الموسوعة التاريخية

عدد النتائج ( 1111 ). زمن البحث بالثانية ( 0.011 )

العام الهجري : 617 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1220
تفاصيل الحدث:

بعد استيلاء المغول على بخارى وما كان فيها منهم رحلوا نحو سمرقند وقد تحقَّقوا عجز خوارزم شاه عنهم، وهم بمكانه بين ترمذ وبلخ، واستصحبوا معهم من سَلِمَ من أهل بخارى أسارى، فساروا بهم مشاةً على أقبح صورة، فكلُّ من أعيا وعجز عن المشي قتلوه، فلما قاربوا سمرقند قدَّموا الخيَّالة، وتركوا الرجَّالة والأسارى والأثقال وراءهم، حتى تقدموا شيئًا فشيئًا، ليكون أرعبَ لقلوب المسلمين؛ فلما رأى أهل البلد سوادهم استعظموه، فلما كان اليومُ الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال، ومع كل عشرةٍ من الأسارى عَلَم، فظن أهل البلد أن الجميعَ عساكر مقاتلة، وأحاطوا بالبلدِ وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية، وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة، فخرج إليهم شجعان أهله، وأهل الجلد والقوة رجالة، ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحدٌ؛ لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين، فقاتلهم الرجَّالة بظاهر البلد، فلم يزل التتر يتأخَّرون، وأهل البلد يَتبَعونهم، ويطمعون فيهم، وكان الكفار قد كمنوا لهم كمينًا، فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم وحال بينهم وبين البلد، ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولًا، فبَقُوا في الوسط، وأخذهم السيفُ من كل جانب، فلم يسلَمْ منهم أحد، قتلوا عن آخرهم، وكانوا سبعين ألفًا على ما قيل، فلما رأى الباقون من الجند والعامة ذلك ضَعُفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك، فقال الجند: وكانوا أتراكًا: نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا، فطلبوا الأمان، فأجابوهم إلى ذلك، ففتحوا أبوابَ البلد، ولم يقدِر العامة على منعهم، وخرجوا إلى الكفَّار بأهلهم وأموالهم، فقال لهم الكفار: ادفعوا إلينا سلاحَكم وأموالكم ودوابَّكم ونحن نسيركم إلى مأمنِكم، ففعلوا ذلك، فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعوا السيف فيهم وقتلوهم عن آخِرِهم، وأخذوا أموالَهم ودوابَّهم ونساءهم، فلما كان اليوم الرابع نادوا في البلد أن يخرج أهله جميعهم، ومن تأخَّرَ قتلوه، فخرج جميعُ الرجال والنساء والصبيان، ففعلوا مع أهل سمرقند مثل فعلِهم مع أهل بخارى من النهب، والقتل، والسبي، والفساد، ودخلوا البلدَ فنهبوا ما فيه، وأحرقوا الجامِعَ وتركوا باقي البلد على حاله، وافتضُّوا الأبكار، وعذَّبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال، وقتلوا من لم يصلح للسبي، وكان ذلك في المحرَّم، وكان خوارزم شاه بمنزلته كلمَّا اجتمع إليه عسكر سيره إلى سمرقند، فيرجعون ولا يقدرون على الوصولِ إليها.

العام الهجري : 643 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1246
تفاصيل الحدث:

هو الإمامُ الحافظُ الكبيرُ، محَدِّث العراق، ومؤرِّخُ العصر، محبُّ الدين، أبو عبد الله محمَّد بن محمود بن حسن بن هبة الله بن محاسن بن النجار البغدادي, مولِدُه سنة 578. كان والدُه مقدمَ النجَّارين بدار الخلافة، وكان من العوام. أولُ سماع لابن النجار سنة ثمان وثمانين، وأول دخولِه في الطلب وهو حَدَثٌ سنة ثلاث وتسعين، سمع الكثيرَ ورحل شرقًا وغربًا، وهو صاحب كتاب ذيل التاريخ المعروف جعَلَه ذيلًا لتاريخ بغداد للخطيب البغدادي. قال ابن النجار في أول (تاريخه): "كنت وأنا صبيٌّ عَزَمتُ على تذييل (الذيل) لابنِ السَّمعاني، فجمعتُ في ذلك مسوَّدة، ورحلت وأنا ابن ثمان وعشرين سنة، فدخلت الحجازَ والشام ومصر والثغر وبلاد الجزيرة والعراق والجبال وخراسان، وقرأت الكتبَ المطولات، ورأيتُ الحفَّاظَ، وكنتُ كثير التتبُّع لأخبار فضلاء بغداد ومَن دخَلَها". قال الذهبي: "ساد ابنُ النجَّار في هذا العلم, واشتهر، وكتب عمَّن دَبَّ ودرج من عالٍ ونازل، ومرفوعٍ وأثَر، ونظمٍ ونَثر، وبرَعَ وتقدم، وصار المشارَ إليه ببلده، ورحل ثانيًا إلى أصبهان في حدود العشرينَ، وحجَّ وجاور، وعمل (تاريخًا) حافلًا لبغداد ذيَّلَ به على الخطيب واستدرك عليه فيه، وهو في مائتي جزء، ينبئ بحِفظه ومعرفتِه، وقد قرأتُ عليه (ذيل التاريخ) وكان مع حفظِه فيه دينٌ وصيانةٌ ونُسُك". وقد شرع في كتابة التاريخ وعمره خمس عشرة سنةً، وقرأ بنفسِه على المشايخِ كثيرًا حتى حصل نحوًا من ثلاثة آلاف شيخٍ، من ذلك نحوٌ من أربعمائة امرأة، وتغَرَّب ثماني وعشرين سنة، ثم جاء إلى بغداد وقد جمع أشياءَ كثيرة، من ذلك القَمَر المنير في المسند الكبير، يذكُرُ لكلِّ صحابيٍّ ما روى، وكَنز الأيام في معرفة السُّنَن والأحكام، والمختَلِف والمؤتَلِف، والسابق واللاحق، والمتَّفِق والمفترِق، وكتاب الألقاب، ونهْج الإصابة في معرفة الصَّحابة، والكافي في أسماء الرِّجال، وغير ذلك مما لم يتمَّ أكثرُه, وله أخبارُ مكَّة والمدينة وبيت المقدس، وغُرَر الفوائد وأشياء كثيرة جدًّا، وذكر أنَّه لما عاد إلى بغداد عُرِضَ عليه الإقامة في المدارس فأبى وقال: معي ما أستغني به عن ذلك، وكانت وفاتُه يوم الثلاثاء الخامس من شعبان، وله من العمر خمسٌ وسبعون سنة وصُلِّيَ عليه بالمدرسة النظامية، وشهِدَ جنازته خلقٌ كثير، وكان ينادى حول جنازته هذا حافِظُ حديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان ينفي الكذبَ عنه، ولم يترك وارثًا.

العام الهجري : 672 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1274
تفاصيل الحدث:

هو الفيلسوف الرياضي الفلكي نصير الدين أبو جعفر محمد بن عبد الله الطوسي، كان يقال له المولى نصير الدين، ويقال الخواجا نصير الدين، اشتغل في شبيبتِه وحصَّل علم الأوائلِ جيدًا، وصَنَّف في ذلك في علم الكلامِ، وشرح الإشارات لابن سينا، حتى كان رأسًا في علم الأوائل، لا سيَّما معرفة الرياضة وصنعة الأرصاد، فإنه فاق بذلك على الكبار. اشتغل في بداية أمرِه على المعين سالم بن بدران المصري المعتزلي، المتشيِّع الرافضي فنزع فيه عروق كثيرة منه، حتى أفسد اعتقادَه، وزَرَ نصير الدين لأصحاب قلاع ألموت من الإسماعيلية، ثم وزر لهولاكو، وكان ذا حُرمة وافرة ومنزلةٍ عاليةٍ عند هولاكو, وكان معه في واقعة بغداد، وقيل إنه أشار على هولاكو خان بقتل الخليفةِ بعد أن كان أحدُ منجِّمي هولاكو حذَّره من مغبة ذلك، وكان يطيعُه فيما يشير به, وجعله هولاكو على أوقافِ بغداد يتصَرَّف فيها كيف يشاء, فابتنى بمدينةِ مراغة قُبَّة رصد عظيمة ورتَّبَ فيها الحكماء من المنجِّمين والفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والمحدثين والأطباء وغيرهم من أنواع الفضلاء، وجعل لهم الجامكيَّة- الراتب- واتخذ فيها خزانةً عظيمة عالية، فسيحةَ الأرجاء وملأها بالكتب التي نُهِبَت من بغداد والشام والجزيرة، حتى تجمَّعَ فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد. وكان سمحًا، كريمًا، حليمًا حسن العشرةِ، غزيرَ الفضائل، جليلَ القدر، لكنَّه على مذهب الأوائِلِ في كثيرٍ مِن الأصول، نسأل الله الهدى والسَّداد. وله شعرٌ جيد قوي, وله كتابُ أخلاق ناصري بالفارسية ألَّفه لمتملك الإسماعيليَّة لما كان وزيرًا له في ألموت، وله كتاب تجريد العقائد بالعربية، وهو في الفلسفة وعلم الكلام، وله إثبات العقل الفعال وشرح كتاب المجسطي (المنطق) وغير ذلك. قال ابن القيم: " صارع محمد الشهرستانى ابن سينا في كتاب سماه "المصارعة" أبطل فيه قولَه بقدم العالم وإنكار المعاد، ونفى علمَ الرب تعالى وقدرته، وخلقه العالم، فقام له نصير الإلحاد وقعد، ونقَضَه بكتاب سماه "مصارعة المصارعة" ووقَفْنا على الكتابين نصر فيه: أن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام. وأنه لا يعلم شيئًا، وأنه لا يفعل شيئًا بقدرته واختياره، ولا يبعث من في القبور, وبالجملة فكان هذا الملحِدُ هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر". توفي في بغداد في ثاني عشر ذي الحجة، وله خمس وسبعون سنة.

العام الهجري : 819 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1416
تفاصيل الحدث:

دخل فصل الربيع، وقد فشا في الناس الموت بالطاعون، وأُحصيَ من ورد اسمُه الديوان ممن مات بالقاهرة في مدة شهر أوله عاشر المحرم، فكان ثلاثة آلاف إنسان، ثم تجاوز عدد من يرد اسمه الديوان من الأموات مائة نفس في اليوم، وهذا سوى من يموت بالمارستان، وفي عدة مواضع خارج المدينة، ويكون ذلك نحو الخمسين نفسًا، وكانت عدة من صُلِّي عليه من الأموات بمصلى باب النصر خاصة من أول النهار إلى آذان الظهر اثنين وتسعين ميتًا، وشنع ما يحكى من تواتر نزول الموت في الأماكن، بحيث مات في أسبوع واحد من درب واحد ثلاثون إنسانًا، وكثير من الدور يموت منها العشرة فصاعدًا، وقدم الخبر بكثرة الوباء أيضًا ببلاد الصعيد، وفي طرابلس الشام، وأُحصي من مات بها في مدة أيام، فكانت عدتهم عشرة آلاف إنسان، وكثر الوباء أيضًا بالوجه البحري من أراضي مصر، وقدم الخبر بأن معظم أهل مدينة من صعيد مصر قد ماتوا بالطاعون، وفي شهر ربيع الأول كثر الموتان بالقاهرة ومصر، وتجاوزت عدة من ورد اسمه الديوان من الموالي الثلاثمائة، وتوهم كل أحد أن الموت آتيه عن قريب؛ لسرعة موت من يُطعن، وكثرة من يموت في الدار الواحد، وتواتر انتشار الوباء في جميع أراضي مصر، وبلاد الشام، والمشرق، بحيث ذكر أنه بأصبهان مات غالب أهلها، حتى صار من يمشي بشوارعها لا يرى أحدًا يمر إلا في النادر، وأن مدينة فاس بالمغرب أحصى من مات بها في مدة ثلاثين يومًا ممن ورد الديوان فكانوا ستة وثلاثين ألفًا سوى الغرباء من المساكين، وأن المساكن عندهم صارت خالية ينزل بها من قدم إليها من الغرباء، وأن هذا عندهم في سنتي سبع عشرة وثماني عشرة، وبلغت عدة من يرد اسمه الديوان من الأموات في الثالث والعشرين ما ينيف على خمسمائة، بما فيهم من موتى المارستان والطرحاء، ومع ذلك والأخبار متواترة بأنه صلِّيَ في هذا اليوم بمصليات الجنائز على ما ينيف على ألف ميت، وأن الكُتَّاب يخفون كثيرًا ممن يرد اسمه إليهم، وانقضى هذا الشهر، وقل دار بالقاهرة ومصر وظواهرهما لم يكن بها حزن على ميت، وأقل ما قيل: إنه مات من عاشر المحرم إلى آخر هذا الشهر عشرون ألفًا، وفي شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: بلغت عدة من ورد اسمه الديوان من الأموات إلى مائة وعشرين سوى المارستان والطرحاء، وقدم الخبر من دمشق بتزايد الموتان عندهم، وأنه يموت في اليوم ستون إنسانًا، وأنه ابتدأ الوباء عندهم من أثناء ربيع الأول، عندما تناقص من ديار مصر.

العام الهجري : 864 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1459
تفاصيل الحدث:

هو الإمام العلامة جلال الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن هاشم بن الكمال الأنصاري المحلي الأصل نسبة للمحلة الكبرى من الغربية بالقاهرة، الشافعي المصري، ويعرف بالجلال المحلي. ولد في مستهل شوال سنة 791 ونشأ بها فقرأ القرآن وحفظ المتون واشتغل في فنون، فأخذ الفقه وأصوله والعربية وأفتى ودرَّس عدة سنين، وله عدة مصنفات، ولم يكمل بعضها، ورُشِّح لقضاء الديار المصرية غير مرة. قال شمس الدين السخاوي: "مهَر المحلي وتقدم على غالب أقرانه وتفنَّن في العلوم العقلية والنقلية، وكان أولًا يتولى بيع البزِّ في بعض الحوانيت ثم أقام شخصًا عوضه فيه وتصدى هو للتصنيف والتدريس والإقراء، فشرح كلًّا من جمع الجوامع والورقات والمنهاج الفرعي والبردة، وأتقنها ما شاء مع الاختصار، وعمل منسكًا وتفسيرًا لم يكمل وغيرهما، ورَغِب الأئمة في تحصيل تصانيفه وقراءتها وإقرائِها وكان شيخنا ابن خضر يكثر من وصفه بالمتانة والتحقيق, وقرأ على جلال الدين من لا يحصى كثرة، وارتحل الفضلاء للأخذ عنه، وتخرج به جماعة درَّسوا في حياته، ولكنه صار بأخرة أيامه يستروح في إقرائه لغلبة الملل والسآمة عليه وكثرة المخبطين، ولا يصغي إلا لمن علم تحرزه خصوصًا، وهو حاد المزاج لا سيما في الحر، وإذا ظهر له الصواب على لسان من كان، رجع إليه مع شدة التحرز، وحدَّث باليسير وسمع منه الفضلاء، وقد ولِيَ تدريس الفقه بالبرقوقية، وبالمؤيَّدية وعرض عليه القضاء فأبى، وشافه الظاهرَ العجزَ عنه، بل كان يقول لأصحابه: إنه لا طاقة لي على النار، وكان إمامًا علامة محققًا نظَّارًا مفرط الذكاء صحيح الذهن؛ بحيث كان يقول بعض المعتبرين: إن ذهنه يثقب الماس، وكان هو يقول عن نفسه: إن فهمي لا يقبل الخطأ، حاد القريحة قوي المباحثة" وأشهر مصنفاته هو التفسير الذي لم يكمله، وأكمله بعده جلال الدين السيوطي، والمعروف اليوم بتفسير الجلالين نسبة إليهما، وله كنز الراغبين في فقه الشافعية، وله البدر الطالع في شرح جمع الجوامع في أصول الفقه، وغيرها من المصنفات, وقد حج مرارًا. توفي بالقاهرة وسنه نحو ثلاث وسبعين بعد أن تعلل بالإسهال من نصف رمضان, وفي صبيحة يوم السبت مستهل محرم سنة أربع وستين، وصلِّيَ عليه بمصلى باب النصر في مشهد حافل جدًّا، ثم دفن مع آبائه بتربته التي أنشأها تجاه جوشن، وتأسف الناس عليه كثيرًا وأثنوا عليه جميلًا ولم يخلف بعده في مجموعة مثله، ورثاه بعض الطلبة بل مدحه في حياته جماعة من الأعيان.

العام الهجري : 923 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1517
تفاصيل الحدث:

لما أخذ السلطان سليم الأول مصر ورأى غالبَ حكامِها من المماليك الذين وَرِثوها عن ساداتهم؛ رأى أنَّ بُعدَ الولايةِ عن مركز الدولة ربما أوجب خروجَ حاكِمِها عن الطاعة وتطَلُّبَه الاستقلال، فجعل حكومة مصر منقسمةً إلى ثلاثة أقسام، وجعل في كل قسم رئيسًا، وجعلهم جميعًا منقادين لكلمة واحدة هي كلمة وزير الديوان الكبير، وجعله مركَّبًا من الباشا الوالي من قِبَله، ومن بيكوات السبع وجاقات، وجعل للباشا مزيةَ توصيل أوامر السلطان إلى المجلس وحَفْظ البلاد وتوصيل الخَراج إلى القسطنطينية، ومنع كلًّا من الأعضاء العلو على صاحبه، وجعل لأعضاء المجلس مزيةَ نقضِ أوامر الباشا بأسبابٍ تبدو لهم وعزله إن رأوا ذلك، والتصديق على جميع الأوامر التي تصدر منه في الأمور الداخلية، وجعل حكَّام المديريات الأربع والعشرين من المماليك، وخَصَّهم بمزية جمع الخَراج في البلاد، وقَمْع العُربانَ وصَدهم عنها والمحافظة على ما في داخلها، وكل ذلك بأوامر تصدرُ لهم من المجلس، وجردَّهم عن التصرف من أنفسِهم، ولقب أحدَهم المقيم بالقاهرة بشيخ البلد، ثم رتب الخراج وقسَّمه أقسامًا ثلاثة، وجعل من القسم الأول ماهية عشرين ألف عسكري بالقطر من المشاة واثني عشر ألفا من الخيالة، والقسم الثاني يرسَل إلى المدينة المنورة ومكة المشرفة، والقسم الثالث يرسَل إلى خزينة الباب العالي، ولم يلتفت إلى راحة الأهالي بل تركها عُرضةً للمضارِّ كما كانت، ومن هذا الترتيب تمكَّنت الدولة العلية من إبقاء الديار المصرية تحت تصرفِها نحو مائتي سنة، ثم أهملت بعد ذلك هذه القوانينَ التي وضعها السلطانُ سليم من حين استيلائِه عليها، وكانت هي الأساس، ولم تلتفت الدولة لما كان يحصُلُ من المماليك من الأمور المخِلَّة بالنظام، فضعُفَت شوكة الدولة وهيبتُها التي كانت لها على مصر، وأخذ البكوات تُكثِرُ من المماليك وتتقَّوى بها، حتى فاقت بقوتها الدولة العثمانية في الديار المصرية، فآل الأمر والنهي لهم في الحكومةِ، وصارت الدولة صوريةً غيرَ حقيقية، وسبب ذلك إكثارُهم من شراء المماليك، ولو كانت الدولة العليَّة تنبهت لهذا الأمر ومنعت بيعَ الرقيقِ، لكانت الأمور باقيةً على ما وضعه السلطان سليم، ولكن غفَلَت عن هذا الأمر كما غفَلَت عن أمور كثيرة؛ ولذلك لحق الأهالي الذلُّ والإهانة، وهاجر كثيرٌ منهم إلى الديار الشامية والحجازية وغيرهما، وخربت البلاد، وتعطلت الزراعة من قلة المزارعين وعدم الاعتناء بتطهير الجداول والخلجان التي عليها مدار الخصب، ونتج من ذلك ومن خوف الدولة العليَّة مِن تمكُّن الباشا في الحكومة: أن تغلَّبَ البكواتُ وصارت كلمتُهم هي النافذةَ، وانفردوا بالتصَرُّف.

العام الهجري : 1407 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1987
تفاصيل الحدث:

الشَّيخ إحسان إلهي ظهير عالِمٌ باكستانيٌّ، حمل لواءَ الحَرْب على أصحابِ الفِرَق الضالَّة، وبيَّنَ مَدى ما هُم فيه من انحرافٍ عن سبيلِ الله تعالى، وحيادٍ عن سُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وُلد في "سيالكوت" شمال شرق البنجاب بباكستان عام 1363هـ من أُسرةٍ تُعرف بالانتماء إلى أهل الحديث، ولمَّا بلغ التاسعة كان قد حفظ القُرآن كاملًا. وقد أكمل دراستَه الابتدائية في المدارس العادية، وفي الوقت نفسه كان يختلفُ إلى العلماء في المساجد، وينهلُ من مَعين العلوم الدينية والشرعية.
حصل الشيخ إحسان على الليسانس في الشريعة من الجامعة الإسلامية في المدينة النَّبويَّة، وكان ترتيبُه الأول على طلبة الجامعة عام 1961م. وبعد ذلك رجع إلى باكستان، وانتظم في جامعة البنجاب، كلية الحقوق والعُلوم السياسية، وفي ذلك الوقت عُيِّن خطيبًا في أكبر مَساجِدِ أهل الحديثِ بلاهور. ثم حصل على الليسانس أيضًا. وظلَّ يدرُسُ حتى حصَلَ على سِتِّ شهاداتِ ماجستير في الشريعة، والسياسة، واللُّغة العربية، والفارسية، والأُردية، وكلُّ ذلك من جامعة البنجاب.
كان رحمه الله رئيسًا لمجمع البحوث الإسلامية، بالإضافة إلى رئاسة تحرير مجلة "ترجمان الحديث" التابعة لجمعيَّة أهل الحديث بلاهور في باكستان، كذلك كان مدير التحرير بمجلَّة أهل الحديث الأسبوعية. وبما أن الشيخ كان سلفيَّ العقيدة؛ من المنتمين لأهل الحديث، فقد جعله هذا في حربٍ فكريَّةٍ دائمةٍ مع الطوائف الضالَّة كالرافضة، والإسماعيلية، والقاديانية. ولما أحسَّ به أهل الانحراف، وشعروا بأنه يخنُقُ أنفاسَهم، ويدحضُ كيدَهم عمدوا إلى التصفيَّة الجسديَّة بطريقةٍ ماكرةٍ، فوضعوا له قنبلة داخل مزهريَّةٍ بجمعية أهل الحديث انفجرت به وبمَن معه أثناء إلقائه محاضرةً مع عددٍ من الدُّعاة والعُلَماء، وذلك في 23 رجب 1407هـ، ليلًا، قتلت سبعةً من العُلَماء في الحال، ولحق بهم بعد مُدَّة اثنانِ آخرانِ. وبقي الشيخ إحسان أربعةَ أيَّامٍ في باكستان، ثم نُقِل إلى الرياض بالمملكة العربية السُّعودية على طائرةٍ خاصَّةٍ بأمرٍ من الملك فهدِ بن عبدِ العزيز، واقتراحٍ من العلَّامة الشَّيخ عبد العزيز بن باز رحمهُمُ الله تعالى. وأُدخل المستشفى العسكريَّ، لكن رُوحه فاضت إلى بارئها في الأول من شعبان عام (1407هـ)، فنُقِل بالطائرة إلى المدينة النَّبويَّة، ودُفن بمقبرة البقيعِ بالقُرب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن آثارِهِ بالإضافة إلى مُحاضراتِهِ في باكستانَ، والكُويت، والعِراق، والمملكة العربية السعودية والمراكز الإسلامية في مُختلف ولايات أمريكا؛ العديدُ من الكُتُب والمؤلَّفات التي سعى إلى جمع مصادرها من أماكنَ مُتفرقةٍ كإسبانيا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيران، ومصر.

العام الهجري : 530 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1136
تفاصيل الحدث:

لَمَّا قُطِعَت خُطبةُ الراشِدِ بالله وخُلِعَ، استشار السُّلطانُ جَماعةً مِن أعيان بغدادَ، منهم الوزيرُ علي بن طراد، وصاحِبُ المخزن، وغيرهما، فيمن يَصلُحُ أن يليَ الخلافة. فقال الوزير: أحدُ عُمومةِ الراشِدِ، وهو رجلٌ صالحٌ. قال: من هو؟ قال: لا أقدِرُ أن أُفصِحَ باسمِه لِئَلَّا يُقتَلَ، فتقَدَّم إليهم بعَمَلِ مَحضَرٍ في خَلعِ الرَّاشِدِ، فعَمِلوا محضرًا ذَكَروا فيه ما ارتكَبَه من أخذِ الأموالِ وأشياءَ تَقدَحُ في الإمامةِ، ثمَّ كَتَبوا فتوى: ما يقولُ العُلَماءُ فيمن هذه صِفَتُه، هل يَصلُحُ للإمامةِ أم لا؟ فأفتَوا أنَّ مَن هذه صِفَتُه لا يصلُحُ أن يكون إمامًا، فلمَّا فرغوا من ذلك أحضروا القاضيَ أبا طاهر بن الكرخي، فشَهِدوا عنده بذلك، فحَكَم بفِسقِه وخَلْعِه، وحَكمَ بعدَه غَيره، ولم يكن قاضي القضاة حاضِرًا ليَحكُمَ؛ فإنَّه كان عند عماد الدين زنكي بالمَوصِل، ثمَّ إنَّ شَرَفَ الدين الوزير ذكَرَ للسُّلطانِ أبا عبدِ اللهِ مُحَمَّدَ بنَ المُستظهِر بالله، ودِينَه، وعَقْلَه، وعِفَّتَه، ولِينَ جانِبِه، فحضر السُّلطانُ دارَ الخلافة ومعه الوزيرُ شرف الدين الزينبي، وصاحبُ المخزن ابن البقشلاني وغيرهما، وأمر بإحضارِ الأميرِ أبي عبد الله محمد بن المستظهر مِنَ المكان الذي يَسكُنُ فيه، فأُحضِرَ وأُجلِسَ في المثمنة، ودخل السُّلطانُ إليه والوزيرُ شَرَف الدين وتحالفا، وقرَّرَ الوزيرُ القواعِدَ بينهما، وخرج السُّلطانُ مِن عنده وحضر الأمراءُ وأربابُ المناصِبِ والقُضاةُ والفُقَهاءُ وبايعوا ثامِنَ عَشَرَ ذي الحجة ولُقِّبَ المقتفيَ لأمر الله، ولَمَّا استُخلِفَ سُيِّرَت الكُتُب الحَكيمةُ بخِلافتِه إلى سائِرِ الأمصار، ثمَّ تتَبَّعَ المقتفي القَومَ الذين أفتَوا بفِسقِ الرَّاشِدِ وكَتَبوا المحضر، وعاقَب مَن استحَقَّ العقوبةَ، وعَزَل من يستحِقُّ العَزْلَ، ونكب الوزيرُ شرف الدين علي بن طراد. وقال المقتفي: إذا فعلوا هذا مع غيري فهم يفعلونَه معي، واستصفى أموالَ الزينبي، واستوزر عِوَضَه سديدَ الدَّولةِ بنَ الأنباري.

العام الهجري : 532 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1137
تفاصيل الحدث:

فارق الرَّاشِدُ باللهِ الخليفةَ المخلوعَ أتابك زنكي من الموصِل وسارَ نحو أذربيجان، فوصَلَ مراغةَ، وكان الأميرُ منكبرس صاحِبُ فارس، ونائبُه بخوزستان الأميرُ بوزابة، والأميرُ عبدُ الرَّحمنِ طغايرك صاحِبُ خلخال، والمَلِكُ داود بن السُّلطان محمود؛ مُستشعرينَ مِن السُّلطانِ مَسعود، خائفينَ منه، فتجَمَّعوا ووافَقوا الرَّاشِدَ على الاجتِماعِ معهم؛ لتَكونَ أيديهم واحدةً، ويَرُدُّوه إلى الخِلافةِ، فأجابهم إلى ذلك إلَّا أنَّه لم يجتَمِعْ معهم، ووصل الخبَرُ إلى السُّلطانِ مَسعود وهو ببغدادَ باجتماعِهم، فسار عنها في شعبانَ نَحوَهم، فالتَقَوا ببنجن كشت، فاقتتلوا، فهزمهم السُّلطانُ مسعود، وأخذ الأميرَ منكبرس أسيرًا فقُتِلَ بين يديه صَبرًا، وتفَرَّقَ عَسكَرُ مسعود في النَّهبِ واتِّباع المنهزمين، وكان بوزابة وعبدُ الرحمن طغايرك على أرضٍ مُرتفعةٍ فرأيا السُّلطانَ مسعودًا وقد تفَرَّقَ عَسكَرُه عنه، فحَمَلا عليه وهو في قِلَّةٍ فلم يَثبُت لهما وانهزَم، وقَبَض بوزابة على جماعةٍ مِن الأمراء: منهم صَدَقةُ بنُ دبيس صاحِبُ الحلة، ومنهم ولد أتابك قراسنقر صاحِبُ أذربيجان، وعنتر بن أبي العَسكَر وغيرُهم، وتَرَكَهم عنده. فلما بلغه قتلُ صاحبه منكبرس قتلهم جميعًا وصار العَسكران مهزومَينِ، وقصد السُّلطانُ مسعود أذربيجان، وقصد المَلِكُ داود همذان، ووصل إليها الرَّاشِدُ بعد الوقعةِ، فاختَلَفت آراءُ الجماعة، فبَعضُهم أشار بقَصدِ العِراقِ والتغَلُّب عليه، وبعضُهم أشار باتِّباعِ السُّلطانِ مَسعود للفراغِ منه؛ فإنَّ ما بعده يَهونُ عليهم. وكان بوزابة أكبَرَ الجماعةِ فلم يَرَ ذلك، وكان غرَضُه المسيرَ إلى بلادِ فارِسَ وأخْذِها بعد قَتلِ صاحِبِها منكبرس قبل أن يمَتِنَع مَن بها عليه، وسار بوزابة إليها فمَلَكها، وصارت له مع خوزستان، وسار سلجوق شاه بن السُّلطانِ محمَّد إلى بغداد ليملِكَها، فخرج إليه البقش الشحنة بها: ونظر الخادم أمير الحاجِّ وقاتلوه ومَنَعوه، وكان عاجزًا مُستضعَفًا، ولَمَّا قُتِلَ صَدَقة بن دبيس أقَرَّ السُّلطان مسعود الحلةَ على أخيه محمَّد بن دبيس وجعَلَ معه مهلهل بن أبي العسكر أخا عنتر المقتول يدَبِّرُ أمرَه.

العام الهجري : 546 العام الميلادي : 1151
تفاصيل الحدث:

جمعَ نُورُ الدِّينِ مَحمود بن زنكي عَسكَرَه وسار إلى بلادِ جوسلين الفرنجي، وهي شَماليَّ حَلَب منها تل باشر، وعين تاب، وإعزاز وغيرها، وعَزَمَ على مُحاصَرتِها وأخْذِها، وكان جوسلين فارِسَ الفِرنجِ غَيرَ مُدافَعٍ، قد جمع الشَّجاعةِ والرَّأيَ، فلَمَّا عَلِمَ بذلك جَمَعَ الفِرنجَ فأكثَرَ، وسار نحوَ نور الدين فالتَقَوا واقتتلوا، فانهزم المُسلِمونَ وقُتِلَ منهم وأُسِرَ جمعٌ كثيرٌ، وكان في جُملةِ مَن أُسِرَ سلاحُ دار نور الدين محمود، فأخذه جوسلين، ومَعَه سلاحُ نور الدين، فسَيَّرَه إلى الملك مسعود بن قلج أرسلان، صاحِبِ قونية، وأقصرا، وقال له: هذا سِلاحُ زَوجِ ابنَتِك، وسيأتيك بعده ما هو أعظَمُ منه، فلمَّا عَلِمَ نور الدين محمود الحالَ، عَظُمَ عليه ذلك، وأعمَلَ الحيلةَ على جوسلين، وهَجَرَ الراحةَ ليأخُذَ بثَأرِه، وأحضَرَ جَماعةً مِن أمراء التركمان، وبذَلَ لهم الرَّغائِبَ إن هم ظَفِروا بجوسلين وسَلَّموه إليه إمَّا قتيلًا أو أسيرًا؛ لأنَّه عَلِمَ أنَّه متى قَصَدَه بنفسه احتمى بجُموعِه وحُصونِه، فجعل التُّركمانُ عليه العُيونَ، فخرج مُتصَيِّدًا، فلَحِقَت به طائفةٌ منهم وظَفِروا به فأخذوه أسيرًا، فصانَعَهم على مالٍ يُؤدِّيه إليهم، فأجابوه إلى إطلاقِه إذا حضَرَ المالُ، فأرسل في إحضارِه، فمضى بعضُهم إلى أبي بكر بن الداية، نائِبِ نورِ الدين بحَلَب، فأعلَمَه الحالَ، فسَيَّرَ عَسكرًا معه، فكَبَسوا أولئك التُّركمانَ وجوسلين معهم، فأخذوه أسيرًا وأحضَروه عنده، وكان أسْرُه من أعظَمِ الفُتوحِ؛ لأنَّه كان شَيطانًا عاتيًا، شديدًا على المُسلِمينَ، قاسيَ القَلبِ، وأُصيبَت النصرانيَّةُ كافَّةً بأسْرِه، ولَمَّا أُسِرَ سار نور الدين إلى قلاعِه فمَلَكَها، وهي تل باشر، وعين تاب، وإعزاز، وتل خالد، وقورس، والراوندان، وبرج الرصاص، وحصن البارة، وكفرسود، وكفرلاثا، ودلوك، ومرعش، ونهر الجوز، وغير ذلك من أعمالِه، في مُدَّةٍ يسيرةٍ، وكان نورُ الدين كلَّما فتح منها حِصنًا نقل إليه مِن كُلِّ ما تحتاجُ إليه الحُصونُ؛ خَوفًا من نَكسةٍ تَلحَقُ بالمُسلِمينَ من الفِرنجِ، فتكون بلادُهم غيرَ مُحتاجةٍ إلى ما يَمنَعُها من العَدُوِّ.

العام الهجري : 795 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1393
تفاصيل الحدث:

هو منطاش الأشرفي نسبةً إلى الأشرف شعبان بن حسين، كان اسمُه تمربغا، ويقال له أخو تمربيه، وكانت لتمربيه منزلةٌ من الأشرف، وتنقل منطاش إلى أنْ ولاه الظاهر برقوق نيابةَ السلطنة بملطية في سنة 788 فجمع كثيرًا من التركمان وأظهر العِصيانَ وانضوى إليه كثيرٌ مِن الأشرفيَّة الذين شَرَّدَهم برقوق لَمَّا تسَلْطَنَ في البلادِ، فلما بلغ الظاهِرَ ذلك جهَّزَ إليه عسكَرَ حلب مع أربعة أمراء من مقَدَّمي الألوف بالقاهرة، فانضوى منطاش إلى برهان الدين صاحب سيواس فحوصر، ثم آل الأمر إلى رجوع العسكر وقد فر منطاش، واتفق أنَّ الناصريَّ عصى على برقوق وكاتبَ نواب البلاد، فوافقوه فراسَلَ منطاش فجمع من أطاعَه، وحضر إلى حلب وذلك سنة 91 فجهَّزَه الناصري إلى حماة فمَلَكَها إلى أن قَدِمَ الناصري بالعسكر، فتوجهوا إلى القاهرة واستولى الناصريُّ على المملكة وأعاد السلطان حاجي، واستقر منطاش أميرًا كبيرًا، ثم استولى منطاش على المملكة، فطاش وكان أهوجَ كثيرَ العطايا، كما قيل نهابًا وهَّابًا، فاعتقل الناصِرَ والجوباني وغيرَهما بالإسكندرية، وفي غضون ذلك بعد دخول سنة 92 بلغه أن الظاهرَ برقوق خلَصَ مِن سجن الكرك وانضَمَّ إليه جماعة، فجهز العسكر وتوجَّه إلى جهته، فوقعت لهم الوقعة الشهيرة، فانهزم منطاش واحتوى الظاهِرُ على المملكةِ وعلى غالب من كان معه مِن رؤوس المملكة, وفي سنة 93 توجه منطاش من جهة العمق إلى أن وصل إلى قربِ دمشق، ولما لم يحصُلْ للعسكر السلطاني منه غَرَضٌ رجعوا إلى أوطانهم، ونازل منطاش دمشقَ فجَهَّزَ له الناصريُّ من هزمه، فتوجه إلى بلاد نعير فأقام عنده ثم راسَلَ الظاهِرُ نعيرًا في أمر منطاش واسترضاه ورَدَّ عليه إمرتَه، وأوسَعَ له في الوعدِ، فغدر بمنطاش وقَبَضَ عليه وجَهَّزَه إلى حلب فاعتقل بقلعَتِها إلى أن جاء الأمرُ بقَتلِه وتجهيز رأسِه، ففُعِلَ به ذلك في سنة 795 وطِيفَ برأسِه بالقاهرةِ، ثم عُلِّقَ على باب زويلة، وكان شجاعًا قَتَّالًا عاليَ الهِمَّة كثيرَ البَذلِ، أهلك جميعَ ما كان الظاهِرُ حَصَّلَه من الأموال في أيسَرِ مُدَّةٍ.

العام الهجري : 822 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1419
تفاصيل الحدث:

في سابع جمادى الأولى استُدعِيَ بطرك النصارى، وقد اجتمع القضاة ومشايخ العلم عند السلطان، فأُوقِفَ على قدميه، ووُبِّخ وقُرِّع، وأنكر عليه ما بالمسلمين من الذلِّ في بلاد الحبشة، تحت حكم الحطي متملِّكِها، وهُدِّد بالقتل، فانتدب له محتسب القاهرة صدر الدين أحمد بن العجمي وأسمعه المكروه له من أجل تهاون النصارى فيما أُمروا به من التزام الذلة والصغار في ملبسهم وهيأتهم، وطال الخطابُ في معنى ذلك إلى أن استقر الحال على ألَّا يباشر أحد من النصارى في ديوان السلطان، ولا عند أحد من الأمراء، ولا يخرج أحد منهم عمَّا يُلزمون به من الصَّغار، ثم طلب السلطان الأكرم فضائل النصراني كاتب الوزير، وكان قد سُجِنَ منذ أيام، فضربه بالمقارع وشَهَره بالقاهرة، عُريانًا بين يدي المحتَسِب، وهو ينادي عليه: هذا جزاء من يباشر من النصارى في ديوان السلطان، ثم سُجِن بعد إشهاره، فانكفَّ النصارى عن مباشرة الديوان ولزموا بيوتهم، وصغَّروا عمائِمَهم، وضيَّقوا أكمامهم، والتزم اليهود مثل ذلك، وامتنعوا جميعهم من ركوب الحمير في القاهرة، فإذا خرجوا من القاهرة ركبوا الحمير عَرضًا، وأنف جماعة من النصارى أن يفعلوا ذلك، وبذلوا جهدهم في السعي لإبطاله، فلما لم يجابوا إلى عودهم إلى ما كانوا عليه، تتابع عدةٌ منهم في إظهار الإسلام، وصاروا من ركوب الحمير إلى ركوبِ الخيول المسوَّمة، والتعاظم على أعيان أهل الإسلام، والانتقام منهم بإذلالِهم، وتعويق معاليمِهم ورواتِبِهم، حتى يخضعوا لهم، ويتردَّدوا إلى دورهم، ويلحُّوا في السؤال لهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونادى المحتسب في شوارع القاهرة ومصر بأن النصارى واليهود لا يمرون في القاهرة إلا مشاةً غيرَ ركَّاب، وإذا ركبوا خارج القاهرة فليركبوا الحمير عرضًا، ولا يلبَسوا إلا عمائم صغيرة الحجم، وثيابًا ضيقةَ الأكمام، ومن دخل منهم الحمَّام فليكُنْ في عنُقِه جَرَس، وأن تلبس نساءُ النصارى الأُزُرَ الزُّرْقَ، ونساءُ اليهود الأزُرَ الصُّفْرَ، فضاقوا بذلك، واشتدَّ الأمر عليهم، فسَعَوا في إبطاله سعيًا كبيرًا، فلم ينالوا غرضًا، وكبست عليهم الحمامات، وضُرِب جماعة منهم لمخالفته، فامتنع كثير منهم عن دخول الحمَّام، وعن إظهار النساءِ في الأسواق.

العام الهجري : 886 العام الميلادي : 1481
تفاصيل الحدث:

بعد أن توفِّي السلطان العثماني محمد الفاتح كان كلٌّ من ولديه بعيدًا عنه، فالأوَّلُ بايزيد وهو الأكبر كان حاكمًا لمقاطعة أماسيا، وكان الآخر جم حاكمًا لقرمان، وكانت رغبة الصدر الأعظم قرماني محمد باشا في تولية الأمير جم؛ لذا أرسل إليه من يخبره بوفاة أبيه كي يأتي بأسرع وقت لتسلم الأمر، غيرَ أن حاكم الأناضول سنان باشا علم بالأمر فقتل رسول الصدر الأعظم حيث كانت رغبة الانكشاريين مع بايزيد؛ ولذلك لما علموا بما فعله الصدر الأعظم ثاروا عليه وقتلوه ونهبوا المدينةَ وأقاموا كركود نائبًا عن أبيه، وعندما وصل الأمير بايزيد استقبله الانكشاريون وبايعوه بالسلطنة وتسلَّم الأمر، أما جم فلما علم بالخبر سار إلى بورصة واحتلَّها عنوةً ودعا أخاه بايزيد لتقسيم البلاد فيستحوذ جم على القسم الآسيوي، ويستحوذ بايزيد على القسم الأوربي، الأمر الذي أثار بايزيد فسار إلى بورصة ففر منه جم ملتجئًا إلى المماليك عند السلطان قيتباي في القاهرة، وبقي عنده سنة ثم عاد إلى حلب وبدأ بمراسلة القاسم حفيد أمراء قرمان ووعده أن يعيد له إمارة قرمان إن تمكن من السلطة، فسارا معا للهجوم على قونية لكنهما فشلا فشلًا ذريعًا، ثم حاول جم الصلح مع أخيه على أن يعطيه مقاطعة فرفض بايزيد؛ لأن هذا سيكون بداية انقسام الدولة العثمانية، ثم التجأ جم إلى رودس حيث يوجد بها فرسان القديس يوحنا، وعقد مع رئيس الفرسان اتفاقًا إلا أنه نقضه تحت ضغط بايزيد وأصبح جم سجينًا في جزيرة رودس، وكسب فرسان القديس يوحنا بهذه الرهينة الخطيرة امتيازات طورًا من بايزيد الثاني، ومرة أخرى من أنصار جم بالقاهرة، فلما تحصَّل على أموال ضخمة باع رهينته للبابا أنوست الثامن، فلما مات هذا البابا ترك جم لخلفه إسكندر السادس، ولكن الأخير لم يبقِ على جم كثيرًا؛ حيث قُتِل واتُّهِم في ذلك بايزيد الثاني الذي تخلص من خطر أخيه.

العام الهجري : 1401 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1981
تفاصيل الحدث:

عُقِدَ هذا المؤتمرُ في مكَّة المكرَّمة في المملكةِ العربية السُّعوديةِ من 19-22 ربيع الأول 1401 هـ، الموافِق 25-28 يناير 1981م، وقد تغيَّب عن المؤتمر كلٌّ مِن جُمهورية إيرانَ الإسلامية، والجَماهيرية العربية اللِّيبية الشَّعبية الاشتراكية، وقد صدَرَ عنه بلاغُ مكَّةَ المشهورُ الذي أصْدَره المشارِكون، وصدَر أيضًا عنه قراراتٌ كثيرةٌ جدًّا؛ سياسيةٌ، وثقافيةٌ، واقتصاديةٌ، تمَسُّ العالَمَ الإسلاميَّ، كما صادَقَ المؤتمرُ أيضًا على الالتزامِ بتَحرير القُدس العربية؛ لِتَكون عاصمةً للدَّولة الفِلَسطينية، وقرَّر استعمالَ جميعِ القُدرات الاقتصاديةِ والمواردِ الطَّبيعية للدولِ الإسلامية؛ مِن أجْل إضْعاف الاقتصاد الإسرائيليِّ، وإيقافِ ما تحصُل عليه إسرائيلُ من دعْمٍ ماليٍّ، واقتصاديٍّ، وسياسيٍّ، وقرَّر المؤتمر دَعْمَ الحكومةِ اللُّبنانية في جميع المجالاتِ الدوليةِ؛ وذلك لِمُمارسةِ أقصى الضُّغوط على العَدُو الإسرائيلي؛ مِن أجْل وَقف عُدوانه على جَنوب لُبنانَ، وأعرَبَ المؤتمرُ عن قَلَقِه الشديدِ إزاءَ استمرار التدخُّل السُّوفيتي المسلَّح في أفغانستانَ، وجدَّد المطالبةَ بانسحابِ جميع القواتِ الأجنبيةِ عن أرضِ أفغانستانَ. وأكَّد المؤتمرُ على أهمِّية التعايشِ بين الدولِ الإسلامية الأعضاءِ على أساسِ العدْل، والمُساواة، والاحترامِ المتبادَلِ، والالتزامِ بعدَم التدخُّل في الشؤونِ الداخليةِ. واتَّفق مُلوك وأُمراءُ ورؤساءُ الدولِ الإسلامية على إعلانِ الجهاد المقدَّسِ؛ لإنقاذ القُدسِ الشريفِ ونُصرةِ الشَّعب الفِلَسطيني، وتَحقيقِ الانسحابِ مِن الأراضي العربية المحتلَّة، وجدَّد المؤتمرُ مُساندته لحكومةِ جُزر القمَرِ وشَعْبِها في النَّضال الذي يَخوضانِه من أجْل عَودة مايوت إلى مَجموع التُّراب الوطني لجُزُرِ القمَرِ. ووافَق المؤتمرُ على إنشاء مَحكمةِ عدْلٍ إسلاميةٍ، وإنشاءِ مجمعِ يُسمَّى (مجمع الفِقه الإسلامي)، يكون أعضاؤه مِن الفُقهاء والعلماءِ والمفكِّرين في شتَّى مَجالات المعرفةِ؛ مِن فِقهيةٍ، وثقافيةٍ، وعِلْمية، واقتصاديةٍ مِن أنحاءِ العالم الإسلاميِّ لدِراسة مُشكلات الحياةِ المعاصرةِ والاجتهادِ فيها اجتهادًا أصيلًا فاعلًا، بهدَفِ تَقديم الحُلول النابعة من التُّراث الإسلاميِّ والمنفتحةِ على تَطوُّرِ الفِكْرِ الإسلامي لتلك المُشكلاتِ.

العام الهجري : 589 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1193
تفاصيل الحدث:

هو السُّلطانُ الكبيرُ، المَلِكُ النَّاصِرُ: صلاح الدين، أبو المظفر يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الكردي الدُوِيني، ثم التِكريتي المولد. صاحِبُ الدِّيارِ المصريَّة والبلادِ الشاميَّة والفُراتيَّة واليمنيَّة، واسطة عقدِ آل أيوب، وشُهرتُه أكبَرُ مِن أن تحتاج إلى التنبيهِ عليه. اتَّفَق أهل التاريخ على أن أباه وأهلَه من دُوِين؛ بلدةٍ في آخِرِ عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج، وأنهم أكرادٌ رَواديِّة، والرَوَاديَّة: بطن من الهَذَبانِيَّة، وهي قبيلةٌ كبيرة من الأكراد. قال ابنُ خَلِّكان: "قال لي رجلٌ فقيه عارِفٌ بما يقول، وهو من أهل دُوِين: إنَّ على باب دوين قريةً يقال لها أجدانقان، وجميع أهلها أكراد رَوَاديَّة، ومولد أيوب بن شاذي والد صلاح الدين وعمه شيركوه بها، ثم أخذ شاذي ولَدَيه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخَرَجَ بهما إلى بغداد، ومِن هناك نزلوا تكريت، ومات شاذي بها، ولقد تتبعت نِسبَتَهم كثيرًا فلم أجِدْ أحدًا ذَكَرَ بعد شاذي أبًا آخر، حتى إنِّي وقفتُ على كتب كثيرة بأوقافٍ وأملاك باسم شيركوه وأيوب، فلم أرَ فيها سوى شيركوه بن شاذي، وأيوب بن شاذي، لا غير" ثم خَدَم أيوب وشيركوه مجاهِدَ الدين بهروز بن عبد الله الغياثي شحنةً بالعراق- الشحنة: القَيِّم لضَبطِ أمن البلد- فلما رأى مجاهِدُ الدين في نجم الدين أيوب عقلًا ورأيًا حسنًا وحُسنَ سيرة، جعله دُزدَار تكريت، أي: حافظ القلعة، وواليها, ثم انتقل أيوب وشيركوه لخدمة عماد الدين زنكي بالموصل، فأحسن إليهما وأقطعهما إقطاعًا حسنًا وصارا من جملة جنده. فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك جعل نجم الدين أيوب واليًا عليها. قال ابن خلكان: " اتفق أربابُ التواريخ أنَّ صلاح الدين وُلِدَ سنة 532 بقلعة تكريت لَمَّا كان أبوه بها، ولم يَزَل صلاح الدين تحت كَنَف أبيه حتى ترعرع, ولما مَلَك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي دمشقَ لازم نجم الدين أيوب خِدمَتَه، وكذلك وَلَدُه صلاح الدين، وكانت مخايلُ السعادة عليه لائحةً، والنجابةُ تُقَدِّمه من حالة إلى حالة، ونور الدين يرى له ويُؤثِرُه، ومنه تعلَّم صلاح الدين طرائِقَ الخيرِ وفِعلَ المعروف والاجتهادِ في أمور الجهاد، حتى تجهَّزَ للمَسيرِ مع عمه شيركوه إلى الديار المِصريَّة" قال الذهبي: "سَمِعَ صلاح الدين من أبي طاهر السِّلَفي، والفقيه علي بن بنت أبي سعد، وأبي الطاهر بن عوف، والقطب النيسابوري، وحدَّث". أمَّر نورُ الدين صلاحَ الدين، وبَعَثَه في عسكره مع عَمِّه أسد الدين شيركوه، فحَكَم شيركوه على مصر، فما لَبِثَ أن توفي، فقام بعدَه صلاح الدين، ودانت له العساكِرُ، وقَهَر بني عُبَيد، ومحا دولَتَهم، واستولى على قصرِ القاهرة بما حوى من الأمتعة والنفائس، منها الجبل الياقوت, وخلا القصرُ مِن أهله وذخائره، وأقام الدعوة العباسية. وكان خليقًا للإمارة مَهيبًا، شُجاعًا حازِمًا مجاهِدًا، كثيرَ الغزو، عاليَ الهِمَّة، كانت دولتُه نيفًا وعشرين سنة. قال ابن خلكان: " قال شيخُنا ابن شداد (في سيرة صلاح الدين): "سمعتُ صلاح الدين يوسف بن أيوب يقول: لَمَّا يَسَّرَ لي الله الديارَ المصرية عَلِمتُ أنه أراد فتح الساحِلِ؛ لأنه أوقع ذلك في نفسي, ثم قال ابن شداد: ومِن حينِ استتَبَّ له الأمر ما زال يشُنُّ الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وبلادهما، وغَشِيَ الناس من سحائِبِ الإفضال والإنعام ما لم يُؤَرَّخْ من غير تلك الأيام، وهذا كلُّه وهو وزيرٌ متابِعُ القوم، لكنه يقومُ بمَذهَبِ أهل السنة، غارسًا في البلاد أهلَ الفقه والعِلمِ والتصوف والدين، والناس يُهرَعون إليه من كلِّ صَوبٍ ويَفِدون عليه من كل جانب، وهو لا يخَيِّب قاصدًا ولا يعدِمُ وافدًا ". تملك بعد نور الدين، واتَّسَعَت بلاده. ومنذ تسلطَنَ طَلَّقَ الخَمرَ واللَّذَّات، وأنشأ سورًا على القاهرة ومصر، وبعث أخاه شمس الدين في سنة ثمان وستين، فافتتح برقة، ثمَّ فتح اليمن، وسار صلاح الدين، فأخذ دمشق مِن ابن نور الدين. وفي سنة إحدى وسبعين حاصر عزاز، ووثبت عليه الباطنية، فجرحوه. وفي سنة ثلاث وسبعين كسَرَته الفرنج على الرملة، وفَرَّ في جماعة ونجا, وفي سنة خمس التقاهم وكَسَرهم, وفي سنة ستٍّ أمر ببناء قلعة الجبل, وفي سنة ثمانٍ عدى الفرات، وأخذ حران، وسروج، والرقة، والرها، وسنجار، والبيرة، وآمد، ونصيبين، وحاصَرَ الموصل، ثم تمَلَّك حلب، وعَوَّضَ صاحبها زنكي بسنجار، ثم إنه حاصر الموصل ثانيًا وثالثًا، ثم صالحه صاحبها عز الدين مسعود، ثم أخذ شهرزور والبوازيج, وفي سنة ثلاث وثمانين فتح طبرية، ونازل عسقلان، ثم كانت وقعة حطين سنة 585 بينه وبين الفرنج، وكانوا أربعين ألفًا، فحال بينهم وبين الماء على تَلٍّ، وسلموا نفوسَهم وأسر ملوكهم وأمراءَهم، وبادر فأخذ عكا وبيروت وكوكب، وسار فحاصر بيت المقدس، وجَدَّ في ذلك فأخذه بالأمان، ثم إن الفرنج قامت قيامتُهم على بيت المقدس، وأقبلوا كقطيعِ اللَّيلِ المُظلِمِ بَرًّا وبحرًا وأحاطوا بعكا ليستردُّوها وطال حصارُهم لها، وبنوا على نفوسهم خندقًا، فأحاط بهم السلطانُ، ودام الحصار لهم وعليهم نيفا وعشرين شهرًا، وجرى في غضون ذلك ملاحِمُ وحروب تَشيبُ لها النواصي، وما فكُّوا حتى أخذوها، وجَرَت لهم وللسلطان حروب وسِيَر. وعندما ضرس الفريقان، وكلَّ الحِزبان، تهادن المِلَّتان في صلح الرملة سنة 588. وكانت لصلاح الدين هِمَّة في إقامة الجهاد، وإبادة الأضدادِ ما سُمِعَ بمِثلِها لأحدٍ في دهر. قال الموفق عبد اللطيف: "أتيتُ وصلاح الدين بالقُدسِ، فرأيتُ مَلِكًا يملأ العيون روعةً، والقلوبَ مَحبَّةً، قَريبًا بعيدًا، سَهلًا مُحَبَّبًا، وأصحابه يتشَبَّهون به، يتسابقونَ إلى المعروف، كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} وأوَّلَ ليلة حضرتُه وجدت مجلِسَه حافِلًا بأهلِ العلم يتذاكرون، وهو يُحسِنُ الاستماع والمشاركة، ويأخُذُ في كيفيَّة بناء الأسوار، وحَفْر الخنادق، ويأتي بكلِّ معنى بديع، وكان مهتمًّا في بناء سور بيت المقدس وحَفْرِ خَندقِه، ويتولى ذلك بنَفسِه، وينقُل الحجارةَ على عاتِقِه، ويتأسى به الخَلقُ حتى القاضي الفاضِلُ، والعمادُ إلى وقت الظهر، فيمُدُّ السماط ويستريح، ويركبُ العَصرَ، ثم يرجع في ضوء المشاعِلِ، وكان يحفَظُ (الحماسة)، ويظُنُّ أنَّ كلَّ فقيه يحفَظُها، فإذا أنشَدَ وتوقَّفَ، استطعَمَ فلا يُطعَمُ، وجرى له ذلك مع القاضي الفاضل، ولم يكُن يحفَظُها، وخرج فما زال حتى حفظها، وكتب لي صلاح الدين بثلاثين دينارًا في الشهر، وأطلق أولادُه لي رواتِبَ، وكان أبوه ذا صلاحٍ، ولم يكن صلاحُ الدين بأكبَرِ أولاده، وكان محبَّبًا إلى نور الدين يلاعِبُه بالكُرةِ". لما قَدِمَ الحجيجُ إلى دمشق في يوم الاثنين حادي عشر صفر من هذه السنة خرج السلطانُ لتَلَقِّيهم، ثم عاد إلى القلعةِ فدخلها من باب الجديد، فكان ذلك آخِرَ ما رَكِبَ في هذه الدنيا، ثمَّ إنه اعتراه حُمَّى صفراوية ليلةَ السبت سادس عشر صفر، فلما أصبَحَ دخل عليه القاضي الفاضِلُ وابن شداد وابنُه الأفضل، فأخذ يشكو إليهم كثرةَ قلَقِه البارحة، وطاب له الحديثُ، وطال مجلِسُهم عنده، ثم تزايدَ به المرضُ واستمَرَّ، وقَصَده الأطباءُ في اليوم الرابع، ثم اعتراه يَبسٌ وحصَلَ له عَرَقٌ شَديدٌ بحيث نَفَذ إلى الأرض، ثم قَوِيَ اليبس فأحضَرَ الأمراءَ الأكابِرَ فبُويعَ لولده الأفضَل نور الدين علي، وكان نائبًا على دمشق، وذلك عندما ظَهَرت مخايل الضَّعفِ الشديد، وغيبوبة الذِّهنِ في بعض الأوقاتِ، وكان الذين يدخُلونَ عليه في هذه الحال الفاضِلُ وابنُ شداد وقاضي البلد ابن الزكي، ثم اشتَدَّ به الحال ليلةَ الأربعاء السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخَ أبا جعفر إمامَ الكلاسة ليبيتَ عنده يقرأُ القرآن ويُلَقِّنَه الشهادة إذا جَدَّ به الأمرُ، فلما أُذِّنَ الصبحُ جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخِرِ رمقٍ، فلما قرأ القارئُ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فتبَسَّمَ وتهَلَّلَ وَجهُه، وأسلَمَ رُوحَه إلى ربِّه سبحانه وتعالى، ثم أخَذوا في تجهيزه، وحَضَر جميعُ أولاده وأهله، وكان الذي تولَّى غُسلَه خطيب البلد الفقيهُ الدولعي، وكان الذي أحضَرَ الكفَنَ ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل مِن صُلبِ مالِه الحلال، هذا وأولادُه الكبار والصغار يتباكَون وينادون، وأخذ الناسُ في العويل والانتحاب والدُّعاء له والابتهال، ثم أُبرِزَ جِسمُه في نعشِه في تابوتٍ بعد صلاة الظهر، وأمَّ النَّاسَ عليه القاضي ابنُ الزكي، ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة، ثم شَرَع ابنُه في بناء تربةٍ له ومدرسة للشافعيَّة بالقرب من مسجدِ القدم؛ لوصيته بذلك قديمًا، فلم يكمل بناؤها، ثم اشترى له الأفضَلُ دارًا شماليَّ الكلاسة في وزان ما زاده القاضي الفاضل في الكلاسة، فجعلها تربةً، وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين، وصلَّى عليه تحت النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرابي بن الزكي، عن إذنِ الأفضل، ودخل في لحْدِه ولَدُه الأفضلُ فدفنه بنفسه، وهو يومئذ سلطانُ الشام، ويقالُ إنه دَفَن معه سَيفَه الذي كان يحضُرُ به الجهادَ، ويُذكَرُ أنَّ صَلاحَ الدين- رحمه الله تعالى- لم يخَلِّفْ في خزائِنِه غيرَ دينار واحدٍ صوري، وأربعين درهمًا ناصريَّة، ثمَّ تولى ابنُه الأفضل مُلكَ دِمشق، والساحل، وبيت المقدس، وبعلبك، وصرخد، وبصرى، وبانياس، وهونين، وتبنين، وجمع الأعمال إلى الداروم، وكان وَلَدُه الملك العزيز عثمان بمصر، فاستولى عليها، وعلى جميعِ أعمالِها، مثل: حارم، وتل باشر، وإعزاز، وبرزية، ودرب ساك، ومنبج وغير ذلك، وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمر فأطاعه وصارَ معه، وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه، فأطاع المَلِكَ الأفضل.