قام فرحات عباس زعيم حزب اتحاد الشعب الجزائري بتقديم بيانٍ إلى السلطات الفرنسية يطالبون فيه بحث تقرير المصير, إلَّا أن فرنسا رفضت واعتقلت فرحات عباس، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى استغلت فرنسا قيامَ بعض المظاهرات في عددٍ من المدن الجزائرية وإحراقها للعَلَم الفرنسي حتى ارتكبت مذبحةً رهيبة سقط فيها 45 ألف قتيل جزائري، وكان ذلك تحولًا في كفاح الجزائريين من أجلِ الحرية والاستقلال؛ فتشَكَّلت لجنة سرية من اثنين وعشرين عضوًا، وفوضت محمد بوضياف لاختيارِ قيادة لعمل منظم سري، فشكَّلَها من تسعة أعضاء وعُرِفَت باللجنة الثورية للوَحدةِ والعمل، وارتحل ثلاثة منهم للتنسيق مع أحزاب المغرب وتونس من أجل الثورة في البلاد كلِّها جميعًا، ومن أجل الدعم، وحُدِّد يوم 1 نوفمبر 1954م موعدًا لبدء الثورة الجزائرية الحاسمة -وهو يصادف عيد القديسين عند الفرنسيين- وفوجئت السلطات الاستعماريةُ الفرنسية بوقوعِ سلسلة من الهجمات المسلَّحة شَنَّها الثوار الجزائريون على المنشآت والمراكز العسكرية الفرنسية في كامل أنحاءِ البلاد، وكان ذلك إيذانًا ببداية حرب طويلة الأمد استمَرَّت سبع سنوات ونصف، وقد بادرت جبهةُ التحرير الجزائرية باستعدادها لمفاوضة فرنسا من أجلِ وقف القتال, بعد أن بلغ الشهداءُ أكثر من مليون شهيد، لكِنَّ فرنسا رفضت تلك المبادرة، وزادت قواتِها الاستعمارية إلى أكثر من نصف مليون مقاتل، وقامت بأحدَ عَشَرَ هجومًا ضخمًا واسِعَ النطاق؛ العمل الذي عُرف بمشروع شال. فزاد جيش التحرير الجزائري قواتِه إلى أكثر من 120 ألف مجاهد. وامتَدَّت عملياته إلى الأراضي الفرنسية؛ حيث تم تدمير مستودعات بترولية ضخمة. استطاعت فرنسا اختطافَ طائرة مغربية على مَتنِها أربعة قواد من قادة الثورة الجزائرية، وهم: حسين آيات أحمد، وأحمد بن بله، ومحمد خضير، ومحمد بو ضياف، فأصبحت القضيةُ الجزائرية مُعضِلةً، ومِن أضخم المشكلات الدولية، وتعدَّدت مناقشاتها في الأمم المتحدة، واكتسبت تعاطفًا دوليًّا متزايدًا على حساب تآكُلِ الهيبة الفرنسية عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وتشكَّلت حكومة جزائرية مؤقتة في 19 سبتمبر 1958م برئاسة عباس فرحات، ولم يمضِ شهر واحد على تشكيلها حتى اعترفت بها 14 دولة. وفي نوفمبر 1959م أعلن الرئيس الفرنسي ديجول عن قبول فرنسا للمفاوضاتِ، فأعلنت الحكومة الجزائرية المؤقتة أنَّها كلفت الزعماء الجزائريين المختطَفين في فرنسا بإجراءِ المفاوضات حولَ تقرير المصير، فرفض ديجول هذا المقتَرَح. في مارس 1962م تم الاتفاقُ على إيقاف إطلاق النار بين الجيش الفرنسي وجبهة التحرير الجزائرية, ثم جرى استفتاء في 1 يونيو 1962م على استقلال الجزائر جاءت نتيجته 97.3% لمصلحة الاستقلال. وأُعلِنَ الاستقلال في 5 يونيو من نفس العام, وقامت الدولةُ الجزائرية برئاسة يوسف بن خده.
كان سببُها أنَّ المشركين حين قُتِلَ مَن قُتِلَ مِن أَشرافِهِم يوْمَ بَدْرٍ، وسَلمَت العِيرُ بما فيها مِنَ التِّجارةِ التي كانت مع أبي سُفيانَ، فلمَّا رجع فَلُّهُم إلى مكَّةَ قال أبناءُ مَن قُتِلَ، ورُؤساءُ مَن بَقِيَ لأبي سُفيانَ: ارْصُدْ هذه الأموالَ لِقتالِ محمَّدٍ، فأَنفَقوها في ذلك، وجمعوا الجُموعَ والأَحابيشَ وأَقبلوا في قَريبٍ مِن ثلاثةِ آلافٍ، حتَّى نزلوا قريبًا مِن أُحُدٍ تِلْقاءَ المدينةِ، فصلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الجُمعةِ، فلمَّا فَرَغَ منها صلَّى على رجلٍ مِن بني النَّجَّارِ، يُقالُ له: مالكُ بنُ عَمرٍو، واسْتَشار النَّاسَ: أَيخرُجُ إليهِم، أمْ يَمكُثُ بالمدينةِ؟ فأشار عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ بالمقامِ بالمدينةِ، فإن أقاموا أقاموا بِشَرِّ مَحْبسٍ وإن دخلوها قاتلَهُم الرِّجالُ في وُجوهِهم، ورَماهم النِّساءُ والصِّبيانُ بالحِجارةِ مِن فوقِهم، وإن رجعوا رجعوا خائِبين. وأشار آخرون مِنَ الصَّحابةِ ممَّن لم يَشهدْ بدرًا بالخُروجِ إليهم، فدخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلَبِسَ لَأْمَتَهُ وخرج عليهم... فسار في ألفٍ مِن أصحابِهِ، فلمَّا كان بالشَّوطِ رجع عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ في ثُلُثِ الجيشِ مُغْضَبًا؛ لِكَونِه لم يُرجَعْ إلى قولِه، وقال هو وأصحابُه: لو نعلمُ اليومَ قِتالًا لاتَّبَعناكُم، ولكِنَّا لا نَراكُم تُقاتلون اليومَ. واستَمرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سائرًا حتَّى نزل الشِّعْبَ مِن أُحُدٍ في عَدْوَةِ الوادي. وجعل ظَهرَهُ وعَسكرَهُ إلى أُحُدٍ، وتَهيَّأَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للقِتالِ وهو في سبعمائةٍ مِن أصحابِهِ، وأمَّرَ على الرُّماةِ عبدَ الله بنَ جُبَيْرٍ أخا بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، والرُّماةُ يَومئذٍ خمسون رجلًا. فقال: انْضَحْ الخَيْلَ عَنَّا بِالنَّبْلِ، لا يَأتونا مِن خَلفِنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثْبُتْ مكانَك لا نُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ، وظاهَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين دِرعَينِ، وأَعطى اللِّواءَ مُصعبَ بنَ عُميرٍ أخا بني عبدِ الدَّارِ، وأجاز رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعضَ الغِلْمانَ يَومئذٍ وأَرجأَ آخرين، وتَعبَّأتْ قُريشٌ وهُم ثلاثةُ آلافٍ، ومعهم مائتا فَرَسٍ قد جَنَبُوها، فجعلوا على مَيْمَنةِ الخَيْلِ خالدَ بنَ الوليدِ، وعلى المَيسَرةِ عِكْرِمةَ بنَ أبي جَهْلٍ، ودفعوا إلى بني عبدِ الدَّارِ اللِّواءَ... ثمَّ كان بين الفَريقين ما كان، وكانت بَوادرُ النَّصرِ تَلوحُ لِصالحِ المسلمين، فلمَّا رَأى المسلمون تَقَهْقُرَ المشركين أَهملَ الرُّماةُ وَصِيَّةَ نَبِيِّهِم لهم ونزلوا يَحصُدون الغَنائمَ، فانْتهَز خالدُ بنُ الوليدِ الفُرصةَ فالْتَفَّ خَلفَهم وأَعملَ الحربَ فيهم، ممَّا أَدَّى لِقَلْبِ الموازينِ وانْجَلَتِ المعركةُ عن مَقْتَلِ سبعين رجلًا مِن المسلمين مِنهم حمزةُ بنُ عبدِ المُطَّلبِ، ومُصعبُ بنُ عُميرٍ، وعبدُ الله بنُ حَرامٍ والدُ جابرٍ، وعبدُ الله بنُ جُبيرٍ أَميرُ الرُّماةِ....
في هذه السَّنَةِ خَرجَ أرمانوس مَلِكُ الرُّومِ في مائتي ألفٍ من الرُّومِ، والفِرنجِ، والغَربِ، والرُّوسِ، والبجناك، والكرج، وغَيرِهم، من طوائفِ تلك البِلادِ، فجاءوا في تَجَمُّلٍ كَثيرٍ، وزِيٍّ عَظيمٍ، وقَصدَ بِلادَ الإسلامِ، فوَصلَ إلى ملازكرد من أَعمالِ خلاط. فبَلغَ السُّلطانَ ألب أرسلان الخَبرُ. وهو بمَدينةِ خوي من أذربيجان، قد عاد من حَلَب. وسَمِعَ بكَثرَةِ الجُموعِ التي مع مَلِكِ الرُّومِ، فلم يَتَمَكَّن من جَمْعِ العَساكرِ لبُعدِها وقُرْبِ العَدُوِّ، فسَيَّرَ الأَثقالَ مع زَوجتِه ونِظامِ المُلْكِ إلى همذان، وسار هو فيمن عنده من العَساكرِ، وهُم خَمسة عشر ألف فارس. وَجَدَّ في السَّيْرِ وقال لهم: إنَّني أُقاتِلُ مُحتَسِبًا صابرًا، فإن سَلِمْتُ فنِعمةٌ مِن الله تعالى، وإن كانت الشهادةُ فإنَّ ابني ملكشاه وَلِيُّ عَهْدِي. وساروا فلمَّا قارَبَ العَدُوَّ جَعلَ له مُقدِّمةً، فصادَفَت مُقدِّمَتُه، عند خلاط، مُقدِّمَ الرُّوسِيَّة في نَحوِ عشرة آلاف من الرُّومِ، فاقتَتَلوا، فانهَزمَت الرُّوسِيَّةُ، وأَسَرَ مُقدِّمَهم، وحُمِلَ إلى السُّلطانِ، فجَدَعَ أَنْفَهُ، وأَنْفَذَ بالسَّلَبِ إلى نِظامِ المُلْكِ، وأَمرَهُ أن يُرسِلَهُ إلى بغداد، فلمَّا تَقارَب العَسكرانِ أَرسلَ السُّلطانُ إلى مَلِكِ الرُّومِ يَطلُب منه المُهادَنة، فقال: لا هُدْنَةَ إلَّا بالرَّيِّ. فانزَعجَ السُّلطانُ لذلك، فقال له إِمامُه وفَقِيهُه أبو نصرٍ محمدُ بن عبدِ المَلِكِ البُخاريُّ، الحَنَفيُّ: إنَّك تُقاتِل عن دِينٍ وَعَدَ الله بِنَصْرِهِ وإِظهارِهِ على سائرِ الأديانِ، وأَرجو أن يكون الله تعالى قد كَتبَ باسمِك هذا الفَتحَ، فالْقِهِم يومَ الجُمعةِ، بعدَ الزَّوالِ، في الساعةِ التي تكون الخُطباءُ على المنابرِ، فإنَّهم يَدعُون للمُجاهِدين بالنَّصرِ، والدُّعاءُ مَقرونٌ بالإجابةِ. فلمَّا كانت تلك الساعةُ صلَّى بهم، وبَكَى السُّلطانُ، فبَكَى الناسُ لِبُكائِه، وَدَعا ودَعَوا معه وقال لهم: مَن أَرادَ الانصرافَ فليَنصَرِف، فما هاهنا سُلطانٌ يأمرُ ويَنهى، وأَلقَى القَوْسَ والنِّشابَ، وأَخذَ السَّيفَ والدَّبُّوسَ – الدَّبُّوس آلة من آلاتِ الحَربِ تُشبِه الإِبْرَة-، وعَقَدَ ذَنَبَ فَرَسِه بِيَدِه، وفَعلَ عَسكرُه مِثلَه، ولَبِسَ البَياضَ وتَحَنَّطَ، وقال: إن قُتِلتُ فهذا كَفَني. وزَحَفَ إلى الرُّومِ وزَحَفوا إليه، فلمَّا قارَبَهم نَزلَ السُّلطانُ عن فَرَسِه وسَجَدَ لله عزَّ وجلَّ، ومَرَّغَ وَجهَه في التُّرابِ وَدَعا الله واستَنصَرَهُ، فأَنزلَ الله نَصرَهُ على المُسلمينَ، ومَنَحَهم أَكتافَهم فقَتَلوا منهم خَلْقًا كَثيرًا، وأُسِرَ مَلِكُهم أرمانوس، أَسَرَهُ غُلامٌ رُومِيٌّ، فلمَّا أُوقِفَ بين يدي المَلِكِ ألب أرسلان ضَرَبَهُ بِيَدِه ثلاثَ مَقارِع وقال: لو كنتُ أنا الأَسيرَ بين يَديكَ ما كنتَ تفعل؟ قال: كلَّ قَبيحٍ. قال: فما ظَنُّكَ بي؟ فقال: إمَّا أن تقتل تَقتُلَني وتُشْهِرَني في بِلادِك، وإمَّا أن تَعفُو وتَأخُذ الفِداءَ وتُعيدَني. قال: ما عَزمتُ على غَيرِ العَفوِ والفِداءِ. فافتَدَى نَفسَه منه بألف ألف دِينارٍ وخمسمائة ألف دينار، فلما انتهى إلى بِلادِه وَجدَ الرُّومَ قد مَلَّكوا عليهم غَيرَه، فأَرسلَ إلى السُّلطانِ يَعتَذِر إليه، وبَعثَ من الذَّهبِ والجَواهِر ما يُقارِب ثلاثمائة ألف دينار، وتَزَهَّدَ ولَبِسَ الصُّوفَ ثم استغاث بملك الأرمن فأَخذَه وكحله وأَرسلَه إلى السُّلطانِ يَتَقَرَّبُ إليه بذلك.
لما فرغ الفرنجُ من إصلاح أمْرِ عكا، ساروا مستهلَّ شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارِقونَه، فلما سمع صلاح الدين برحيلِهم نادى في عسكره بالرحيلِ، فضايقوا الفرنج في مسيرِهم، وأرسلوا عليهم مِن السهام ما كاد يحجُبُ الشمس، ووقعوا على ساقةِ الفرنج، فقتلوا منها جماعةً، وأسَروا جماعةً، وأرسل الأفضَلُ بن صلاح الدين إلى والِدِه يستَمِدُّه ويُعَرِّفُه الحال، فأمر صلاح الدين العساكِرَ بالمسير إليه، فاعتذروا بأنَّهم ما ركبوا بأُهبةِ الحَربِ، وإنما كانوا على عَزمِ المسيرِ لا غير، فبَطَل المددُ وعاد مَلِك الإنكليز إلى ساقة الفرنج، فحماها، وجَمَعَهم، وساروا حتى أتوا حيفا، فنَزَلوا بها، ونزل المسلمونَ لِيُقيموا في قرية بالقرب من الفرنج، وأحضر الفرنجُ مِن عكا عِوَض من قُتِلَ منهم وأُسِرَ ذلك اليوم، وعِوَضَ ما هلك من الخيل، ثم ساروا إلى قيسارية، والمسلمون يسايرونَهم ويتخَطَّفون منهم مَن قَدَروا عليه فيَقتُلونه، لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنَّه لا يظفَرُ بأحدٍ منهم إلا قَتَلَه بمن قَتَلوا بعكا، فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون، وقاتلوهم أشدَّ قتال، فنالوا منهم نيلًا كثيرًا، ونزل الفرنجُ بها، وبات المسلمون قريبًا منهم، فلما نزلوا خرجَ من الفرنج جماعةٌ فأبعدوا عن جماعتِهم، فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك – المقَدِّمة- فقتلوا منهم وأسروا، ثم ساروا من قيساريَّة إلى أرسوف، وكان المسلمونَ قد سبقوهم إليها، ولم يُمكِنْهم مسايرة الفرنج لضِيقِ الطريق، فلما وصل الفرنجُ إليهم حمل المسلمون عليهم حملة منكرة وألحقوهم بالبحر، ودخله بعضُهم فقُتِل منهم كثير، فلما رأى الفرنجُ ذلك اجتمعوا، وحملت الخيَّالة على المسلمين حملةَ رجل واحد، فوَلَّوا منهزمين، فلما انهزم المسلمون عنهم قُتِلَ خلق كثير، والتجأ المنهزمون إلى القلب، وفيه صلاحُ الدين، وكان بالقُربِ من المسلمين روضةٌ كثيرة الشجر، فدخلوها وظَنَّها الفرنج مكيدةً، فعادوا، وزال عنهم ما كانوا فيه من الضِّيقِ، ثم سار الفرنجُ إلى يافا فنزلوها، ولم يكُنْ بها أحد من المسلمين، فملكوها، وسار صلاحُ الدين عنهم إلى الرملة، واجتمع بأثقالِه بها، وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بتخريبِ عسقلان، فأمر بتخريبِها، فخُرِّبَت تاسع عشر شعبان، وأُلقِيَت حجارتها في البحر، وهَلَك فيها من الأموال والذخائر التي للسُّلطانِ والرعية ما لا يُمكِنُ حَصرُه، وعفى أثَرَها حتى لا يبقى للفرنجِ في قَصدِها مَطمَعٌ، ولَمَّا سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانَهم ولم يسيروا إليها، فلما خَرِبَت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهرِ رمضان، ومضى إلى الرملة فخَرَّبَ حِصنَها وخَرَّب كنيسة لد، ثم سار صلاح الدين إلى القدس بعد تخريبِ الرملة، فاعتَبَرَه وما فيه من سلاحٍ وذخائر، وقرَّرَ قواعِدَه وأسبابه، وما يُحتاج إليه، وعاد إلى المخيم ثامن رمضان، وفي هذه الأيام خرج ملك الإنكليز من يافا، ومعه نفرٌ من الفرنج من معسكرهم، فوقع به نفرٌ من المسلمين، فقاتلوهم قتالًا شديدًا، وكاد ملك الإنكليز يؤسَرُ، ففداه بعضُ أصحابه بنَفسِه، فتخلَّصَ المَلِكُ وأُسِرَ ذلك الرجُل.
في سنة 827 تأخر الأمير قرقماس الدوادار في ينبع، وطلب عسكرًا ليقاتِلَ به الشريف حسن بن عجلان، ويستقر عِوَضَه في إمارة مكة، فأُجيب إلى ذلك، ثم خَلَع على الشريف علي بن عنان بن مغامس، واستقر في إمارة مكة شريكًا للأمير قرقماس، ثم قَدِمَ الخبر بوصول الشريف علي بن عنان إلى ينبع بمن معه من المماليك المجردين، وتوجه الأمير قرقماس معه إلى مكة، فدخلوها يوم الخميس سادس جمادى الأولى بغير حرب، وأن الشريف حسن بن عجلان سار إلى حلي بني يعقوب من بلاد اليمن، ثم في الرابع والعشرين من محرم من هذه السنة قدم الرَّكبُ الأول من الحجاج إلى مصر، ثم قدم من الغد المحمَل ببقية الحاجِّ، ومعهم الشريف رميثة بن محمد بن عجلان في الحديد، وقد قبض عليه الأمير قرقماس بمكة، ثم في شهر جمادى الآخرة خرج الأمير قرقماس من مكة بمن معه في طلب الشريف حسن بن عجلان حتى بلغ حلي من أطراف اليمن، فلم يقابله ابن عجلان مع قوته وكثرة من معه، بل تركه وتوجَّه نحو نجد تنزُّهًا عن الشر، وكراهة الفتنة، فعاد قرقماس وقدم مكة في العشرين منه، ثم في شهر ذي الحجة قدم كتاب الأمير تغري بردي المحمودي من مكة وقد توجه حاجبًا يتضمن أنه بعث لَمَّا نزل من عقبة أيلة، قاصدًا إلى الشريف حسن بن عجلان يرغِّبه في الطاعة ويحذِّره عاقبة المخالفة، فقَدِمَ ابنه الشريف بركات بن حسن، وقد نزل بطن مر في الثامن والعشرين ذي القعدة، فسُرَّ بقدومه ودخل به معه مكة أول ذي الحجة، وحلف له بين الحجر الأسود والملتزم أن أباه لا يناله مكروه من قِبَلِه ولا من قِبَل السلطان، فعاد إلى أبيه، وقدم به مكة يوم الاثنين ثالث ذي الحجة، وأنه حلف له ثانيًا، وألبسه التشريف السلطاني، وقرَّره في إمارة مكة على عادته، وأنه عزم على حضوره إلى السلطان صحبة الركب، واستخلاف ولده بركات على مكة، ثم في شهر محرم من سنة 829 قدم الأمير قرقماس المقيم هذه المدة بمكة، وقدم الشريف حسن بن عجلان، فأُكرِمَ ثم خُلِعَ عليه في السابع والعشرين، واستقر في إمارة مكة على عادته، وأُلزم بثلاثين ألف دينار، فبعث قاصده إلى مكة حتى يحصرها، وأقام هو بالقاهرة رهينة، ولم يقع في الدولة الإسلامية مثلُ هذا، ثم في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين رمضان من سنة 829 قدم الشريف بركات بن حسن بن عجلان من مكة، وقد استُدعي بعد موت أبيه فخُلِع عليه، واستقر في إمرة مكة، على أن يقوم بما تأخَّر على أبيه وهو مبلغ خمسة وعشرين ألف دينار، فإنه كان قد حمل قبل موته من الثلاثين الألف التي التزم بها مبلغ خمسة آلاف دينار، وأُلزم بركات أيضًا بحمل عشرة آلاف دينار في كل سنة، وألَّا يتعرض لما يؤخذ بجدة من عشور بضائع التجار الواصلة من الهند وغيره.
في الخامس من رجب حصل بين المماليك الأجلاب وبعض الأمراء مناوشات، وكان عند السلطان جماعة من خشداشيته الأمراء، والسلطان ومن عنده كالمأسورين في يد الأجلاب، ثم تفرق الأجلاب إلى الأطباق بقلعة الجبل، ولبسوا آلة الحرب وعادوا إلى القصر بقوة زائدة وأمر كبير، وتوجه بعضهم لإحضار الخليفة، وتوجه بعضهم لنهب الحريم السطاني بداخل الدور، ودخل على السلطان ثلاثة أنفار منهم وهم ملثَّمون، وأرادوا منه أن يقوم وينزل إلى المخبأة التي تحت الخرجة، فامتنع قليلًا، ثم قام معهم مخافةً من الإخراق، وأخذوه وأنزلوه إلى المخبأة من غير إخراق ولا بهدلة، وأنزلوا فرشًا ومقعدًا، ونزل معه بعض مماليكِه وبعض الأجلاب أيضًا، وأغلقوا عليه الطابقة، وأخذوا النمجة والدرقة والفوطة ودفعوهم إلى خير بك، بعد أن أطلقوا عليه اسم السلطان، وقبَّل له الأرض جماعةٌ من أعيان الأمراء، وقيل إنهم لقبوه بالملك العادل، كل ذلك بلا مبايعة ولا إجماع الكلمة على سلطنته، بل بفعل هؤلاء الأجلاب الأوباش، غير أن خير بك لما أخذ النمجة والدرقة حدثته نفسه بالسلطنة، وقام وأبعد في تدبير أمره وتحصينِ القلعة، وبينما هو في ذلك فرَّ عنه غالب أصحابه الكبار مثل خشكلدي ومغلباي وغيرهما، فعند ذلك لم يجد خير بك بدًّا من الإفراج عن الملك الظاهر تمربغا ومن معه من خشداشيته ومماليكه، فأخرجوهم ونزل خير بك على رجل الملك الظاهر تمربغا يقبِّلُها، ويبكي ويسأله العفو عنه، وقد أبدى من التضرع أنواعًا كثيرة، فقَبِل السلطان عذره، هذا وقد جلس السلطان الملك الظاهر تمربغا موضع جلوس السلطان على عادته، وأخذ النمجة والدرقة، وقد انهزم غالب الأجلاب، ونزلوا من القلعة لا يلوي أحد منهم على أحد، كل ذلك والأتابك قايتباي بمن معه من الأمراء بالرملة، فلما تم جلوس الملك الظاهر تمربغا بالقصر على عادته، أمر من كان عنده من أكابر الأمراء بالنزول إلى الأتابك قايتباي لمساعدته، ولما تم أمر الأتابك قايتباي من قتال الأجلاب وانتصر، طلع من باب السلسلة، وجلس بمقعد الإسطبل بتلك العظمة الزائدة فكلَّمه بعض الأمراء في السلطنة، وحسَّنوا له ذلك، فأخذ يمتنع امتناعًا ليس بذاك، إلى أن قام بعضهم وقبَّل الأرض له، وفعل غيره كذلك، فامتنع بعد ذلك أيضًا، فقالوا: ما بقي يفيد الامتناع، وقد قبَّلنا لك الأرض، فإمَّا تذعن وإما نسلطن غيرك، فأجاب عند ذلك، فلما تمَّ أمر الأتابك قايتباي في السلطنة، طلع الأمير يشبك بن مهدي الظاهري الكاشف بالوجه القبلي إلى الملك الظاهر تمربغا، وعرَّفه بسلطنة قايتباي، وأخذه ودخل به إلى خزانة الخرجة الصغيرة فكانت مدة سلطنته ثمانية وخمسين يومًا، وحضر الخليفة والقضاة، وبايعوا الأتابك قايتباي بالسلطنة، ولبس خلعة السلطنة السواد الخليفتي، ونودي في الحال بسلطنته بشوارع القاهرة، وتلقب بالملك الأشرف قايتباي المحمودي.
كان عبدُ الله بن سعود لما صالح أهل شقراء وأطاع الرومَ جميعُ أهل الوشم وسدير والمحمل وغيرهم، أمر سعود بن عبد الله بن محمد بن سعود في عِدَّةِ رجال من أهل الدرعية ومتعب بن إبراهيم بن عيصان صاحب الخرج وعدة رجال معه ومحمد العميري في عدة رجال من أهل ثادق والمحمل- أمَرَ الجميعَ أن يسيروا إلى بلد ضرما ويدخلوها ليصيروا عونًا لأهلها ورِدءًا لهم، فساروا إليها ودخلوها، ثم إنَّ الباشا وعساكر الروم لَمَّا وصلوا قرب ضرما ركب عددٌ من خيلهم وطافوا على البلدِ وقاسوها وعرفوا منزلهم ونزل قبوسهم ومدافعهم وقنابرهم، ثم رجعوا إلى مخيَّمِهم، فلما كان صبيحة 14 من ربيع الثاني أقبل الباشا على البلد ونزل شرقيَّها قُربَ قصور المزاحمية بينها وبين البلد وحَطُّوا ثِقلَهم وخيامَهم ثم سارت العساكِرُ بالقبوس والمدافع والقنابر، ونزلوا بها شمالَ البلد قُربَ السور فثارت الحربُ بين الروم وبين أهلِها، وحَقَّق الباشا عليهم الرميَ المتتابع وحاربهم حربًا لم يُرَ مثلُه وثبَّت الله أهل البلد فلم يعبؤوا به وطلب منهم المصالحةَ فأبوا عليه ولم يُعطوه الدنيَّةَ، وكانت هذه البلد ليس في تلك النواحي أقوى منها بعد الدرعية رجالًا وأموالًا وعددًا وعُدةً، فحشدت عليهم عساكر الروم والمدافع فلم يحصلوا على طائلٍ، ثم حشد الروم عليهم وقربوا القبوسَ من السور وحاربوها حربًا عظيمة هائلة، فرميت بين المغرب والعشاء بـ 5700 رمية بين قبس ومدفع وقنبرة، فهدموا ما والاهم من السور، فلما رأى الباشا صَبْرَهم وصِدقَ جِلادِهم، ساق الروم عليهم وأهل البلد فيه ثابتون، فحمل عليهم الروم حملة واحدة فثبتوا لهم وجالدوهم جِلادَ صِدقٍ وقتلوا منهم نحو 600 رجل، وردوهم إلى باشتِهم وبَنَوا بعض ما انهدم من السور، فنقل الباشا بعض القبوس إلى جنوب البلد فتتابع الرميُ من الجهتين وأهل البلد والمرابطة قبالتَهم عند السور المهدوم، فلم يفجأهم إلا الصارِخُ من خلفهم أن الروم خلفَكم في أهلِكم وأولادكم وأموالكم، فكَرُّوا راجعين والرومُ في أثرِهم، ودخل الروم البلد من كلِّ جهةٍ وأخذوها عَنوة وقتلوا أهلَها في الأسواق والسكك والبيوت، وكان أهلُ البلد قد جالدوهم في وسَطِ البلد إلى ارتفاع الشمس، وقتلوا من الروم قتلى كثيرين، ولكن خدعوهم بالأمان، فيأتون إلى أهلِ البيت والعصابة المجتمعة فيقولون: أمان أمان، ويأخذون سلاحهم ثم يقتلونهم، ونهبوا جميع ما احتوت عليه البلد من الأموال والسلاح والمتاع والمواشي والخيل، واحتصر سعودُ بن عبد الله في قصر من القصور ومعه أكثر من 100 رجل من أهل الدرعيَّةِ وغيرهم، فأرسل إليهم الباشا وأعطاهم الأمان، فخرجوا وساروا إلى الدرعية، وهرب رجالٌ من أهل البلد وغيرهم على وجوهِهم في البرية، فكانوا بين ناج ومقتولٍ، وخلت البلد من الرجال، وجمع الباشا النساء والأطفال وأرسلهم إلى الدرعية وهم نحو 3000 نفس، والذي قُتِل من أهل ضرما في هذه الواقعة 800 رجل، ومن المرابطة 50 رجلًا.
هو الإمامُ العلَّامةُ الأوحد الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، الثِّقةُ الثَّبتُ, التقي الوَرِعُ المجاهد المحتَسِب, ذو الهمة العالية والشجاعة المتناهية, الذي خَلَف والِدَه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مؤازرة الإمامِ عبد العزيز بن محمد بن سعود، وخَلَفه في بثِّ العلم والقيام بدعوة التوحيد ونَشْرها، والدفاع عنها بالقلَمِ واللسان، والحُجَّة والبيان، وهو عالمُ نجد بعد أبيه ومُفتيها، ومَن له الفتاوى السديدة والأجوبة العديدة، والرُّدود العظيمة، ومن ضُرِبَت إليه أكبادُ الإبل مِن سائِرِ بلدان نجد، وتوالت عليه الأسئلةُ من جميع قرى نجد ومدُنِها. ولِدَ في الدرعية سنة 1165هـ ونشأ بها في كَنَف والده، وقرأ القرآنَ حتى حَفِظه ثم شرع في القراءةِ على والده، فتفَقَّه في المذاهب الإسلامية، ومهَرَ في علمي الفروع والأصول، وكان مع هذا عالِمًا بارزًا في علم التفسير والعقائد وأصول الدين، عارفًا بالحديث ومعانيه، وبالفِقهِ وأصوله، وعلم النحو واللغة، وله اليدُ الطولي في جميع العلوم والفنون، كرَّس جُهدَه وأوقف حياته على تحصيلِ العلم وتعليمه ونَشْره تدريسًا وتأليفًا، فأخذ عنه العِلمَ خلقٌ كثيرٌ من فطاحلة عُلماء نجد وجهابِذتِهم، وكان مَرجِعَ القضاة في عهد الإمامِ عبد العزيز بن محمد بن سعود، وابنِه الإمام سعود، وابنِه الإمام عبد الله، وقد ألَّف مؤلفات كثيرة، منها: جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية، ردَّ به على بعض عُلماء الزيدية الذين اعترضوا على دعوةِ التوحيد السَّلَفية، وألَّف مختَصَر السيرة النبوية في مجلَّدٍ ضخمٍ، والكلمات النافعة في المكفِّرات الواقعة، وألَّف منسكًا صغيرًا للحج، وكتب رسائِلَ وفتاوى كثيرة، وكان له دروسٌ خاصة يحضُرُها الإمام سعود عبد العزيز، وابنه الإمام عبد الله بن سعود، في الدرعية، وقد صَحِبَ الأمير سعودَ بن عبد العزيز في دخوله مكَّةَ سنة 1218، وكتب حالَ دخوله مكة المكرمة مع الأمير سعود رسالةً وإجابةً منه لِمن سأله عمَّا يعتقدونه ويدينون للهِ به، وكان مع هذا شجاعًا مِقدامًا، وقف في باب البجيري المعروف -أثناء حصار إبراهيم باشا للدرعيَّة- وشهَرَ سَيفَه وقاتل قِتالَ الأبطال قائلًا كلمته المشهورة: "بطنُ الأرض على عِزٍّ خيرٌ من ظهرِها على ذُلٍّ" وقاتَلَ حتى رد العساكِرَ وزحزحهم عن مواقِفِهم، وذلك في آخر حرب الباشا على الدرعية، ثم نقله باشا إلى مصرَ بعد ما استولى على الدرعية، وذلك سنة 1242هـ, ونقل معه ابنه عبد الرحمن، وبقي بمصر محدودَ الإقامة حتى توفِّيَ بمصر، وقد أنجب ثلاثةَ أبناء عُلَماء، هم: الشيخ سليمان، الذي قتله إبراهيم باشا في الدرعية، وعليٌّ قُتِلَ فيما بعد على يد بعض عساكرِ الترك بنجد، وعبد الرحمن نُقِلَ مع أبيه إلى مصر صغيرًا وتعلَّم بها ودرَّس برُواق الحنابلةِ.
كان سببُ هذه الغَزوةِ هو إجلاءُ يَهودِ بني النَّضيرِ مِنَ المدينةِ؛ حيثُ إنَّ الحسدَ والحِقدَ قد تَمكَّنا مِن قُلوبهِم، ممَّا جعَلهم يُضمِرون العَداءَ ويَتَحَيَّنون الفُرصَ للتَّشفِّي ممَّن طَردَهم مِنَ المدينةِ وما حولها. ولمَّا لم يَستطِعْ يَهودُ خَيبرَ وخاصَّةً بني النَّضيرِ مَجابهةَ المسلمين لَجأوا إلى أُسلوبِ المكرِ والتَّحريشِ. وقد ذكَر ابنُ إسحاقَ بِسَندِهِ عن جماعةٍ: أنَّ الذين حَزَّبوا الأحزابَ نفرٌ مِنَ اليَهودِ، وكان منهم: سَلَّامُ بنُ أبي الحُقَيْقِ، وحُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ النَّضْريُّ، وكِنانةُ بنُ أبي الحُقَيْقِ النَّضْريُّ، وهَوْذَةُ بنُ قَيسٍ الوائليُّ، وأبو عَمَّارٍ الوائليُّ، في نَفرٍ مِن بني النَّضيرِ، فلمَّا قَدِموا على قُريشٍ، دَعَوْهُم إلى حربِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنَّا سَنَكون معكم عليه حتَّى نَسْتَأْصِلَهُ، فقالت لهم قُريشٌ: يا مَعشرَ يَهودَ، إنَّكم أهلُ الكتابِ الأوَّلِ والعِلْمِ بما أصبحنا نَختلِفُ فيه نحن ومحمَّدٌ، أَفَدينُنا خيرٌ أم دينُه، قالوا: بل دينُكم خيرٌ مِن دينِه، وأنتم أَولى بالحقِّ منه !!! واختلف العُلماءُ في زمنِ وُقوعِ هذه الغَزوةِ، فمال البُخاريُّ إلى قولِ موسى بنِ عُقبةَ: إنَّها كانت في شوَّالٍ سنةَ أَربعٍ، بينما ذَهبتْ الكثرةُ الكاثرةُ إلى أنَّها كانت في سنةِ خمسٍ، قال الذَّهبيُّ: وهو المقطوعُ به. وقال ابنُ القَيِّمِ: وهو الأصحُّ. قام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي الله عنهم بِحَفرِ خَندقٍ في المنطقةِ المكشوفةِ أمامَ الغُزاةِ، وذكَر ابنُ عُقبةَ: أنَّ حَفرَ الخندقِ استغرقَ قريبًا مِن عِشرين ليلةً. وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: خرَج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندقِ، فإذا المهاجرون والأنصارُ يَحفُرون في غَداةٍ باردةٍ، فلم يكنْ لهم عَبيدٌ يعملون ذلك لهم، فلمَّا رأى ما بهم مِنَ النَّصَبِ والجوعِ قال: اللَّهمَّ إنَّ العَيْشَ عَيْشَ الآخِرهْ، فاغْفِرْ للأنصارِ والمُهاجِرهْ، فقالوا مُجِيبينَ له: نحن الذين بايَعوا محمَّدًا... على الجِهادِ ما بَقِينا أبدًا.
وعن البَراءِ رضي الله عنه قال: لمَّا كان يومُ الأحزابِ، وخَنْدَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، رأيتُه يَنقُلُ مِن تُرابِ الخَندقِ، حتَّى وارى عَنِّي الغُبارُ جِلدةَ بَطنِه، وكان كَثيرَ الشَّعرِ، فسَمِعتُه يَرتجِزُ بِكلماتِ ابنِ رَواحةَ، وهو يَنقُلُ مِنَ التُّرابِ يقولُ: اللَّهمَّ لولا أنت ما اهْتَدَيْنا... ولا تَصدَّقْنا ولا صَلَّيْنا، فأَنْزِلَنْ سَكينةً علينا... وثَبِّتِ الأَقدامَ إن لاقَيْنا، إنَّ الأُلى قد بَغَوْا علينا... وإن أرادوا فِتنةً أَبَيْنا. قال: ثمَّ يَمُدُّ صوتَهُ بآخِرها. وعن عائشةَ رضي الله عنها أنَّها قالت في قوله تعالى: {إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ} كان ذاك يومَ الخَندقِ. وعندما وصلتِ الأَحزابُ المدينةَ فوجِئوا بوُجودِ الخَندقِ، فقاموا بِعدَّةِ مُحاولاتٍ لاقْتِحامهِ، ولكنَّهم فَشلوا. واسْتمرَّ الحِصارُ أربعًا وعِشرين ليلةً. وثَقُلَ الأمرُ على قُريشٍ بسببِ الرِّيحِ التي أَكْفَأَتْ قُدورَهُم وخِيامَهُم، كما قام المسلمون بالتَّخْذيلِ بين اليَهودِ والمشركين، فأُرْغِموا على الرَّحيلِ وهَزمهُم الله تعالى، وكف شَرَّهُم عنِ المدينةِ.
هو أبو عبدِ الله أحمدُ بنُ مُحمَّد بن حنبل بن هلال بن أسَدٍ الشَّيباني المروزي، نزيل بغداد، أحدُ الأئمَّة الأربعة المشهورينَ في الفقهِ، ثِقةٌ حافِظٌ، فقيهٌ حُجَّةٌ، وهو رأسُ الطَّبقة العاشرة، خرجت أمُّه من مرو وهي حامِلٌ به، فولدته في بغداد، في شهرِ ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة، وقيل: إنَّه وُلِدَ بمَروٍ وحُمِلَ إلى بغداد وهو رضيعٌ. نشأ وتعلَّمَ ببغداد. كان مخضوبًا، طُوالًا، أسمرَ شديدَ السُّمرةِ. توفِّيَ والِدُه وهو شابٌّ, وتزوَّجَ بعد الأربعينَ. ورحل كثيرًا. وعُنِيَ بطلب الحديث، تفَقَّه على الشافعي، وكان له اجتهادٌ حتى صار إمامًا في الحديث والعِلَل، إمامًا في الفِقهِ، كلُّ ذلك مع وَرَعٍ وزُهدٍ وتقَشُّف، وإليه تُنسَبُ الحنابلة، هو الذي وقَفَ وقفَتَه المشهورةَ في مسألةِ خَلقِ القرآن فأبى أن يجيبَهم على بدعتِهم، فضُرِبَ بالسِّياطِ أيَّامَ المعتَصِم والواثِقِ، وبَقِيَ قبلها تحت العذابِ قُرابةَ الأربع سنينَ، وكلُّ ذلك هو ثابتٌ بتثبيت الله له، ثمَّ في عهد الواثقِ مُنِعَ من الفُتيا، وأُمِرَ بلُزومِ بَيتِه كإقامةٍ جَبريَّةٍ، ولم ينفرِجْ أمرُه حتى جاء المتوكِّلُ ورفع هذه المحنةَ، بقي قرابةَ الأربع عشرة سنةً في هذه المحنةِ بين ضَربٍ وحَبسٍ وإقامةٍ جَبريَّة، فكان من الذين قال اللهُ فيهم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، وكان الذين ثَبَتوا على الفتنةِ فلم يجيبوا بالكليَّة: خمسة: أحمدُ بن حنبل وهو رئيسهم، ومحمَّد بن نوح بن ميمون الجند النيسابوري- ومات في الطريقِ- ونُعَيم بن حماد الخزاعي- وقد مات في السِّجنِ- وأبو يعقوب البويطي- وقد مات في سِجنِ الواثقِ على القول بخلق القرآنِ، وكان مُثقلًا بالحديد- وأحمدُ بنُ نصر الخزاعي، قَتَلَه الواثق، قال يحيى بن معين: "كان في أحمدَ بنِ حَنبل خِصالٌ ما رأيتُها في عالم قَطُّ: كان مُحدِّثًا، وكان حافِظًا، وكان عالِمًا، وكان وَرِعًا، وكان زاهِدًا، وكان عاقِلًا" قال الشافعي: "خرجتُ من العراق فما تركت رجلًا أفضَلَ ولا أعلَمَ ولا أورَعَ ولا أتقى من أحمدَ بنِ حنبل" وقال المُزَني: أحمدُ بن حنبل يومَ المحنة، وأبو بكرٍ يومَ الرِّدَّة، وعُمَرُ يومَ السقيفة، وعُثمانُ يومَ الدار، وعليٌّ يومَ الجَمَلِ وصِفِّين"، وكان- رحمه الله- إمامًا في الحِفظِ، قال أبو زرعة: "كان أحمدُ بنُ حنبل يحفَظُ ألفَ ألف حديثٍ، فقيل: له وما يدريك، قال: ذاكرتُه فأخذت عليه الأبوابَ", وقيل لأبي زُرعةَ: من رأيتَ من المشايخ المحدِّثين أحفَظَ؟ فقال: أحمد بن حنبل، حَزَرتُ كُتُبَه اليومَ الذي مات فيه، فبلغت اثني عشر حِملًا وعِدلًا، ما كان على ظَهرِ كتابٍ منها حديثُ فلان، ولا في بطنِه حديثُ فلانٍ، وكلُّ ذلك كان يحفَظُه عن ظَهرِ قَلبِه", وقال إبراهيم الحربي: "رأيتُ أحمدَ بنَ حنبل كأنَّ اللهَ قد جمع له عِلمَ الأوَّلينَ والآخِرينَ مِن كلِّ صِنفٍ، يقولُ ما شاء، ويُمسِكُ ما شاء". له كتابُ المُسنَد المشهورُ، وله غيرُ ذلك في الجرحِ والتعديل والعِلَل، توفي في بغداد، وكانت جنازتُه مشهودةً, وقيل: لَمَّا مات الإمامُ أحمد صلَّى عليه ألفُ ألفٍ وسِتُّمائة ألف رجلٍ، وأسلم وراءَ نَعشِه أربعةُ آلافِ ذِمِّي مِن هَولِ ما رأَوا.، فرَحِمَه اللهُ تعالى، وجزاه الله خيرًا عن الإسلامِ والمسلمين.
هو شاعِرُ الزَّمانِ المَشهورُ، أبو الطَّيِّب أحمَدُ بنُ حُسَين بن حسن الجعفي الكوفي, الأديبُ الشهيرُ بالمتنبي. ولد سنة 303 بالكوفة في مَحلَّةٍ تسمى كندة فنُسِبَ إليها، وليس هو من كِندَةَ القبيلة، بل هو جعفيٌّ. قَدِمَ الشامَ في صباه, ثم أقام بالبادية يقتَبِسُ اللغة والأخبار, واشتغل بفنونِ الأدب ومَهَر فيها، وكان من المُكثِرينَ مِن نقلِ اللغة والمطَّلِعينَ على غَريبِها وحواشيها، ولا يُسألُ عن شَيءٍ إلَّا واستشهد فيه بكلامِ العَرَبِ مِن النَّظمِ والنَّثرِ، وكان من أذكياءِ عَصرِه. بلغ الذِّروةَ في النَّظمِ، وأربى على المتقَدِّمين, وسار ديوانُه في الآفاق، واعتنى العُلَماءُ به فشرحوه في أكثَرَ مِن أربعينَ شرحًا ما بين مُطَوَّلات ومُختصَراتٍ، ولم يُفعَلْ هذا بديوانٍ غَيرِه. كما أنَّ له حِكمًا وأمثالًا ومعانيَ مُبتكَرةً, وإنَّما قيل له المتنبِّي؛ لأنَّه ادَّعى النبُوَّةَ في باديةِ السَّماوة، وافتَتَن به بعضُ ضِعافِ العُقولِ، وكَذَب عليهم أنَّه يُوحى إليه قرآنٌ يُؤَلِّفُه مِن نَفسِه وشَيطانِه، وكان لؤلؤ أميرُ حمص من قِبَل الإخشيد قبض عليه ثمَّ أطلقه بعدما استَتابه، وقيل: إنَّه قال: أنا أوَّلُ مَن تنبَّأ بالشِّعرِ. تنقَّلَ في البلاد يمدحُ الأمراءَ مقابِلَ المال، لازم سيفَ الدولةِ كثيرًا ومدح كافور متولِّيَ أعمالِ مِصرَ ثمَّ هجاه ومدح مُعِزَّ الدَّولة البويهي, وقد نال بالشِّعرِ مالًا جليلا, يقال: وصل إليه من ابنِ العميدِ ثلاثون ألف دينار، وناله مِن عَضُدِ الدولة مثلها. كان المتنبي يركَبُ الخيلَ بزِيِّ العَرَب، وله شارةٌ وغِلمانٌ وهَيئةٌ. مدح كافورَ وفي رجليه خُفَّان وفي وسَطِه سيفٌ ومِنطَقةٌ ويركَبُ بحاجبين من مماليكِه وهما بالسُّيوفِ والمناطق، ولَمَّا لم يُرضِه كافور هجَاه وفارَقَه ليلةَ عيدِ النَّحرِ سنة 350، ووجَّهَ كافور خَلْفَه رواحِلَ إلى جِهاتٍ شَتَّى فلم يُلحَقْ، وكان كافور وعده بولايةِ بعضِ أعمالِه، فلمَّا رأى تعاليَه في شِعرِه وسُمُوَّه بنَفسِه، خافه، وعوتِبَ فيه فقال كافور: يا قومِ، مَن ادَّعى النبوَّةَ بعدَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلم، أمَا يدَّعي المملكةَ مع كافور؟! فحَسْبُكم! والمتنبي هو القائِلُ: لولا المشقَّةُ ساد الناسُ كُلُّهم... الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قتَّالُ, وله عِدَّةُ أبياتٍ فائقة يُضرَبُ بها المثَلُ. وكان مُعجَبًا بنَفسِه, كثيرَ الفَخرِ والتَكبُّرِ, فمُقِتَ لذلك. يقال: إنَّ أبا المتنبِّي كان سَقَّاءً بالكوفةِ، وإلى هذا أشار بعضُ الشُّعَراءِ في هجو المتنبِّي، حيث قال: أيُّ فَضلٍ لشاعرٍ يطلُبُ الفضلَ مِن النَّاسِ بُكرةً وعَشِيَّا * عاش حينًا يبيعُ في الكوفةِ الماءَ، وحينًا يبيعُ ماءَ المُحَيَّا. وخبَرُ قَتْلِه أنَّ فاتِكَ الأسدي في جماعةٍ مِن الأعرابِ اعتَرَضوا المتنبِّي ومَن معه وكانوا متَّجِهينَ إلى بغدادَ قافلينَ مِن شيراز، عند النُّعمانيَّة مِن دير العاقول قُربَ النهروان. فقُتِلَ المتنبي ومعه ابنُه مُحَسَّد وغلامُه مُفلِح, وقيل: لَمَّا فَرَّ أبو الطيِّب حين رأى الغَلَبة، قال له غلامُه: لا يتحَدَّثُ النَّاسُ عنك بالفِرارِ أبدًا وأنت القائِلُ: فالخَيلُ واللَّيلُ والبَيداءُ تَعرِفُني... والحَربُ والضَّربُ والقِرطاسُ والقَلَمُ. فكَرَّ راجعًا حتى قُتِلَ، وكان هذا البيتُ سبَبَ قَتلِه.
تَجدَّدت الفِتنةُ ببغداد بين السُّنَّةِ والشِّيعَة، وعَظُمَت أضعافَ ما كانت عليه قديمًا، وكان سببُ هذه الفِتنَة أنَّ أهلَ الكَرخ عَمِلوا أَبراجًا كَتَبوا عليها بالذَّهَبِ: محمدٌ وعَلِيٌّ خَيرُ البَشَرِ. وأَنكرَ السُّنَّةُ ذلك، وادَّعوا أنَّ المكتوبَ: محمدٌ وعَلِيٌّ خَيرُ البَشَرِ، فمَن رَضِيَ فقد شَكَر، ومَن أَبَى فقد كَفَر. وأَنكَر أهلُ الكَرخ الزِّيادةَ وقالوا: ما تَجاوَزنا ما جَرَتْ به عادتُنا فيما نَكتُبه على مساجِدِنا. فأَرسَل الخليفةُ القائمُ بأَمرِ الله أبا تَمَّام، نَقِيبَ العبَّاسِيِّين ونَقِيبَ العَلَوِيِّين، وهو عَدنان بن الرَّضي، لِكَشفِ الحالِ وإنهائِه، فكَتَبا بِتَصديقِ قَولِ الكَرخِيِّين، فأَمَرَ حينئذ الخليفةُ ونُوَّابُ المَلِكِ الرَّحيم البويهي بِكَفِّ القِتالِ، فلم يَقبَلوا، فأَمسَك نُوَّابُ المَلِكِ الرَّحيم عن كَفِّهِم غَيْظًا من رَئيسِ الرُّؤساءِ لِمَيْلِه إلى الحَنابِلَة، وتَشَدَّدَ رَئيسُ الرُّؤساءِ على الشِّيعَةِ، فمَحَوْا: خَيرَ البَشَر. وكتبوا: عليهما السَّلامُ. فقالت السُّنَّةُ: لا نرضى إلا أن يُقلَع الآجُرُّ، وأن لا يُؤَذَّنَ: حَيَّ على خَيرِ العَمَل. وامتَنَع الشِّيعَةُ من ذلك، ودام القِتالُ إلى ثالِثِ ربيعٍ الأوَّل، وقُتِلَ فيه رَجلٌ هاشِمِيٌّ مِن السُّنَّةِ، فحَمَلهُ أَهلُه على نَعْشٍ، وطافوا به في الحربِيَّة، وبابِ البَصرَةِ، وسائرِ مَحالِّ السُّنَّةِ، واسْتَنْفَروا النَّاسَ للأَخْذِ بِثَأْرِهِ، ثم دَفنوهُ عند أحمد بن حَنبل، وقد اجتمع معهم خَلْقٌ كَثيرٌ أضعافَ ما تَقدَّم. فلمَّا رجعوا من دَفنِه قَصَدوا مَشهدَ بابِ التِّبْنِ فأُغْلِقَ بابُه، فنَقَبوا في سُورِهِ وتَهَدَّدوا البَوَّابَ، فخافَهُم وفَتحَ البابَ فدخلوا ونَهَبوا ما في المَشهَدِ من قَناديلَ ومَحارِيبَ ذَهَبٍ وفِضَّةٍ وسُتُورٍ وغيرِ ذلك، ونَهَبوا ما في التُّربِ والدُّورِ، وأَدرَكهم اللَّيلُ فعادوا، فلمَّا كان الغَدُ كَثُرَ الجَمْعُ، فقَصَدوا المَشهَد، وأحرقوا جميعَ التُّربِ والآزاجِ، واحتَرقَ ضَريحُ موسى، وضَريحُ ابنِ ابنِه محمدِ بن عَلِيٍّ، والجوار، والقُبَّتانِ السَّاج اللَّتانِ عليهما، واحتَرَق ما يُقابِلهما ويُجاوِرهما من قُبورِ مُلوكِ بني بُويه الشِّيعَة، مُعِزِّ الدَّولَة، وجَلالِ الدَّولَة، ومن قُبورِ الوُزراءِ والرُّؤساءِ، وقَبرُ جَعفرِ بن أبي جَعفرِ المنصور، وقَبرُ الأمير محمدِ بن الرَّشيد، وقَبرُ أُمِّهِ زُبيدَة، فلمَّا كان الغَدُ خامِس الشَّهر عادوا وحَفَروا قَبرَ موسى بن جَعفرِ ومحمدِ بن عَلِيٍّ لِيَنقُلوهما إلى مَقبرَة أحمد بن حَنبل، فحال الهَدْمُ بينهم وبين مَعرفَة القَبرِ، فجاء الحَفرُ إلى جانِبِه، وسَمِعَ أبو تَمَّام نَقيبُ العبَّاسِيِّين وغَيرُه من الهاشِمِيِّين السُّنَّة الخَبَرَ، فجاؤوا ومَنَعوا عن ذلك، وقَصَد أهلُ الكَرخِ الشِّيعَة إلى خان الفُقهاءِ الحَنفِيِّين فنَهَبوه، وقَتَلوا مُدَرِّسَ الحَنفِيَّة أبا سعد السَّرخسي، وأحرقوا الخانَ ودُورَ الفُقهاءِ، وتَعَدَّت الفِتنةُ إلى الجانبِ الشَّرقيِّ، فاقْتَتَلَ أهلُ بابِ الطَّاقِ وسُوق بَجٍّ، والأساكِفَةُ -صُنَّاع الأحذية- وغَيرُهم، ولمَّا انتهى خَبَرُ إحراقِ المَشهَد إلى نُورِ الدَّولة دُبَيْسِ بن مَزْيَد عَظُم عليه واشتَدَّ وبَلَغ منه كُلَّ مَبلَغ؛ لأنَّه وأهلَ بَيتِه وسائِرَ أَعمالِه من النيل وتلك الوِلايَة كُلُّهم شِيعَة، فقُطِعَت في أَعمالِه خُطبةُ الإمامِ القائمِ بِأَمرِ الله، فرُوسِلَ في ذلك وعُوتِبَ، فاعتَذرَ بأنَّ أهلَ وِلايتِه شِيعَة، واتَّفَقوا على ذلك، فلم يُمكِنهُ أن يَشُقَّ عليهم، كما أنَّ الخليفةَ لم يُمكِنهُ كَفُّ السُّفَهاء الذين فعلوا بالمَشهدِ ما فعلوا، وأعاد الخُطبةَ إلى حالِها، ثم تَجدَّدَت هذه الفِتنةُ في السَّنَةِ التَّاليةِ في ذي القعدة.
عَهِدَ الحافظ إلى ولده سليمان، وكان أسَنَّ أولاده وأحبَّهم إليه، وأقامه ليسُدَّ مكان الوزير، فمات بعد ولاية العهد بشهرين، ثم جعل ابنه حيدرة أبا تراب وليَّ عهده ونصبه للنظر في المظالم، فشَقَّ ذلك على أخيه أبي علي حسن؛ لأنه كان يروم ذلك؛ لكثرة أمواله وأولاده وحواشيه وموكبه، بحيث كان له ديوان مفرد. وما زالت عقارب العداوة تدب بينهما حتى وقعت الفتنة بين الطائفية الجيوشية أصحاب حسن، وكان مائلًا لنصرة أهل السنة، والطائفة الريحانية أصحاب حيدرة يميل لنصرة الإسماعيلية، وكانت شوكة الريحانية قوية والجند يشنؤونهم خوفًا منهم، فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين، والتقى العسكران؛ فقتل بينهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل. فكانت أول مصيبة نزلت بالدولة العبيدية بمصر من فَقْدِ رجالها ونقص عدد عساكرها، ولم يسلم من الريحانية إلا من ألقى نفسه في بحر النيل من ناحية المقس. واستظهر حسن وصار الأمر إليه، فانضم له أوباش العسكر وزعَّارهم، وفرَّق فيهم الزرد وسماهم صبيان الزرد، وصاروا لا يفارقونه ويحفون به إذا ركب، ويلازمون داره إذا نزل، فقامت قيامةُ الناس، وقبَضَ على ابن العساف وقَتَله واختفى منه الحافظ وحيدرة، وجَدَّ في طلب حيدرة. وهتك بالأوباش الذين اختارهم حرمة القصر وخرق ناموسه من كونه نغَّص على أبيه وأخيه، وصاروا يحسِّنون له كل رذيلة، ويحرِّضونه على أذى الناس، فأخذ الحافظ في تلافي الأمر مع حسن لينصلح؛ وعهد إليه بولاية العهد في يوم الخميس لأربع بقين من شهر رمضان، وأركبه بالشعار، ونُعِت بولي عهد المؤمنين. وكتب له بذلك سجلًّا قرئ على المنابر، فلم يزده ذلك إلا شرًّا وتعدِّيًا، فضيق على أبيه وبالغ في مضرته. فسير الحافظ وفيَّ الدولة إسحاق، أحد الأستاذين المحنكين، إلى الصعيد ليجمع ما قدر عليه من الريحانية، فمضى واستصرخ على حسن، وجمع من الأمم ما لا يعلمه إلا الله، وسار بهم، فبلغ ذلك حسنًا فجهز إليه عسكرًا عرمرمًا وخرج؛ فالتقى الجمعان، وهبت ريح سوداء في وجوه الواصلين، وركبهم عسكر حسن، فلم يفلت منهم إلا القليل، وغرق أكثرهم في البحر وقُتلوا، وأُخذ الأستاذ إسحاق وأُدخل إلى القاهرة على جمل برأسه طرطور لبد أحمر. فلما وصل بين القصرين رُمي بالنشاب حتى مات، ورُمي إليهم من القصر الغربي أستاذ آخر فقتلوه، وقُتِل الأمير شرف الأمراء، فاشتدت مصيبة الدولة بفقد من قُتل من الأمراء الذين كانوا أركان الدولة، وهم أصحاب الرأي والمعرفة، فوهت واختلت لقلة الرجال وعدم الكفاءة، ومن حينِ قَتلَ حسن الأمراءَ تخوَّفه باقي الجند ونفرت نفوسُهم منه؛ فإنه كان جريئًا عنيفًا بحاثًا عن الناس، يريد إقلاب الدولة وتغييرها لتقدُّم أصحابه، فأكثر من مصادرة الناس. أورد الذهبي في تاريخه خبر الخلاف بين الأخوين بقوله: "جاءت الأخبار من مصر بخلف ولدَيِ الحافظ لدين الله عبد المجيد، وهما: حيدرة، والحسن. وافترق الجند فرقتين؛ إحداهما مائلة إلى الإسماعيلية، والأخرى إلى مذهب السنة. فاستظهرت السنة، وقتلوا خلقًا من أولئك، واستحرَّ القتل بالسودان، واستقام أمر ولي العهد حسن، وتتبَّع من كان ينصر الإسماعيلية من المقدَّمين والدعاة، فأبادهم قتلًا وتشريدًا".
بعد أن رحل تيمورلنك من بغداد كتب إلى بايزيد الأول صاحب الروم أن يخرجَ السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف من ممالك الروم وإلا قصده وأنزل به ما نزل بغيره، فردَّ بايزيد جوابه بلفظ خَشِنٍ إلى الغاية، فسار تيمور إلى نحوه، فجمع بايزيد الأولُ عساكرَه من المسلمين والنصارى وطوائف التتر، فلما تكامل جيشُه سار لحربه، فأرسل تيمور قبل وصوله إلى التتار الذين مع بايزيد الأول يقول لهم: نحن جنسٌ واحد، وهؤلاء تركمان ندفعُهم من بيننا، ويكون لكم الرومُ عِوَضَهم، فانخدعوا له وواعدوه أنهم عند اللقاء يكونون معه، وسار بايزيد الأول بعساكِرِه على أنه يلقى تيمور خارج سيواس، ويردُّه عن عبور أرض الروم، فسلك تيمور غير طريق بايزيد واختار الطريق الأطول، ومشى في أرض غير مسلوكة، ودخل بلاد بايزيد، ونزل بمعسكر بايزيد الأول بالقرب من أنقرة وضرب الحصار حولها, فلم يشعر بايزيد إلا وقد نُهِبت بلاده، فقامت قيامته وكرَّ راجعًا، وقد بلغ منه ومن عسكره التعبُ مبلغًا أوهَنَ قواهم، وكلَّت خيولهم، ونزل على غير ماء، فكادت عساكره أن تهلك، فلما تدانوا للحرب كان أول بلاء نزل ببايزيد مخامرة التتار بأسْرِها عليه، فضَعُفَ بذلك عسكره؛ لأنهم كانوا معظمَ عسكره، ثم تلاهم ولدُه سليمان ورجع عن أبيه عائدًا إلى مدينة بورصا بباقي عسكرِه، فلم يبقَ مع بايزيد إلا نحو خمسة آلاف فارس، فثبت بهم حتى أحاطت به عساكر تيمورلنك فالتَقَوا في معركة عُرِفت بمعركة أنقرة في ذي الحجة 804 (1402م) واستمر القتال بينهم من ضحى يوم الأربعاء إلى العصر، فصدمهم جيش بايزيد صدمة هائلة بالسيوف والأطبار حتى أفنوا من التمرية أضعافهم، فكفَّت عساكر بايزيد، وتكاثر التمرية عليهم يضربونهم بالسيوف لقلَّتهم وكثرة التمرية، فكان الواحد من العثمانية يقاتله العشرة من التمرية، إلى أن صُرِعَ منهم أكثرُ أبطالهم، وأُخِذَ بايزيد الأول أسيرًا قبضًا باليدِ على نحو ميل من مدينة أنقرة، في يوم الأربعاء سابع عشرين ذي الحجة بعد أن قُتِل غالب عسكره بالعطش، وصار تيمور يوقَف بين يديه في كل يوم السلطان بايزيد ويسخر منه ويُنكيه بالكلام، وجلس تيمور مرةً لمعاقرة الخمر مع أصحابه وطلب بايزيد طلبًا مزعجًا، فحضر وهو يرسُفُ في قيوده وهو يرجف، فأجلسه بين يديه وأخذ يحادثه، ثم وقف تيمور وسقاه من يد جواريه اللاتي أسرهن تيمور، ثم أعاده إلى محبسه، وأما أمر سليمان بن السلطان بايزيد الأول، فإنه جمع المال الذي كان بمدينة بورصا، وجميع ما كان فيها ورحل إلى أدرنة وتلاحق به الناس، وصالح أهل استانبول، فبعث تيمورلنك فرقةً كبيرة من عساكره صحبة الأمير شيخ نور الدين إلى بورصا فأخذوا ما وجدوا بها، ثم تبعهم هو أيضًا بعساكره، ثم أفرج تيمور عن محمد وعلي أولاد ابن قرمان من حبس السلطان بايزيد، وخلع عليهما وولَّاهما بلادهما، وألزم كلَّ واحد منهما بإقامة الخطبة، وضَرْب السكة باسمه واسم السلطان محمود خان المدعو صرغتمش، ثم شتا في معاملة منتشا وعمل الحيلة في قتل التتار الذين أتوه من عسكر بايزيد حتى أفناهم عن آخرِهم، وأما السلطان بايزيد فإنه استمر في أسر تيمورلنك من ذي الحجة سنة أربع إلى أن مات بكربته وقيوده في أيام من ذي القعدة سنة 805.
كانا الأميران نوروز وشيخ مشتركينِ في العصيان على السلطان الناصر فرج بن برقوق حتى تم لهما التغلب عليه، وقاما بسلطنة الخليفة المستعين بالله الذي فوض إلى الأمير نوروز كفالة الشام جميعه: دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزة، وجعل له أن يعيِّنَ الأمراء والإقطاعات لمن يريده ويختاره، وأن يولي نواب القلاع الشامية والسواحل وغيرها لمن أراد من غير مراجعة في ذلك، غير أنه يطالع الخليفة، ثم إن الأمير شيخًا استطاع أن يتسلطن ويخلع الخليفة من السلطنة فهذا ما أثار حفيظة نوروز الذي استدعى جميع النواب بالبلاد الشامية، فخرج الأمير نوروز إلى ملاقاتهم، والتقاهم وأكرمهم، وعاد بهم إلى دمشق، وجمع القضاة والأعيان، واستفتاهم في سلطنة الملك المؤيد شيخ وحبسه للخليفة وما أشبه ذلك، فلم يتكلم أحد بشيء، وانفضَّ المجلس بغير طائل، وأخذ الأمير نوروز في تقوية أموره واستعداده لقتال الملك المؤيد شيخ، وطلب التركمان، وأكثر من استخدام المماليك، وبلغ الملك المؤيد شيخًا ذلك فخلع في ثالث ذي الحجة من السنة على الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش المدعو سيدي الكبير باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن الأمير نوروز الحافظي، فلما وصل قرقماس سيدي الكبير إلى غزة، سار منها في تاسع صفر وتوجَّه إلى صفد واجتمع بأخيه تغري بردي سيدي الصغير، ثم خرج في أثرهما الأمير ألطنبغا العثماني نائب غزة، والجميع متوجِّهون لقتال الأمير نوروز فقرَّروا البدء بأخذ حلب لَمَّا بلغهم خروج نوروز منها إلى جهة دمشق، فعاد نوزوز من حلب إلى دمشق، فأقاموا بالرملة، ولما بلغ نوروز قدوم قرقماس بمن معه إلى الرملة سار لحربهم، وخرج من دمشق بعساكره، فلما بلغ قرقماس وأخاه ذلك عادا بمن معهما إلى جهة الديار المصرية عجزًا عن مقاومته حتى نزلا بالصالحية، ثم إن السلطان جهز جيشًا وسيَّره إلى الشام للقاء نوروز، ثم في شهر صفر في ثامنه من السنة 817 نزل السلطان شيخ على قبة يلبغا خارج دمشق، وقد استعد نوروز وحَصَّن القلعة والمدينة، فأقام السلطان أيامًا، ثم رحل ونزل بطرف القبيبات، وكان السلطان -من الخربة- قد بعث قاضي القضاة مجد الدين سالم الحنبلي إلى الأمير نوروز ومعه قرا أول المؤيدي في طلب الصلح، فامتنع من ذلك، ووقعت الحرب، فانهزم نوروز، وامتنع بالقلعة في السادس والعشرين ونزل السلطان بالميدان، وحاصر القلعة، ورمى عليها بالمكاحل والمدافع والمنجنيق، حتى بعث نوروز بالأمير قمش الأمان، فأُجيبَ ونزل من القلعة، ومعه الأمراء: طوخ، ويشبك بن أزدمر، وسدن كستا، وقمش، وبرسبغا، وأينال، فقُبِض عليهم جميعًا في الحادي والعشرين شهر ربيع الآخر، وقُتِل من ليلته، وحُمِل رأسه على يد الأمير جرباش إلى القاهرة، وعلى يده كتب البشارة، وذلك أن الأمير كزل نائب طرابلس قَدِمَ في العشر الأخير من صفر، وقاتل عسكر نوروز، فركب السلطان بمن معه، فانهزم النوروزية إلى القلعة، وملك السلطان المدينة، ونزل بالإسطبل ودار السعادة، وحصر القلعة، وفي يوم الخميس مستهل جمادى الأولى قدم رأس نوروز، فعُلِّقَ على باب القلعة!