هو عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفِ بن عبدِ عَوفِ بن عبدِ بن الحارِثِ بن زُهْرةَ بن كِلابِ بن مُرَّةَ بن كعبِ بن لُؤَيٍّ، أبو محمَّدٍ. القُرشيُّ الزُهريُّ، أحدُ العشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّةِ، أَسلَم قبلَ أن يَدخُلَ الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم دارَ الأرقمِ، وكان أحدَ الثَّمانيةِ الذين سَبَقوا إلى الإسلامِ، وأحدَ الخَمسةِ الذين أسلموا على يَدِ أبي بكرٍ، وأحدَ السَّابقين البَدْرِيِّين، وأحدَ السِّتَّةِ أهلِ الشُّورى، هاجَر إلى الحَبشةِ وإلى المدينةِ، وآخَى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بينه وبين سعدِ بن الرَّبيعِ، شَهِد المَشاهِدَ كلَّها مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كان كثيرَ الإنفاقِ في سَبيلِ الله عزَّ وجلَّ في عهدِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وبعدَهُ، تُوفِّيَ في المدينةِ وخَلَّفَ مالًا كثيرًا.
جهَّز السلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه جيشًا كثيفًا مع الأمير برشق بن إيلغازي صاحب ماردين إلى صاحب دمشق طغتكين، وإلى أتسز البرسقي ليقاتلهما؛ لأجل عصيانهما عليه، وقطْع خطبته، وإذا فرغ منهما عمد لقتال الفرنج، فلما اقترب الجيش من بلاد الشام هربا منه وتحيَّزا إلى الفرنج، وجاء الأمير برشق إلى كفر طاب ففتحها عَنوة، وأخذ ما كان فيها من النساء والذرية، وجاء صاحب أنطاكية روجيل في خمسمائة فارس وألفي راجل، فكبس المسلمين فقتل منهم خلقًا كثيرًا، وأخذ أموالًا جزيلة وهرب برشق في طائفة قليلة، وتمزَّق الجيش الذي كان معه شَذَرَ مَذَرَ، ثم في ذي القعدة من هذه السنة قدم السلطان محمد إلى بغداد، وجاء إليه طغتكين صاحب دمشق معتذرًا إليه، فخلع عليه ورضي عنه وردَّه إلى عمله.
قَدِمَ البريد من طرابلس بأن الفرنجَ أنشؤوا جزيرةً تجاه طرابلس تُعرَفُ بجزيرة أرواد، وعَمَروها بالعدد والآلات وكثُرَ فيها جمعُهم، وصاروا يركَبونَ البحر ويأخذون المراكِبَ، فرسم للوزير بعمارةِ أربعة شواني حربية، فشرَعَ في ذلك، ثمَّ في صفر هذه السنة توجَّهَ كهرداش إلى جزيرة أرواد، وهى بقُرب طرطوس، وصبَّحَهم في غفلةٍ وأحاط بهم وقاتلَهم ساعةً، فنصره اللهُ عليهم وقَتَلَ منهم كثيرًا، وسألوا الأمانَ فأُخِذوا أسرى في يوم الجمعة ثامِنَ عشرى صفر، واستولى كهرداش على سائِرِ ما عندهم، وعاد إلى طرابلس وأخرجَ الخُمُسَ من الغنائم لتُحمَلَ إلى السلطان، وقَسَمَ ما بَقِيَ فكانت عِدَّةُ الأسرى مائتينِ وثمانينَ، فلَمَّا قَدِمَ البريد من طرابلس بذلك دُقَّت البشائِرُ بالقلعة، وكان فتحُها من تمام فتح السواحِلِ، وأراح اللهُ المسلمينَ مِن شَرِّ أهلِها.
بعد أن أعلنت حريملاء خضوعَها لدولة الدرعية في أوَّلِ الأمر، ثم قام بعض أهلها في هذه السنة بتحريضٍ من قاضيها سليمان بن عبد الوهاب شقيق الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي كان معارضًا لآراء أخيه، قاموا بنقضِ عَهدِهم مع الدعوة والدولة، وأخرجوا من البلدة من لم يستجِبْ دعواهم، ومن بينهم الأمير محمد بن عبد الله بن مبارك، وأخوه عثمان، فقصد هؤلاء المطرودون بلدة الدرعية ونزلوا ضيوفًا على أميرها، ولما خَشِي المتمردون في حريملاء من ردِّ الدرعية عليهم، أرسلوا وفدًا لاسترضاء المطرودين واسترجاعهم إلى بلدتهم. فلما عادوا إليها إذا بقبيلة آل راشد من أهل حريملاء تهجم على هؤلاء العائدين وتفتكُ ببعضِهم، فقتلوا الأمير محمد بن عبد الله وثمانية من أتباعه، وكان من الناجين مبارك بن عدوان الذي فرَّ وطلب النجدة من الدرعية.
اتَّفق رؤساء المهاشير من بني خالد وآل صبيح مع عبد المحسن بن سرداح آل عبيد الله ودويحس بن عريعر على عداوةِ سعدون بن عريعر رئيس بني خالد، وحَربِه، واستنجدوا بثويني بن عبد الله شيخ المنتفق، فتنازلوا مع سعدون في قتالٍ، وقُتِل بينهم كثيرٌ من القتلى، وصارت الكرَّةُ على سعدون ومن معه، فانهزموا وفرَّ سعدون إلى الدرعية وطلَبَ الأمانَ من عبد العزيز لكنَّه لم يجِبْه إلى طلَبِه؛ بسبب هُدنةٍ بينه وبين ثويني شيخ المنتفق، فعزم سعدون دخولَ الدرعية بدون أمانٍ، فشاور الأميرُ الشيخَ فأشار إليه أن يأذَنَ له بالدخولِ، فدخل وأكرمَه عبد العزيز، فلما علم ثويني بذلك تعاظم الأمرَ فاستعطَفَه عبد العزيز فلم ينجَحْ، فقام ثويني بالكيدِ للدرعية وأتباعِها.
سار الأميرُ سعودُ بن عبد العزيز من جميعِ نواحي نجدٍ وعُربانها وقَصَد الشمال، وأغار على سوقِ الشيوخ المعروفِ عند البصرة، وقُتِل منهم قتلى كثيرة وهرب أناسٌ وغَرِقوا بالشطِّ، ثم قصد جهةَ السماوة فأتاه عيونُه وأخبروه بعُربان كثير مجتمعينَ في الأبيض الماء المعروف قرب السَّماوة, فنازلهم على مائِهم ذلك, وكانت تلك العُربان كثيرةٌ مِن عُربان شمر ورئيسُهم مطلق بـن محمد الجربا الفارس المشهور، ومعه عِدَّةٌ من الظفير، وعُربان آل بعيج والزقاريط وغيرهم, ونازلهم سعود وحصل بينهم قِتالٌ شديدٌ حتى حمل عليهم سعودٌ ومن معه فدهموهم في منازِلِهم وبيوتِهم، فقُتِل عِدَّةٌ مِن فرسان شمر وآل ظفير، وقُتِل مطلق الجربا قائِدُهم، فانهزمت القبائِلُ التي معه، وغَنِم سعود أكثَرَ محلَّتِهم وإبلِهم وأمتاعِهم.
بعث الباشا إبراهيمُ عَسكرًا إلى الأحساءِ نحو مائتين وأربعين، مقَدَّمُهم محمد كاشف، فساروا إليه مع عبد الله بن عيسى بن مطلق صاحب الأحساء، وأمرهم الباشا بجَمعِ بيت المال وجميعِ ما كان لآل سعود في الأحساءِ، فقَدِموا وأخذوا أموالًا، وقتلوا رجالًا، وصادروا ما كان لآل سعود فيه وطوارفهم، وقُتِلَ رجالٌ مِن أئمة مساجد الأحساء مِن أهل نجد، وأمسكوا عبد الرحمن بن نامي وحبسوه وأخذوا أمواله وقتلوه، وهرب سيفُ بن سعدون رئيس السياسب من الأحساء، وهرب معه رجالٌ من أتباعه ومن الأعيان، ركبوا البحر، وخرج آلُ عريعر منه، ولم يبقَ لهم فيه أمرٌ ولا نهيٌ، وقصدوا الشمال بعرَباتِهم وبَقِيَت العساكِرُ في الأحساء وعاثوا فيه إلى قريبِ ارتحال الباشا من نجد.
كان الملك عبد الله بن الحسين مَلِكُ الأردن قد وضع أُسُسَ الاتحاد بين المملكتين الهاشميتين، وبعث بهذه الأسس إلى الوصيِّ على ملك العراق عبد الإله، والملك فيصل الثاني، وأرسل الأسُسَ مع وزير بلاطه سمير الرفاعي في 6 شعبان عام 1369هـ / 2 حزيران ليرى الوصيُّ فيها رأيَه، وكان فيها التعاون العسكري وإزالة الموانع الجمركية والمرور، وتنسيق المعارف، وتوحيد السياسة الخارجية، وغيرها من الشروط، ودرست الحكومةُ العراقية هذه الأسُسَ واقترحت مشروعًا آخر فيه أن يكونَ مَلِكُ العراق هو وليُّ عهدِ الأردن، وأن يكونَ الاتحاد بالتاج دون التشريعات الداخلية، وتوحيد العملة، ولكِنَّ مقتل الملك عبد الله المفاجئ في 16 شوال 1370هـ / 20 تموز 1951م حال دون تحقيقِ المشروع.
تُوفِّي الداعيةُ الإسلاميُّ الشيخُ حسن أيوب عن عُمُرٍ يناهِزُ الـ(90) عامًا. والشيخُ حسن أيوب من مواليد محافظة المُنوفية بجمهورية مصرَ العربية ومن عُلماءِ الأزهرِ؛ حيث عَمِل بعدَ تخرُّجِه في كليَّة أُصولِ الدِّين بجامعة الأزهر عامَ (1949م) مدرِّسًا بوِزارة التربية والتعليم المِصريَّة، ثم موجِّهًا بوِزارة الأوقافِ، فمُديرًا لمكتبها الفنيِّ، كما عَمِل الشيخُ أيوب بالكُويت واعظًا وخَبيرًا ومؤلِّفًا في الشُّؤونِ الدينيَّةِ، ثم انتَقَل إلى المملكةِ العربيَّة السُّعودية كأستاذٍ للثَّقافة الإسلامية بجامعةِ الملكِ عبد العزيز، ثم أستاذًا بمعهدِ إعداد الدُّعاة بمكَّةَ المكرمة. وأسهَم الشيخُ حسن أيوب بعشراتِ المؤلَّفات التي تنوَّعَت بين الفقهِ وعُلومِ القُرآن والحديثِ والأَخلاقِ والسِّيرَة. ومن أبرَزِ تلك المؤلَّفات: ((الموسوعة الإسلاميَّة الميسَّرة)) التي نُشِرت في (50) جزءًا من القَطعِ الصَّغيرِ.
الدكتور مصطفى كمال محمود حُسين آل محفوظ، وُلِد عامَ (1921م)، وكان توأمًا لأخٍ توفِّي في العامِ نفسِه، وهو طبيبٌ وكاتبٌ من مواليدِ شبين الكوم بمحافظة المنوفية، درس الطبَّ وتخرَّج عامَ (1953م)، ولكنه تفرَّغ للكتابةِ والبحثِ عامَ (1960م)، تزوَّج مرَّتَين، وانتهى كلا الزواجَين بالطلاق. ألَّف (89) كتابًا، منها الكتبُ العلميةُ والدينيَّةُ والفلسفية والاجتماعيةُ والسياسيَّةُ والحِكاياتُ والمَسرَحياتُ وقَصَص الرِّحْلاتِ، بالإضافة إلى برنامَجِه التلفزيونيِّ (العلم والإيمان). له عددٌ من الكتبِ فيها كثير من الشَّطَحات والفلسفات التَّشكيكيَّةِ، منها: كتاب (الله والإنسان) وكتاب (الشفاعة) وكتاب (محاولة لفهمٍ عصري للقرآن)، وقد أُصيب بجلطةٍ مُخِّيَّة عامَ (2003م) وعاش مُنعزلًا وحيدًا، وتُوفِّي بعد معاناةٍ طويلةٍ مع المرض ظلَّ خلالَها طريحَ الفراشِ.
هو من مواليدِ (1341 هـ / 1923)، ويُعدُّ الأميرُ بَندرُ الابنَ العاشرَ من أبناءِ الملكِ عبدِ العزيزِ آلِ سعودٍ الذكورِ، وترتيبُه بين إخوتِه العاشرُ بعدَ الملكِ فهدٍ مُباشرةً.
لم يتقلَّدْ أيَّ منصِبٍ رسميٍّ في الدولةِ منذُ تأسيسِها، ويُمثِّلُه في هيئةِ البَيعةِ ابنُه الأميرُ فيصل أميرُ مِنطقةِ الرياضِ. كما يشغَلُ أبناءُ الأميرِ بَندرَ مناصِبَ هامَّةً في الدولةِ، من بينِهمُ الأميرُ خالدُ بنُ بَندرَ مُستشارُ الملكِ سلمانَ بنِ عبدِ العزيزِ، والأميرُ تركي بنُ بندرَ قائدُ القوَّاتِ الجويَّة الملكيَّةِ السعوديَّةِ، والأميرُ عبدُ اللهِ بنُ بندرَ وزيرُ الحرسِ الوطنيِّ السعوديِّ.
تُوفِّي رحِمه الله وصُلِّي عليهِ يومَ الاثْنينِ بالمسجدِ الحرامِ، ودُفِنَ بمقبرةِ العدلِ في مكةَ المكرَّمةَ.
كان الحاكِمُ العُبَيديُّ صاحِبُ مِصرَ يواصِلُ الرُّكوبَ وتتصَدَّى له العامَّةُ، فيَقِفُ عليهم ويسمَعُ منهم. وكان النَّاسُ في ضنكٍ مِن العَيشِ معه. فكانوا يدسُّونَ إليه الرِّقاعَ المختومةَ بالدُّعاءِ عليه والسَّبِّ له ولأسلافِه، حتى إنَّهم عَمِلوا تمثالَ امرأةٍ مِن كاغد بخُفٍّ وإزارٍ ثمَّ نَصَبوها له، وفي يَدِها قصَّةً. فأمَرَ بأخْذِها مِن يَدِها، ففتَحَها فرأى فيها العظائمَ، فقال: انظُروا مَن هذه. فإذا هي تمثالٌ مَصنوعٌ. فتقَدَّمَ بطَلَبِ الأمراءِ والعُرَفاء فحَضَروا، فأمَرَهم بالمصيرِ إلى مِصرَ لِنَهبِها وحَرقِها بالنَّارِ وقَتلِ أهلِها, فتوجَّهوا لذلك، فقاتل المصريونَ عن أنفُسِهم بحَسَبِ ما أمكَنَهم. ولحِقَ النَّهبُ والحريقُ الأطرافَ والنواحيَ التي لم يكُنْ لأهلِها قُوَّةٌ على امتناعٍ، ولا قدرةٌ على دفاعٍ. واستَمَرَّت الحربُ بين العبيدِ والرَّعيَّة ثلاثةَ أيام، وهو يركَبُ ويُشاهِدُ النَّارَ، ويَسمَعُ الصِّياح. فيَسأل عن ذلك، فيُقال له: العَبيدُ يَحرِقونَ مِصرَ. فيتوجَّعُ ويقولُ: مَن أمَرَهم بهذا؟ لعَنَهم اللهُ, فلما كان في اليومِ الثَّالثِ اجتمَعَ الأشرافُ والشُّيوخُ إلى الجامِعِ ورَفَعوا المصاحِفَ، وعَجَّ الخَلقُ بالبُكاءِ والاستغاثةِ بالله. فرَحِمَهم الأتراكُ وتقاطَروا إليهم وقاتَلوا معهم. وأرسلوا إلى الحاكِمِ يقولونَ له: نحن عبيدُك ومماليكُك، وهذه النَّارُ في بلَدِك وفيه حَرَمُنا وأولادُنا، وما عَلِمْنا أنَّ أهلَها جَنَوا جنايةً تَقتَضي هذا، فإن كان باطِنٌ لا نَعرِفُه عَرِّفْنا به، وانتَظِرْ حتى نُخرِجَ عيالَنا وأموالَنا، وإن كان ما عليه هؤلاء العَبيدُ مُخالِفًا لرأيِك أطلِقْنا في مُعامَلتِهم بما نعامِلُ به المُفسِدينَ. فأجابهم: إنِّي ما أردتُ ذلك ولا أَذِنتُ فيه، وقد أَذِنتُ لكم في الإيقاعِ بهم، وأرسل للعبيدِ سِرًّا بأنْ كونوا على أمْرِكم، وقَوَّاهم بالسِّلاحِ، فاقتَتَلوا وعاودوا الرِّسالةَ: إنَّا قد عَرَفْنا غَرَضَك، وإنَّه إهلاكُ البَلدِ، ولَوَّحوا بأنَّهم يَقصِدونَ القاهرةَ، فلما رآهم مُستَظهرينَ، رَكِبَ حِمارَه ووقف بين الفَريقينِ، وأومأ إلى العَبيدِ بالانصرافِ، وسَكَنَت الفتنةُ، وكان قَدْرُ ما أُحرِقَ مِن مِصرَ ثُلُثَها، ونُهِبَ نِصفُها. وتتَبَّع المِصريونَ مِن أَسَرَ الزَّوجاتِ والبَناتِ، فاشتَرَوهنَّ مِن العَبيدِ بعد أن اعتُدِيَ عليهنَّ، حتى قَتَل جماعةٌ أنفُسَهنَّ مِن العارِ. ثمَّ زاد ظُلمُ الحاكِمِ، وعَنَّ له أن يَدَّعي الرُّبوبيَّةَ، كما فعَلَ فِرعونُ، فصار قَومٌ مِن الجُهَّالِ إذا رأوه يقولونَ: يا واحد يا أحد، يا محيي يا مميت.
في منتصف محرم - 1 فبراير قامت مظاهراتٌ تطالب بإسقاط الحكومة بعد أن ظهر أنَّها توالي الإنجليز، وصادف ذلك هوًى في نفس فاروق الملك، فأقال الحكومةَ، وكلَّف علي ماهر بتشكيل وزارة جديدة، واستمَرَّت المظاهرات، وفي 17 محرم اتصل السفيرُ الإنجليزي مايلز لامبسون بالملك فاروق، وأخبره أنَّ الحكومة البريطانية تصِرُّ على تغيير الوزارة القديمة، وتشكيل حكومة وفدية برئاسة مصطفى النحاس، واجتمع المَلِكُ بالشخصيات السياسية، وبينها مصطفى ماهر، وفي صبيحة يوم الثامن عشر سلَّم السفير الإنجليزي لمكتب أحمد حسنين رئيس الديوان الملكي إنذارًا إنجليزيًّا خطيرًا، وينص: إذا لم أسمع قبل الساعة السادسة مساء هذا اليومَ أنَّ مصطفى النحاس قد دُعِيَ لتشكيل الوزارة فإن جلالة الملك فاروق يجِبُ أن يتحَمَّل ما يترتب على ذلك من نتائِجَ، فاجتمع الملك ثانية بزعماء مصر السياسيين، وقرأ عليهم الخطاب الذي أشعرهم بالإهانة جميعًا، فقَرَّروا إرسال احتجاج للسفير ووقَّعوه جميعًا، وأجمعوا على تشكيل وزارة وطنية برئاسة مصطفى النحاس الذي أصَرَّ أن تكون وفديةً خالصةً (يعني: كلهم من حزب الوفد) وهذا ما تريدُه إنجلترا؛ لثقتها بالنحاس كما كانت تثِقُ قبله بسعد زغلول فهي تتظاهَرُ في الظاهر بمخالفتِهم ليكبَروا في أعيُنِ الشَّعبِ ويُصبِحوا أبطالًا قوميِّين!! وفي الشدة تستعينُ بهم للاستفادة من زعامتهم، ورفض السفيرُ ذلك الاحتجاج وأخطر رئيسَ الديوان الملكي أنَّه سيزور الملك بنفسِه في التاسعة مساء، وقبل نصف ساعة من الموعد تحرَّكت دبابات بريطانيا وطوَّقت قصر عابدين والزعماء ما يزالون مجتَمِعين فيه، وجاء السفير ودخل كأنَّه مَلِكُ العالَم لا كأنَّه سفير دولة، دخل متغطرسًا فوثب الجميع وقوفًا وسلَّموا عليه، فجلس، وخَيَّرَ الملك فاروق بين أمرين لا ثالثَ لهما إمَّا التوقيع على وثيقة تنازُلِه عن العرش، وإما التوقيع على تكليف مصطفى النحاس بتشكيلِ الوزارة فورًا، فاختار الملك الخيار الثاني فشَكَّلها من أعضاء حزب الوفد، وأرسل مصطفى النحاس خطابَ شكر للسفير الذي بادله برسالةٍ مماثلة!! وبعد تأليف الوزارة في اليوم نفسِه ذهب السفير وهنَّأ النحاس بين هتافاتِ أفراد حزب الوفد بحياة بريطانيا!!
هو أحمد شوقي بن علي بن أحمد شوقي، أميرُ الشعراء، ولد بالقاهرة سنة 1285 ونشأ بها، أمَّا أصلُه فأبوه تركي، وأمُّه يونانية. يقول شوقي عن نفسه: إني عربي، تركي، يوناني، جركسي، أصولٌ أربعة في فروع مجتمعة، تكفلها له مصر، وقد سمع أباه يردُّه إلى الأكراد فالعرب، ويقول: إنَّ والده قَدِمَ هذه الديار يافعًا يحمِلُ وصاةً من أحمد باشا الجزار إلى والي مصر محمد على باشا، فأدخَلَه في معيَّتِه، وظَلَّ يتقَلَّبُ في المناصب السامية حتى أقامه سعيد باشا أمينًا للجمارك المصرية. نشأ أحمد شوقي في بيئة مُترَفة؛ إذ عاش في قصر خديوي مصر؛ حيث كانت جدَّتُه من وصيفات القصر، ودخل كتَّابَ الشيخ صالح بحي السيدة زينب بالقاهرة وهو في الرابعة من عمره، ثم مدرسة المبتديان الابتدائية، ومنها إلى المدرسة التجهيزية، وقد مُنِحَ المجانية نظرًا لتفوُّقِه؛ قال الشعر في الرابعة عشرة من عمره، وأُعجِبَ به أستاذه الشيخ (حسين المرصفي).
وممَّا يدُلُّ على نبوغه الشعري المبكر أنَّ أستاذه في اللغة العربية، وكان شاعرًا فصيحًا بهر بشاعريَّتِه، فكان يجلِسُ منه مجلسَ التلميذ من أستاذه، وكان هذا الشيخُ يَنظِمُ القصائد الطوال في مدح الخديوي توفيق، كلما حلَّ موسم أو جاء عيد، وقبل أن يرسِلَها إلى القصر لكي تُنشَرَ في الصحف يَعرِضُها على شوقي، فيُصلِحُ شوقي فيها، فيمحو هذه الكلمة أو تلك، ويعدل هذا الشطر أو ذاك، أو يُسقِطُ بعض الأبيات، وبعد أن أتمَّ أحمد شوقي تعليمه الثانوي التحق بمدرسة الحقوق لدراسة القانون، وقضى بها سنتين، ثم انضمَّ إلى قسم الترجمة ونال بعد سنتين إجازة للترجمة. وبحُكم تربيته في قصر الخديوي فقد أخذ يُنشِدُ قصائده في مدح الخديوي توفيق، وقد نُشِرَت أولى قصائده في جريدة الوقائع المصرية، ونظرًا لصلة شوقي بالقصر فقد أرسله الخديوي على نفقته في بعثة إلى فرنسا لإتمام دراسته في الحقوق والآداب بجامعة مونبليه بباريس، وعاد شوقي إلى مصر، فعَمِلَ في قسم الترجمة بالقصر، وظلَّ يتدرَّجُ في المناصب حتى أصبح رئيسًا لهذا القسم، وأصبح قريبًا من الخديوي عباس حلمي الذي خلف الخديوي توفيق، وأنيسَ مجلِسِه ورفيق رحلته، وأخذ شوقي يمدحُه بقصائده، حتى سمِّيَ (شاعر الأمير) ولَمَّا شبَّت الحرب العالمية الأولى خلعت إنجلترا بقوةِ الاحتلالِ الخديوي عن عرش مصر، ورأى الإنجليز يومئذ أن يغادر أحمد شوقي البلادَ بسبب شدة ولائه للخديوي، فاختار شوقي برشلونة من أعمال إسبانيا مقرًّا له ولأسرته، ولم يَعُدْ إلى مصر إلا بعد أن عاد السلام إلى العالم، فجُعِلَ من أعضاء مجلس الشيوخ إلى أن توفي. عالج شوقي أكثَرَ فنون الشعر: مديحًا، وغزلًا، ورثاءً، ووصفًا، ثم تناول الأحداثَ السياسية والاجتماعية في مصر والشرق والعالم الإسلامي، فجرى شعرُه على كل لسان. وكانت حياتُه كلها (للشعر) يستوحيه من المشاهدات ومن الحوادث. اتسعت ثروته، وعاش مُترَفًا في نعمة واسعة، ودَعةٍ تتخَلَّلُها ليال (نواسية) وسمَّى منزله (كرمة ابن هاني) وبستانًا له (عشَّ البلبل) وكان يَغشى في أكثر العشيات بالقاهرة مجالِسَ من يأنس بهم من أصدقائه، يلبثُ مع بعضهم ما دامت النكتةُ تسود الحديث، فإذا تحوَّلوا إلى جدل في سياسة أو نقاش في (حزبية) تسلَّل من بينهم، وأَمَّ سواهم. وهو أوَّلُ من جوَّد القَصَص الشعري التمثيلي، بالعربية، وقد حاول قبله أفرادٌ فبَزَّهم وتفَرَّد. وأراد أن يجمَعَ بين عنصرَيِ البيان: الشعر والنثر، فكتب نثرًا مسجوعًا على نمط المقامات، فلم يلقَ نجاحًا، فعاد منصرفًا إلى الشعر، وكان شوقي شاعرًا ذا طبع دقيق، وحِسٍّ صادق، وذوق سليم، وقد عالج شوقي الشعرَ التمثيلي، فنَظَم رواياته المعروفة؛ ومن آثاره: مصرع كليوباترا قصة شعرية، ومجنون ليلى، وقمبيز، وعلي الكبير، والست هدى، وقد جُمِعَ شِعرُه في ديوانه الشوقيات، يقع في أربعة أجزاء. وله في الشعر أيضًا كتاب عظماء الإسلام، ولشوقي نثر مسجوع جمع طائفةً كبيرة منه في كتاب اسمه: أسواق الذهب. توفي في القاهرة.
لَمَّا وليَ أحمد بن طولون مصرَ سكن مدينةَ العسكرِ على عادة أمراء مصرَ من قَبلِه، ثم أحَبَّ أن يبني له قصرًا، فبنى القطائع. والقطائِعُ قد زالت آثارها الآن مِن مصر، ولم يبق لها رَسمٌ يُعرف، وكان موضِعها من قبَّة الهواء، التي صار مكانها الآن قلعةُ الجبل، إلى جامع ابن طولون، وهو طول القطائع، وأمَّا عرضها فإنه كان من أول الرميلة من تحت القلعة إلى الموضع الذي يعرف الآن بالأرضِ الصفراء, وكانت مساحةُ القطائع ميلًا في ميل, وقبة الهواء كانت في السَّطحِ الذي عليه قلعةُ الجبل. وتحت قبة الهواء كان قصرُ ابن طولون. وموضع هذا القصر الميدانُ السلطاني الآن الذي تحت قلعة الجبل بالرميلة, وكان موضع سُوق الخيل والحمير والبغال والجمال بستانًا. يجاورها الميدانُ الذي يُعرَف اليوم بالقبيبات؟ فيصير الميدانُ فيما بين القصر والجامع الذي أنشأه أحمد بن طولون المعروف به. وبجوار الجامع دارُ الإمارة في جهته القبلية، ولها بابٌ من جدار الجامع يخرجُ منه إلى المقصورة المحيطة بمصلَّى الأمير إلى جوار المحراب، وهناك دار الحرم. والقطائع عدَّةُ قِطَع يسكنُ فيها عبيدُ الأمير أحمد بن طولون وعساكِرُه وغِلمانُه. وسبب بناء ابن طولون القصرَ والقطائع كثرةُ مماليكه وعبيدِه، فضاقت دارُ الإمارة عليهم، فركِبَ إلى سفح الجبل وأمرَ بحرث قبور اليهود والنصارى، واختطَّ موضعهما وبنى القصرَ والميدان، ثمَّ أمر أصحابَه وغلمانه أن يختطُّوا لأنفُسِهم حول قصره وميدانِه بيوتًا فاختطوا وبنوا حتى اتَّصل البناءُ بعمارة الفسطاط- مصر القديمة- ثم بُنِيَت القطائع، وسُميت كلُّ قطيعةٍ باسم من سكنها. فكان للنُّوبة قطيعة مفردة تُعرَف بهم، وللرُّوم قطيعة مُفردة تُعرف بهم، وللفرَّاشين قطيعة مفردة تُعرَف بهم، ولكلِّ صِنفٍ من الغِلمانِ قطيعةٌ مفردة تُعرفُ بهم، وبنى القُوَّادُ مَواضِعَ متفَرِّقة، وعُمِرَت القطائعُ عِمارةً حسنةً وتفَرَّقت فيها السِّكَكُ والأزِقَّة، وعُمِرَت فيها المساجد الحِسان والطواحين والحمَّامات، والأفران والحوانيت والشوارع, ولَمَّا بنى ابن طولون القصرَ والميدان، وعَظُمَ أمرُه زادت صدقاتُه ورواتبُه حتى بلغت صدقاتُه المرتَّبة في الشهر ألفي دينار، سوى ما كان يطرأ عليه من مصاريفَ أخرى، وكان يقول: هذه صدقات الشكر على تجديدِ النِّعَم، ثم جعل مطابخَ للفقراء والمساكين في كلِّ يوم، فكان يذبَحُ فيها البقر والغنم ويفرِّقُ للنَّاسِ في القدور الفخَّار والقصع، ولكل قصعةٍ أو قدر أربعةُ أرغفة: في اثنين منها فالوذج، والاثنان الآخران على القِدْر أو القصعة، وكان في الغالب يُعمَلُ سماطٌ عظيم وينادى في مصر: من أحبَّ أن يحضر سماطَ الأميرِ فلْيحضر، ويجلس هو بأعلى القصرِ ينظر ذلك ويأمرُ بفتح جميع أبواب الميدان ينظُرُهم وهم يأكلونَ ويَحمِلون فيسُّرُه ذلك، ويحمد اللهَ على نعمته. وجعل بالقُربِ مِن قَصرِه حُجرةً فيها رجالٌ سمَّاهم بالمكَبِّرين عِدَّتُهم اثنا عشر رجلًا، يبيت في كلِّ ليلةٍ منهم أربعة يتعاقبون بالليلِ نُوبًا، يكَبِّرون ويهَلِّلون ويسبِّحون ويقرؤونَ القرآنَ بطيبِ الألحان ويترسَّلون بقصائدَ زُهديَّة ويؤذنونَ أوقاتَ الأذانِ.