَعُف بركيارق وتفرَّقت عنه رجاله، وقُطِعَت خطبته من بغداد في رابع عشر رجب وأعيدت الخُطبة للسلطان محمد، ثم اصطلح الأخوان على أن يحتَفِظَ بركيارق بأصبهان وفارس وعراق العجم، ويكون لأخيه محمد أذربيجان وأرمينية وديار بكر.
هو الفقيه الكبير، قاضي العراق، أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة بن أبي رهم - وهو بدري من السابقين المهاجرين- بن عبد العزى القرشي، ثم العامري. كان أبو بكر من علماء قريش، ولاه المنصور القضاء، وكان خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن صاحب النفس الزكية، وكان على صدقات أسد وطيء، فقدم على محمد بأربعة وعشرين ألف دينار، فلما قتل محمد، أُسر ابن أبي سبرة وسجن، ثم استعمل المنصور جعفر بن سليمان على المدينة، وقال له: إن بيننا وبين ابن أبي سبرة رحما، وقد أساء وأحسن، فأطلقه وأحسن جواره. وكان الإحسان أن عبد الله بن الربيع الحارثي قدم المدينة ومعه العسكر، فعاثوا بالمدينة، وأفسدوا. فوثب على الحارثي سودان المدينة والرعاع، فقتلوا جنده، وطردوهم، ونهبوا متاع الحارثي، ثم كسر السودان السجن، وأخرجوا ابن أبي سبرة حتى أجلسوه على المنبر، وأرادوا كسر قيده، فقال: ليس على هذا فوت، دعوني حتى أتكلم. فتكلم في أسفل المنبر، وحذرهم الفتنة، وذكرهم ما كانوا فيه، ووصف عفو المنصور عنهم، وأمرهم بالطاعة. فأقبل الناس على كلامه، وتجمع القرشيون، فخرجوا إلى عبد الله بن الربيع، فضمنوا له ما ذهب له ولجنده، ثم رجع ابن أبي سبرة إلى الحبس، حتى قدم جعفر بن سليمان، فأطلقه وأكرمه، ثم صار إلى المنصور، فولاه القضاء. قال ابن عدي: عامة ما يرويه أبو بكر غير محفوظ، وهو في جملة من يضع الحديث. قال ابن سعد: ولي القضاء لموسى الهادي، وهو ولي عهد، ثم ولي قضاء مكة لزياد بن عبيد الله. توفي ابن ابي سبرة ببغداد, وقد عاش ستين سنة، فلما مات، استقضي بعده القاضي أبو يوسف.
وجَّه الملك عبد العزيز بعد دخولِه مكَّةَ دعوةً لمجموعة من العلماء والأعيان فاجتمعوا، فقال يخاطبهم:"إنَّ ديارًا كديارِكم تحتاجُ إلى اهتمامٍ زائدٍ في إدارة شؤونها، وعندنا مَثَلٌ يعرِفُه الناسُ جميعًا: أهلُ مكَّةَ أدرَى بشِعابِها. فأنتم أعلم ببلدِكم من البعيدين عنكم، وما أرى لكم أحسَنَ مِن أن تُلقى مسؤوليات الأعمال على عواتِقِكم، وأريد منكم أن تعَيِّنوا وقتًا تجتَمِعُ فيه نخبةٌ من العلماء والأعيان والتجَّار، وينتَخِبُ كُلُّ صِنفٍ مِن هؤلاء عددًا معيَّنًا كما ترتضون وتقرِّرون، وذلك بأوراق تمضونَها من المجتمعين بأنهم ارتضَوا أولئك النفر لإدارة مصالحهم العامة، والنظرِ في شؤونهم، ثم يستلمُ هؤلاء الأشخاص زمامَ الأمر، فيعيِّنون لأنفسهم أوقاتًا يجتمعون فيها، ويقرِّرون ما فيه المصلحة للبلد، وشكاياتُ الناسِ ومطالبُهم يجب أن يكونَ مرجِعُها هؤلاء النخبةَ من الناس. ويكونون أيضًا الواسطةَ بين الأهلين وبيني، فهم عيون لي وآذانٌ للناس يسمعون شكاويهم وينظرون فيها، ثم يراجعونني، وإني أريد ممن سيجتمعون لانتخاب الأشخاص المطلوبين أن يتحَرَّوا المصلحةَ العامة ويقدِّموها على كل شيء، فينتخبوا أهل الجدارة واللياقة الذين يغارون على المصالح العامة، ولا يقَدِّمون عليها مصالحهم الخاصة، ويكونون من أهل الغَيرة والحميَّة والتقوى، تجِدون بعض الحكومات تجعل لها مجالِسَ للاستشارة، ولكِنَّ كثيرًا من تلك المجالس وهمية أكثَرَ منها حقيقية، تشكَّلُ ليقال إنَّ هنالك مجالسَ وهيئات، ويكون العمل في يدٍ شخصٍ واحدٍ ويُنسَب العمل إلى العموم!! أمَّا أنا فلا أريد من هذا المجلس الذي أدعوكم لانتخابه أشكالًا وأوهامًا، وإنما أريد شكلًا حقيقيًّا يجتَمِعُ فيه رجال حقيقيون يعملون جهدَهم في تحرِّي المصلحة العامة. لا أريد أوهامًا، وإنما أريد حقائقَ. أريد رجالًا يعملون. فإذا اجتمع أولئك المنتَخَبون وأشكل عليَّ أمر من الأمور، رجعت إليهم في حَلِّه وعملتُ بمشورتهم. وتكون ذمتي سالمةً من المسؤوليات، وأريدُ منهم أن يعملوا بما يجِدون فيه المصلحة، وليس لأحدٍ مِن الذين هم أطرافي سلطةٌ عليهم ولا على غيرهم. أريد الصراحة في القول؛ لأن ثلاثةً أكرهُهم ولا أقبلُهم: رجلٌ كذابٌ يكذِبُ عليَّ عن عمدٍ، ورجلٌ ذو هوًى، ورجلٌ متمَلِّقٌ؛ فهؤلاء أبغضُ الناس عندي" فعُقِد بعد ذلك اجتماع أسفر عن انتخاب 12 شخصًا تألف منهم مجلسٌ سمِّي المجلسَ الأهلي، وصدر بيان ملكي عُهِدَ فيه إلى المجلس بالنظر في نظام المحاكِمِ الشرعية، وتدقيق مسائل الأوقاف، ووضْع نظام للأمن الداخلي، وسَنِّ لوائح للبلدية والصحة العامة، ونشر التعليم الديني، وتعميم القراءة والكتابة، وتنظيم التجارة ووسائل البرق والبريد. واستمر العمَلُ في هذا المجلس إلى مطلع عام 1345هـ حيث حُلَّ المجلسُ الأهلي وشُكِّل بدلًا عنه مجلسٌ للشورى.
في هذه السَّنَة ثارَ بعضُ اليَمانِيَّة على مَرْوان بن محمَّد في حِمص وتَدمُر وكذلك في فِلَسطين، فقام بإرسالِ مَن يَقمَعُهم مُستَعينًا بالقَيْسِيَّة، كما خَرَج في الكوفَة عبدُ الله بن مُعاوِيَة الطَّالِبي على بَنِي أُميَّة وبايَعَه بعضُ أَصحابِه ثمَّ هَرَب معهم إلى حلوان وغَلَب على الرَّيِّ وأَصبَهان وهَمدان، وفي الأندَلُس ثارَ بعضُ القَيْسِيَّة بقِيادَة ثَوابَة بن سَلامَة الذي تَولَّى بعدُ إِمارةَ الأندَلُس.